انظر إلى موقف عمر من والي أذربيجان :
ذات مرة جاءته هدية من أذربيجان، وهي طعام نفيس، دخل هذا الرسول المدينة
في منتصف الليل فكره أن يوقظ أمير المؤمنين، فتوجَّه إلى المسجد النبوي الشريف،
في المسجد سمع صوت رجل يصلي ويبكي ويناجي ربه، ومما سمع من كلام هذا الرجل:
ربي هل قبلت توبتي فأهنئ نفسي أم رددتها فأعزيَها؟ " فقال هذا الرسول: "
من أنت يرحمك الله؟ قال: أنا عمر, قال: يا سبحان الله ألا تنام الليل؟ فيجيبه هذا الخليفة العظيم:
أنا إن نمت ليلي كلَّه أضعت نفسي أمام ربي، وإن نمت نهاري أضعت رعيَّتي "
وهذا معنى قول النبي عليه الصلاة والسلام: " إن لله أعمالاً لا يقبلها بالليل "
أي في النهار لا تقبل أعمال الليل، وفي الليل لا تقبل أعمال النهار، أرأيتم إلى هذا التوازن؟
التوازن بين عملين، بين الإحسان للخلق، والاتصال بالحق، وأكثر الناس يختل عندهم
هذا الميزان، فإما أن ينكبّوا على الأعمال الصالحة, وينسون عباداتهم وأذكارهم
واتصالهم بربهم، وإما أن ينكبوا على عباداتهم, ولا يفعلون شيئاً من الأعمال الصالحة،
لذلك هذا التوازن, رهبان في الليل فرسان في النهار .
فلما أذَّن الفجر صلّى أمير المؤمنين بالناس, ودعا ضيفه إلى البيت, وقال لامرأته حفصة: "
ماذا عندك من الطعام؟ قالت: ملح وخبز " كان فقراء المسلمين يأكلون اللحم،
أما سيدنا عمر فكان طعامه الخبز والملح، بعد أن أطعم ضيفه, وقد ندم الضيف
أشدّ الندم على أنه اختار طعام الأمير، قال: " ما هذا؟, قال: حلوى يصنعها أهل أذربيجان,
وقد أرسلني بها إليك عُتبة بن فرقد " وكان والياً على أذربيجان، "
فذاقها عمر فوجد لها مذاقاً شهياً، فسأل الرسول: أوكل المسلمين هناك يطعمون هذا؟
قال الرجل: لا, وإنما هو طعام الخاصة, فأعاد عمر إغلاق الوعاء جيداً, وقال للرجل: أين بعيرك؟
خذ حملك هذا وارجع به لعتبة، وقل له: عمر يقول لك: اتق الله واشبع مما يشبع منه المسلمون " .
شدته على أهل بيته :
سيدنا عمر لا يسمح لأهله أن يتجاوزوا الحدود، بل إن أهله كان عليهم تبعة مضاعفة فيما
لو وقعوا فيما نهى عمر عنه، فكان إذا سنّ قانوناً, أو أمر أمراً، أو حظر أمراً،
جمع أهله أولاً, وقال: " إني قد نهيت الناس عن كذا وكذا، وإن الناس ينظرون إليكم
كما ينظر الطير إلى اللحم، فإن وقعتم وقعوا، وإن هِبتم هابوا، وإني والله لا أوتى
برجلٍ منكم وقع فيما نهيت الناس عنه إلا ضاعفت له العذاب، فمن شاء منكم فليتقدم،
ومن شاء فليتأخر " .
فأيام يكون عند إنسان محل تجاري, وعنده موظَّف وابنه في المحل، ابنه له معاملة
لو أساء أشد الإساءة يتساهل معه، أما هذا الموظَّف لو قصَّر أدنى تقصير يقيم
عليه النكير، هذا الموظَّف يرى بعينه، يرى هذه التفرقة الواضحة بين ما يعامل به
ابنه وبين ما يعامله به، فلذلك نحن لا نكون مؤمنين صادقين إلا إذا عاملنا أقرب الناس
إلينا كما نعامل أبعد الناس عنا .
أحيانا الإنسان ابنه لا يحمِّله فوق ما يطيق، يخاف على ظهره، يخاف أن تنزلق إحدى فقراته،
يخاف عليه المرض، فلماذا إذا كان عند هذا الرجل من يعمل عنده في محلّه التجاري
أو في معمله يحمّله فوق ما يطيق؟ ما من صفة أبشع في الإنسان من التناقض،
والمتناقض يسقط اعتباره بين المؤمنين، فانتبه قبل أن تعطي قاعدة، قبل أن تقيس بمقياس،
قبل أن تستخدم طريقاً من الطرق، هل هذه مطبقة على نفسك وعلى بقية الناس،
أم أن هناك مقياسًا لنفسك ومقياسًا للناس؟ وهذا التناقض يقع فيه الناس أشد ما يقعون،
فابنته في البيت لها معاملة، أما زوجة ابنه فلها معاملة أخرى، الأُولى في منتهى الرحمة
والتسامح، والثانية في منتهى القسوة والشدَّة، أو الأم تعامل ابنتها في منتهى التساهل،
وتعامل زوجة ابنها بمنتهى الشدة، هذا تناقض .
