شعاع القصص الوعظية قصص تربوية هادفة للتائبين العائدين الى الله |
الإهداءات |
| LinkBack | أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
| |||||||||||
| |||||||||||
قصةالتاجر البغدادي «علي كوجيا» في العصر العباسي هارون الرشيد تحكي هذا القصة الممتعة عن التاجر البغدادي «علي كوجيا» الذي رأى في المنام شيخًا ينصحه بالحج، فعزم الرحيل بعد أن باع كل ما لديه واستودع الفائض من المال عند صديق له، بعد أن خبأ هذا المال في جرة ووضع فوقه الزيتون وأخبر صديقه أن هذا الزيتون أمانة عنده حتى يرجع من سفره، فماذا سيحدث لـ«علي كوجيا» في سفره؟ وهل سيحفظ صديقه الأمانة؟ هذا ما ستبينه لنا بقية أحداث القصة. تمهيد (ظ،) «عَلِيّ كُوجْيا» كانَ في «بَغْدادَ» — في زَمَنِ الْخَلِيفَةِ «هارُونَ الرَّشِيدِ» — تاجِرٌ اسْمُهُ «عَلِيّ كُوجْيا». لَمْ يَكُنِ التَّاجِرُ: «عَلِيّ كُوجْيا» غَنِيًّا جِدًّا، وَلا فَقِيرًا جِدًّا. وَلَمْ يَكُنْ لِلتَّاجِرِ: «عَلِيّ كُوجْيا» زَوْجٌ وَلا وَلَدٌ. وكانَ التَّاجِرُ: «عَلِيّ كُوجْيا» يَسْكُنُ بَيْتًا وَرِثَهُ مِنْ أَبِيِهِ. وكانَ التَّاجِرُ: «عَلِيّ كُوجْيا» — مَعَ ذَلِكَ — يَعِيشُ عِيشَةً راضِيَةً، ويَدَّخِرُ — مِمَّا يَكْسِبُهُ مِنْ تِجارَتِهِ — ما يَزِيدُ عَلَى حاجَتِهِ مِنَ الْمالِ. (ظ¢) حُلْمُ «عَلِيّ كُوجْيا» وَفي إحْدَى اللَّيالِي رَأَى التَّاجِرُ «عَلِيّ كُوجْيا» حُلْمًا عَجِيبًا. رَأى فيِ الْمَنامِ شَيْخًا مَهِيبَ الطَّلْعَةِ (ذا وَجْهٍ يُعَظَّمُ وَيُحْتَرَمُ)، وَرَأَى ذَلِكَ الشَّيْخَ يَنْظُرُ إِلَيهِ غاضِبًا، وَيَقُولُ لهُ، وَهُوَ عابِسُ الْوَجْهِ: «ارْحَل يا «عَلِيّ كُوجْيا» مِنْ هَذا الْبَلَدِ. ارْحَلْ — أيُّها الرَّجُلُ — في الْحالِ، وَسافِرْ إلى «مكَّةَ» مَعَ الْحُجَّاجِ. وَاحْذَرْ — يا «عَلِيّ كُوجْيا» أن تُخالِفَ أمْري.» وَرَأى في اْللَّيْلِةَ التَّالِيَةِ هَذا الْحُلْمَ نَفْسَهُ. ثُمَّ جاءتِ اللَّيْلَةُ الثَّالِثةُ، وَعادَ إلَيْهِ ذَلِكَ الرَّجُلُ نَفْسُهُ، وَكَرَّرَ عَلَيهِ ما قالَهُ في اللَّيْلَتَيْنِ الْماضِيتَيْنِ. (ظ£) عَزْمُهُ على الْحَجَّ فَلَمَّا طَلَعَ الصُّبْحُ خافَ «عَلِيّ كُوجْيا»، وشَعَرَ بِقَلَقٍ وَحَيْرَةٍ مِمَّا رَآهُ في نَوْمِهِ. وَكانَ «عَلِيّ كُوجْيا» مُسْلِمًا صالِحًا، يَعْرِفُ أنَّ فَرِيضَةَ الْحَجِّ واجِبَةٌ عَلَى كلِّ مُسْلِمٍ، وَأَنَّ دِينَهُ يَأْمُرُهُ بِالْحَجِّ ما دامَ يَسْتَطِيعُ أنْ يَحُجَّ. وَكانَ «عَلِيّ كُوجْيا» مُكْتَفِيًا بِأَداءِ الزَّكاةِ والتَّصَدُّقِ عَلَى الْمَساكينِ والْفُقَراءِ، وَلَمْ يَكُنْ يَمِيلُ إلى تَرْكِ بَلَدِهِ الَّذِي وُلِدَ فِيهِ. فَلَمَّا رَأى ذَلِكَ الْحُلْمَ يَتَكَرَّرُ — ثَلاثَ لَيالٍ — لَمْ يَسْتَطِعْ أنْ يُخَاَلِفَ أَمْرَ الشَّيْخِ الَّذِي جاءَهُ في الْمَنامِ. وخافَ عَلَى نَفْسهِ، فَعَزَمَ عَلَى السَّفَرِ مَعَ الْحُجَّاجِ إلى بلادِ الْحِجازِ، وباعَ دُكَّانَهُ؛ بَعْدَ أنْ باعَ كلَّ ما يَسْتَغْني عَنْهُ في سَفَرِهِ مِنَ الْبَضائِع، وأَبْقَى مِنْها ما عَرَفَ أَنَّهُ يَسْتَطِيعُ بَيْعَهُ في «مَكَّةَ» بِثَمَنٍ كَثِيرٍ. أَمَّا بَيْتُهُ؛ فَقَدْ وَجَدَ مَنْ يَسْكُنُهُ بِأجْرٍ يُرْضِيهِ. (ظ¤) دَنانيرُ «عَلِيّ كُوجْيا» أَعَدَّ «عَلِيّ كُوجْيا» كُلَّ ما يَحْتاجُ إلَيْهِ في السَّفَرِ، ولَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ إلَّا شَيْءٌ واحِدُ بَعْدَ ذَلِكَ. فَقَدْ فَضَلَ مَعَهُ أَلْفُ دِينارٍ فَوْقَ ما يَحْتاجُ إليْهِ من الْمالِ في سَفَرِهِ زَمَنَ الْحَجِّ. وتَحَيَّرَ «عَلِيّ كُوجْيا»؛ فَلَمْ يَعْرِفْ أيْنَ يَضَعُها حَتَّى لا يَسْرِقَها أَحَدٌ مِنَ اللُّصُوصِ. ثُمَّ افْتَكَرَ فِكْرَةً جَمِيلَةً، وهِيَ أنْ يَضَعَها أمانَةً عِنْدَ صَديقٍ لَهُ مِنَ التُّجَّارِ، اسْمُه التَّاجِرُ: «حَسَنُ». ••• فأَحْضَرَ «عَلِيّ كُوجْيا» جَرَّةً كَبِيرَةً (والْجَرَّةُ: الْوعاء مِنَ الْفَخَّارِ)، ثُمَّ وَضَعَ فِيها ذَلِكَ الْمالَ. وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ وَضْعِهِ فِيها، كَمَّلَها بِالزَّيْتُونِ، ثُمَّ سَدَّ الجَرَّةَ، وحَمَلَها إلى صاحِبِهِ التَّاجِرِ «حَسَنٍ»، وقالَ لهُ: «أَنْتَ صَدِيقِي، وأنا أعْرِفُ فِيكَ اْلأَمانَةَ والْوَفاءَ. وَأَنْتَ تَعْلَمُ أنَّنِي قَدْ عَزَمْتُ عَلَى السَّفَرِ إلى «مَكَّة» بَعْدَ أيَّامٍ قَلِيلَةٍ لِأَداءِ فَرِيضَةِ الْحَجِّ. وقَدْ أحْضَرْتُ مَعِي جَرَّةَ زَيْتُونٍ؛ لِتَحْفَظَها لي عِنْدَكَ حَتَّى أَعُودَ مِنَ الْحَجِّ فَتَرُدَّها إليَّ.» ••• فَقالَ لَهُ صاحِبُهُ التَّاجِرُ «حَسَنُ» مُبْتَسِمًا: «سَأَحْفَظُ لَكَ عِنْدِي هَذِهِ الْجَرَّةَ حَتَّى تَعُودَ مِنْ سَفَرِكَ؛ فَأَرُدَّها