منتديات شبكة شعاع الدعوية للتعليم عن بعد

منتديات شبكة شعاع الدعوية للتعليم عن بعد (https://hwazen.com/vb/index.php)
-   شعاع العلوم الشرعية (https://hwazen.com/vb/f38.html)
-   -   دورة اعتبروا يا أولى الابصار( نسوا الله فأنساهم انفسهم) (https://hwazen.com/vb/t20510.html)

هوازن الشريف 08-27-2020 08:32 PM

دورة اعتبروا يا أولى الابصار( نسوا الله فأنساهم انفسهم)
 
وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ



إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يَهده الله فلا مُضل له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.



أمَّا بعدُ:

تفسير الطبرى

القول فى تأويل قوله تعالى: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19)

يقول تعالى ذكره: ولا تكونوا كالذين تركوا أداء حقّ الله الذى أوجبه عليهم (فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ) يقول: فأنساهم الله حظوظ أنفسهم من الخيرات.


تفسير القرطبى

قوله تعالى: ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون

قوله تعالى: ولا تكونوا كالذين نسوا الله أى تركوا أمره.

فأنساهم أنفسهم أن يعملوا لها خيرا، قاله ابن حبان. وقيل: نسوا حق الله فأنساهم حق أنفسهم، قاله سفيان. وقيل: نسوا الله بترك شكره وتعظيمه. فأنساهم أنفسهم بالعذاب أن يذكر بعضهم بعضا، حكاه ابن عيسى. وقال سهل بن عبد الله: نسوا الله عند الذنوب فأنساهم أنفسهم عند التوبة. ونسب تعالى الفعل إلى نفسه فى أنساهم إذ كان ذلك بسبب أمره ونهيه الذى تركوه. وقيل: معناه وجدهم تاركين أمره ونهيه، كقولك: أحمدت الرجل إذا وجدته محمودا. وقيل: نسوا الله فى الرخاء فأنساهم أنفسهم فى الشدائد.

أولئك هم الفاسقون قال ابن جبير: العاصون. وقال ابن زيد: الكاذبون. وأصل الفسق الخروج، أى الذين خرجوا عن طاعة الله.
تفسير ابن كثير

وقال (ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم) أي: لا تنسوا ذكر الله فينسيكم العمل لمصالح أنفسكم التى تنفعكم فى معادكم ، فإن الجزاء من جنس العمل، ولهذا قال: (أولئك هم الفاسقون) أي: الخارجون عن طاعة الله ، الهالكون يوم القيامة ، الخاسرون يوم معادهم ، كما قال: (يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون) [ المنافقون: 9 ].

وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا أحمد بن عبد الوهاب بن نجدة الحوطى ، حدثنا أبو المغيرة ، حدثنا حريز بن عثمان ، عن نعيم بن نمحة قال: كان فى خطبة أبى بكر الصديق ، رضى الله عنه: أما تعلمون أنكم تغدون وتروحون لأجل معلوم ؟ فمن استطاع أن يقضى الأجل وهو فى عمل الله ، عز وجل ، فليفعل ، ولن تنالوا ذلك إلا بالله ، عز وجل. إن قوما جعلوا آجالهم لغيرهم ، فنهاكم الله تكونوا أمثالهم: (ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم) أين من تعرفون من إخوانكم ؟ قدموا على ما قدموا فى أيام سلفهم ، وخلوا بالشقوة والسعادة ، أين الجبارون الأولون الذين بنوا المدائن وحصنوها بالحوائط ؟ قد صاروا تحت الصخر والآبار ، هذا كتاب الله لا تفنى عجائبه فاستضيئوا منه ليوم ظلمة ، وائتضحوا بسنائه وبيانه ، إن الله أثنى على زكريا وأهل بيته فقال: (إنهم كانوا يسارعون فى الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين) [ الأنبياء: 90 ] ، لا خير فى قول لا يراد به وجه الله ، ولا خير فى مال لا ينفق فى سبيل الله ، ولا خير فيمن يغلب جهله حلمه ، ولا خير فيمن يخاف فى الله لومة لائم.

هذا إسناد جيد ، ورجاله كلهم ثقات ، وشيخ حريز بن عثمان ، وهو نعيم بن نمحة ، لا أعرفه بنفى ولا إثبات ، غير أن أبا داود السجستانى قد حكم بأن شيوخ حريز كلهم ثقات. وقد روى لهذه الخطبة شواهد من وجوه أخر ، والله أعلم.


تفسير البغوى

( ولا تكونوا كالذين نسوا الله) تركوا أمر الله (فأنساهم أنفسهم) [ أى حظوظ أنفسهم ] حتى لم يقدموا لها خيرا (أولئك هم الفاسقون)


تفسير السعدى

والحرمان كل الحرمان، أن يغفل العبد عن هذا الأمر، ويشابه قوما نسوا الله وغفلوا عن ذكره والقيام بحقه، وأقبلوا على حظوظ أنفسهم وشهواتها، فلم ينجحوا، ولم يحصلوا على طائل، بل أنساهم الله مصالح أنفسهم، وأغفلهم عن منافعها وفوائدها، فصار أمرهم فرطا، فرجعوا بخسارة الدارين، وغبنوا غبنا، لا يمكنهم تداركه، ولا يجبر كسره، لأنهم هم الفاسقون، الذين خرجوا عن طاعة ربهم وأوضعوا فى معاصيه.

هوازن الشريف 08-27-2020 08:33 PM

رد: دورة اعتبروا يا أولى الابصار( نسو الله فأنساهم انفسهم)
 
يقول الله جل وعلا : { وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ } [الحشر : 19] .
هذه آية جليلة الشأن في كتاب الله تعالى وهي تضع أيدينا على حقيقة كبرى من حقائق هذا الوجود ، وتمنحنا استبصاراً بشأننا العام ، لا يليق بنا أن نتجاوزه دون أن يملأ حياتنا بمعنى جديد !

