منتديات شبكة شعاع الدعوية للتعليم عن بعد

منتديات شبكة شعاع الدعوية للتعليم عن بعد (https://hwazen.com/vb/index.php)
-   شعاع الروايات العالمية (https://hwazen.com/vb/f82.html)
-   -   رواية دموع على سفوح المجد (https://hwazen.com/vb/t1203.html)

لؤلؤة الخير 08-14-2013 06:52 PM

* الفصل الثامن *


وصل عصام إلى عيادة الدكتور إياد وطلب من المم رضة أن تخبر الدكتور
بحضوره حسب موعد كان قد تم الإتفاق عليه بالهاتف فطلبت منه الإنتظار
قليلا ريثما تخبر الدكتور بوصوله .. وجلس عصام إلى إحدى ))الكنبات(( الفاخرة المبثوثة في غرفة الإنتظار،
فشعر بجسده يغوص في فرشها الوثير، فاسترخى عليه في راحة لذيذة وأرسل
نظراته المستطلعة تجوب أثاث العيادة الفخم بإعجاب. وعلى إحدى
الطاولات الصغيرة لاحظ مجموعة من المجلات، فمال قليلا ليتناول إحداها،
لكنه أحجم عندما رأى الممرضة قادمة بالجواب، وقد تبعها مريض أنتهى
لتوه من مقابلة الطبيب، وهو يستند على كتف مرافق له من شدة الإعياء . ودعته الممرضة للدخول.. فتقدم من الباب الذي كان منفرجاً قليلاً فبدا له
الدكتور إياد منهمكا بتدوين شيئ ما وقد جلس وراء مكتبه الأنيق، فنقر
على الباب بظهر سبابته ثم دخل وسلم عليه فهب الدكتور إياد لاستقباله
وصافحه في ود مرحباً بقدومه ودعاه للجلوس، ثم ما لبث أن عاد إلى عمله
بعد أن طلب منه أن يمهله ريثما ينتهي من تدوين بعض الملاحظات في

ملف المريض الذي خرج، فأجابه إلى طلبه وجلس ينتظر وقد هامت نظراته
في أرجاء العيادة من جديد، فلفتت انتباهه لوحة كبيرة كتب على قماشيه
المخملي الأحمر بخط ذهبي لامع آية قرانية تقول : (( وإذا مرضت فهو يشفين )). وحول الآية شاهد عصام مجموعة من الشهادات العالمية وقد حفت بها
كحناحين، فأخذت عيناه تلتهمان ما كتب على الشهادات المعلقة بفضول
جارب .. (( - هذه شهادة )البكالوريوس(،.. وهذه شهادة )الماجستير(.. وهذه
شهادة )الدكتوراة(... وهذه... آه ... هذا هو )البورد( الذي حصل عليه.. يا للروعة.. وتلك.. تلك هي شهادة
زمالة.. صحيح.. إنه زميل في الجمعية الأمريكية للسرطان.. وتلك الصورة..
لا بد أنها صورة تذكارية لمراحل دراسته المختلفة.. أما تلك الصورة القديمة
التي بدا فيها الطلبة بلباسهم القديم الذي انقرضت )موضته( اليوم فهي لا
بد وأنها تضم خريجي دفعته الذين حازو على )البكالوريوس(.. آه.. يا لهذا
الأستاذ الكبير.. تراني متى سأصبح مثله؟ !
قال الدكتور إياد وهو منهمك بإعداد الملف :
- هذا المريض المسكين الذي خرج منذ قليل ..

- ما قصته؟

- مصاب بسرطان الرئة.. لا أعتقد أنه سيعيش كثيراً رغم اكتشافي المبكر
للمرض !.

- لا شك بأنه مدخن .

