منتديات شبكة شعاع الدعوية للتعليم عن بعد

منتديات شبكة شعاع الدعوية للتعليم عن بعد (https://hwazen.com/vb/index.php)
-   شعاع اللغة العربية (https://hwazen.com/vb/f97.html)
-   -   أدبيات اللغة العربية (https://hwazen.com/vb/t21807.html)

عطر الجنة 07-01-2021 07:30 AM

رد: أدبيات اللغة العربية
 


https://k.top4top.io/p_2007qrxtc1.png



(١٣٦) في خواص مصر العامة لها لعبد اللطيف البغدادي


إن أرض مصر من البلاد العجيبة الآثار، الغريبة الأخبار، وهي وادٍ يكتنفه جبلان، شرقي وغربي، والشرقي أعظمهما، يبتدئان من أسوان ويتقاربان بإسنا حتى يكادا يتماسَّان، ثم ينفرجان قليلًا قليلًا، وكلما امتدا طولًا انفرجا عرضًا، حتى إذا حاذيا الفسطاط كان بينهما مسافة يوم فما دونه، ثم يتباعدان أكثر من ذلك والنيل ينساب بينهما ويتشعَّب بأسافل الأرض وجميعُ شُعَبه تَصُبُّ في البحر المالح. وهذا النيل له خاصتان؛ الأولى: بُعْد مرماه، فإنا لا نعلم في المعمورة نهرًا أبعد مسافةً منه؛ لأن مبادئه عيون تأتي من جبل القمر، وزعموا أن هذا الجبل وراء خط الاستواء بإحدى عشرة درجة ونصف درجة. وعرضُ أسوان وهي مبدأ أرض مصر اثنتان وعشرون درجة، وعرضُ دمياط وهي أقصى أرض مصر إحدى وثلاثون درجة وثلث درجة، فتكون مسافة النيل على خط مستقيم ثلاثًا وأربعين درجة تنقص سدسًا، ومساحة ذلك تقريبًا تسعمئة فرسخ، هذا سوى ما يأخذ من التعريج، فإن اعتُبر ذلك تضاعفت المساحة جدًّا. والخاصة الثانية: أنه يزيد عند نضوب سائر الأنهار ونشيش المياه؛ لأنه يبتدئ بالزيادة عند انتهاء طول النهار وتتناهى زيادته عند الاعتدال الخريفي، وحينئذٍ تُفتح الترع وتفيض على الأراضي، وعلة ذلك أن مواد زيادته أمطار غزيرة دائمة وسيول متواصلة تُمِدُّه في هذا الأوان، فإن أمطار الإقليم الأول والثاني إنما تَغْزُر في الصيف والقيظ. وأما أرض مصر فلها أيضًا خواص، منها أنه لا يقع بها مطر إلا ما لا احتفال به وخصوصًا صعيدها، فأما أسافلها فقد يقع بها مطرٌ جَوْد لكنه لا يفي بحاجة الزراعة. وأما دمياط والإسكندرية وما داناهما فهي غزيرة المطر ومنه يشربون، وليس بأرض مصر عين ولا نهر سوى نيلها.

ومنها أن أرضها رملية لا تصلح للزراعة، لكنه يأتيها طينٌ أسودُ عَلِكٌ فيه دُسومة كثيرة يسمى الإبْليز، يأتيها من بلاد السودان مختلطًا بماء النيل عند مَدِّه، فيستقر الطين ويَنْضُب الماء فيُحْرث ويزرع، وكل سنة يأتيها طين جديد؛ ولهذا تزرع جميع أراضيها ولا يراح شيء منها كما يفعل في العراق والشام، لكنها تُخالف عليها الأصناف، وقد لحظت العرب ذلك فإنها تقول: إذا كثرت الرياح جادت الحِراثة؛ لأنها تجيء بتراب غريب، وتقول أيضا: إذا كثرت المؤْتَفِكات زكا الزرع، ولهذه العلة تكون أرض الصعيد زكية كثيرة الإتاء والرَّيْع إذ كانت أقرب إلى المبدأ، فيحصل فيها من هذا الطين مقدار كثير بخلاف أسفل الأرض، فإنها أُسافةٌ مَضْوية إذ كانت رقيقة ضعيفة الطين؛ لأنه يأتيها الماء وقد راق وصفا، ولا أعرف شبيهًا بذلك إلا ما حُكي لي عن بعض جبال الإقليم الأول، أن الرياح تأتيه وقت الزراعة بتراب كثير، ثم يقع عليه المطر فيتلبَّد فيُحْرث ويُزرع، فإذا حُصد جاءته رياح أخرى فنسفَتْه حتى يعود أجرد كما كان أولًا.

