منتديات شبكة شعاع الدعوية للتعليم عن بعد

منتديات شبكة شعاع الدعوية للتعليم عن بعد (https://hwazen.com/vb/index.php)
-   شعاع الأدب العربي (https://hwazen.com/vb/f19.html)
-   -   صناعة الشعر (https://hwazen.com/vb/t17182.html)

عطر الجنة 10-18-2017 03:15 PM

صناعة الشعر
 










http://img0.liveinternet.ru/images/a...2221069_1_.png



"صناعة الشعر"
http://img0.liveinternet.ru/images/a...2726977_61.png




تمهيد:
إن الشعر صناعة لفظية تستعملها جميع الأمم على اختلافها. والغرض الأصلي منه التأثير على النفوس لإثارة عواطفها: من سرور وابتهاج أو حزن وتألم أو إقدام وشجاعة أو غضب وحقد أو خوف وجبن أو تهويل أمر وتعظيمه أو تحقير شيء وتوهينه أو نحو ذلك من انفعالات النفس.



والركن المقوم للكلام الشعري المؤثر في انفعالات النفوس ومشاعرها أن يكون فيه تخييل وتصوير إذ للتخييل والتصوير الأثر الأول في ذلك كما سيأتي بيانه فلذلك قيل: إن قدماء المناطقة من اليونانيين جعلوا المادة المقومة للشعر القضايا المتخيلات فقط ولم يعتبروا فيه وزناً ولا قافية.


أما العرب ـ وتبعتهم أمم أخرى ارتبطت بهم كالفرس والترك ـ فقد اعتبروا في الشعر الوزن المخصوص المعروف عند العروضيين واعتبروا أيضاً القافية على ما هي معروفة في علم القافية وإن اختلفت هذه الأمم في خصوصياتها. أما ما ليس له وزن وقافية فلا يسمونه شعراً وإن اشتمل على القضايا المخيلات.




ولكن الذي صرح به الشيخ الرئيس في منطق الشفاء أن اليونانيين كالعرب كانوا يعتبرون الوزن في الشعر حتى أنه ذكر أسماء الأوزان عندهم.




وهكذا يجب أن يكون فإن للوزن أعظم الأثر في التخييل وانفعالات النفس لأنَّ فيه من النغمة والموسيقى ما يلهب الشعور ويحفزه وما قيمة الموسيقى إلا بالتوقيع على وزن مخصوص منظم. بل القافية كالوزن في ذلك وإن جاءت بعده في الدرجة.




ومن الواضح أن الشعر الموزون المقفى يفعل في النفوس ما لا يفعله الكلام المنثور سواء كان هذا الفرق بسبب العادة إذ الوزن صار مألوفاً عند العرب وشبههم وتربى لديهم ذوق ثان غير طبيعي؛ أم ـ على الأصح ـ كان بسبب تأثر النفس بالوزن والقافية بالغريزة كتأثرها بالموسيقى المنظمة بلا فرق. والعادة ليس شأنها أن تخلق الغرائز والأذواق بل تقويها وتشحذها وتنميها.

بل حتى الكلام المنثور المقفى والمزدوج المعادلة جمله بدون أن يكون له وزن شعري، له وقع على النفوس يهزها كما سبق الكلام عليه في توابع الخطابة، نعم المبالغة في التسجيع الذي يبدو متكلفاً به ـ على النحو الذي ألفته القرون الإسلامية الأخيرة ـ أفقدت الكلام رونقه وتأثيره.



وعلى هذا فالوزن والقافية يجب أن يعتبرا من أجزاء الشعر ومقوماته لا من محسناته وتوابعه ما دام المنطقي إنّما يهمه من الشعر هو التخييل وكل ما كان أقوى تأثيراً وتصويراً كان أدخل في غرضه. ويصح ـ على هذا ـ أن يعد الوزن والقافية من قبيل (الأعوان) نظير التي ذكرناها في الخطابة. أما (العمود) فهو نفس القضايا المخيلات فكما تنقسم أجزاء الخطابة إلى عمود وأعوان فكذلك الشعر.