هو كذلك.. إنه مدمن على التدخين .
- عجيب أن لا يعتبر الناس بأمثاله.. يحرقون أموالهم وأرواحهم بأيديهم ..
-ماذا تفعل؟.. هذا زمن المفارقات.. يبيعون السجائر بالملايين ويروجون لها
بكل وسائل الدعاية وفنونها، ثم تقرأ على أغلفة علب السجائر تحذيرا يقول:
))الدخان سبب رئيسي لسرطان الرئة وأمراض القلب والشرايين فاجتنبوه )).
- شر البلية ما يضحك .
- ليتها بلية واحدة.. إنها بلايا ..
- ما يرعبني أن التدخين استشرى في أوساط المراهقين .. توقف الدكتور إياد من الكتابة وقال :
- ليت الأمر يقف عند التدخين.. اسأل الآن عن المخدرات!.. المخدرات
بدأت تتسرب إلى مجتمعنا وتهدد شبابنا .
- إنها ضريبة التلخف ..
- بل هي أمراض الحضارة.. نتلقفها في غباء.. تحملها إلينا الأفلام الماجنة
والقص الرخيصة، وتروج لها نفوس مريضة وعقول هدامة تنفث سمومها
هنا وهناك، لتقتل خلايا العافية التي بدأت طلائعها تتشكل في جسم
مجتمعنا المريض . ثم أردف الدكتور وقد ألمت به فكرة طارئة :
- بالمناسبة.. عندي معلومات مثيرة عن صفوان ..
- تقصد ..
-أجل.. زميلكم ))صفوان((.. جاءني ضابط في الشرطة منذ فترة ليعالج
والده عندي.. وبعد أن تعارفنا سألني فيما إذا كنت أعرف طالبا في كلية
الطب بإسم ))صفوان الناعم(( فأجبته بأنه طالب عندي ولا يشرفني أن
أكون أستاذه، فأيدني في رأيي وروى لي أنهم اكتشفوا بحوزته كمية من
المخدرات جلبها معه من ))إيطاليا(( بعد أن قضى فيها إجازة الصيف
الماضي وكاد أن يدخل السجن لكن والده سارع لإنقاذه بما يملك من مال
ونفوذ وقد أفلح .. هتف عصام في إنكار :
- بهذه البساطة؟ !. ارتسمت على شفتي الدكتور ابتسامة ذات معنى وقال وهو يستأنف
الكتابة :
-ما خفي كان أعظم.. لقد بات المال يوجه ضمائر الكثيرين. إنه حديث
يطول.. عن إذنك، ها قد أوشكت على النهاية.. سرح عصام بخياله يفكر
في أمر صفوان، لكنه لم يستغرب ما سمعه عنه، فشاب في أنانيته وغروره لا
شك بأنه عاجز عن كبح أي ميل أو هوىً قد يولد في نفسه مهما كان
نوعه، وقد سمع عن المخدرات وما تفعله المخدرات فاستهوته التجربة فمضى
فيها دون أن يردعه عقل أو إرادة أو ضمير.. ولم يجد عصام في اهتمامه
حيزا أكبر من هذا يتسع لصفوان فأهمل ذكره، واستجاب لخواطره التي راودته
من جديد، وانطلقت نظراته تستطلع معالم هذه العيادة الجميلة الأنيقة،
لتقف عن المكتبة الفاخرة التي صنعت من الخشب النفيس، وصممت بذوق
وإتقان بديعين، وقد رصفت وراء زجاجها البراق مجلدات ضخمة تضم
أشهر المراجع الطبية العربية والأجنبية. كما رأى رفاً كاملا من المجلدات
الطبية والعالمية، وإلى جانب المكتبة رأى خزانة كبيرة من الزجاج وقد غاصت