إلَيْكَ. وَأَنا مَسْرُورُ مِنْ وُثُوقِكَ بِي.» ثُمَّ أَعْطاهُ مِفْتاحَ مَخْزَنِهِ، وقالَ لهُ: «ها هُوَ ذا الْمِفْتاحُ. فاذْهَبْ إلى مَخْزَنيِ، وَضَعِ الْجَرَّةَ في أَيِّ مَكانٍ يُعْجِبُكَ. ولَنْ يَمَسَّها أحَدٌ مِنَ النَّاسِ حَتَّى تَعُودَ مِنْ سَفَرِكَ، وتأْخُذَها مِنَ الْمَكانِ الَّذِي وضَعْتَها فِيه.» فَشَكَرَهُ «عَلِيّ كُوجْيا» عَلَى ذَلِكَ، وَأَخَذَ مِنْهُ مِفْتاحَ مَخْزَنِهِ، ووضَعَ جَرَّتَهُ فيه، ثُمَّ أَعادَ إلَيْهِ الْمِفْتاحَ وانْصَرَفَ. أَسفَارُ عَلِيّ كُوجْيا (ظ،) مَعَ الْقافِلَةِ وَلَمَّا جاءَ وَقْتُ السَّفَرِ، وَدَّعَ «عَلِيّ كُوجْيا» صاحِبَهُ التَّاجرَ «حَسَنًا»، وَسافَرَ مَعَ الْقَافِلَةِ — مِنْ «بَغْدَادَ» — بَعْدَ أنْ أَخَذَ مَعَهُ الْبَضائِعَ الَّتِي أَبْقاها مَعهُ لِيَبِيعَها في «مَكَّةَ». ••• وَسارَتِ الْقافِلَةُ — الَّتِي رَكِبَ فِيها «عَلِيّ كُوجْيا» — حتَّى وَصَلَتْ إلى «مَكَّةَ». وَهُناكَ أدَّى «عَلَي كُوجْيا» — وَمَنْ سافَرَ معَهُ — فَرِيضَةَ الْحَجِّ. وَلَمَّا انْتَهَى مِنْ ذَلِكَ، أَخَذَ يَبِيعُ بَضائِعَهُ — الَّتي أحْضَرَها معَهُ مِنْ «بَغْدَادَ» — وَيَشْتَرِي غَيْرَها مِنْ «مَكَّةَ». وَمَرَّ عَلَيْهِ تاجِرانِ، فَوَقَفَا يَتَأَمَّلانِ في بَضائِعِهِ، وَيُعْجَبانِ بِحُسْنِها وَجَوْدَتِها. الفصل الثاني جَرَّةُ الزَيتُون (ظ،) مُحادَثةُ التَّاجِرِ وامْرَأَتِهِ وَذَاتَ لَيْلَةٍ كانَ التَّاجرُ — الَّذِى تَرَكَ عِنْدَهُ «عَلِيّ كُوجْيا» جَرَّةَ الزَّيْتُونِ — يَتَعَشَّى معَ امْرَأَتِه. فَقَالَتْ لَهُ: «إِنَّ نَفْسِي تَشْتَهِي الزَّيْتُونَ، وَقدْ نَفِدَ (فَرَغَ) مِنَ الْبَيْتِ مُنْذُ زَمَنٍ طَوِيلٍ.» فَقالَ لها زَوْجُها: «لقَدْ ذَكَّرَنِى كَلامُكِ الآنَ بِصَدِيقِي «عَلِيّ كُوجْيا» الَّذِي تَرَكَ عِنْدِي جَرَّةَ زَيْتُونٍ قَبْلَ أَنْ يُسافِرَ إلى «مكَّةَ».» وَلقَدْ مَضَى عَلَى سَفَرِهِ الآنَ سَبْعُ سَنَواتٍ دُونَ أنْ يَرْجِعَ. وَلَسْتُ أدْري لِمَ غابَ هَذهِ الْمُدَّةَ الطَّويلَةَ ولَمْ يَعُدْ إلى الْبَلَدِ؟ لَقَدْ أخْبَرَنِي أحَدُ التُّجَّارِ — الَّذِينَ حَجُّوا مَعَهُ — أنَّهُ ذَهبَ إلى «مِصْرَ». ولَكِنَّهُ غابَ ولَمْ يَعُدْ إلى الآنَ. فَماذا حَدَثَ لَهُ يا تُرَى؟ إنَّي أَظُنُّهُ قدْ ماتَ. وَلهَذا سَأُحْضِرُ لَكِ جَرَّةَ الزَّيْتُونِ — الَّتي تَركَها عِنْدِى أَمانةً — لِنأْكُل ما فِيها مِنَ الزَّيْتُونِ، إِذا كانَ لا يَزالُ صالِحًا لِلأَكْلِ.» ثمَّ طَلَبَ مِنِ امْرَأَتِهِ أنْ تُحْضِرَ إِلَيْهِ مِصْباحًا، وطَبَقًا يَمْلَؤُهُ زَيْتُونًا مِنْ جَرَّةِ «عَلِيّ كُوجْيا»، الَّتي وَضَعَها في مَخْزَنِه. ••• فَقالتِ امْرَأَتُهُ: «أمَّا زَيْتُونُ «عَلِيّ كُوجْيا» فلا أُريدُ أنْ آكُلَ مِنْهُ شَيْئًا. وإنِّى أُحَذِّرُكَ أنْ تَمَسَّ زَيْتُونَهُ الَّذِي تَرَكَهُ أمانةً عِنْدَك. فَإِنَّكَ — إذا أَخَذْتَ مِنْهُ شَيْئًا — كُنْتَ خائِنًا. ولَسْتُ أَرْضَى لَكَ ذَلكَ أبَدًا. وَإذا كانَ «عَلِيّ كُوجْيا» قدْ غابَ عَنْ بَلَدِهِ سَبْعَ سِنِينَ، فَلَيْسَ مَعْنَى هَذا أنَّهُ قدْ ماتَ. لقَدْ أخْبَرَكَ الْحُجَّاجِ أنَّ «عَلِيّ كُوجْيا» سافَرَ إلى «مِصْرَ»، ثُمَّ لَمْ يُخْبِرْكَ أحَدٌ — بَعْدَ ذَلكَ — بِما فَعَلهُ بَعْدَ أنْ وَصلَ إلى «مِصْرَ». فَما يُدْريكَ، لَعَلَّهُ سافَرَ مِنْها إلى جِهَةٍ أُخْرَى لِيُتاجِرَ فِيها؟ إنَّكَ لا تَعْلَمُ شَيْئًا عَنْهُ، وَلَمْ تَسْمَعْ — مِنْ أحَدٍ — خَبَرَ مَوْتِه فَلا تَمَسَّ اْلأَمانةَ الَّتي ائتَمَنكَ عَليْها، وَعليْكَ أنْ تَحْفَظَها لهُ حتَّى يَعُود. وَما يُدْريكَ: لَعلَّهُ يَرْجِعُ غَدًا أوْ بَعْدَ غَدٍ؟ فَماذا تَقُولُ لهُ إذا فَرَّطْتَ في الْوَدِيعَةِ (ضَيَّعْتَ اْلأَمانَةَ) الَّتي ترَكها عِندكَ؟ وَماذا يَقُولُ عَنْكَ النَّاسُ إذا عَلِمُوا أنَّكَ قد خُنْتَ صَديقَكَ؟ وَأيُّ عارٍ يَلْحَقُكَ — حينَئِذٍ — وَيَلْحَقُ أهْلَكَ؟ إنَّك إنْ بَدَّدْتَ اْلأَمانةَ، أَغْضَبْتَ الله، وَفَضَحْتَ نَفْسَكَ بَيْنَ النَّاسِ وَسَوَّأْتَ سُمْعَتَكَ. فَلا تُقْدِمْ عَلَى هَذا الْعَمَلِ الْمَمْقُوتِ أَبَدًا. وَأنا أَقُولُ لَكَ: إِنَّنِي لَنْ آكلَ مِنْ زَيْتُونِ «عَلِيّ كُوجْيا» إذا أَحْضَرْتَهُ، فَلا تُتْعِبْ نَفْسَكَ في إحْضارِهِ. ولا بُدَّ أَنَّهُ أَصْبَحَ غَيْرَ صالِحٍ لِلْأَكْلِ، بَعْد أَنْ مَضَى عَلَيْهِ هَذا الزَّمَنُ الطَّوِيلُ. ولَقدْ جَرَّنِي الْحَدِيثُ إلَى ذِكْرِ الزَّيْتُونِ، وَلَسْتُ أَشْتَهِيهِ الآنَ. ••• واعْلَمْ — يا زَوْجِي — أنَّ الزَّيْتُونَ قَدْ أَصابَهُ الْعَطَبُ (الْفَسادُ) بِلا شَكٍّ. وإنِّي أُقْسِمُ — يا زَوْجِي — أنْ تُبْعِدَ عنْ نَفْسِكَ هَذِه الْفِكْرَةَ الْخَبِيثَةَ، وأُحَذِّرُكَ عاقِبَتَها السَّيِّئَةَ.» (ظ¢) فىِ مَخْزَنِ التَّاجِرِ لمْ يَرْضَ التَّاجِرُ أنْ يَعْمَلَ بِنَصِيحَةِ امْرأَتِهِ، وَعَزَمَ عَلَى الذَّهابِ إلى مَخْزَنِهِ لِيَفْتَحَ جَرَّةَ الزَّيْتُونِ. وَلَمَّا وَصَلَ إلى مَخْزَنِهِ أَمْسَكَ بِيَدَيْهِ جَرَّةَ الزَّيْتُونِ، وَرَفَعَ عَنْها غِطاءَها، ثُمَّ نَظَرَ ما فِيها مِنَ الزَّيْتُونِ، فرَآهُ غَيْرَ صالِحٍ لِلْأَكلِ — لِفَسادِهِ — بَعْدَ أنْ مَرَّ عَلَيهِ ذَلِكَ الزَّمَنُ الطَّوِيلُ. فَأرادَ التَّاجِرُ أنْ يَعْرِفَ: هَلْ أَصابَ الْعَطَبُ كلَّ ما فيِ الْجَرَّةِ مِنَ الزَّيْتُونِ، أوْ سَلِمَ مِنْهُ شَىْءٍ؟ وقالَ في نَفْسِهِ: «تُرَى، هَلْ تَلِفَ ما في أَسْفَلِها كما تَلِفَ ما في أَعْلاها؟» ثمَّ أَمالَ الْجَرَّةَ لِيَتَحَقَّقَ ذَلِكَ؛ فَسّقَطَ الزَّيْتُونُ في الطَّبَقَ الَّذِي جاءَ بِهِ، وسَقَطَ مَعَهُ بِضْعَةُ ذَنانِيرَ؛ فَأحْدَثَ سُقُوطُها رَنِينًا في الطَّبَقِ. وَمَا رأَى التَّاجِرُ الدَّنانيرَ وَسَمِعَ رَنِينَها — فيِ الطَّبَقِ — حتَّى عَجِبَ مِنْ ذَلِكَ عَجَبًا شَدِيدًا. وَنَظَرَ إلى داخِلِ الْجَرَّةِ، فَرَأَى بَقِيَّةَ الدَّنانيرِ الَّتي وَضَعَهَا فِيها «عَلِيّ كُوجْيا». وهُناكَ عَلِمَ أَنَ صاحِبَهُ «عَلِيّ كُوجْيا» قَدْ وَضَعَ في أَعْلَى جَرَّتِهِ قَلِيلًا مِنَ الزَّيْتُونِ، بَعْدَ أَنْ وَضَعَ في أَسْفَلِها دَنانيرَهُ. فَأعادَ التَّاجِرُ الزَّيْتُونَ والدَّنانيرِ في الْجَرَّةِ، ثُمَّ غَطَّاها، وَرَجَعَ إلى بَيْتِهِ، وَقال لِامْرَأَتِهِ: «الْحَقُّ مَعكَ — يا امْرَأَتي — فَقَدْ وَجَدْتُ الزَّيْتُونَ فاسِدًا. وَقَدْ سَدَدْتُ الْجَرَّةَ كما كانَتْ، حتَّى إِذا عادَ «عَلِيّ كُوجْيا» — وَلا أظُنُّهُ يَعُودُ — لا يَعْلَمُ أنَّنِي فَتَحْتُ جَرَّتَهُ، أوْ رَأيْتُ ما فِيها.» فقالَتْ لهُ امْرَأَتُهُ: «لَيْتكَ صَدَّقْتَ كَلامِي، ولَيْتَكَ لَمْ تَفْتَحِ الْجَرَّة، فَقَدْ أخْطَأْتَ في ذَلِكَ. وَإِنِّي أَدْعُو الله أنْ يَغْفِرَ لكَ هذِهِ الْخَطِيئَةَ الَّتي أَتَيْتَها بِلا رَوِيَّةٍ (بِلا تَمَهُّلٍ).» (ظ£) خِيانَةُ التَّاجِرِ لَمْ يُبالِ التَّاجِرُ كَامَ امْرَأَتِهِ؛ فَقَدْ كانَ مَشْغُولًا بالدَّنانيرِ الَّتي وَجَدها فِي جَرَّةِ «عَلِيّ كُوجْيا». وَأنْساهُ فَرَحُهُ بها شَناعَةَ الْجُرْمِ (قُبْحَ الذَّنْبِ) الَّذِى عَزَمَ عَلَى ارْتِكابِه. ••• وَباتَ التَّاجِرُ وَهُوَ يُفَكِّرُ طُولَ اللَّيْلِ في الطَّرِيقَةِ الَّتي يَسْلُكُها لِيَحْصُلَ بِها عَلَى الدَّنانيرِ دُونَ أنْ يَفْطُنَ «عَلِيّ كُوجْيا» — إذا حَضَرَ — إلى فَتْحِ جَرَّتَهِ حينَ يَأخُذُها مِنْهُ. وَلَمَّا طَلَعَ الصُّبْحُ خَرَجَ التَّاجِرُ مِنْ بَيْتِهِ مُسْرِعًا إلى السُّوقِ، واشْتَرَى زَيْتُونًا لِيَمْلَأَ بِهِ جَرَّةَ «عَلِيّ كُوجْيا». ثُمَّ ذَهَبَ إلى مَخْزَنِهِ، وَفَتَحَ الْجَرَّةَ، وَأَخَذَ ما فِيها مِنَ الدَّنانيرِ وَوَضَعَهُ في مَكانٍ أَمِينٍ. وأَلْقَى ما كانَ فِيها مِنَ الزَّيْتُونِ، ثُمَّ مَلَأَها بالزَّيْتُونِ الَّذِي اشْتراهُ مِنَ السُّوقِ. وَلَمَّا انْتَهى مِنْ ذَلِكَ سَدَّ الْجَرَّةَ كما كانَتْ، وَوَضَعَها في الْمَكانِ الَّذِي وَضَعَها فِيهِ «عَلِيّ كُوجْيا» مِنْ قَبْلُ. وَلَمْ يُفَكِّرِ التَّاجرُ في عاقِبَةِ هَذِهِ الْخِيانَةِ الْمَمْقُوتَةِ (الْمَكْرُوهَةِ)، وَلَمْ يَخَفْ غَضَبَ اللهِ وَمَقْتَ النَّاسِ وَفَضِيحَتَهُ بَيْنَهُمْ. (ظ¤) عَوْدَةُ «عَلِيّ كُوجْيا» وَمَرَّ عَلَى هَذِهِ الْجَرِيمَةِ شَهْرٌ وَاحِدٌ، ثُمَّ عادَ «عَلِيّ كُوجْيا» مِنْ سَفَرِهِ الطَّوِيلِ إِلى «بَغْدادَ». وَكانَ «عَلِيّ كُوجْيا» — كما قُلْنا — قَدْ أَجَّرَ بَيْتَهُ حِينَ عَزَمَ عَلَى السَّفَرِ إلى «مَكَّةَ». فَلَمَّا عادَ مِنْ سَفَرِهِ لَمْ يَسْتَطِعْ أنْ يَبِيتَ فِيهِ. فَذَهَبَ «عَلِيّ كُوجْيا» إلى فُنْدُقٍ في «بَغْداد». ثُمَّ عَزَمَ عَلَى الْبَقاءِ في الْفُنْدُقِ حتَّى يُفاوِضَ مُسْتَأْجِرِي بَيْتِهِ في إخْلائِهِ. وَفي الْيَوْمِ التَّالي ذَهَبَ «عَلِيّ كُوجْيا» إلى صاحِبِهِ التَّاجِرِ لِمُقَابَلَتِهِ. وَلَمَّا رآهُ التَّاجِرُ أَظْهَرَ الْفَرَحَ بِعَوْدتِهِ، وَأسْرَعَ إلى مُعانَقَتِهِ، وهَنَّاْهُ بِرُجُوعِهِ سالِمًا مِنْ ذَلِكَ السَّفَرِ الطَّوِيلِ الَّذِي أقْلَقَ بالَهُ، خَوْفًا عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ قَدْ أصابَهُ سُوءٌ. ثُمَّ قالَ لَهُ التَّاجِرُ: «لَقَدْ يَئِسْتُ مِنْ عَوْدَتِكَ بَعْدَ هَذا الغِيابِ الطَّوِيلِ. والآنَ أَحْمَدُ اللهَ على سَلامَتِكَ.» (ظ¥) حَدِيثُ «عَلِيّ كُوجْيا» والتَّاجِرِ وَلَمَّا الْتَقَى «عَلِيّ كُوجْيا» بِصَدِيقِهِ التَّاجِرِ، شَكَرَهُ لِما رَآهُ مِنْ حُسْنِ مُقابَلَتِهِ وحَفاوتِهِ بِهِ. ثم قالَ لهُ: «لَعَلَّكَ — يا صَدِيقِي — تَذْكُرُ جَرَّةَ الزَّيْتُونِ الَّتي تَرَكْتُها عِنْدَك قَبْلَ سَفَرِي؟» فَأَجابهُ التَّاجِرُ مُبْتَسِمًا: «نَعَمْ أذْكُرُها جَيِّدًا» فَقالَ لَهُ «عَلِيّ كُوجْيا»: «فَهلْ تَتَفَضَّلُ بإِعادَتِها إلَيَّ؟ إنَّنيِ لَنْ أَنْسَى لَكَ هَذا الْمَعْرُوفَ طُولَ حَياتى، وأرْجُو ألَّا أَكُونَ قَدْ ضايَقْتُكَ بِوَضْعِها عِنْدَكَ طُولَ هَذِهِ الْمُدَّةِ.» فَقالَ لَهُ التَّاجِرُ: «كَلَّا، لَمْ تُضايقْنىِ قَطُّ، وَسَتَجِدُها في الْمَكانِ الَّذِي وَضَعْتَها. بِيَدِكَ فِيهِ — قَبْلَ سَفَرِكَ — دُونَ أَنْ يَمَسَّها أحَدٌ. وَها هُوَ ذا الْمِفْتاحُ — يا صَدِيقي — فَخُذْها بِيَدِكَ، كما وَضَعْتَها بِيَدِكَ.» فَشَكَرَ لَهُ ذَلِكَ مَرَّةً ثانِيةً. وَلَمَّا أَخَذَ «عَلِيّ كُوجْيا» جَرَّتَهُ، ذَهَبَ بِها إلى الْفُنْدُقِ، بَعْدَ أنْ وَدَّعَ صاحِبَهُ التَّاجِرَ، شاكِرًا لهُ. وَلَمَّا دَخَلَ الْفُنْدُقَ فَتَحَ الْجَرَّةَ وأَخْرَجَ منْها بَعْضَ الزَّيْتُونِ، ثمَّ نَظَرَ فِيها فَلَمْ يَجِدْ دَنانِيرَهُ. فَأَخْرَجَ مِنْها مِقْدارًا كَبِيرًا مِنَ الزَّيْتُونِ، فَلَمْ يَجِدْ فِيها إلَّا زَيْتُونًا أيْضًا. دَهِشَ «عَلِيّ كُوجْيا»، ولَمْ يُطِقْ صَبْرًا عَلَى ذَلِكَ. فَقَلَبَ الْجَرَّةَ؛ فَهَوَى (سَقَطَ) كُلُّ ما فِيها مِنَ الزَّيْتُونِ، ولَمْ يَرَ فِيها دِينارًا واحِدًا. ••• حَزِنَ «عَلَي كُوجْيا» لِذَلِكَ أَشَدَّ الْحُزْنِ، وَعَجِبَ مِنْ خِيانِةِ صاحِبِهِ التَّاجِرِ، وقالَ في نَفْسهِ: «لَقَدْ خُدِعْتُ فيِ هَذَا الرَّجُلِ؛ فَقَدْ كُنْتُ أَحْسَبُهُ أَمِينًا، فَإِذا بهِ لِصٌ خائِنٌ، لا يَرْعَى (لا يَحْفَظُ) حَقَّ الْأَمانَةِ.»
قَاضِي اْلأَطفَالِ (ظ،) الْخَلِيفَةُ يَطُوفُ بالْمدِينةِ و كانَ مِنْ عادَةِ الْخَلِيفَةِ «هارُونَ الرَّشِيدِ» أنْ يَخْرُجَ في بَعْضِ اللَّيالِي مَعَ بَعْضِ حاشِيَتِهِ (أتْباعِه وخاصَّتِهِ). وكانُوا يَلْبَسُونَ مَلابِسَ التُّجَّارِ — حتَّى لا يَعْرِفَهُمْ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ — ثُمَّ يَطُوفوُنَ بِالْمَدِينَةِ؛ لِيَعْرِفَ الْخَلِيفَةُ نَفْسُهُ أحْوالَ رَعِيَّتِهِ. (ظ£) حُكْمُ قاضِي الْأَطْفالِوَقَدْ خَرَجَ الْخَليفَةُ «هارُونُ الرَّشِيدُ» في مَساءِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَمَعَهُ وَزِيرُهُ «جَعْفَرٌ» وكَبيرُ خُدَّامِه «مَسْرُورٌ»، بَعْدَ أَنْ لَبِسُوا جَمِيعًا مَلابِسَ التُّجَّارِ. ثُمَّ سارُوا في الْمَدِينَةِ — مِنْ طَرِيقٍ إلى طَرِيقٍ — حتَّى وَصَلُوا إِلى دَرْبٍ (طَرِيق) تَنْبَعِثُ مِنْهُ ضَجَّةٌ وضَوْضاءُ وصِياحٌ. فَأسْرَعَ الْخَلِيفَةُ لِيَرَى سَببَ تِلْكَ الْجَلَبَةِ؛ فَسَمِعَ أطْفالًا يتكلَّمُونَ بِصَوْتٍ عالٍ، وَهُمْ يَلْعَبُونَ في فِناءِ بَيْتٍ واسِعٍ (والْفِناءُ: الْفَضَاءُ أَمامَ الْبَيْتِ). فَنَظَرَ إلَيْهِمْ مِنْ فُرْجَةٍ (ثَقْبٍ) بِالْبابِ — وكانَ الْقَمَرُ ساطِعًا في تِلْكَ اللَّيْلَةِ — فَرَأَى أَطْفالًا يَلْعَبُونَ. و سَمِعَهُمُ الْخَلِيفَةُ وهُمْ يَتَكلَّمُونَ بِصَوْتٍ مُرْتَفِعٍ، فَأَنْصَتَ إلَيْهْمْ لِيَعْرِفَ ما يَقُولُونَ. (ظ¢) أطْفالٌ يُمَثَّلُونَ قِصَّةَ «عَلِيّ كُوجْيا» وَالتَّاجرِ «حَسَنٍ» وسَمِعَ الْخَلِيفَةُ «هارُونُ الرَّشِيدُ» أحَدَ الْأَطْفالِ يَقُولُ لِأصْحابِهِ وهُوَ فَرْحانُ: «هَلْ لَكُمْ فيِ لُعْبَةٍ جَمِيلَةٍ أَقْتَرِحُها عَلَيْكُمْ (أَطْلُبُ مِنْكُمْ أنْ تَلْعَبُوها)؟» فَقالُوا لهُ: «وَما هِيَ؟» فَقالَ لَهُمُ الطَّفلُ مُتَحَمسًّا: «تَعالَوْا نُمَثِّلْ قِصَّةَ «عَلِيّ كُوجْيا» والتَّاجِرِ «حسنٍ» الَّذِي سَرَقَ مِنْهُ دَنانيرَهُ. وسَأكُونُ أنا الْقاضِيَ الَّذِي يَحْكُمُ في الْقَضِيَّةِ.» فَفرِحَ الْأَطْفالُ بِهَذِهِ الْفِكْرَةِ فَرَحًا شَدِيدًا. و كانَتْ قِصَّةُ «عَلِى كُوجْيا» وصاحِبِهِ التَّاجِرِ «حَسَنٍ» قَدِ اشْتَهَرَتْ في «بَغْدَادَ»، وعَرَفَها النَّاسُ جَمِيعًا؛ رِجالًا ونِساءً وأطفالًا. فَلَمَّا سَمِعَ الْخَلِيفَةُ مِنْهُمْ ذَلِكَ الْكلامَ، تَذَكَّرَ الشَّكْوَى الَّتي قَدَّمَها إلَيْهِ «عَلِيّ كُوجْيا». فَوَقَفَ الْخَلِيفَةُ لِيَرَى كَيْفَ يُمَثِّلُونَ تِلْكَ الْقِصَّةَ، وأنْصَتَ إِنْصاتًا لِيَسْمَعَ الحُكْمَ الَّذِى يُصْدِرُهُ الطَّفلُ؛ بَعْدَ أنْ اخْتارَ لِنَفْسِهِ تَمْثيلَ الْقاضِي. اخْتارَ قاضِي الْأَطْفالِ لِكُلَّ واحِدٍ مِنْ أَصْحابِهِ دَوْرًا يُمَثِّلُهُ، وَرَضِيَ أَصْحابُهُ بِما اخْتارَه لَهُمْ فَرِحِينَ بِذَلِك. (ظ¤) كَيْفَ حَكَمَ الْقاضِي؟