نعم إن الكلام المنظوم المقفى إذا لم يشتمل على التصوير والتخييل لا يعد من الشعر عند المناطقة فلا ينبغي أن يسمى المنظوم في المسائل العلمية أو التاريخية المجردة مثلاً شعراً وإن كان شبيهاً به صورة. وقد يسمى شعراً عند العرب أو بالأصح عند المستعربين.
ومما ينبغي أن يعلم في هذا الصدد أنا عندما اعتبرنا الوزن والقافية فلا نقصد بذلك خصوص ما جرت عليه عادة العرب فيهما على ما هما مذكوران في علمي العروض والقافية بل كل ما له تفاعيل لها جرس وإيقاع في النفس ـ ولو مثل (البنود) وماله قوافي مكررة مثل (الموشحات والرباعيات) ـ فإنه يدخل في عداد الشعر.





أما (الشعر المنثور) المصطلح عليه في هذا العصر فهو شعر أيضاً ولكنّه بالمعنى المطلق الذي قيل عنه أنه مصطلح مناطقة اليونان فقد فَقَدَ ركناً من أركانه وجزءاً من أجزائه.


والإنصاف إن إهمال الوزن والقافية يضعف القيمة الشعرية للكلام ويضعف أثره التخييلي في النفوس وإن جاز إطلاق اسم الشعر عليه إذا كانت قضاياه تخييلية.
تعريف الشعر:
وعلى ما تقدم من الشرح ينبغي أن نعّرف الشعر بما يأتي:
«أنه كلام مخيل مؤلف من أقوال موزونة متساوية مقفاة».
وقلنا: (متساوية) لأنّ مجرد الوزن من دون تساو بين الأبيات ومصارعها فيه لا يكون له ذلك التأثير إذ يفقد مزية النظام فيفقده تأثيره. فتكرار الوزن على تفعيلات متساوية هو الذي له الأثر في انفعال النفوس.





فائدته:
إن للشعر نفعاً كبيراً في حياتنا الاجتماعية وذلك لإثارة النفوس عند الحاجة في هياجها لتحصيل كثير من المنافع في مقاصد الإنسان فيما يتعلق بانفعالات النفوس وإحساساتها في المسائل العامة: من دينية أو سياسية أو اجتماعية أو من الأمور الشخصية الفردية. ويمكن تلخيص أهم فوائده في الأمور الآتية:
إثارة حماس الجند في الحروب.
إثارة حماس الجماهير لعقيدة دينية أو سياسية أو إثارة عواطفه لتوجيهه إلى ثورة فكرية أو اقتصادية.
تأييد الزعماء بالمدح والثناء وتحقير الخصوم بالذم والهجاء.
هياج اللذة والطرب وبعث السرور والابتهاج لمحض الطرب والسرور كما في مجالس الغناء.
إهاجة الحزن والبكاء والتوجع والتألم كما في مجالس العزاء.
إهاجة الشوق إلى الحبيب أو الشهوة الجنسية كالتشبيب والغزل.
الاتعاظ عن فعل المنكرات وإخماد الشهوات أو تهذيب النفس وترويضها على فعل الخيرات كالحكم والمواعظ والآداب.





السبب في تأثيره على النفوس:
وبعد معرفة تلك الفوائد يبقى أن نسأل عن شيئين:
(الأول) عن السبب في تأثير الشعر على النفس لإثارة تلك الانفعالات.
و(الثاني) بماذا يكون الشعر شعراً أي مخيلا؟
والجواب على السؤال الأول أن نقول:
أن الشعر قوامه التخييل والتخييل ـ من البديهي ـ أنه من أهم الأسباب المؤثرة على النفوس لأن التخييل أساسه التصوير والمحاكاة والتمثيل لما يراد من التعبير عن معنى والتصوير له من الوقع في النفوس ما ليس لحكاية الواقع بأداء معناه مجرداً عن تصويره فإن الفرق عظيم بين مشاهدة الشيء في واقعه وبين مشاهدة تمثيله بالصورة أو بمحاكاته بشيء آخر يمثله. إذ التصوير والتمثيل يثير في النفس التعجب والتخييل فتلتذ به وترتاح له وليس لواقع الحوادث المصورة والممثلة قبل تصويرها وتمثيلها ذلك الأثر من اللذة والارتياح إذا شاهدها الإنسان.