ولعلنا في الصفحات التالية نقتبس من نور هذه الآية :
1- إن نسيان الله تعالى يكون على مستويين : مستوى ضعف صلة المسلم به ، وتبلد أحاسيسه ومشاعره نحو خالقه جل وعلا ومستوى الإعراض عن هديه واستدبار منهجه .
وفي إطار المستوى الأول نجد أن لدينا الكثير الكثير من النصوص التي تحث المسلم على أن يكون كثير الذكر والمراقبة لله تعالى حتى يصل إلى مرحلة الحب له وفرح الوعي به ، والاستئناس بذكره ، وقد قال سبحانه : { يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } [الأحزاب : 41-42] وقال : { وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ } [العنكبوت : 45] .
وفي الحديث الصحيح : (مثل الذي يذكر ربه ولا يذكره كمثل الحي والميت) [1] ولو رجعنا إلى ما حثت عليه النصوص من الذكر ، مما يسمى بعمل اليوم والليلة لوجدنا أن الالتزام بذلك يجعل المسلم لا يكاد ينفك عن تسبيح وتحميد وتهليل واستغفار وتضرع ودعاء ، ما دام مستيقظاً . إن كثرة ذكر لله تعالى تولّد لدى المسلم الحياءَ منه وحبه ، وتنشّطه للسعي في مرضاته ، كما تملأ قلبه بالطمأنينة والأمان والسعادة ؛ لينعم بكل ذلك في أجواء الحياة المادية الصاخبة .
إن الفكر يرسم المسار ، ويرشد إلى الطريق الأصلح للحركة والعمل ، لكنه لا يكون أبداً منبعاً للطاقة والعزيمة والإرادة الصلبة ، وإن الصلة بالله تعالى والتي هي لباب كل عبادة هي التي تمدنا بكل ذلك ، وإن المعاناة التي يشعر بها المسلم اليوم من جراء الانفصال بين قيمه وسلوكه ، لم تتجذر في حياة كثير من المسلمين إلا بسبب ما يشعرون به من العجز عن الارتفاع إلى أفق المنهج الذي يؤمنون به ؛ وذلك العجز لم يترسخ ، ويتأصل إلا بسبب نضوب ينابيع المشاعر الإيمانية في داخلنا !
إن تيار الشهوات والمغريات الذي يجتاج كل ما يجده أمامه اليوم ، لا يقاوم إلا بتيار روحي فياض ، يعب منه المسلمون ما يسمو بهم عن أوحال الملذات والمتع الدنيوية ، ويعوضهم عن نشوتها . ولذا فإن (أدب الوقت) يقتضي من المربين والعلماء الناصحين وأهل الفضل ، التوجيهَ إلى إثراء حياة الشباب والناشئة بالأعمال الروحية وعلى رأسها الذكر حتى لا يقعوا في مصيدة النسيان واللهو والإعراض عن الله تعالى .
إن مما صار شائعاً أن ترى بعض العاملين في حقل الدعوة ، وقد شُغلوا بضروب من أعمال الخير ، لكن الجانب الروحي لديهم صار ذابلاً ، وأقرب إلى الجفاف بسبب إفراغ طاقاتهم في السعي إلى تحقيق أهـداف عامة ، كنفع الناس ، أو الدعوة إلى الله تعالى دون أن يستحضروا النية ، ودون أن يطبعوا على ذلك اسم الله تعالى ودون أن يعطروه بشذى من الصلة به ، والإحساس العميق بالامتثال لأمره .
وكانت نتيجة ذلك أن فقدت تلك الأنشطة نكهتها وتأثيرها ، وقصّرت عن بلوغ أهدافها ، بل صار تسرب حظوظ النفس إليها أمراً قريباً ووارداً . إن البنية العميقة للثقافة الإسلامية متمحورة على نحو أساسي حول تعظيم الله ومرضاته ، وإن المسلم إذا فقد قوة الشعور بالارتباط بذلك ، لن يسعى في إعمار الأرض ، وإذا فعل ذلك فإن عمله لن يكون له أدنى تميز ، وسيخبط ، ويرتع كما يفعل غيره !