بالأدوية والعقاقير المختلفة، وحانت منه التفاتة إلى الخلف فرأى سريراً طبياً
حديثاً، وإلى جانبه منضدة طويلة احتشدت عليها الأدوات الطبية المختلفة.
وبعد أن استرجع نظراته المتأملة أرسل تنهيدة صامتة وغاب في خضم
الأحلام الواعدة .. (( عندما سأفتح عيادتي سأستعين بنموذج هذه العيادة الفخمة مضيفا إليها
أحدث ما جاءت به معارض الأثاث ))والديكور((.. آه.. متى سيأتي ذلك
اليوم السعيد؟.. متى ستحين لحضات الحصاد الكبير؟. ومتى سأقطف
الثمار؟.. ثمار التعب المتواصل والإنتظار الطويل!. بودي لو تدور الأيام
بسرعة لأجد نفسي طبيبا كبيرا تقتحم شهرته الآفاق، وتغ عيادته الفخمة
بالمرضى القادمين من كل مكان، يطلبون الشفاء على يديه، ويتحدثون عن
نجاحه ومهارته وإخلاصه، ويغبطونه على ما أنعم الله عليه من النعم الكبيرة.
ستكون عيادتي وسط المدينة وفي أرقى أحيائها.. ستكون عيادة فخمة مجهزة
بأحدث الأجهزة والمعدات، ولكن.. يا لها من فكرة.. لماذا لا أفتح
مستشفى لمعالجة أمراض السرطان.. مستشفى حديث يكون الأول من نوعه
في البلاد.. يعمل فيه المتخصصون في هذا المجال.. سأعمل فيه أنا وسامية
وسعد وبقية الأصدقاء.. يا لها من فكرة رائعة، ولكن من أين نأتي بالمال..
إنه مشكلة المشاكل.. ما أروع المال والطموح إذا اجتمعا لا سيما إذا كان
الطموح إنسانيا ومفيداً يعود بالخير على جميع الناس.. المال!.. المال!.. من
أين نأتي بالمال؟.. لا بأس سيفتح الله عليَّ فأجني ثمار نجاحي، فتدرّ علي
عيادتي المرتقبة ثروة كبيرة أبذلها وقودا لحلمي الكبير.. حتى ولو لم تدرّ علي
الدخل المأمول.. سأبيع أرضنا التي في الريف، وسأطلب مساهمة الأصدقاء
وتعاونهم.. سيكون اتحادنا قوة ترفد أحلامنا وتبعث فيها الحياة و.. لماذا لم
أفكر في هذا من قبل؟.. سألجأ إلى عمي المقيم في الأرجنتين وأطلب
مساهمته فهو تاجر ناجح تتدفق الأموال بين يديه، وهو لن يخذلني.. ألم
يقل لي في رسالته الأخيرة أنه يعتبرني بمثابة ابنه وأنه مستعد لتلبية كل ما
أطلب؟.. وأنا لن أطلب منه طلبا شخصيا.. إنه طلب إنساني من أجل
مشروع وطني خيري يعود بالفائدة على كل الناس.. كما أنه سوف ينال
نصيبا من الأرباح التي سيعود بها المشروع.. فكرة عظيمة تستحق التفكير
وسأبدأ بالإعداد لها من الآن، سأقنع الأصدقاء بالإهتمام بهذا الإختصاص
حتى تتوفر لدينا الخبرات الكافية، ولكن.. لماذا أذهب بعيدا.. هذا هو
الدكتور إياد.. لا شك بأنه سيرحب بهذه الفكرة ويدعمها إلى أبعد
الحدود.. لا شك بأنه فكّر بها من قبل،.. لاسأله.. هذا الرجل العظيم..
إنه مهندس أحلامي وطموحاتي )). طوى الدكتور إياد الملف، ووضعه جانبا، ثم أعاد القلم إلى حاملة الأقلام،
ونزع نظارته وقال وهو يجلو ناظريها :
- أهلا بك يا بني.. ها قد فرغت لك.. ما أخبارك؟
-لقد عرضت الفكرة على الوالدة فوافقت بها بعد حوار طويل. إنها تشعر
بالأسف الذي شهد أحلى ذكرياتها مع الوالد رحمه الله .
- رحمه الله.. إنني أفهم موقفها. إنها على ما يبدو امرأة شديدة الوفاء. المهم