واعتبر ذلك فيمن يحاكون غيرهم في مشية أو قول أو إنشاد أو حركة أو نحو ذلك فإنه يثير إعجابنا ولذتنا أو ضحكنا مع أنه لا يحصل ذلك الأثر النفسي ولا بعضه لو شاهدنا نفس المحكيين في واقعهم. وما سر ذلك إلا التخييل والتصوير في المحاكاة.
وعلى هذا كلما كان التصوير دقيقاً معبراً كان أبلغ أثرا في النفس. ومن هنا كانت السينما من أعظم المؤثرات على النفوس وهو سر نجاحها وإقبال الجمهور عليها لدقة تعبيرها وبراعة تمثيلها عن دقائق الأشياء التي يراد حكايتها.





والخلاصة: أن تأثير الشعر في النفوس من هذا الباب لأنّه بتصويره يثير الإعجاب والاستغراب والتخييل فتلتذ به النفس وتتأثر به حسبما يقتضيه من التأثير. ولذا قالوا: إن الشاعر كالمصور الفنان الذي يرسم بريشته الصور المعبرة.
وحق أن نقول حينئذ: أن الشعر من الفنون الجميلة الغرض منه تصوير المعاني المراد التعبير عنها ليكون مؤثراً في مشاعر الناس ولكنّه تصوير بالألفاظ.





بماذا يكون الشعر شعراً:
إذا عرفت ما تقدم فلنعد إلى السؤال الثاني فنقول: بماذا يكون الشعر شعراً أي مخيلا؟
والجواب: أن التصوير في الشعر كما ألمعنا إليه في التمهيد يحصل بثلاثة أشياء:
1ـ (الوزن) فإن لكل وزن شأناً في التعبير عن حال من أحوال النفس ومحاكاته له ولهذا السبب يوجب انفعالاً في النفس فمثلاً بعض الأوزان يوجب الطيش والخفة وبعضها يقتضي الوقار والهدوء وبعضها يناسب الحزن والشجى وبعضها يناسب الفرح والسرور.


فالوزن ـ على كل حال ـ بحسب ما له من إيقاعات موسيقية يثير التخيل واللذة في النفوس. وهذا أمر غريزي في الإنسان. وإذا أدى الوزن بلحن ونغمة تناسبه مع صوت جميل كان أكثر إيقاعاً وأشدّ تأثيراً في النفس لا سيما أن لكل نغمة صوتية أيضاً تعبيراً عن حال: فالنغمة الغليظة ـ مثلاً ـ تعبر عن الغضب والنغمة الرقيقة عن السرور وهيجان الشوق والنغمة الشجية عن الحزن. فإذا انضمت النغمة إلى الوزن تضاعف أثر الشعر في التخييل ولذلك تجد الاختلاف الكثير في تأثير الشعر باختلاف إنشاده بلحن وبغير لحن وباختلاف طرق الألحان وطرق الإنشاد حتى قد يبلغ إلى درجة النشوة والطرب فيثير عاطفة عنيفة عاصفة.


2ـ المسموع من القول يعني الألفاظ نفسها فإن لكل حرف أيضاً نغمة وتعبيراً عن حال كما أن تراكيبها لها ذلك الاختلاف في التعبير عن أحوال النفس والاختلاف في التأثير فيها فهناك ـ مثلاً ـ ألفاظ عذبة رقيقة وألفاظ غليظة ثقيلة على السمع وألفاظ متوسطة.
ثم إن للفظ المسموع أيضا تأثيرا في التخييل أما من جهة جوهره كأن يكون فصيحاً جزلاً أو من جهة حيلة بتركيبه كما في أنواع البديع المذكورة في علمه وكالتشبيه والاستعارة والتورية ونحوها المذكورة في علم البيان.


3ـ نفس الكلام المخيل أي معاني الكلام المفيدة للتخييل وهي القضايا المخيلات التي هي العمدة في قوام الشعر ومادته التي يتألف منها.


وإذا اجتمعت هذه العناصر الثلاثة كان الشعر كاملاً وحق أن يسمى (الشعر التام). وبها يتفاضل الشعراء وتسمو قيمته إلى أعلى المراتب أو تهبط إلى الحضيض.


وبها تختلف رتب الشعراء وتعلو وتنزل درجاتهم: فشاعر يجري ولا يجري معه فيستطيع أن يتصرف في النفوس حتى يكاد تكون له منزلة الأنبياء من ناحية التأثير على الجماهير وشاعر لا يستحق إلا أن تصفعه وتحقره حتى يكاد يكون أضحوكة للمسهزئين وبينهما درجات لا تحصى.