2- هناك مستوى آخر من نسيان الله جل شأنه يتمثل في تخطيط شؤون الحياة بعيداً عن الاهتداء بكلماته ، والتقيد بالقيود التي فرضها على حركة عباده . وهذا في الحقيقة هو النسيان الأكبر .
وعند تقليب النظر في واقع أمة الإسلام اليوم نجد أن نسبة محدودة من المنسوبين لهذه الأمة تلتزم على نحو كلي بفعل الواجبات ، وترك المحرمات . وبما أن الإحصاء حول أي شيء ليس مرغوباً فيه ، فإننا لا نعرف ، ولا نحزر الاتجاه الذي تسير فيه تلك النسبة المحدودة من الملتزمين : هل هو النمو ، أو هو الانكماش والانحسار ؛ لكن من الواضح أن العديد من القيم والأخلاق الإسلامية العتيدة بدأ يفقد التأثير في ضبط السلوك ، وتكوين المواقف ؛ لأسباب عديدة ، ليس هنا موضع ذكرها . وحين تسمع لكلام كثير من ذوي النفوذ والثقافة في الساحات الإسلامية لا تجد في أحاديثهم وخطابهم العام ما يدل في الشكل أو في الروح على أنهم على شيء من ذكر الله والدار الآخرة ، أو أنهم متأثرون بشيء من منهجيات هذا الدين وأدبياته ، على الرغم من أنهم يُذكرون في عداد المسلمين !
وإن مما يلاحظ في هذا السياق أن تطوراً مريعاً قد اجتاح لغة الخطاب لدينا خلال السنوات العشر الماضية ، فقد كانت لدينا قيم موضوعية ثابتة ، على من يستحق الثناء أن يتخلق بها ، وقد كان الناس يقولون : فلان طيب (ابن حلال) خلوق ، صالح ، مستقيم ، تقي ، متواضع .. أما اليوم فإن ألفاظ المديح تتمحور حول عدد من المزايا الشخصية المرتكزة على مهارات معينة ، وعلى علاقات اجتماعية واسعة ، هي أشبه بما على (مندوبي المبيعات) أن يتقنوه ! وصار يقال :
فلان ناجح ، شاطر ، اجتماعي (دبلوماسي) حَرِك ، مَرِن ، أثبت ذاته ، وحقق وجوده .
وفي اعتقادي أن مثل هذا التطور سوف يجعل المجتمع يموج باللصوص والمرتشين والمحتالين ما دام النجاح ، لا الفلاح ، هو المنظم الخفي للتراتيبية الاجتماعية ! وقد نعد هذا من أسوأ ما شاهدناه من أشكال التطور الأخلاقي والاجتماعي والتربوي ، وسوف تكون له آثار بعيدة المدى في البنية الأساسية للشخصية المسلمة على مدى عقود عديدة قادمة !