و لَمَّا فَرَغَ مِنْ تَقْسِيم الْأَدْوارِ عَلَى أَصْحابِه، جَلَسَ بَيْنَهُمْ، ثُمَّ أَعْلَنَ أَنَّ الْجَلْسَةَ قَدِ ابْتَدَأَتْ. وَكانَ الطِّفْلُ يَتَظاهَرُ بِالرَّزانَةِ والثَّباتِ لِيُتْقِنَ تَمْثيلَ دَوْرِهِ. ثُمَّ طَلَبَ قاضِي الْأَطفالِ مِنَ الْحاجِبِ (وَهُوَ: الْبَوَّابُ) أَنْ يُحْضِرَ لَهُ التَّاجرَ «حَسنًا» و«عَلِيّ كُوجْيا» فَناداهُما الْحاجِبُ، فَحَضَرا. و لَمَّا مَثَلا أمامَ الْقاضِي، الْتَفَتَ إلى «عَلِيّ كُوجْيا»، وقالَ لَهُ: «ما الَّذِى تَشْكُوهُ — يا «عَلِيّ كُوجْيا» — مِنْ صاحِبكَ؟» فانْحَنَى «عَلِيّ كُوجْيا» أمامَ الْقاضِى — احْتِرامًا — ودَعا لَهُ، ثُمَّ قَصَّ عَلَيْهِ قِصَّتهُ كُلَّها، وَذَكَرَ كلَّ ما حَدَثَ لهُ مَعَ التَّاجرِ «حَسَنٍ»، مِنْ غَيْرِ أنْ يَتْرُكَ شَيْئًا. «أطفال يمثلون مشاجرة علي كوجيا والتاجر حسن». ولَمَّا سَمِعَ قاضِي الْأَطْفالِ كَلامَ «عَلِيّ كُوجْيا» الْتَفَتَ إلَى التَّاجِرِ: «حَسَنٍ»، وسَأَلهُ: «لِماذا لَمْ تَرُدَّ إلى «عَلِيّ كُوجْيا» دَنانيرَهُ الَّتي تَرَكَها وَدِيعَةً (أَمانَة تَحْفَظُها) عِنْدَكَ؟» (ظ¦) الْوَزِيرُ يَسْتَدْعِي قاضِيَ الْأَطْفالِفَقَالَ لَهُ التَّاجرُ «حَسَنٌ»: «أَنا لَمْ أَرَ دَنانِيرَهُ، وأَنا لا أَعْلَمُ ما كانَ في الْجَرَّةِ؛ لِأَنَّنِي لَمْ أَفْتَحْها. وأَنا أُقْسِمُ بِاللهِ عَلَى ذَلِكَ، إنْ شِئْتَ.» فَقالَ لَهُ الْقاضِي: «لا تُقْسِمْ بِاللهَ — أَيُّها الرَّجُلُ — فَلَسْنا مُحْتاجِينَ إلى قَسَمِكَ.» ثُمَّ الْتَفَتَ الْقاضِي إلى «عَلِيّ كُوجْيا»، وقالَ لهُ: «أَنا أُرِيدُ أَنْ أَرَى جَرَّةَ الزَّيْتُونِ، فَهَلْ أَحْضَرْتَها مَعَكَ؟» فَقالَ لهُ «عَلِيّ كُوجْيا»: «كَلَّا، لَمْ أُحْضِرْها.» فَقال لَهُ: «اذْهَبْ فَأحْضِرْها في الْحالِ.» فَخَرَجَ الطِّفْلُ لحْظةً، ثُمَّ عادَ وَتظَاهَرَ أَمامَهُ بِأَنَّهُ أحْضَرَ مَعَهُ جَرَّةَ الزَّيْتُونِ. «طفل يتظاهر بإحضار جرة الزيتون». فالْتَفَتَ الْقاضِي إلى التَّاجِرِ: «حَسَنٍ» وَسَأَلَهُ: «أهذِهِ هِيَ جَرَّةُ الزَّيْتُونِ الَّتي وَضعَها عنْدَكَ «عَلِيّ كُوجْيا»؟» فَقالَ لهُ التَّاجِرُ «حَسَنٌ»: «نَعَمْ، هِيَ بِعَيْنِها.» فأمرَ القاضِي بِفَتْحِ الْجَرَّةِ. ثُمَّ تَظاهَرَ بِأَنَّهُ يَنْظُرُ فِيها، وَقالَ: «ما أَحْسَنَ هَذا الزَّيْتُونَ!» ثُمَّ تَظاهَرَ بِأنَّهُ قَدْ أَخَذَ زَيْتُونَةً — مِنَ الْجَرَّةِ — وأنَّهُ تَذَوَّقَها، وقال: «هَذا زَيْتُونٌ فاخِرٌ جدًّا، فَكَيْفَ بَقِيَ سَبْعَ سَنَواتٍ وَلَمْ يَفْسُدْ؟» ثُمَّ أمَرَ الْقاضِي حاجِبَهُ أنْ يُحْضِرَ بَعْضَ تُجَّارِ الزَّيْتُونِ. فَذَهَبَ الْحاجِبُ وغابَ زَمَنًا يَسِيرًا، ثُمْ عادَ ومعَهُ طِفْلانِ يُمَثِّلان رَجُلَيْنِ مِنْ تُجَّارِ الزَّيْتُونِ. فالْتَفَتَ إليْهما الْقاضِي وسَأَلَهُما: «أَأَنْتُما مِنْ تُجَّارِ الزَّيْتُونِ؟» فقالا لهُ: «نَعَمْ — يا مَوْلانا الْقاضِي — نَحْنُ مِنْ تُجَّارِ الزَّيْتُونِ.» فقالَ لَهُما: «أَخْبِرانِي — أيُّها التَّاجِرانِ — كَمْ سَنةً تَسْتَطِيعانِ أَنْ تَحْفَظا الزَّيْتُونَ مِنَ التَّلَفِ؟» فَقالا لَهُ: «إنَّنا لا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَحْتَفِظَ بِهِ إلَى الْعام الثَّالثِ مَهْما نَبذُلْ مِنْ جُهْدٍ: لِأَنَّهُ يَتْلَفُ — حِينَئِذٍ — ويُصْبِحُ لا لَوْنَ لَهُ ولا طَعْمَ، ولا يَصْلُحُ لِلْأَكلِ بَعْدَ ذَلِكَ.» فقَالَ لَهُما: «انْظُرا إلى هَذا الزَّيْتُونِ وخَبِّرانِي: كَمْ مَكَثَ في هَذِهِ الْجَرَّةِ؟» فَتَظاهَرا بِأنَّهُما رَأَيا الزَّيْتُونَ وفَحَصا عَنْهُ وتَذَوَّقاهُ. ثُمَّ قالا لَهُ: «إنَّهُ قَدْ وُضِعَ فيِ الْجَرَّةِ مُنْذُ زَمَنٍ قَرِيبٍ.» فَقالَ لَهُما الْقاضي: «أظُنُكما مُخْطِئَيْنِ؛ فَإِنَّ «عَلِيّ كُوجْيا» يَقُولُ: إنَّهُ قَدْ وضَعَ الزَّيْتُونَ — في الْجَرَّةِ — مُنْذُ سَبْعِ سِنينَ.» فَقالا لهُ: «نَحْنُ واثِقانِ بِقَوْلِنا، فَأحْضِرْ — إذا شِئْتَ — كلَّ تُجَّارِ الزَّيْتُونِ الَّذِينَ في «بَغدادَ» واسْألْهُمْ، فَإِنَّهُمْ يقُولون لَكَ إنَّ هَذا الزَّيْتُونَ لَمْ يُوضَعْ في الجَرَّةِ إِلَّا هَذا الْعامَ.» ••• وأراد التَّاجِرُ «حَسَنُ» أَنْ يَتكلَّمَ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَمْ يُمَكِّنْهُ الْقاضِي مِن الْكَلامِ، بَلْ قالَ لهُ: «اسْكُتْ، أيُّها الْكَذُوبُ!» ثُمَّ قَضَى عَلَيْهِ بِأَنْ يُصْلَبَ (يُقْتَلَ وتُعلَّقَ جُثَّتُهُ) جَزاءَ خِيانَتِهِ. وَأَسْرَعَ الْأَطفْالُ إلى التَّاجرِ: «حَسَنٍ»، فَأَمْسكوهُ بِعُنْفٍ مُتظاهِرِينَ بِأَنَّهُمْ سَيَصْلُبُونَهُ، كَما أَمَرَ الْقاضِي. (ظ¥) إعْجابُ الْخَلِيفَةِ بِذَكاءِ قاضِي الأطْفالِ دَهِشَ الْخَليفَةُ «هارُونُ الرَّشِيدُ» مِنْ ذَكاءِ ذَلِكَ الطَّفْلِ؛ فَقَدْ أَتْقَنَ تَمْثِيلَ الْقاضِي كُلَّ الْإتْقانِ، وَأَظْهَرَ رَزانَةً وثَباتًا عَجِيبَيْنِ في أَثْناءِ تَمْثيلِه، وَقَضَى بَيْنَ الْمُخْتَصِمَيْنِ قَضاءً حَكيمًا. فالْتفتَ الْخَليفةُ إلى «جَعْفَرٍ» — وَزِيرِهِ — وقال لهُ: «ماذا تَرَى في ذَكاءِ هَذا الطِّفْلِ؟» فَقال لهُ وَزِيرُهُ — وكانَ مُنْصِتًا إلى التَّمْثيلِ كُلَّ الْإنْصاتِ: «أَنا مَدْهُوشٌ جِدًّا — يا أَمِيرَ الْمُؤْمِنينَ — مِنَ ذَكائهِ، ومُعْجَبٌ كُلَّ الإعْجابِ بِتَمْثيلِهِ الْمُتْقَنِ. ولَمْ أرَ — فِيمَنْ رَأَيْتُ مِنْ الأَطْفالِ — مِثْلَ هَذا الطِّفْلِ في الذَّكاءِ!» فَقالَ لهُ الْخَليفَةُ: «هَلْ تَعْلَمُ — يا وزيرِي — أنَّ «عَلِيّ كُوجْيا» نَفْسَهُ قَدْ رَفَعَ إلَيَّ شَكْواهُ في هَذا الْيَوْمِ، وأَنِّي سَأَقْضِي فيها غَدًا؟ وقَدْ أوْحَى إلَيَّ هَذا الطِّفْلُ الطَّرِيقَةَ الَّتي أسْلُكُها في الْقَضاءِ بَيْنَ التَّاجرِ: «حَسَنٍ» و«عَلِيّ كُوجْيا».» ثُمَّ قالَ لهُ: «تَذَكَّرْ — يا «جَعْفَرُ» — هَذا الْبَيْتَ جَيِّدًا، ثُمَّ أحضِرْ لي هَذا الْقاضِيَ الصَّغِيرَ غَدًا، لِيَقْضِيَ بَيْنَ التَّاجِرِ: «حَسَنٍ» و«عَلِيّ كُوجْيا» أمامي. ثُمَّ أحْضِرِ الْقاضِي الْحَقِيقِيَّ الَّذِي قَضَى بَيْنَهُما، وبَرَّأَ التَّاجِرَ «حَسَنًا»؛ لِيَرَى كَيْفَ يَقْضِي ذَلِكَ الطِّفْلُ بَيْنَ الْمُتَخاصِمَيْنِ. ولا تَنْسَ أنْ تَأْمُرَ «عَلِيّ كُوجْيا» أنْ يُحْضِرَ مَعَهُ جَرَّةَ الزَّيْتُونِ غَدًا، وأنْ تَسْتَدْعِيَ تاجِرَيْنِ مِنْ تُجَّارِ الزَّيْتُونِ لِيَحْضُرا الْجَلْسَةَ أيْضًا.» و في صباحِ الْيَوْمِ التَّالِي ذَهَبَ الْوَزِيرُ «جَعْفَرٌ» — كما أمَرَهُ الْخَلِيفَةُ — إلى الْبَيْتِ الَّذِي كانَ يَلْعَبُ الْأَطْفالُ في فِنائِه لَيْلَةَ أمْسِ. (ظ¨) قاضِي الْأَطفالِ يَقْضِي أَمامَ الْخَلِيفَةِثُمَّ دَقَّ الْبابَ، فَصاحَتْ سَيِّدَةٌ كَبِيرَةُ السِّنِّ في الْبَيْتِ: «مَنْ بِالْبابِ؟» فَقالَ لَها: «أنا «جَعْفَرٌ» وزيرُ الْخَلِيفَةِ.» فَخافَتِ السَّيَّدَةُ خَوْفًا شَدِيدًا، وأَسْرَعَتْ إلى لِقائِهِ، ثُمَّ سَأَلَتْهُ عَمَّا يُريدُهُ مِنْها. فَقال لَها: «أُرِيدُ أنْ أعْرِفَ: كَمُ طِفْلًا في هَذا الْبَيْتِ؟» فقالِتْ لَهُ السَّيِّدَةُ: «لَيْسَ في بَيْتِي إِلَّا أَطْفالٌ ثَلاثَةٌ، وهُمْ أْوْلادي جَمِيعًا.» فَطَلَبَ مِنْها أنْ تُحْضِرَهُمْ إلَيْهِ. ••• فَذَهَبَتَ السَّيِّدَةُ تُنادِيهِمْ. و لَمَّا حَضَرُوا، ورَآهُمُ الْوزِيِرُ «جَعْفَرٌ» قالَ لَهُمْ: «مَنْ مِنْكُمُ الطِّفْلُ الَّذِي كانَ يُمَثِّلُ الْقاضِيَ لَيْلَةَ أَمْسِ؟» فَتقَدَّمَ كبِيرُهُمْ وهُوَ خائِفٌ — لِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ سَبَبَ هَذا السُّؤَالِ — فَقالَ لِلْوَزِيرِ: «أنا مَنْ تَطْلُبُ!» «الوزير يطمئن أم الطفل». فَقالَ لهُ «جَعْفَرٌ»: «تَعالَ مَعِي — يا ولَدِي — فَإنَّ الْخَلِيفَةَ يَطْلُبُكَ.» فَخافَتِ السَّيِّدَةُ عَلَى ولِدها، وخافَ الطِّفْلُ عَلَى نَفْسِهِ خَوْفًا شَدِيدًا؛ فَأَخَذا يَضْرَعانِ إلَيْهِ (يَتذَلَّلانِ)، ويَسْأَلانِهِ الصَّفْحَ. ••• فابْتَسَمَ «جَعْفَرٌ»، والْتَفَتَ إِلى أمِّ الطِّفْلِ، وقالَ لَها: «لا تَخْشَيْ عَلَى وَلَدِكِ سوءًا. واطْمَئِنِّي — أَيَّتُها السَّيِّدَةُ الْفَاضِلَةُ — فَلَنْ يَنالَهُ إلَّا كلُّ خَيْرٍ، وَسَيَعُودُ إلَيْكِ بَعْدَ قَلِيلٍ. فإنَّ الْخَلِيفَةَ لا يُريدُ عِقابَهُ، بَلْ يُريِدُ مُكافَأتَهُ عَلَى عَمَلٍ اسْتَحْسَنَهُ مِنْهُ.» فقالَتْ لَهُ السَّيِّدَةُ: «أَرْجُو أنْ تَأْذَنَ لِي أنْ أُلْبِسَهُ أفْخَرَ ثِيابِهِ، لِيُقابِلَ بِها أميرَ المُؤْمِنِينَ.» فَأذِنَ لَها «جَعْفَرٌ» بِذَلِكَ. (ظ§) بَيْنَ يَدَي الْخَلِيفَةِ و لَمَّا لَبِسَ الطِّفْلُ أفْخَرَ ما عِنْدَهُ مِنَ الثِّيابِ، ذَهَبَ مَعَ الْوَزِيرِ إلى الْخَلِيفَةِ «هَارُونَ الرَّشِيدِ». و لَمَّا وَقَفَ الطِّفْلُ أمامَ الْخَلِيفَةِ ظَهَرَ عَلَيْهِ الْخَوْفُ الشَّدِيدُ، ولَكِنْ الْخَلِيفَةَ — حَينَ رَآهُ — ابْتَسَمَ لَهُ وطَمْأَنَهُ، فَذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ (زَالَ عَنْهُ الرُّعْبُ). ثُمَّ قالَ لَهُ الْخَلِيفَةُ: «تَعالَ، يا وَلَدِي! ادْنُ (اقْتَرِبْ) مِنِّي، ولا تَخَفْ شَيْئًا.» فَاقْتَرَبَ مِنْهُ الطِّفْلُ، وَهُوَ يَقُولُ: «السَّمْعُ والطَّاعَةُ لَكَ، يا أَمِيرَ الْمُؤمِنِينَ.» فَقالَ لَهُ الْخَلِيفَةُ: «إنِّي مُعْجَبٌ جِدًّا بِقَضَائِكَ الَّذِي قَضَيْتَهُ بَيْنَ الْأَطْفْاَلِ لَيْلَةَ أمْسِ، حِينَ مَثَّلْتُمْ قِصَّةَ «عَلِيّ كُوجْيا» وصاحِبِهِ التَّاجِرِ «حَسَنٍ» الَّذِي سَرَقَ دَنانِيرَهُ. فَأَخْبِرْنِي يا ولَدِي: أَلَسْتَ أنْتَ الَّذِي مَثَّلَ الْقاضِيَ؟» فَقَالَ لَهُ الطِّفْلُ مُتَأَدِّبًا: «نَعَمْ، يا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ.» فَقالَ لَهُ الْخَلِيفَةُ: «أنا مُعْجَبُ بِذَكائِكَ الْإعْجابَ كُلَّهُ. وأنا أُريدُ مِنْكَ أنْ تَقْضِيَ الْيَوْمَ في هَذِهِ الْقَضِيَّةِ مِثْلَمَا قَضَيْتَ أمْسِ. ولَكِنَّكَ كُنْتَ أَمْسِ تَقْضِي بَيْنَ طِفْلَيْنِ؛ يُمَثِّلُ أحَدُهُما «عَلِيّ كُوجْيا»، ويُمَثِّلُ الآخرُ صَاحبَهُ التَّاجِرَ «حَسَنًا». أمَّا الْيَوْمَ، فَأَنْتَ تَقْضِي بينَ «عَلِيّ كُوجْيا» نفسِهِ، وصاحِبِهِ التَّاجِرِ «حَسَنٍ» عَيْنِهِ. فَتَعَالَ — يا ولَدِي — فاجْلِسْ إلَى جانبي لِتَقْضِيَ بَيْنَهُما قَضاءكَ الْحَكِيمَ.» جَلَسَ قاضي الْأطفالِ إلى جانِبِ الْخَلِيفَةِ، ثُمَّ أَمَرَ الْخَلِيفَةُ بِإِحْضارِ الْقاضِي الَّذِى بَرَّأَ التَّاجِرَ «حَسَنًا»، كما أَمَرَ بِإِحْضارِ «عَلِيّ كُوجْيا» وصاحِبِهِ التَّاجِرِ «حَسَنٍ» وتاجِرَيِ الزَّيْتُونِ. (ظ©) ثُبُوتُ التُّهَمَةِفَلَمَّا حضَرُوا جَميعًا، الْتَفَتَ الْخَلِيفَةُ إلَيْهِمْ وقالَ: «لِيُفْضِ كُلُّ واحِدٍ مِنْكُمْ بِشَكْوَاهُ أَمامَ هَذَا الطِّفْلِ، فَهُوَ نَفْسُهُ الَّذِي يَقْضِي بَيْنَكُمْ. فَإِذَا عَجَزَ عَنِ الْقَضاءِ قَضَيْتُ أنا بَيْنَكُمْ.» فَقَصَّ «عَلِيّ كُوجْيا» شَكْواهُ، وذَكَرَ التَّاجِرُ «حَسَنٌ» دِفاعَهُ. ولَمَّا أَرادَ أَنْ يُقْسِمَ بِاللهِ عَلَى بَرَاءَتِهِ مِنْ تِلْكَ التُّهمَةِ — كما أَقْسَمَ أَمامَ الْقاضِي الَّذِي بَرَّأَهُ مِنْ قَبْلُ — الْتَفَتَ إلَيْهِ الطِّفْلُ، وقالَ لَهُ: «لا أُرِيدُ أَنْ تُقْسِمَ بِاللهِ — أَيُّها الرَّجُلُ — فَلا حاجَةَ بِنا إلَى قَسَمِكَ.» «علي كوجيا يحضر جرة الزيتون أمام الخليفة». ثُمَّ قالَ الطِّفْلُ: «أَيْنَ جَرَّةُ الزَّيْتُونِ؟ فَإِني أرِيدُ أَنْ أَراها.» فَقَدَّمَ إلَيْهِ «عَلِيّ كُوجْيا» جَرَّةَ الزَّيْتُونِ. فَالْتَفَتَ الطِّفْلُ إلى التاجِرِ «حَسَنٍ» وسَأَلَهُ: «أَهَذِهِ هِىَ جَرَّةُ الزَّيْتُونِ بِعَيْنِها، الَّتي أَوْدَعَهَا عِنْدَكَ صاحِبُكَ «عَلِيّ كُوجْيا» قَبْلَ سَفَرِه؟» فَقال لَهُ التَّاجِرُ «حَسَنٌ»: «نَعَمْ هِيَ بِعَيْنِها.» فَأَمَرَ الطِّفْلُ بِفَتْحِها. ثُمَّ نَظَرَ الْخَلِيفَةُ إلَى ما فِيها مِنَ الزَّيْتُونِ، وَأَخَذَ مِنْهُ زَيْتُونَةً فَأَكَلَها. فَعَلِمَ أَنَّ الزَّيْتُونَ لَمْ يُوضَعْ في الجَرَّةِ إلَّا مُنْذُ زَمَنٍ قَرِيبٍ. وَنادَى الطِّفْلُ تاجِرَيِ الزَّيْتُونِ، لِيَفْحَصا عَمَّا في الْجَرَّةِ مِنَ الزَّيْتُونِ. فَلما فَحَصا عَنْهُ قالا لَهُ: «إنَّ هَذَا الزَّيْتُونَ لَمْ يُوضَعْ فيِ الْجَرَّةِ إلَّا هَذَا الْعْامَ.» فَقالَ الطِّفْلُ لِتاجِرَي الزَّيْتُونِ: «يَجِبُ أَنْ تَتَثَبَّتا مما تَقُولانِ.» فَقالَ لَه التَّاجِرانِ: «نَحْنُ لا نَشُكُّ في ذَلِكَ.» فقالَ لهُما: «إنَّ عَلِيّ كُوجْيا» يَقُولُ: «إنَّه وَضَعَ زَيْتُونَهُ في هَذِهِ الْجَرَّةِ مُنْذُ سَبْعِ سَنَواتٍ. فَكَيْفَ تَقُولانِ إنَّ الزَّيْتُونَ قَدْ وُضِعَ فِيها هَذا الْعامَ؟» فَقال لَهُ التَّاجِرانِ: «لا بُدَّ أنَّ الزَّيْتُونَ الْجَديدَ قَدِ اسْتُبدِلَ بِالزَّيْتُونِ الْقَدِيمِ.» فَلَمَّا سَمِعَ التَّاجِرُ «حَسَنٌ» ذَلِكَ، وَرأى التُّهمَةَ قَدْ لَصِقَتْ بهِ، وكُشِفَ الْغِطاءُ عَنْ خِيانَتِهِ، أخَذَ يَتَوَسَّلُ إلى الْخَلِيفَةِ أَنْ يَعْفُوَ عَنْ جَرِيمَتِهِ الَّتي ارْتَكَبَها. فَلَمْ يَنْطِقِ الطَّفْلُ بِحُكْمهِ الَّذِي نَطَقَ بهِ لَيْلَةَ أمْسِ، بَلْ قالَ لِلْخَلِيفَةِ: «لَقَدْ كُنْتُ أمْزَحُ مَعَ أَصْحابِي — لَيْلَةَ أَمْسِ — حِينَ أضْدَرْتُ حُكْمِي. أَمَّا الْيَوْمَ فَالْأَمْرُ جِدٌّ لا هَزْلٌ. وَلَيْسَ لِيَ الْحَقُّ في أَنْ أَنْطِقَ بِحُكْمٍ يَقْضِي بِحَياةِ رَجُلٍ أَوْ مَوْتِه. والْأَمْرُ إلَيْكَ — يا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ — فَاحْكُمْ بِما تَرَى. فَإِنْ شِئْتَ أَمَرْتَ بِصَلْبِه، وإنْ شِئْتَ عَفَوْتَ عَنْ جَرِيمَتِهِ!» عَاقِبَةُ الْخِيَانَةِ (ظ،) صَلْبُ التَّاجِرِ رأى الْخَلِيفَةُ «هارُونُ الرَّشِيدُ» شناعَةَ الْجُرْمِ الَّذِي ارْتَكَبَهُ التَّاجِرُ الْخائِنُ، وَظَهَرَ له لُؤْمُهُ وَسُوءُ نِيَّتِه، وَإِصْرارُهُ عَلَى الْخِيانَةِ وَالْكَذِبِ طُولَ هَذا الزَّمَنِ. فَقالَ لَهُ الْخَلِيفَةُ: «أيْنَ أخْفَيْتَ دَنانِيرَ «عَلِيّ كُوجْيا»؟» فَذَكَرَ لَهُ التَّاجِرُ «حَسَنٌ» المَكانَ الَّذِى أخْفاها فِيهِ. فَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ أحَدَ أتْباعِهِ بِإحْضارِها. ثُمَّ أَعْطَى «عَلِيّ كُوجْيا» دَنانِيرَهُ، فَفَرِحَ بِها فَرَحًا شَدِيدًا. ثُمَّ أَمَرَ الْخَلِيفَةُ بِصَلْبِ التَّاجرِ الْخائِنِ، جَزاءَ خِيانتِهِ وَكَذِبهِ. وَقَدْ نَدِمَ التَّاجِرُ «حَسَنٌ» عَلَى