أكذبه أعذبه:
من المشهورات عند شعراء اللغة العربية قولهم: (الشعر أكذبه أعذبه) وقد استخف بعض الأدباء المحدثين بهذا القول ذهاباً إلى أن الكذب من أقبح الأشياء فكيف يكون مستملحاً، مضافاً إلى أن القيمة للشعر إنّما هي بالتصور المؤثر فإذا كان كاذباً فليس في الكذب تصوير لواقع الشيء.



وهذا النقد حق لو كان المراد من الشعر الكاذب مجرد الإخبار عن الواقع كذباً. غير أن مثل هذا الإخبار ـ كما تقدم ـ ليس من الشعر في شيء وإن كان صادقاً.

وإنما الشعر بالتصوير والتخييل. ولكن يجب أن نفهم أن تصوير الواقع تارة يكون بما له من الحقيقة الواقعة بلا تحوير ولا إضافة شيء على صورته ولا مبالغة فيه أو حيلة في تمثيله. ومثل هذا يكون ضعيف التأثير على النفس ولا يوجب الالتذاذ المطلوب.
وتارة أخرى يكون بصورة تخييلية ـ



على ما نوضحه فيما بعد ـ بأن تكون كالرتوش التي تصنع للصورة الفوتوغرافية إما بتحسين أو بتقبيح مع أن الواقع من ملامح ذي الصورة محفوظ فيها أو كالصورة الكاريكاتورية التي تحكي صورة الشخص بملامحه المميزة له مع ما يفيض عليها المصور من خياله من تحريفات للتعبير عن بعض أخلاقه أو حالاته أو أفكاره أو نحو ذلك.

فهذا التعبير أو التصوير من جهة صادق ومن جهة أخرى كاذب ولكنه في عين كونه كاذبا هو صادق. وهذا من العجيب. ولكن معناه أن المراد الجدي ـ أي المقصود بيانه واقعاً وجداً ـ من هذا التخييل صادق في حين أن نفس التخييل الذي ينبغي أن نسميه المراد الاستعمالي كاذب.


وليتضح لك هذا المعنى تأمل نظيره في تصويره الصورة الكاريكاتورية فإن المصور قد يضفي على الصورة ما يدل على الغضب أو الكبرياء من ملامح تخيلها المصور وليست هي حقيقية لصاحب الصورة بالشكل الذي تخيله المصور وهي مراد استعمالي كاذب. أما المراد الجدي وهو بيان أن الشخص غضوب أو متكبر فإن التعبير عنه يكون صادقاً لو كان الشخص واقعاً كذلك أي غضوباً أو متكبراً.



فإذن، إنما التخييل الكاذب وقع في المراد الاستعمالي لا الجدي.
وكذلك نقول في الشعر ولا سيما أن أكثر ما يأتي فيه التخييل بالمبالغات كالمبالغة بالمدح أو الذم أو التحسين أو التقبيح؛ والمبالغة ليست كذبا في المراد الجدي إذا كان واقعه كذلك ولكنها كاذبة في المراد الاستعمالي. وليس هذا من الكذب القبيح المذموم ما دام هو ليس مراداً جدياً يراد الإخبار عنه حقيقة.


مثلاً قد يشبه الشعراء الخصر الدقيق بالشعرة الدقيقة فهذا تصوير لدقة الخصر. فإن أريد به الإخبار حقيقة وجداً عن أن الخصر دقيق كالشعرة أي أن المراد الجدي هو ذلك فهو كذب باطل وسخيف وليس فيه أي تأثير على النفس ولا تخييل فلا يعد شعراً. ولكن في الحقيقة أن المراد الجدّي منه إعطاء صورة للخصر الدقيق لبيان أن حسنه في دقته يتجاوز الحد المألوف في الناس وإنما يكون هذا كاذباً إذا كان الخصر غير دقيق لأن الواقع يخالف المراد الجدي. أما المراد الاستعمالي وهو التشبيه بالشعرة فهو كاذب ولا ضير فيه ولا قبح ما دام المراد به التوصل إلى التعبير عن ذلك المراد الجدي بهذه الصورة الخيالية.