3- إن الآية الكريمة صريحة في أن نسيان الله تعالى كان سبباً مباشراً في جعل المرء ينسى نفسه ، وكأن الذي يضيّع نفسه في عاجلها وآجلها ، يضيّع الدنيا فتلفه المشكلات من كل صوب ، ويضيع الآخرة بخسران النجاة والفوز بالجنة .
إن نسيان النفس ليس على درجة واحدة ، وإن الضرر الذي سيلحق الناس سيكون بالتالي متفاوتاً ، وعلى مقدار النسيان والتضييع لأمر الله تعالى سيكون التضييع للنفس والدنيا والآخرة .
إن خسران الآخرة للذين ينسون الله ، واضح المعالم ، ويستوي في معرفته العامة لدينا والخاصة ، لكن التضييع لأمر الدنيا هو الذي يحتاج إلى نوع من البيان ، ولعلنا نجلوه في النقطتين التاليتين :
- إن عصر المعلومات الذي يظلنا الآن سيكون والله أعلم أقصر العصور الحضارية ، وسوف يعقبه عصر آخر ، هو عصر (الفلسفة) وبحث المسائل الكلية ، وستطرح الأسئلة الكبرى : من أين جئنا ، ولماذا نحن هنا ، وإلى أين المصير ، ما حدود الطبيعة البشرية ، وما ماهية الخير والشر .. ؟ وإنما نقول ذلك ؛ لأن قراءة التعاقبات التاريخية ، تنبئنا أنه حين تصل حالة مّا إلى حدود متقدمة ، تبزغ من الطبيعة البشرية حالة مضادة لها ؛ فحين تشتد العقلانية أو التقنيّة في أمة ، فإن أشواقاً تنبعث لكسرها ، فينبثق من العقلانيّ العاطفيّ ، ومن التقنيّ الفلسفيّ والفكريّ ، إنه أحد مظاهر سُنّة التوازن التي بثها الخالق جل وعلا في هذا الكون !
ولذا فإن الهمجيّين وسوقة السوقة وحدهم ، هم الذين لا يتشوّفون إلى معرفة مصيرهم النهائي ، وإلى معرفة الغايات الكبرى للوجود !
حين تصير البشرية إلى هذه المرحلة ، سيكتشف الذين نسوا الله ، أنهم لا يملكون أي جواب جازم ، أو مُقْنع على الأسئلة الكبرى المثارة بإلحاح ، بل سيجد الغرب على نحو خاص أنه قد أحرق كل سفن العودة إلى (الوحي) الذي يُعد المصدر الوحيد الذي يجيب على تلك الأسئلة .
وقد كان (أينشتاين) يقول : (إن حضارتنا تملك معدات كاملة ، ولكنها تفقد الإحساس بالأهداف الكبرى) ! .
إن كل إصلاح لشؤون البيئة والاقتصاد ، وإن أي نوع من المحافظة على منجزات البشرية ، سيقتضي من اليوم فصاعداً تقدماً ملحوظاً على صعيد (الإنسان) وما لم يحدث هذا التقدم ، فإن كل شيء سيكون في مهب الريح ! !
والملاحظ بقوة أن الحضارة الحديثة بصبغتها المادية ، قد نقلت مجال السيطرة من الإنسان إلى الأشياء ، حيث أضعفت إرادة البشر ، وأحاطتها بكل ما يخل بتوازنها ، وهذا يعني أن الحضارة الغربية ببنيتها الحاضرة ليست مؤهلة للنهوض بالإنسان .
إذا كنا نعتقد أن الطبيعة البشرية واحدة ، فهذا يعني أن غايات وجودها يجب أن تكون واحدة ، وهذا هو منطوق الوحي ، وهذا ما لا يبصره الإنسان العلماني اليوم ! !
لن تكون الأسئلة المثارة أصيلة إلا إذا كان لها أجوبة موجودة عند جهة مّا وهذه الجهة لن تكون أبداً الإنسان ، فمن تكون إذن ؟ ؟
إن العقل البشري خلقه الله تعالى ليكون في الأصل عقلاً عملياً ، وهو في عمله يشبه (الحاسوب) ، وهو كالحاسوب لا يستطيع إدخال تحسينات جوهرية على المدخلات التي يُغذى بها ، وسيكون الأمر مضحكاً إذا عمدنا إلى تشغيل العقل البشري وتحسين طروحاته وعمله بشيء من منتجاته التي تولى تنظيمها الفلاسفة ، وهم الذين لم يفلحوا في الاتفاق على أي شيء ! ! . إن كل شيء اليوم يتقدم إلا الإنسان فإنه في تدهور مستمر ، وإن مما يثير الفَزَع أنه على مدار التاريخ كان التقدم المادي والعمراني مشفوعاً بانخفاض في وتائر التدين والسمات الإنسانية الأصيلة ، مما يدل على أن الإنسان لا يستطيع أن يوازن بين مطالبه الروحية والجسدية ، دون عون من خالقه .
ولكن المؤسف مرة أخرى أننا لا نريد أن نعترف بذلك ؛ لأن ذلك يقتضي منا تغييراً هائلاً ، نحن غير مستعدين الآن لدفع تكاليفه !
إن نسيان الله تعالى قد أفسد النسيج الإنساني كله ، وحين يفسد النسيج العام ، فلن يكون ثمة فائدة تذكر من وراء التعليم والتدريب والتربية ، وكيف يمكن إصلاح خبز أو كعك أو فطير فسد طحينه ؟ !
إن ضعف الإنسان على مدار التاريخ كان من عوامل استمرار بقائه ، أما اليوم فقد اجتمع له القوة الغاشمة مع الطيش الشديد ، وهذا ما سيسبب الكوارث ما لم يحدث انعطاف كبير في اتجاه الرشد والهداية والتدين المبصر الأصيل .
ب - إن المهمة الأساسية للرسل عليهم السلام أن يبصّروا الناس بما يجب عليهم تجاه خالقهم ، وأن يذكّروهم الدار الآخرة ومطالب الفوز فيها : { رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو العَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ } [غافر : 15] .
ومهمة المصلحين إذا ما أرادوا الاستجابة لدعوتهم أن يُنضحوا من التعاليم الإسلامية ما يمزجونه بالخيال الخصب والخبرة البشرية والملاحظات الذكية ، من أجل توفير الظروف التي تجعل الناس أقرب إلى الالتزام . وإن هذه الدنيا دار ابتلاء ، ولذا فإن علينا دائماً أن نختار ما يصلح أحوالنا ، وإن لكل عصر اختياراته واجتهاداته . والمشكلة أن الفضائل والقيم والنظم لا تتفق بعضها مع بعض اتفاقاً كلياً ، بل إن إقامة كثير منها قد يتطلب التضحية ببعضها الآخر : إذا اخترنا الحرية الفردية ، فقد يقتضي ذلك التضحية بشكل تنظيمي نحن في أمس الحاجة إليه ، وإذا اخترنا العدالة ، فقد نُرغَم على التضحية بالرحمة ، وإذا اخترنا المساواة ، فقد نضحي بقدر معين من الحرية الفردية ..
ومن وجه آخر هل يصح أن نعذب أطفالاً كي ننتزع منهم معلومات عن خونة أو مجرمين خطرين ؟ وهل للمرء أن يقاوم حاكماً ظالماً ، ولو أدى ذلك إلى مقتل والديه أو أطفاله ؟ ؟
كل هذا لا يستطيع العقل أن يعطي أجوبة واضحة وقاطعة عنه . وننتهي من هذا إلى أن كل مجتمع يحتاج إلى مقدار مّا من تلك الفضائل والنظم ، كي يجعل حياته متوازنة ومتسقة ، فكيف يتم تحديد ذلك المقدار ؟
إن المنهج الرباني لا يحدد لنا على نحو دقيق القدر المطلوب من التماثل الاجتماعي ، ولا القدر المطلوب من الحرية الفردية ، أو العدل أو الرحمة .. لكنه يضيق دوائر الاختيار ، ومساحات البحث والاجتهاد ؛ والفارق بين المهتدي بنور الله والمحروم منه كالفارق بين من يبحث عن إبرة في صحراء ، ومن يبحث عنها في غرفة . على الجميع أن يبحث ، ولكن حظوظ العثور على المطلوب متفاوتة تفاوتاً عظيماً ، كما أن إمكانات الوقوع في الخطأ ، هي الأخرى متفاوتة كذلك .
إن العقل بطبيعة تركيبه لا يستطيع أن يعمل في أي مجال : فلسفي أو تنظيمي أو تقني إلا إذا أُسعف بإطار توجيهي يهيئ له مقدمات ، وبعض المدخلات الضرورية ، وإن المنهج الرباني عقيدةً وشريعةً هو الذي يوفر ذلك الإطار .
في مجال التربية الاجتماعية مثلاً نجد أن الشريعة الغراء حددت لنا محاور أساسية ، يجب أن ترتكز عليها أنشطتنا التربوية ، وهي ما سماه أهل الأصل بالكليات أو الضرورات الخمس ، وهي حفظ الدين والنفس والعقل والعرض والمال ، وقد تكفّل الفقه الإسلامي بتوفير الأحكام والأدبيات التي ترسم حدود الحركة التربوية في ظل هذه المحاور الخمسة ، كما وضحت المرتبية التي يجب اتباعها عند ضرورة التضحية ببعضها لحفظ الآخر ، على ما هو واضح في كتب الأصول والفقه ؛ فالشأن التربوي لدينا على علاته أفضل مما هو موجود لدى دول كثيرة متقدمة عمرانياً ؛ وذلك بسبب وجود هذا الإطار التوجيهي ، وهذا كله مع أن أكثر الشعوب الإسلامية تعاني من أوضاع معيشية قاسية ، والجرائم بأنواعها لدينا أقل ، والتماسك الأسري والاجتماعي أفضل .
إن محنة العقل الذي نسي الله لم يحن أوانها بعدُ ، ولكن إذا وصل النمو الاقتصادي إلى حدوده القصوى ، وانتشرت البطالة ، وعم ضنك العيش ، فسوف يرى كل المعرضين عن دين الله أن الليبرالية والرأسمالية ليست أفضل ما أنتجه العقل البشري ، وأن الخلاص يتطلب مراجعة جذرية ، من أجل العودة إلى سبيل الرشاد .
الإنجازات الحضارية وسعادة الأفراد ، ووحدة الكيان الحضاري ، كل ذلك سيكون على حافة الهاوية إذا لم يضئ كل منعطفات الطريق شعاع من الغاية الكبرى ، وإذا لم تتلفع جميعاً بهدي من هدي الله ؛ والله غالب على أمره .