أنها وافقت ..
- ولكن شريطة أن تتقاضى منها أجراً على السكن .
- هل تريدني أن أتقاضى أجرا على ضيافتكم عندي؟.. هذا لا يكون
أبدا ..
- دكتور إنك بهذا تعقد الأمور ..
-لكني أنا الذي دعوتكم للسكن، ولستم أنتم الذين طلبتم ذلك.. فرق
كبير يا بني بين الأمرين، كما أن السبب الذي طلبت من أجله انتقالك إلى
جانبي سبب قوي تتضاءل أمامه قضايا المادة. لن أعيد ذلك في كل مرة، ثم
أن الأمر ليس إحسانا فأنتم على ما فهمت منك في حالة مادية مريحة
والحمدلله. لقد قصدت بإقتراحي توفير الوقت والجهد.. إنني من أنصار
الحلول الحاسمة.. الحلول العملية التي تتجاوز المجاملات والإعتبارات
الشخصية، لا سيما عند توفر الثقة والتعاون والإنسجام . حار عصام في أمره فكلمات الدكتور إياد منطقية ومقنعة، لكنه يصعب
عليه أن يقنع بها أمه التي نمت كبرياؤها مع الأيام، فلم ترضى من أحد شفقة
أو مساعدة، حتى كلمات المواساة ترفضها من الناس، وكأنها تريد أن تثبت
لهم أنها قوية في غياب زوجها كما كانت في ظلاله، فكيف يقنعها أن
تسكن في بيت ليس ملكها دون أن تدفع أجرته؟.. كيف سيتحايل على
حساسيتها المفرطة التي تح ه م كل تصرف أكثر من معناه؟ !
. وأحس الدكتور إياد بحيرة عصام فأدرك أنه لن يستطيع أن يستمر مع أمه
إلى أبعد مما وصل إليه فقال بعد تفكير وقد وجد حلا :
-إسمع.. لدي فكرة مناسبة.. فكرة ترضي الطرفين.. سأتقاضى أجرا
لسكنكم عندي، سآخذ منكم الأجر الذي تؤجر به أي شقة في حجم
شقتي ومستواها، ولكن بشرط أن تتقاضي مني أجراً لقاء دوامك في
عيادتي.. سأعطيك الراتب الذي يتقاضاه عادة أي طبيب متمرن في
المستشفى، هذا كلام نهائي لا رجعة فيه .
-أستاذ إنك تحرجني بهذه العروض، تكفيني الخبرة التي ستقدمها لي أجرا
يفوق كل أجر.. يكفيني اهتمامك الأبوي الغامر الذي يزرع في نفسي الثقة
ويدفعني قدما إلى الأمام ..
- إني أعطيك الخبرة وأمنحك الإهتمام كأستاذ يتوجب عليه ذلك .
- لكنك تفعل أكثر من الواجب؟ .
(( -وأنت ستبذل أكثر مما يبذله أي طالب.. سوف تبذل جهداً يستحق
المكافأة، لعلك لا تدرك العناء الذي ينتظرك عندما ستعمل معي.. لن
أرضى منك أقل من أربع ساعات من العمل المتواصل بالرغم من كل
مشاغلك والتزاماتك الأخرى، فلا أقل من أن تأخذ ثمنا لبعض الجهد الذي
تقدمه.. صدقني سأعتمد عليك كثيرا في عملي )).
- أرجوك أن تعفيني من هذا الأمر .
-هل تضيفون في شقتي د ون أجر؟
- هذا أمر وذاك غيره ..
- أبداً، إنها المعاملة بالمثل . كابد عصام حيرة شديدة لاحت معالمها على وجهه فقال وهو يداري
ارتباكه : - أجد صعوبة في القبول بشروطك .
- هل لديك حل آخر؟
- في الحقيقة لا أدري ماذا أقول؟؟
- لنقل على بركة الله الوقت جداً قصير والفكرة تشكل أنسب صيغة
للتعامل بيننا دون حرج.. ماذا قلت؟
تردد عصام قائلا ثم همس بنبرة مستسلمة :
- على بركة الله ..
- قال الدكتور إياد محاولا تخفيف وطأة الإرتباك والحياء اللذين سيطرا على
عصام : (( -لا عليك يا بني.. عما قريب بإذن الله ستقدم لي أعظم مكافأة عندما