وبمثل هذا يكون التعبير مستغرباً وصورة خيالية قد تشبه المحال فتجلب الانتباه وتثير الانفعال لغرابتها.
وكلما كانت الصورة الخيالية غريبة بعيدة تكون أكثر أثراً في التذاذ النفس وإعجابها. ولذا نقول أن الشعر كلما كان مغرقاً في الكذب في المراد الاستعمالي بذلك المعنى من الكذب كان أكثر عذوبة وهذا معنى (أكذبه أعذبه) لا كما ظنه بعض من لا قدم له ثابتة في المعرفة. على أن التخييل وإن كان حقيقة أي في مراده الجدّي أيضاً فإنّه يأخذ أثره من النفس كما سنوضحه في البحث الآتي:
القضايا المخيلات وتأثيرها:
ونزيد على ما تقدم فنقول:
إن المخيلات ليس تأثيرها في النفس من أجل أنّها تتضمن حقيقة يعتقد بها بل حتى لو علم بكذبها فإنّ لها ذلك التأثير المنتظر منها لأنّه ما دام أن القصد منها هو التأثير على النفوس في إحساساتها وانفعالاتها فلا يهم ألا تكون صادقة إذ ليس الغرض منها الاعتقاد والتصديق بها.



والجمهور والنفوس غير المهذبة تتأثر بالمخيلات أكثر من تأثرها بالحقائق العلمية لأن الجمهور أو الفرد غير المهذب عاطفي أكثر من أن يكون متبصراً وهو أطوع للتخييل من الإقناع.
ألا ترى أن الكلام المخيل الشعري قد يحبب أمراً مبغوضاً للنفس وقد يبغض شيئاً محبوباً لها. واعتبر ذلك في اشمئزاز بعض الناس من أكلة لذيذة قد أقبل على أكلها فقيل له: أنه وقع فيها بعض ما تعافه النفس كالخنفساء مثلاً أو شبهت له ببعض المهوعات. فإن الخيال حينئذ قد يتمكن منه فيعافها حتى لو علم بكذب ما قيل.
ولا تنس القصة المشهورة لملك الحيرة النعمان بن المنذر مع نديمه الربيع وقد كان يأكل معه فجاءه لبيد الشاعر وهو غلام مع قومه للانتقام من الربيع في قصة مشهورة في مجامع الأمثال فقال لبيد مخاطباً للنعمان:
مهلاً أبيت اللعن لا تأكل معه ** أن أسته من برص ملمعه
وأنه يدخل فيها إصبعه ** يدخلها حتى يواري أشجعه


فرفع النعمان يده من الطعام وتنكر لنديمه هذا وأبى أن يستكشف صدق هذا القول فيه بالرغم على الحاجة وقال له ما ذهب مثلاً من أبيات:
قد قيل ذلك إن حقاً وإن كذباً ** فما اعتذارك من قول إذا قيلا


واعتبر ذلك أيضاً في تصوير الإنسان بهذه الصورة اللفظية البشعة (أوله نطفة مذرة وآخره جيفة قذرة. وهو ما بين ذلك يحمل العذرة). فإن هذه صورة حقيقية للإنسان ولكنها ليست كل ما له من صور وللنفس على كل حال محاسنها التي ينبغي أن يعجب بها لا سيما من صاحبها وإعجاب المرء بنفسه وحبه لها أساس حياته كلها. ولكن مثل ذلك التصوير البشع يأخذ من النفس أثره من التنفر والاشمئزاز حتى لو كان أبعد شيء في التأثير في التصديق والاعتقاد بحقارة النفس. وسبب هذا التأثر النفسي هو التخييل الذي قد يقلع المتكبر عن غطرسته ويخفف من إعجابه بنفسه. وهذا هو المقصود من مثل هذه الكلمة.

واعتبر أيضاً بالشعر العربي فكم رفع وضيعا أو وضع رفيعاً وكم أثار الحروب وأورى الأحقاد. وكم قرب بين المتباعدين وآخى بين المتعادين.
ورب بيت صار سبة لعشيرة ** وآخر صار مفخرة لقوم
على أن كل ذلك لم يغير واقعاً ولا اعتقاداً. ومرد ذلك كله إلى الانفعالات النفسية وحدها وقد قلنا أنها أعظم تأثيراً على الجمهور الذي هو عاطفي بطبعه وعلى الأفراد غير المهذبة التي تتغلب عليها العاطفة أكثر من التبصر.