هوازن الشريف 08-27-2020 08:34 PM

رد: دورة اعتبروا يا أولى الابصار( نسوا الله فأنساهم أنفسهم)
 
وقفة:

فيا أيها الإخوة المؤمنون، إنَّ في هذا القرآن العظيم من الخير والبر والهدى، ما يغترف منه أهل الإيمان، كلٌّ بحسب إقباله على هذا الكتاب العزيز، وتدبُّره لما حواه من الآيات البيِّنات والمواعظ الكريمات التي فيها الخير والهدى، وحسن العقبى في الآخرة والأولى.



ومن جملة ما جاء في هذا القرآن العظيم موعظة الله جل وعلا لعباده، وتذكيرهم بما يجب عليهم من تقواه جل وعلا، التقوى التي فيها الخير والهدى، وفيها الوصول إلى جنة عرضها السموات والأرض، ولذلك كثيرًا ما يذكر الله جل وعلا في كتابه ما يتعلق بالتقوى، يذكرها آمرًا عباده بها، ومحذرًا لهم من مخالفة مقتضى التقوى، ويرغبهم جل وعلا في شأن التقوى مبينًا لهم حسن عاقبتها وبركاتها، وثمراتها التي ينالها عباده المتقون في هذه الحياة الدنيا؛ تقدمةً للأُعطيات الكبرى في الدار الآخرة.



ومن المواعظ التي اشتملت على الأمر بالتقوى ما جاء في سورة الحشر من قول رب العزة سبحانه: ï´؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ï´¾ [الحشر: 18، 19].



فهذا خطاب من الله جل وعلا خاطَب به عباده المؤمنين: ï´؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ï´¾، وإنما توجه لهم هذا الخطاب ونُودوا بوصف الإيمان؛ لأن أهل الإيمان هم الذين يتعظون بالمواعظ، ويتذكرون بالذكرى بخلاف أهل الزيغ والكفر والطغيان، فإنهم لا يَأْبهون بمواعظ الله، ولا بتذكيره جل وعلا لهم، ولذا قال سبحانه ها هنا مخاطبًا عباده بهذا الوصف العظيم: ï´؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ï´¾؛ أي: يا من حزتم هذا الخير، فصدقتم وآمنتم بالله ربًّا وبالإسلام دينًا، وبمحمد صلى الله عليه وآله وسلم نبيًّا.



قال ابن مسعود رضي الله عنه: إذا سمعت الله جل وعلا يقول: ï´؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ï´¾، فأرْعِ لها سمعك، فإنه خير تؤمر به، أو شر تُنهى عنه.



إذا سمعت الله يناديك ï´؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ï´¾، فأَرْعِ لها سمعك؛ يعني: استمع لها استماع المهتم الذي يكون متهيئًا للعمل بمقتضى هذا النداء: ï´؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ والتقوى التي أمر الله بها في هذا الموضع وغيره، هي كما قال العلماء: فعل الأوامر وترك النواهي.



ومن العلماء مَن يعرِّف ذلك فيقول: هي أن تجعل بينك وبين عذاب الله وقاية بفعل أوامره وترك نواهيه.



وهي أيضًا بمعنى آخر قال به بعض العلماء: ألا يراك الله حيث نهاك، ولا يفقدك حيث أمرك.



فكل مكان أو زمان أُمرت أن تكون فيه فكنت، فأنت تقي، وكل زمان أو مكان نُهيت أن تكون فيه، فانتهيت ولم تكن، فأنت تقي:؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ ï´¾.



ثم حثَّ الله جل وعلا على الغاية من التقوى والهدف المنشود الذي توصل له التقوى وهو ادِّكار وتذكُّر الحياة الآخرة: ï´؟ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ والمعنى أن يحاسب الإنسان نفسه وأن يَزنها قبل أن يوزن؛ كما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا.



فالحساب لا بد منه، فإن الله جل وعلا لتمام عدله وحكمته، جعل للعباد جميعًا يومًا يوقفون فيه، فينظر في أعمالهم، فيجزي الله الذين أحسنوا بالحسنى، ويجزي الذين أساؤوا بما عملوا؛ قال الله جل وعلا: ؟ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران: 30].



فمن رأفته سبحانه بعباده أن حذَّرهم من عقوبته، ووعدهم إن هم أطاعوا بأفضل العطاء، وإن مما يعين على الاستعداد والمحاسبة أن يكون عند الإنسان ميزان التقوى التي تضبط حياته كلها، وتنقله من ضيق هذه الحياة إلى سعادتها وبهجتها تقدمةً للسعادة الكبرى، وما أحسن ما قال جرير في وصف التقوى:
ولستُ أرى السعادةَ جمعَ مالٍ
ولكنَّ التقيَّ هو السعيدُ
فتقوى الله خيرُ الزاد ذُخرًا
وعندَ اللهِ للأَتْقى مَزيدُ



في هذه الدنيا تتنوَّع ملاذ الناس بكل مجالاتها وأنواعها من أموال وشهوات، ورُتب ومراتب وغير ذلك، لكنها كلها والله لا تساوي شيئًا في جانب منزلة التقوى التي من وصل إليها كان على منزلة عظيمة وقدر عظيم من السعادة، كيف لا وقد أصبح وليًّا من أولياء الله: ï´؟ أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ï´¾ [يونس: 62].



ثم تأمَّلوا رحِمكم الله أن الله جل وعلا قال في كتابه في هذه الآية: ï´؟ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ï´¾ [الحشر: 18]، وهذا أسلوب بديع يُدركه علماء البلاغة وعلماء التفسير، فقوله جل وعلا هنا: ï´؟ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ï´¾ [الحشر: 18]، قال العلماء: هذه نكرة في سياق الأمر، فتفيد العموم، والمعنى أنه يجب على كل نفس أن تنظر في مرجعها ومعادها، فكل الأنفس مطلوب منها بل مأمورة أن تراجع وأن تحاسب؛ سواء كان الإنسان سابقًا للخيرات، أو كان مقصرًا في الطاعات؛ لأنه ما من ميِّت يموت إلا تمنَّى الرجعة للدنيا؛ إن كان محسنًا فيزداد، وإن كان مسيئًا فيستعتب ويتوب.



ثم إن الله سبحانه وتعالى وصف هذا اليوم، فقال: ï´؟ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ï´¾، وصفه بأنه غد، وهذا يفيد شدة قربه وتحقُّق مجيئه، لكن ما كان في الغد فهو قريب جدًّا، ولذلك قال سبحانه في مواضع من كتابه العزيز: ï´؟ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ ï´¾ [القمر: 1]، مَن القائل؟ هو رب العزة أصدق القائلين جل وعلا، ومعنى ذلك أن قيام الساعة وقرب حلولها؛ كما قال سبحانه: ï´؟ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ï´¾ [النحل: 77].



وإذا كانت هذه الدنيا كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((بُعثت أنا والساعة كهاتين، وقرن بين السبابة والوسطى))، والمعنى أن ما مضى من الدنيا كقدر ما يُمثله الأصبع السبَّابة من الأصبع الوسطى، فإن الذي بقي هو يسير وقليل، ولذلك فإن العبد إذا تأمَّل مقولة النبي الكريم: ((بُعثت أنا والساعة كهاتين)) - وقد مضى ما يزيد على ألف وأربعمائة عام عليها - فإن الساعة هي كما قال الله تعالى: ï´؟ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ هذا بالنسبة للناس جميعًا، وأما بالنسبة لكل فرد، فإن من مات قامت قيامته، من دخل باب الموت وشرب من كأسه، فقد قامت قيامته، وابتدأ حسابه تمهيدًا للحساب الأكبر، ولذلك يسأل في قبره: مَن ربك؟ ما دينك؟ مَن نبيُّك؟ هذه بداية الحساب، وهو أيضًا هذا الموضع وهذا البرزخ بداية للجزاء، فإن العبد في قبره؛ إما منعم على ما أحسن، وإما معاقب على ما أساء.



ï´؟ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ï´¾ فهذا الحساب واجب على كل عبد، ذلك أن الإنسان إذا لم يحاسب نفسه تمادَى في الطغيان، واستمرَّ في العصيان، لكن مَن أدام محاسبة نفسه - كما يحاسب الشريك شريكَه في التجارة - فإنه سيعلم هل هو مقصِّر أم هو مزداد!



ومن أعظم ما يُعين الإنسان على المحاسبة أنه إذا أراد أن يبيت عند نومه، ووضع رأسه على وساده، فليتأمل لو كانت هذه الليلة هي آخر ليلة له في حياته، فيا ترى هل سيكون حاله حال السادر الساهي الذي لا يهتم للأمر؟ كلا بل إن المومن ستحمله هذه المحاسبة على أن يعزم - إن استقبل يومًا جديدًا - على أن يصلح من حاله، ويسابق إلى الخير، ويعمل الخير، ويرد المظالم، ويتوب من السيئات، وإن كانت هي آخر ليلة في حياته، كانت على توبة وإنابة، وعلى عزم بفعل الخير.



´؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ï´¾ [الحشر: 18]، وتأمَّلوا كيف أن الله أعاد الأمر بالتقوى: ؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر: 18]، ومن أهل العلم من يقول: هي للتأكيد، ومنهم من يقول: إنها للتأسيس، بمعنى أنها أمر بنوع آخر من التقوى، فالأول أمر بفعل الواجبات، والثاني نهي عن السيئات والمنكرات، ومهما يكن من أمر، فإنه في هذا المقام جاء التأكيد على التقوى، كما تكرَّر تأكيدها في مواضع عديدة من هذا الكتاب العزيز، والله جل وعلا لا تَخفى عليه خافية: ï´؟ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى [طه: 52]، فكل عامل محصى عليه ما عمل، وكل مقصر محصى عليه تقصيره، كل ذلك ï´؟ عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى [طه: 52].



بارَك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بهدي النبي الكريم، أقول ما سمعتم وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.



الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وصلى الله وسلم على عبد الله ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين.



فهذا قول ربنا سبحانه موصيًا عباده:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر: 18]، ثم حذَّر الله جل وعلا من حال من خالفوا هذه الوصية، وارتكبوا ما نهى عنه، فقال سبحانه: ؟ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [الحشر: 19].