خِيانتهِ حِينَ لا يَنْفَعُهُ نَدَمُهُ. وَذَكرَ نَصِيحَةَ امْرَأَتِه، وَتَذَكَّرَ غَضَبَ اللهِ عَلَيْهِ، وَفَضِيحَتَهُ بَيْنَ النَّاسِ؛ فَبَكَى بُكاءَ شَدِيدًا، وَطَلب الْعَفْوَ، فَلمْ يَقْبَلِ الْخَلِيفَةُ أنْ يَعْفُوَ عَنْهُ. وَحِينَئِذٍ صُلِبَ التَّاجِرُ «حَسَنٌ» — كما أَمَرَ الْخَلِيفَةُ — ولَقِيَ جَزَاءَ خِيانَتِهِ وكَذِبِهِ، وأَصْبَحَتْ قِصَّتُهُ عِظَهً (عِبْرَةً) لِكُلَّ مَنْ سَمِعَها مِنَ النَّاسِ. (ظ¢) مُكافَأَةُ الطِّفْلِ وَلَقَدْ مَدَحَ الْخَلِيفَةُ هَذا الطِّفْلَ؛ لِما أَظْهَرَهُ مِنْ ذَكائِه في أَثناءِ حُكْمِهِ في هَذِهِ الْقَضِيَّةِ، وَأظهَرَ لَهُ إعْجابَهُ بهِ ورِضاهُ عَنْهُ، لِبُعْدِ نَظَرِهِ وَثَبَاتِهِ في أَثْناءِ قَضائِه. وَأَعْطاهُ كِيسًا فِيهِ مِائَةُ دِينارٍ، مُكافأَةً لِذكائهِ. وَلَمَّا خَرَجَ الطِّفْلُ، الْتَفَتَ الْخَلِيفَةُ إلَى الْقاضِي الَّذِى بَرَّأَ التاجرَ «حَسَنًا» مِنْ قَبْلُ، وَقالَ لَهُ: «أَرأيتَ كَيْفَ أظْهَرَ هَذا الطِّفْلُ — بِذَكائِهِ وفِطْنَتِهِ — جَرِيمَةَ التَّاجِرِ الْخائِنِ الَّذِي بَرَّأْتَهُ؟» فَاعْتَذَرَ إلَيْهِ الْقاضي، وشارَك الْخَلِيفَةَ في إعْجابِهِ بِذكاءِ الطِّفْلِ وبُعْدِ نَظَرِه. (ظ£) خاتِمَةُ القصَّةِ شاعَتْ في «بَغْدادَ» قِصَّةُ هَذا التَّاجِرِ وَ«عَلِيّ كُوجْيا» — كما شاعَتْ فيِ الْبُلْدَانِ الْمُجاوِرَةِ لَها — وَأَصْبَحَ النَّاسُ يَتَناقَلُونَها، وَيَقُصُّها الْآباءُ عَلَى الْأبْناءِ، حتى وَصَلَتْ إلَيْكَ، أَيُّها الْقارِئُ الصَّغِيرُ. وَقَدْ مَضَى عَلَى هَذِهِ الْقِصَّةِ أكْثَرُ مِنْ ألْفِ سَنَةٍ، وَلَمْ تَنْتَهِ فَضِيحَةُ التَّاجِرِ الْخائِنِ. ••• وَكانَ الْأَطفْالُ يَجْتَمِعُونَ فيِ كلِّ مَكانٍ فيِ «بَغْدادَ» وَغَيْرِها مِن الْبِلادِ، لِيُمَثِّلُوا — فيِ اللَّيالِي الْمُقْمِرَةِ — قِصَّةَ «عَلِيّ كُوجْيا» وَالتَّاجِرِ «حَسَنٍ»، كما مَثَّلَها قاضي الْأَطفْالِ وَأصْحابُهُ. أخذت القصة عن كامل كيلاني: كاتب وأديب مصري، آخر تعديل عطر الجنة يوم
06-13-2019 في 05:06 AM. |
08-22-2019 | #2 |
|
رد: قصةالتاجر البغدادي «علي كوجيا» في العصر العباسي هارون الرشيد جزاك الله خيرا
|
أموت ويبقى ما كتبته ** فيا ليت من قرا دعاليا عسى الإله أن يعفو عني ** ويغفر لي سوء فعاليا قال ابن عون: "ذكر الناس داء،وذكر الله دواء" قال الإمام الذهبي:"إي والله،فالعجب منَّا ومن جهلنا كيف ندع الدواء ونقتحم الداءقال تعالى : (الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب) ولكن لا يتهيأ ذلك إلا بتوفيق الله ومن أدمن الدعاءولازم قَرْع الباب فتح له" السير6 /369 قال العلامة السعدي:"وليحذرمن الاشتغال بالناس والتفتيش عن أحوالهم والعيب لهم فإن ذلك إثم حاضر والمعصية من أهل العلم أعظم منها من غيرهم ولأن غيرهم يقتدي بهم. ولأن الاشتغال بالناس يضيع المصالح النافعة والوقت النفيس ويذهب بهجة العلم ونوره" الفتاوى السعدية 461 |
08-27-2019 | #3 |
العلوم الشرعية |
Re: قصةالتاجر البغدادي «علي كوجيا» في العصر العباسي هارون الرشيد جزاك الله خير الجزاء ونفع الله بكم وزادكم الله من فضله |
إن الأمور إذا ما اللهُ يسَّرها أتتكَ من حيث لا ترجو وتحتسبُ ثق بالإلهِ ولا تركن إلى أحدٍ ، فالله أكرمُ مَن يُرجى ويرتقبُ ♡. |
12-19-2019 | #4 |
إدارة قناة اليوتوب |
رد: قصةالتاجر البغدادي «علي كوجيا» في العصر العباسي هارون الرشيد جزاك الله خيرا وجزاك أستاذة الخير الوفير شكرا ع مرورك وتعقيبك |
|
12-19-2019 | #5 |
إدارة قناة اليوتوب |
رد: قصةالتاجر البغدادي «علي كوجيا» في العصر العباسي هارون الرشيد قصةالتاجر البغدادي «علي كوجيا» في العصر العباسي هارون الرشيد جزاك الله خير الجزاء ونفع الله بكم وزادكم الله من فضله وجزاك الله بالمثل وزيادة شكرا ع المرور والتعقيب |
|
مواقع النشر (المفضلة) |
(مشاهدة الكل) عدد الذين شاهدوا هذا الموضوع : 4 : | |
, , , |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|
المواضيع المتشابهه | ||||
الموضوع | كاتب الموضوع | المنتدى | مشاركات | آخر مشاركة |
بشرى ســــارة إنطلاق دورة نور البيان مع أ . إيمان البغدادي | دلال إبراهيم | إعلانات دروس جديدة للغرف شعاع الصوتية | 1 | 09-19-2018 12:11 AM |
عينية ابن زريق البغدادي | أم يعقوب | شعاع الأدب العربي | 5 | 10-03-2016 02:02 AM |
ام هارون سامية حياك الله معنا في شعاع ! | ادارة الموقع | شعاع الترحيب والضيافة | 2 | 09-26-2016 04:57 PM |
ام هارون حياك الله وبياك غالية | ادارة الموقع | شعاع الترحيب والضيافة | 4 | 09-05-2016 02:35 PM |
عشر المغفره من رمضان العشر الثانيه من رمضان العشر الوسطى | ام بشري | مواضيع تخص رمضان | 1 | 07-25-2014 03:40 PM |