والخلاصة: أن التصوير والتخييل مؤثر في النفس وإن كان كاذباً بل ـ وقد سبق ـ كلما كانت الصورة أبعد وأغرب كانت أبلغ أثراً في إعجاب النفس والتذاذها.
وأحسن مثال لذلك قصص ألف ليلة وليلة وكليلة ودمنة والقصص في الأدب الحديث.


والسبب الحقيقي لانفعال النفس بالقضايا المخيلات الاستغراب الذي يحصل لها بتخييلها على ما أشرنا إليه فيما تقدم.


ألا ترى أن المضحكات والنوادر عند أول سماعها تأخذ أثرها في النفس من ناحية اللذة والانبساط أكثر مما لو تكررت وألفت الآذان سماعها. بل قد تفقد مزيتها وتصبح تافهة باهتة لا تهتز النفس لها. بل قد يؤثر تكرارها الملل والاشمئزاز.


واذا قيل في بعض الشعر أنه (هو المسك ما كررته يتضوع) فهو من مبالغات الشعراء. وإذا صح ذلك فيمكن ذلك لأحد وجهين:
(الأول) أن يكون فيه من المزايا والنكات ما لا يتضح لأول مرة أو لا يتمثل للنفس جيداً فإذا تكررت قراءته استمرى أكثر وانكشفت مزاياه بصورة أجلى فتتجدد قيمته بنظر المستمع.


(الثاني) أن عذوبة اللفظ وجزالته لا تفقد مزيتها بالتكرار وليست كالتخييل.


هل هناك قاعدة للقضايا المخيلات؟
قد تقدم أن قوام الشعر بثلاثة أمور: الوزن والألفاظ والمعاني المخيلة فلابد لمن يريد أن يتقن صناعة الشعر من الرجوع إلى القواعد التي تضبط هذه الأمور فنقول:
أما (الوزن والألفاظ) فلها قواعد مضبوطة في فنون معروفة يمكن الرجوع إليها وليس في علم المنطق موضع ذكرها لأنّ المنطق إنما يهمه النظر في الشعر من ناحية تخييلية فقط.


وأما (الوزن) من ناحية ماهيته فإنما يبحث عنه في علم الموسيقى. ومن ناحية استعماله وكيفيته فيبحث عنه في علم العروض.
وأما (الألفاظ) فهي من شأن علوم اللغة وعلوم البلاغة والبديع.


وعلى هذا فلابد للشاعر من معرفة كافية بهذه الفنون أما بالسليقة أو بالتعلم والممارسة مع ذوق يستطيع به أن يدرك جزالة اللفظ وفصاحته ويفرق بين الألفاظ من ناحية عذوبتها وسلاستها. والناس تتفاوت تفاوتاً عظيماً في أذواقها وإن كان لكل أمة ولكل أهل لغة ذوق عام مشترك. وللممارسة وقراءة الشعر الكثير الأثر الكبير في تنمية الذوق وصقله.


أما (القضايا المخيلات) فليس لها قاعدة مضبوطة يمكن تحريرها والرجوع إليها لأنّها ليست من قبيل القضايا المشهورات والمظنونات يمكن حصرها وبيان أنواعها إذ القضايا المخيلات ـ كما سبق ـ كلما كانت بعيدة نادرة وغريبة مستبعدة كانت أكثر تأثيراً في التخييل والتذاذ النفس. وقد سبق أيضاً بيان السبب الحقيقي في انفعال النفس بهذه القضايا.


وعليه فالقضايا المخيلات لا يمكن حصرها في قواعد مضبوطة بل (الشعراء في كل وادٍ يهيمون). وليس لهم طريق واحد مستقيم معلوم.


من أين تتولد ملكة الشعر؟
لا يزال غير واضح لنا سر ندرة الشعراء الحقيقيين في كل أمة. بل لا تجد من كل أمة من تحصل له قوة الشعر في رتبة عالية فينبغ فيه ويتمكن من الإبداع والاختراع إلاّ النادر القليل وفي فترات متباعدة قد تبلغ القرون.
ومن العجيب أن هذه الملكة ـ على ما بها من اختلاف في الشعراء قوة وضعفاً ـ لا تتولد في أكثر الناس وإن شاركوا الشعراء في تذوق الشعر وممارسته وتعلمه.
وكل ما نعلمه عن هذه الملكة أنها موهبة ربانية كسائر مواهبه تعالى التي يختص بها بعض عباده كموهبة حسن البيان أو الخطابة أو التصوير أو التمثيل ... وما إلى ذلك مما يتعلق بالفنون الجميلة وغيرها.