أرى فيك شبابي الغابر الذي طواه المشيب.. عندما كنت في مثل سنك
كانت لي طموحاتي الكبيرة وآمالي العريضة، لكني لم أجد من يشجعني
ويوظف طاقاتي ويطورها كما أنوي أن أفعل معك من خلال تجربتنا هذه..
عملت جهدي حتى وصلت إلى ما ترى والحمدلله، لكنَّ ما وصلت إليه لا
يساوي شيئاً أمام ما كنت أحلم به، لكنك أنت ستصل إلى أبعد مما
وصلت إليه أنا. إ ه ني واثق من ذلك لأنني سوف أقدم أقدم لك تجرتبي
الكاملة,, سأدلك على مواطن الضعف فيها لتتجنبها، وسألفت نظرك إلى
معالم النجاح فيها لتتمثلها.. لنس ه م هذا عملية تواصل بين جيلي وجيلك،
فلا بد للأجيال من تبادل التجارب وتناقلها.. هذا أمر مهم لعملية التنمية
ولو أن كل جيل مدَّ الذي يليه بمعارفه وخبراته، إذن لقرأنا في حركة أمتنا
قصة المد الصاعد نحو العلاء.. عصام.. إنني أبني عليك الآمال ))... نقلت كلمات الدكتور إياد عصاماً إلى عالم آخر بعد أن جردته من ارتباكه
وخجله فهام في خواطره، وتراءى له المستقبل بكل ما يحمله من ازدهار،
وتحركت في أعماقه أشواق غامضة هي أقرب إلى النشوة، وأحس في كيانه
نشاطاً يدفعه للعمل والكفاح، وهمّ أن يمضي من لحضته ليقوم بما تمليه عليه
طاقته الكامنة التي تحفزت للعمل، لكنه تذكر فكرة المستشفى الذي
خالطت خياله منذ قليل فقال :
- دكتور، هل فكرتم بإنشاء مستشفى متخص بمعالجة السرطان في البلد؟
ابتسم الدكتور وقال :
- لا أكتمك بأني فكرت بهذا الأمر أنا وبعض أصدقائي إنها أمنية – -
تداعب خيالنا منذ زمن بعيد ولكن الوقت ما زال مبكراً لتحقيقها، لأن
كوادرنا الطبية المهتمة بالسرطان قليلة، كما أن تكاليف هذا المشروع باهضة
جداً.. إنها تتطلب إمكانيات هائلة . - ولكن الدولة لديها إمكانيات تفي بالغرض ..
(( - ليس بالضبط.. لقد بحثت الأمر مع وزير الصحة بالذات، فأخبرني بأن
ميزانية الدولة في الوقت الحالي لا تسمح بذلك وتكتفي الحكومة في الوقت
الحاضر بافتتاح فروع في المستشفيات الكبرى لتشخي ومعالجة السرطان،
لكنها لا تكفي.. إننا فعلا بحاجة إلى مستشفى مجهَّز بأحدث التجهيزات
الطبية الشعاعية والنووية والجراحية إضافة إلى مخابر الأبحاث الحديثة
والكفاءات الطبية الفنية الماهرة ..)). قال عصام وقد شعر بالأسف :
- الضعف الإقتصادي يقف دائماً عقبة في طريق تطورنا !.
-ماذا تفعل؟.. ومع ذلك ترى مجتمعنا متهافتا على الكماليات ومستهتراً
بالأهم .
- شئ مؤسف. الأمر على ما يبدو أصعب مما تخيلت !..
-لا عليك.. لدي إحساس بأن مثل هذا المشروع سيقوم يوماً.. لعله يقوم
على أيديكم ... وقطع حديثهما قرع خفيف على الباب وأطلت منه الممرضة قائلة :
- لقد جاء المريض في موعده فهل أدعه ينتظر؟
(( - بل دعيه يدخل. هذا حقه والدكتور عصام سيعذرنا بلا شك )). قال عصام وهو يهم بالنهوض :
- طبعاً.. طبعاً، أستأذنك الآن بالإنصراف ..
-تفضل، ولكن لا تنسَ.. سيبدأ مشروعنا منذ الغد فلتوطن نفسك على
دأب طويل. أما بالنسبة لموضوع السكن فالشقة في انتظاركم ولا مناص لك
من الموافقة؟ ..
-إن شاء الله.. والآن وداع اً ..