فيُحذر الله حال هؤلاء الذين نسوا الله، والمعنى:

نسوا طاعته، ونسوا ما أمرهم جل وعلا به، ونسيانهم هذا ليس من قبيل النسيان الذي لا يؤاخذ عليه الإنسان، لكنه نسيان التعمد، بمعنى أنهم أعرضوا وتنكَّبوا الصراط المستقيم عن عمد وقصد، وهذا حال المنافقين وأشباههم من اليهود والنصارى وأضرابهم!

ولذلك فإن الله جل وعلا جازاهم على هذا النسيان الذي تعمَّدوه وقصدوه، وأهملوا معهم أوامر الله ونواهيه، وذلك أنه سبحانه جازاهم بجنس ما عملوا، وهو أنه سبحانه نسيهم: ï´؟ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ï´¾ [التوبة: 67].

والمعنى أنه عاملهم معاملة الناسي لهم؛ لأن الله جل وعلا كما وصف نفسه:´؟ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى [طه: 52]، لكنه عاملهم معاملة الناسي لهم الذي يكون معه حرمانهم من الخير، ومنعهم من التوفيق للهدى، ومنعهم من الرشد، ومن كل نعمة يُريدها الله بهم، وهذا من أعظم ما يكون من العقوبة للإنسان أنه يُجازى بأن يَنسى ما فيه الخير لنفسه، وأن يتجنَّب ما فيه حُسن العقبى له في الدنيا والآخرة، وهذه عقوبة عظيمة إذا بلَغت بالإنسان، فقد تُودِّعَ منه، وهذا يؤول بالإنسان إلى أن يكون مقتحمًا للسيئات؛ لأنه لو عظم شأنه أو علا قدره عند ربه، لحال الله بينه وبين المعاصي، ولكن الذي أهانه الله، فإنه لا يحول بينه وبين السيئات، بل إنه يقتحمها ولا يزال سادرًا في ضلاله وطغيانه، ولذا قال الله تعالى:؟ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ [الحج: 18]، وإهانة هؤلاء بأن يَقترفوا السيئات، وألا يُوفَّقوا للتوبة منها.



ولذلك ما عُوقِب عبد بمثل أن يعاقب بألا يحال بينه وبين السيئات، فلا يزال مقتحمًا لها، مُصرًّا عليها، حتى يلقى الله جل وعلا؛ قال الإمام ابن كثير رحمه الله: قوله جل وعلا: ؟ نَسُوا اللَّهَ أي: نسوا ذكره سبحانه، فنَسِيهم؛
أي: عامَلهم معاملة مَن نسيهم؛ كما قال جل وعلا: ؟ وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا [الجاثية: 34]، وكما قال جل وعلا:؟ فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ [السجدة: 14].



فهي عقوبة من الله جل وعلا من جنس ما كان منهم في الدنيا، لَما تَهاوَنوا بالأوامر وبالنواهي، وتعامَلوا معها تعاملًا خلاف ما أمر الله جل وعلا، فكانت العقوبة لهم في الدنيا على هذه الحال: ï´؟ وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ [فصلت: 25]، وهم في الآخرة يبقون في العذاب لا يستجاب لتضرُّعهم، ولا يُجابون لنداءاتهم إلا إجابة التبكيت؛ كما قال الله تعالى: ï´؟ وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ [الزخرف: 77]، إلى غير ذلك من نداءاتهم وهم في النار، ولا يجابون على ذلك إلا بما فيه تبكيتهم؛ كما قال سبحانه: ؟ قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ[المؤمنون: 108] عياذًا بالله من هذه الحال!



وهؤلاء الذين نسوا الله هم كما قال الله تعالى في شأنهم، وهم المنافقون ومَن أشبههم، ومن تشبهوا به من قبلهم من اليهود والنصارى الذين تناسوا أوامر الله، وارتكبوا نواهيه، وهذا يوجب على المؤمن أن يحاذر من أن يصل إلى هذه النتيجة، وهي أن الله سبحانه ينسيه نفسه، فلا يعرف ما ينبغي من الهدى، وما ينبغي له من السعي بعمل الطاعات واجتناب السيئات؛ قال العلامة ابن القيم رحمه الله في شأن العقوبات التي تحل بالعبد بسبب إصراره على المعاصي: إن المعصية تنسي العبد نفسه، وإذا نسي نفسه أهملها وأفسدها وأهلكها، فإن قيل: كيف ينسى العبد نفسه؟ وإذا نسي نفسه فأي شيء يذكر؟ وما معنى نسيانه نفسه؟ قيل: نعم هو ينسى نفسه أعظم نسيان؛ قال الله تعالى: ï´؟ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [الحشر: 19].



فلما نسوا ربهم سبحانه، نسيهم وأنساهم أنفسهم؛ كما قال سبحانه:؟ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ فعاقب سبحانه وتعالى مَن نسيه عقوبتين؛ إحداهما أنه جل وعلا نسيه، والثانية أنه أنساه نفسه، ونسيانه جل وعلا للعبد إهماله وتركه، وتخلِّيه عنه وإضاعته، فالهلاك أدنى إليه من اليد للفم، وإما إنساؤه نفسه، فهو إنساؤه لحظوظها العالية، وأسباب سعادتها وفلاحها وإصلاحها، وما يكون بسبب هذا النسيان من البلاء ما لا يخطر على البال.



أقول: لذلك يعجب المرء أن بعض الناس لا يزال مستمرًّا في معاصيه إلى آخر لحظة من حياته؛ حتى إن بعضهم يُذكَّر بالتوحيد والهداية في لحظات سكرات الموت، لكنه لا يستجيب، وهذا لأن الله نَسِيه، عياذًا بالله من كل ذلك!