ومن أجل هذا الاختصاص الرباني اعتبر الشعراء نوابغ البشر.

وقد وجدنا العرب كيف كانت تعتز بشعرائها فإذا نبغ في قبيلة شاعر أقاموا له الاحتفالات وتهنئها به القبائل الأخرى. ولو كان يتمكن أكثر الناس من أن يكونوا شعراء لما صحت منهم هذه العناية بشاعرهم ولما عدّوه نبوغا.

غير أن هذه الموهبة ـ كسائر المواهب الأخرى ـ تبدأ في تكوينها في النفس كالبذرة لا يحس بها حتى صاحبها فإذا اكتشفها صاحبها من نفسه صدفة وسقاها بالتعليم والتمرين تنمو وتستمر في النمو حتى قد تصبح شجرة باسقة تؤتي أكلها كل حين.


ولكن اكتشاف الموهبة ليس بالأمر الهين وقد يكتشفها الغير العارف قبل صاحبها نفسه. وقد تذوي وتموت المواهب في كثير من النفوس إذا أهملت في السن المبكر لصاحبها.


صلة الشعر بالعقل الباطن:
والحق أن الشاعر البارع ـ كالخطيب البارع ـ يستمد في إبداعه من عقله الباطن اللاشعوري فيتدفق الشعر على لسانه كالإلهام من حيث يدري ولا يدري على اختلاف عظيم للشعراء والخطباء في هذه الناحية.


وليس الشعر والخطابة كسائر الصناعات الأخرى التي يبدع فيها الصانع عن روية وتأمل دائما. وإلى هذا أشار صحار العبدي لما سأله معاوية: ما هذه البلاغة فيكم؟ فقال: (شيء يختلج في صدورنا فتقذفه ألسنتنا كما يقذف البحر الدرر) وهذه لفتة بارعة من هذا الأعرابي أدركها بفطرته وصورها على طبع سجيته.


ومن أجل ما قلناه من استمداد الشاعر من منطقة اللاشعور تجده قد لا يواتيه الشعر وهو في أشد ما يكون من يقظته الفكرية ورغبته الملحة في إنشائه. قال الفرزدق: (قد يأتي عليّ الحين وقلع ضرس عندي أهون من قول بيت شعر).


وبالعكس قد يفيض الشعر ويتدفق على لسان الشاعر من غير سابق تهيؤ فكري والشعراء وحدهم يعرفون مدى صحة هذه الحقيقة من أنفسهم.


وأحسب أنه من أجل هذا زعم العرب أو شعراؤهم خاصة أن لكل شاعر شيطاناً أو جنياً يلقي عليه الشعر. والغريب أن بعضهم تخيله شخصا يمثل له وأسماه باسم مخصوص. وكل ذلك لأنهم رأوا من أنفسهم أن الشعر يواتيهم على الأكثر من وراء منطقة الشعور وعجزوا عن تفسيره بغير الشيطان والجن.


وعلى كل حال فإن قوة الشعر إذا كانت موجودة في نفس الفرد لا تخرج ـ كما تقدم ـ من حد القوة إلى حد الفعلية اعتباطاً من دون سابق تمرين وممارسة للشعر بحفظ وتفهم ومحاولة نظمه مرة بعد أخرى. وقد أوصى بعض الشعراء ناشئا ليتعلم الشعر أن يحفظ قسماً كبيراً من المختار منه ثم يتناساه مدة طويلة ثم يخرج إلى الحدائق الغناء ليستلهمه وكذلك فعل ذلك الناشئ فصار شاعراً كبيراً.


إن الأمر بحفظه وتناسيه فلسفة عميقة في العقل الباطن توصل إليها ذلك الشاعر بفطرته وتجربته: إن هذا هو شحن القوة للعقل الباطن لتهيئته لإلهام الشعور في ساعة الانشراح والانطلاق التي هي إحدى ساعات تيقظ العقل الباطن وانفتاح المجرى النفسي بين منطقتي اللاشعور والشعور أو بالأصح إحدى ساعات اتحاد المنطقتين. بل هي من أفضل تلك الساعات. وما أعز انفتاح هذا المجرى على الإنسان إلا على من خلق ملهما فيؤاتيه بلا اختيار.