بل إلى اللقاء ...

* * *


يتبـــــــــــــــعhttp://hwazen.com/vb/mwaextraedit4/extra/89.gif

لؤلؤة الخير 08-17-2013 03:59 AM

* الفصل التاسع *

في حديقة الجامعة يحلو اللقاء، لا سيما في فصل الربيع الذي يحفها بهالة من
الروعة والجمال، تفتن الناظر، وتشده إليها ليستمتع بخضرتها الخلابة، ويغرف
من عبقها الفواح فيغسل به روحه المتعبة من أدران الحياة ... وبين أزهارها المتألقة، وفي ظلال أشجارها الباسقة، وعلى بساط سندسي
ممتد من الحشائش الخضراء كان الطلبة يتحلقون في مجموعات منسجمة،
غارقين في أحاديث شتى.. عن الجامعة.. وعن المستقبل.. وعن الحياة بكل
ما فيها، يطرحون المشاكل ويتبادلون الآراء، وتند عنهم الصيحات
والضحكات التي تضفي على جو الحديقة حياة فريدة، تبعثها أرواح شابة


تخفق بأعذب الأحلام والآمال وهي تتلمس طريقها إلى غدها الواعد
ومستقبلها المنشود ... وفي ركن هادئ من أركان الحديقة الفسيحة، كان عصام يجلس على كرسي
منعزل، منهمكاً في مطالعة مجلة طبية كان قد استعارها من مكتبة الدكتور
إياد، وبين الحين والآخر كان يرمي بنظراته الهادئة إلى خضرة الحديقة الموشاة
بالأزهار والرياحين، فتشف روحه وتحلق في عالم من الصفاء المريح، فتقبس
منه قبسات لذيذة تغرق كيانه بالسعادة، وتبعث في ذهنه النشاط، فيعود إلى
المجلة في شوق، ليلتهم سطورها في شهية للمعرفة لا تقاوم لا يزعجه إلا تلك
الهمهمة الغامضة التي تصدر عن أحاديث الطلبة المختلطة القادمة من بعيد،
يتخللها فاصل متقطع من وقع الأقدام العابرة، وهي تقطع الطريق إلى غايتها
عبر الأرصفة التي تخترق الحديقة الغناء .


وانساب إلى سمعه صوت هادئ يلقي عليه السلام، فرفع إلى صاحب
الصوت عينين تشعان وداً واحتراماً، ونهض إليه في لهفة وشوق وهو يمد له
يد الترحيب :
- وعليكم السلام.. أهلاً سعد ..
قال سعد بعد أن تصافحا بحرارة الأصدقاء وقد احتفظ كل منهما بيد
الآخر في كفه وهو يشد عليها في مودة ظاهرة وكأنه لا يريد أن يفارق
صاحبه :
- كيف أنت يا عصام؟

- في شوق إليك يا صديقي.. ألا تجلس معي؟
- بودي أن أجلس، لكني أراك مشغولاً.. ما الذي تقرأه؟ ..


مجلة طبية صادرة عن الجمعية الأمريكية للسرطان.. اقرأها إن أحببت .
- لا بد وأنها تحوي أبحاثاً قيمة ...
- فيها بحث طويل عن التدخين وعلاقته بسرطانات الرئة، اجلس معي فأنا
في شوق لأحاديثك الممتعة .