أصبحت القرابة من عمر مصيبة، وأية مصيبة، لأنها تحمل صاحبها عقاباً مضاعفاً .
السبب في تشديده على أهل بيته تطبيقاً لهذه الآية الكريمة :
هذا ينقلنا إلى آية كريمة, تقول:
﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ
فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً﴾
( سورة الأحزاب الآية: 32)
﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ
ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً﴾
( سورة الأحزاب الآية: 30)
إذا أطاعت ربها، وقنتت لله ورسوله يؤتها أجرها مرتين، فالقدوة دائماً له حساب مضاعف،
إن أحسن فله أجر مضاعف، وإن أساء فله وزر مضاعف .
كل إنسان ينظر إليه على أنه أب، أو معلم، أو معلِّم في مهنة، أو تولّى على أُناس
أقل منه، فأي منصب قيادي مهما بدا متواضعاً، كمعلم بصف، أو عرّيف على
خمسة جنود, فهذا منصب قيادي، فالذي يتولى عملاً قيادياً إساءته عقابه
مضاعف، وإحسانه جزاؤه مضاعف .
نزاهة الخليفة الراشد في رعيته وخاصة مع أهل بيته :
مرة خرج إلى السوق في جولة تفتيشية, فيرى إبلاً سمينة تمتاز عن بقية الإبل
بنموّها وامتلائها، يسأل عمر بن الخطاب: " إبل من هذه؟ فقالوا:
هي إبل عبد الله بن عمر، وانتفض أمير المؤمنين، وكأن القيامة قد قامت، وقال:
عبد الله بن عمر, بخٍ بخٍ يا ابن أمير المؤمنين " (أي الله يعينك ) وأرسل في طلبه
فوراً، وأقبل عبد الله يسعى، وحين وقف بين يدي والده, أخذ عمر يفتل سبلة شاربه،
وتلك عادته إذا أهمَّه أمرٌ خطير، فأحياناً الإنسان يحكُّ رأسه، أو يحرِّك ثيابه، كل إنسان
له طريقة, فقال: " ما هذه الإبل يا عبد الله؟ فأجاب: إنها إبل أمضاء ( يعني هزيلة )
اشتريتها بمالي، وبعثت بها إلى الحمى ( أي إلى المرعى ) أُتاجر فيها، وأبتغي ما يبتغي
المسلمون، فقال عمر متهكماً تهكُماً لاذعاً, ويقول الناس حين يرونها:
ارعوا إبل ابن أمير المؤمنين، اسقوا إبل ابن أمير المؤمنين، وتسمن إبل ابن أمير المؤمنين،
فبع هذه الإبل، وخذ رأس مالك منها، واجعل الربح في بيت مال المسلمين "
هذا إدراك نادر, أن هذا ابن أمير المؤمنين، فلعل الناس أعطوه فوق ما يستحق،
ولعلهم أكرموه، أرأيتم هذه النزاهة .
مرة وصل إلى المدينة مال كثير من أموال الأقاليم، فتذهب إليه ابنته حفصة رضي الله عنها
لتأخذ نصيبها، وتقول له مداعبة: " يا أمير المؤمنين حقّ أقاربك في هذا المال،
فقد أوصى الله بالأقربين" فيجيبها جاداً: " يا بنيتي حقّ أقربائي في مالي،
أما هذا فمال المسلمين، قومي إلى بيتك " أي اذهبي, طبعاً من علمه ذلك؟
إنّه النبي عليه الصلاة والسلام، حينما قال لأحب الناس إليه فاطمة البتول: "
لا يا فاطمة إن في المسلمين من هم أحوج منك لهذا المال،
والله لا أؤثرك على فقراء المسلمين " .
( ورد في الأثر)
مرة أراد هذا الخليفة العظيم أن يسجِّل في الديوان أسماءَ أصحابه حتى يعطيهم
من فيء المسلمين بحسب أقدارهم، وسبقهم في الإسلام، قال: " ضعوا عمر وقومه
في هذا الموضع، فقد رُتِّبت الأسماء ترتيباً بحسب السبق في الإسلام، وبحسب قُرب الصحابي
من رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، هكذا أمر، فجاءت القائمة كالآتي:
بنو هاشم أهل بيت النبي، ثم آل أبي بكر، ثم آل عمر، فنقل اسمه، واسم أهله إلى
مكان بعيد جداً، فلما ذهبوا إليه أهله بني عدي راجين أن تظل أسماؤهم في مقدمة
الديوان كي ينالوا أنصبائهم, قالوا له: ألسنا أهل أمير المؤمنين؟ فأجابهم عمر: بخٍ بخٍ،
أردتم الأكل على ظهري، وأن أهب حسناتي لكم، لا والله لتأخذن مكانكم، ولو جئتم
آخر الناس، لكم مكان لا يتقدم ولا يتأخر، ولو كنتم أهلي وأقربائي " .
يتبع