• والشعر كالبحر أهون ما يكون على الجاهل، أهول ما يكون على العالم[1].


• قيل للمفضل الضبي: لم لا تقول الشعر وأنت أعلم الناس به؟! قال: علمي به هو الذي يمنعني من قوله[2].


• قال ابن الرومي في وصف قصيدة:
نظمَ الفكرُ دُرّها غير مثقو
بٍ إذا الدرُّ شين بالتثقييب
يُطرِب السامعين أيسرُ ما في
ها وإن أُنشدت بلا تطريب
لو يناغي بيانها العجم يوماً
عرَّب العجمُ أيمّا تعريب[3]

• قال محمد عبده رحمه الله: لو سألوا الحقيقة أن تختار لها مكاناً تشرف منه على الكون لما اختارت غير بيت من الشعر[4].



• حكى الروياني أن بعض فقهاء خرسان سئل في مجلس أميرها عن قتل الحر بالعبد. فقال: أقدِّم حكاية، ثم قال: كنت أيام تفقهي ببغداد نائماً ذات ليلة على شاطئ دجلة فسمعت ملاّحا يترنم ويقول:
خذوا بدمي هذا الغزال فإنه
رماني بسهمي مقلتيه على عمدِ
ولا تقتلوه إنني أنا عبده
ولم أر حراً قط يقتل بالعبدِ
فقال الأمير: حسبك فقد أغنيت عن الدليل[5].

• قال أحد أدباء شنقيط: إن الشعر عند العرب كان عبداً لهم يكرمونه ويحتفون به فصار لهم طيعاً، وفي هذا العصر أهانوه ومثلوا به فصار (حراً)![6] [لأن من موجبات عتق العبد على سيده: تمثيله به فيستحق حينئذ الحرية بعد العبودية].



• سمع الفرزدق من عدي بن الرقاع قوله:
تزجي أغن كأنَّ إبرة روقة ♦♦♦ قلم أصاب من الدواة مدادها
قال الفرزدق: سمعت الشطر الأول منه فرحمته بماذا سيشبهه؟ فلما سمعت الشطر الثاني حسدته[7].



• قال كعب الأحبار رحمه الله: الشعراء أناجيلهم في صدورهم تنطق ألسنتهم بالحكمة[8].


• قال الأمير شكيب أرسلان في وصف الشاعر: يكاد يتجرد من عالم المادة بقوة نفسه، وشفوف حسَّه، ويلحق بالملأ النوراني في مضاء عزمه، ووري زنده، وسرعة فكره، ولو كانت الكهربائية شخصاً لكانت هي الشاعر[9].


• قال أبو تمام:
فلو كان يفنى الشعر أفناه ما قرَت
حياضك منه في العصور الذواهبِ
ولكنه صوب العقول إذا انجلت
سحائب منه أعقبت بسحائبِ [10]





"المراجع"

**************
[1] العود الهندي (3 /404).

[2] المصدر السابق.
[3] مختارات المنفلوطي (ص: 75).
[4] مختارات المنفلوطي (ص: 188).
[5] النجم الوهاج (8 /361).
[6] حدثنا بذلك شيخنا إبراهيم الشنقيطي-حفظه الله-.
[7] خزانة الأدب (1/ 223).
[8] مختارات المنفلوطي (ص: 188).
[9] مختارات المنفلوطي (ص: 208).
[10] ديوان أبي تمام (111).







http://media.giphy.com/media/W6IHd7tpy5zoc/giphy.gif








هوازن الشريف 10-24-2017 10:48 AM

رد: صناعة الشعر
 
http://uploads.sedty.com/imagehostin...1339973981.gif

عطر الجنة 11-09-2017 02:14 AM

رد: صناعة الشعر
 
سرني..
روعة حضورك وردك للموضوع أستاذتي

جزيل الشكر لك من قلبي,,


http://media.giphy.com/media/Vndn1UzCUkWtO/giphy.gif



الساعة الآن 08:27 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
Search Engine Friendly URLs by vBSEO 3.6.1 TranZ By Almuhajir
new notificatio by 9adq_ala7sas
HêĽм √ 3.1 BY: ! ωαнαм ! © 2010
يرحل الجميع ويبقي شعاع بيت العلم والحب(ملك الكلمة)