- قلب سعد صفحات المجلة بسرعة وقال وهو يهم بالجلوس :
- لو تعلم كم سررت عندما رأيتك جالساً هنا ..
- لم نجلس معاً منذ زمن !!.
-لقد أصبحت صيداً ثميناً في هذه الأيام. لم يعد أحد يراك خارج أوقات
الدوام.. تأتي مسرعاً وتخرج مسرعاً وكأنك لا تعيش معنا في كلية واحدة !!

-ماذا أفعل يا صديقي..
الواجبات أكثر من الأوقات كما يقول الدكتور
إياد، ولولا هذا التعديل الذي طرأ على برنامج اليوم بتأخير موعد المحاضرة
مقدار ساعة لما صادفتني هنا .
هتف سعد كمن تذكر :
- آه .. صحيح ما أخبارك مع الدكتور إياد؟؟
- أخبار طيبة.. علم غزير، وخبرة متنامية، وصحبة كريمة لرجل عظيم
وأستاذ جليل، يمدك دوماً بملاحظاته الدقيقة ونصائحه العميقة وتجاربه
الثرية ..


همس سعد وهو يرمق صديقه في إعجاب :
-عصام.. إنك تدهشني.. كيف تستطيع أن توفق بين دراستك وملازمتك
للدكتور إياد وأمورك الأخرى؟
زفر عصام زف رة عميقة وشت بما يعانيه من إجهاد وعناء وقال :


لا أكتمك يا سعد، إني أعاني من كثافة المشاغل وضيق الوقت وضغط
الأعباء، لكن تشجيع الدكتور إياد وإصراري على تحقيق طموحي، هما
اللذان يدفعاني للمتابعة ولولاهما لكنت تراجعت منذ زمن.. هل تعلم؟..
لقد خفَّ وزني خلال الأشهر القليلة الماضية سبعة كيلو جرامات .
- وكم تنام في اليوم ؟


-خمس ساعات تقريباً. الوالدة تنهرني، فأمنيها بالمستقبل فترضخ لإرادتي
على مضض، علماً بأنَّ سكني الجديد في عمارة الدكتور إياد قد وفّر علي
الكثير من الوقت والجهد فهو كم تعلم قريب من الجامعة وقريب من – –
عيادة الدكتور إياد في آن واحد ..
- وبيتكم القديم.. ماذا فعلتم به؟
-لقد أجرناه لنستفيد من أجرته.. سعد.. لماذا لا تنضم إلينا.. لقد حدثتني
كثيراً فيما مضى عن اهتمامك بالسرطان وميلك للاختصاص فيه، كما أن
الدكتور إياد سيرحب بانضمامك فهو يمدح دائماً تفوقك وسلوكك الممتاز . -حقاً؟.. هذه نظرة أعتز بها.. كان بودي الانضمام إليكما لكني بصراحة
لا أملك جلدك ودأبك.. سأكتفي بزيادة مطالعاتي حول السرطان ريثما
أتخرج ثم ..

وقطع حديثهما صوت بعيد يلقي التحية فرد عليه سعد :
- أهلا ((عرفان)).. هلم إلينا
.


وأردف عصام :
- تعال إلى هنا يا عرفان، لم نرك منذ زمن ..
مضت برهة ريثما انضم اليهما عرفان وقد بدا سعيداً بلقائهما وابتسامته


المعهودة تتوج ثغره الضاحك وما إن وصل حتى ارتمى بينهما على الكرسي
الخشبي الطويل قائلاً لعصام :
- لتتكلم عن نفسك يا عصام، أنت الذي لم تعد تظهر بيننا. لقد
استغ رقتك مشاغلك الكثيرة وأبعدتك عنا.. يجب أن تعترف بذلك يا
أستاذ ...

