عن هِبةِ الفراغ
 

بعد أن أكرمني الله تعالى وبدأت في المواظبة في الصلاة لم يكن لدي عمل (مفيش شغل) شعرت بأن الفراغ هذا هِبة من الله وأنه ابتلاء فإن أحسنتُ استثماره لعلّ الله يُفرِّغُني لشيء نافع أُعوِّض به ما ضيّعتُ من سنيّ عُمري ..فقد بدأت متأخرا بعدما ضاع ثلث عمري
أحببتُ ان أُتقن القرآن وكان قدرتي على الحفظ ضعيفة جدا جدا (أو هكذا يشعرُ الإنسان في بداية حفظه قبل أن يكتشف مواهبه وقُدراته)
فبقيتُ مدّة (لا أحبّ تحديدها) أذهب إلى شاطئ بحر أبقى فيه من صلاة الفجر إلى قُبيل المغرب لا عمل لي سوى القرآن
كنت ممكن بعد حفظي لسورة مثل (النساء) أبقى أقرأها من المصحف 30 مرة ..لم أكن أنشغل إلا به، جمعتُ قلبي وهمّي عليه وقبل كل ذلك ومعه : إدمان الدعاء لله تعالى

في وقتٍ ما قبل سنوات اضُطررت للبقاء في المنزل ولم أخرج منه تقريبا إلا للمسجد بقيت حوالي 45 يوم أتممتُ فيها بتوفيق الله (تفسير الطبري) كاملا 24 مجلد، والمجلد بين 650 إلى 800 صفحة قرأته كلمة كلمة وقيّدتُ كل فائدة مرّت بي في (علوم القرآن - أصول التفسير- علوم العربية-العقيدة- القراءات -منهج الطبري في التفسير ونقده للّغويّن- - وأنواع الخلاف في التفسير- وأسباب الخلاف ومنهجه في الترجيح..) إلى غير ذلك من ابواب.
لا يمكن أن أصف النّقلات التي شعرتُ بها
ومع أني منذ أحببتُ القرآن كنتُ مهتما بالعلم بالتفسير إلا أن هذه القراءة المُكثّفة والمنهجيّة مع الطبري أشعرتني بيقين: أني كنتُ محروما من قبلُ

قبلها كنت قد فعلت ذلك مع مجموعة علمية من كنوز التراث كذلك (منهاج السنة النبوية لابن تيمية رحمه الله ) و(إعلام الموقعين) وغيرها هذا فضلا عن القراءة المستمرة والتدريس (لكني هنا أتكلم عن النقلات الكبيرة )وهكذا في تسجيل سلاسل كبيرة ومحاضرات في كتب علمية يحتاجها طلاب العلم ومحاضرات تشرح لهم سبل العلم وتتوطّنُ بها نفوسهم للانتفاع منه وتُشجعهم

والفضل لله تعالى

وكانت عُزلتي وغُربتي وفراغي في كل مرة بحمد الله وتوفيقه فُرصة لإضافة جديد لبرنامج أهدافي وتعويض السنين اللي ضاعت من عمري، ما كنت أستطيع إنجازه في أوقات الفراغ المتقطّع ..
وكثير من الناس صنع مثل ذلك وأفضل منه بكثير

لماذا ذكرتُ هذا الأن تحديدا (وربّما كان الأفضل عدم نشره) :
لأني أعلم شبابا لديهم حُب للدين ومواهب وقدرات يُفرّطون في أغلى ما يملكون: الفراغ
يُشتتون أنفسهم
ويتفننون في فتح أبواب تستنزف جهدهم وأوقاتهم
ويُضيعون قليلَ ما عندهم بكثرة الجدل
يريد أن يكون له في كل موقف رأيٌ وقولٌ
ويتجرّأ على الفُتيا والقول في كل ما يُثار وكل نازلة
لا يستطيع أن يسكت أو يقول: لا أعلم!
يقنع بفُتات ما حصّل وهو إن أبصره لا يجدُه شيئا يُذكر
لا يُدرك نعمة الشباب -القوة-الفراغ- قلة المسؤوليات
فيتهاون فيها ويمُرُّ عليه الشهر لا يفتح فيه كتابا ويعيش على وسائل التواصل لا يكاد يقرأ فقرة من كتاب إلا ويسارع بنشرها ثم يُغلق الكتاب ويضعه أمامه على المكتب
وبعضهم يفتح على نفسه أبوابا (يتوهّم أنها نافعة ولخدمة الدعوة) ولا هو مؤهّل لها ولا سيتمر عليها ولا سينفع فيها
عَجلةٌ في التصدُّر ..عجلة في النتائج ..
يريد أن يصل إلى مكان لم يأخذ بأسبابه ويسلك سُبلَه
يريد ان يكون مكان البطل وقت استلام الجائزة دون أن يسلك طريق البطولة
أعرف كثيرا منهم مقتنع أنه طالب علم كبير وأنا أقسم بالله أنه لم يُتمّ كتابا واحدا مختصرا من أوله إلى آخره ..
عندي كلام كتير قوي ..
ليس من باب الجَلْد ولا التفاخر ولا الازدراء ..مفيش وقت للحجات دي أساسا ولستُ من أهلها
لكنها نصيحة من أخ يريد منك ألا يضيع عمرك في وهم وسراب
وعندك فرصة أن ينفع الله بك
لا تحتاج سوى الاستعانة بالله ووضوح الهدف ووسائله والأخذ بها والصبر عليها واليقين بفضلها والحِلم والأناة
كلُ من يرى نفسه أنه يمكن أن يقف على باب من أبواب الخير ونفع المسلمين فليتق الله وليصبر عليه وليأخذ فيه بأحسنه

إذا لم تنتبه لذلك ربما تُفيق يوما ما وتتحسر وتندم لأنك ببساطة وقتها : لن تجد فراغا ولا قوة تستدرك بها ما فات
ولا يظلم ربُّك أحدا

#حسين عبد الرزاق

رد: عن هِبةِ الفراغ