ثم إن من نسيان الله لهم أنهم لا يزالون متعلقين بالدنيا، لا يلتفتون للآخرة، وهم مع ذلك في إذلال من الله جل وعلا، ظاهر عليهم الذل؛ كما قال ربنا سبحانه في الآية الكريمة: ؟ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِم [الحج: 18].



قال الإمام الحسن البصري رحمه الله في شأن أهل المعاصي المُصرِّين عليها، المستعلنين بها: إنهم وإن طقطقت بهم البغال، وهملجت بهم البرادين، فإن ذل المعصية على وجوههم، أبى الله إلا أن يذل مَن عصاه.



والمعنى في كلامه رحمه الله أن أهل العصيان الذين أصرُّوا على الذنوب، وجاهروا بها مهما علوا في الدنيا، فهملجت بهم البرادين؛ يعني: كانت لهم المركوبات وكانت لهم الشارات العالية، وكانت لهم المفاخر الدنيوية، ثم إنهم مع كل ما يملكون ومع كل ما يتظاهرون به من الزينة - في اللباس والمراكب، وكثرة الأموال - فإن ذل المعصية لا يجاوز رقابهم، ولا يخفى عن وجوههم، لماذا؟ لأن الله سبحانه أبى إلا أن يذل من عصاه؛ كما دلت عليه الآية المتقدمة. فحَرِيٌّ بالمؤمن أيها الإخوة الكرام أن يكون مستعدًّا لنقلته عن هذه الحياة الدنيا؛ بإعداد العدة بالعمل الصالح، والانتهاء عن السيئات، وأن يحاسب نفسه، فهذا خير زاد يقدم به على رب العباد.



ألا وصلُّوا وسلِّمُوا على خير خلق الله نبينا محمد، فقد أمرنا ربنا بذلك، فقال عز من قائل: ï´؟ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ï´¾ [الأحزاب: 56].


اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.

اللهم وارضَ عن خلفائه الراشدين والأئمة المهديين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة والتابعين، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الكفر والكافرين.

اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان يا رب العالمين.



اللهم اجعل بلدنا هذا آمنًا مطمئنًا وسائر بلاد المسلمين.



اللهم وفِّق أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم انفع بهم العباد والبلاد، واجعلهم هداة مهتدين.



اللهم ارزقهم البطانة الصالحة الناصحة، وأبْعِد عنهم بطانة السوء يا رب العالمين.



اللهم احفظ وأيِّد، وثبِّت أقدام إخواننا المرابطين على حدودنا وعلى ثغور بلادنا.



اللهم احفظهم بحفظك، اللهم سدِّد آراءهم ورَمْيهم يا رب العالمين.



اللهم واحقِن دماء المسلمين في كل مكان، اللهم عجِّل بالفرج لإخواننا المكروبين في فلسطين وسوريا، وفي ليبيا ومصر وفي العراق، وفي غيرها من البلاد يا رب العالمين.



اللهم إن بأمة نبيك محمد عليه الصلاة والسلام - من الفرقة والبأساء، والشدة واللأواء، وتسلُّط الأعداء - ما لا يخفى عليك، ولا نشكوه إلا إليك، ولا يَقدِّر على كشفه إلا أنت، فنسألك اللهم يا ذا الجلال والإكرام فرجًا عاجلاً لإخواننا المكروبين، اللهم عجِّل لهم الفرجَ.



اللهم انصر مَن نصَر دينك، اللهم أذل مَن حارَب دينك، وحارَب عبادك المؤمنين يا رب العالمين.



اللهم اغفر لنا ولوالدينا، وارحمهم كما ربَّوْنا صغارًا.



اللهم آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقِنا عذاب النار.



سبحان ربنا ربِّ العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.



كان درس في غرفة صوتيه مع شبكة شعاع
وهذه للجميع يطلعوا عليها حفظكم الله

وفاء السلومي 08-28-2020 07:16 PM

رد: دورة اعتبروا يا أولى الابصار( نسو الله فأنساهم انفسهم)
 
جزاك الله خيرا معلمتي

ماشاءالله كان درس رااائع

ربي يوفقك دووووما

الجمعة 10 محرم 1442

كريمة عبدالله 08-28-2020 07:25 PM

رد: دورة اعتبروا يا أولى الابصار( نسو الله فأنساهم انفسهم)
 
ماشاءالله ماشاءالله ماشاءالله تبارك الرحمن
درس رائع جدا
ونحن جد محتاجين لمثل هذه الدروس
حفظك الله ورعاك يالغالية
زادك الله من علمه الواسع ونفعنا بك معلمتي ونفع بكم الاسلام والمسلمين يارب العالمين

اسماء ام لقمان 08-29-2020 02:29 AM

رد: دورة اعتبروا يا أولى الابصار( نسوا الله فأنساهم انفسهم)
 
جزاك الله خيرا معلمتنا الحبيبة، درس في غاية الأهمية ونحن في أمس الحاجة لمثل هذه المواعظ. بارك الله فيك وفي علمك

عطر الجنة 08-29-2020 02:00 PM

رد: دورة اعتبروا يا أولى الابصار( نسوا الله فأنساهم انفسهم)
 
اللهم زد و بارك ،،
محاضرة قيمة
نفع الله بك أستاذة
ونفنا الله بماقدمت
جزاك الله كل خير


الساعة الآن 04:26 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
Search Engine Friendly URLs by vBSEO 3.6.1 TranZ By Almuhajir
new notificatio by 9adq_ala7sas
HêĽм √ 3.1 BY: ! ωαнαм ! © 2010
يرحل الجميع ويبقي شعاع بيت العلم والحب(ملك الكلمة)