ثم وهو يلتفت بحديثه إلى سعد :
لقد أصبح الأخ كالبدر.. يظهر كل شهر مرة، وقد لا يظهر ...
ثم التفت إلى عصام ثانية وقال :
-أصبحنا لا نراك إلاّ مسرعاً.. تأتي إلى المحاضرات وهي توشك على البداية
وما إن تنتهي حتى تطوي كراستك وتمضي.. تصور يا سعد.. ((عصام
السعيد)) أصبح يجلس في الصفوف الأخيرة من المدرج، وهو الذي لم يتنازل
عن مكانه في الصف الأول منه منذ السنة الأولى. هل تذكر كيف كان
يحجز لنا المقاعد الأمامية؟
ثم أردف ضاحكاً :


- كان الطلبة يندهشون لوجودي في الصف الأول وأنا المشهور بالتأخر
المزمن عن المحاضرات... (( ها.. ها.. ها )).
ضحك الثلاثة في ود ثم ما لبث عرفان أن استأنف حديثه قائلا : -أنت السبب يا عصام فلا تسألن عن قلة رؤيتنا لك.. أنت الذي لم تعد
تسعى للقائنا، أما نحن فإننا نلتقي دائماً.. أنا وسعد ومجدي وبهاء وعثمان
و.. على فكرة.. نحن مدعوون مساء الثلاثاء القادم على مأدبة عشاء فاخرة
عند عثمان، ولن ندعوك طبعا.


تساءل عصام في مرح :
- ولماذا؟
-لأنك يا عزيزي أصبحت تنتمي إلى طبقة جديدة.. طبقة العلماء
والباحثين والحفلة معدة لطبقة الطلبة المساكين، فأين نحن منك يا
صديقي؟.. أين الثرى من الثريا؟ !
ضحك عصام طويلاً ثم قال :
- سامحك الله يا عرفان.. منذ متى لم أضحك هذا الضحك !


- جميل أن تجد وقتاً لتضحك.. بودي لو كان بحوزتي آلة تصوير ..


لماذا؟ !..
-لأجمد هذه اللحضات وأحصل على صورة لك وأنت تضحك قبل أن
تنقرض الضحكة من على شفتيك . ثم نهض عرفان وهو يقول :
- ائذنا لي الآن.. لدي ((مشوار)) مهم قبل أن يحين موعد المحاضرة .
هتف عصام في توسل وهو يشده من يده ليجلس :

- ابق معنا يا عرفان.. حديثك يمتعني.. لتؤجل ((مشوارك)) هذا .
صاح عرفان :
- إلا هذا ((المشوار ))...
- يبدو أنه على درجة من الأهمية !.
مال عرفان على عصام وهمس:د
- لقد صدقت فأنا على موعد مع القمر .
- القمر؟ !..
قال سعد وقد سمع تحاورهما :
- يقصد خطيبته.. إنها طالبة في كلية الآداب، وهو ينتهز الأوقات
لرؤيتها ...
- حقاً؟.. مبروك.. ألف مبروك يا عرفان.. لماذا لم تخبرني بذلك؟ .
- ومتى رأيتك حتى أخبرك؟
- كفاك يا عرفان.. لقد أوغلت في المبالغة !
قال عرفان وقد انحنى فيما يشبه الركوع ويداه تستندان على فخذيه :
-قد أكون مبالغاً، لكن صدقني أنك أصبحت وكأنك تنتمي إلى عالم
آخر ...
- عالم آخر !..
- أجل... عالم آخر .
ثم قهقه قائلاً وهو يمضي :
- إنه عالم السرطان ...

* * *

يتبـــــــــــــــع http://hwazen.com/vb/mwaextraedit4/extra/89.gif


الساعة الآن 01:26 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
Search Engine Friendly URLs by vBSEO 3.6.1 TranZ By Almuhajir
new notificatio by 9adq_ala7sas
HêĽм √ 3.1 BY: ! ωαнαм ! © 2010
يرحل الجميع ويبقي شعاع بيت العلم والحب(ملك الكلمة)