ومنها أن الفصول بها متغيرة عن طبيعتها التي لها، فإن أخص الأوقات باليُبْس في سائر البلاد، أعني الصيف والخريف، تكثر فيه الرطوبة بمصر بمدِّ نيلها وفيضه؛ لأنه يمُدُّ في الصيف ويُطَبِّق الأرض في الخريف، فأما سائر البلاد فإن مياهها تَنِشُّ في هذا الأوان، وتَغْزُر في أخص الأوقات بالرطوبة، أعني الشتاء والربيع، ومصر إذ ذاك تكون في غاية القحولة واليُبْس؛ ولهذه العلة تكثر عفوناتها واختلاف هوائها وتغلب على أهلها الأمراض العفَنِيَّة الحادثة عن أخلاطٍ صفراوية وبلْغمية، وقلما تجد فيهم أمراضًا صفراوية خالصة، بل الغالب عليهم البلغم حتى في الشُبَّان والمَحْرورين، وأكثر أمراضهم في آخر الخريف وأول الشتاء، لكنها يغلب عليها سلامة العاقبة، وتقل فيهم الأمراض الحادة والدموية الوَحِيَّة. وأما أصحَّاؤهم فيغلب عليهم الترهُّل والكسل وشُحُوب اللون وكُمودته، وقلما ترى فيهم مشبوب اللون ظاهر الدم، وأما صبيانهم فضاوِيُّون يغلب عليهم الدمامة وقلة النضارة، وإنما تحدث لهم البدانة والقَسامة غالبًا بعد العشرين. وأما ذكاؤهم وتوقُّد أذهانهم وخفة حركاتهم فلحرارة بلدهم الذاتية؛ لأن رطوبته عَرَضية؛ ولهذا كان أهل الصعيد أفحل جسومًا وأجف أمزجة والغالب عليهم السُّمرة، وكان ساكنو الفسطاط إلى دمياط أرطب أبدانًا والغالب عليهم البياض.

ولما رأى قدماء المصريين أن عمارة أراضيهم إنما هي بنيلها، جعلوا أول سنتهم أول الخريف، وذلك عند بلوغ النيل الغاية القصوى من الزيادة. ومنها أن الصَّبا محجوبة عنهم بجبلها الشرقي المسمى المقطم، فإنه يستر عنها هذه الريح الفاضلة، وقلما تهُب عليهم خالصة اللهم إلَّا نَكْباء؛ ولهذا اختار قدماء المصريين أن يجعلوا مستقر المُلْكِ منف ونحوها مما يبعد عن هذا الجبل الشرقي إلى الغربي، واختار الروم الإسكندرية وتجنبوا موضع الفسطاط لقربه من المقطم، فإن الجبل يستر عما في لِحْفِه أكثر مما يستر عما بعُد منه، ثم إن الشمس يتأخر طلوعها عليهم فيقل في هوائهم النضج؛ ولذلك تجد المواضع المنكشفة للصبا من أرض مصر أحسن حالًا من غيرها، ولكثرة رطوبته يتسارع العفن إليها، ويكثر فيها الفأر ويتولد من الطين، والعقارب تكثر بقوص، وكثيرًا ما تقتل بلَسْبها، والبق المُنْتن والذباب والبراغيث تدوم زمانًا طويلًا.

ومنها أن الجنوب إذا هبت عندهم في الشتاء والربيع وفيما بعد ذلك كانت باردةً جدًّا، ويسمونها المريسي؛ لمرورها على أرض المريس، وهي من بلاد السودان، وسبب بردها مرورها على برك ونقائع، والدليل على صحة ذلك أنها إذا دامت أيامًا متوالية عادت إلى حرارتها الطبيعية وأسْخَنت الهواء وأحدثت فيها يُبْسًا.

https://k.top4top.io/p_2007qrxtc1.png

عطر الجنة 07-01-2021 07:32 AM

رد: أدبيات اللغة العربية
 
.


https://k.top4top.io/p_2007qrxtc1.png

(١٣٧) من لامية العجم لمؤيد الدين الطغرائي


أصالةُ الرأي صانتْنِي عن الخَطَلِ
وحِليةُ الفضلِ زانَتْني لدَى العَطَلِ
مَجْدي أخيرًا ومجدِي أوَّلًا شَرَعٌ
والشمسُ رأْدَ الضُّحَى كالشمسِ في الطفَلِ
فيمَ الإقامةُ بالزَّوْراءِ لا سَكَني
بها ولا ناقتي فيها ولا جَمَلي
نَاءٍ عن الأهلِ صِفْرُ الكفِّ منفردٌ
كالنَّصْل عُرِّيَ مَتْناهُ عن الخَللِ
فلا صديقَ إليه مشتكَى حَزَنِي
ولا حبيبَ إليه منتَهَى جَذَلي
طالَ اغترابيَ حتى حنَّ راحلَتي
ورحلُها وقَنا العَسَّالةِ الذُّبُلِ
وضَجَّ من لَغَبٍ نِضْوِي وعَجَّ لمَا
يلقَاه قلبي ولجَّ الركْبُ في عَذَلي
أُريدُ بسطةَ كَفٍّ أستعينُ بها
على قضاءِ حُقوقٍ للعُلَى قِبَلي
والدهرُ يعكِسُ آمالِي ويُقْنعُني
من الغنيمةِ بعد الكَدِّ بالقَفَلِ
وذِي شِطَاطٍ كصدرِ الرُّمْحِ معتقِلٍ
بمثله غيرَ هيَّابٍ ولا وَكِلِ
حُلْو الفُكاهة مُرُّ الجِدِّ قد مُزِجتْ
بقسوةِ البأسِ منه رِقَّةُ الغَزَلِ
طَرَدْتُ سَرْحَ الكَرَى عنْ وِرْدِ مُقْلتِه
والليلُ أغْرَى سَوامَ النَّوْمِ بالمُقَلِ
والرَّكبُ مِيلٌ على الأكْوارِ من طَرِبٍ
صاحٍ وآخرَ من خمر الكَرَى ثَمِلِ
فقلتُ أدعوكَ للجُلَّى لتنصُرَنِي
وأنت تخذُلُني في الحادثِ الجَلَلِ
تنام عيني وعينُ النجمِ ساهرةٌ
وتستحيلُ وصِبْغُ الليلِ لم يَحُلِ
حُبُّ السلامةِ يَثْني همَّ صاحِبه
عن المعالي ويُغْرِي المرءَ بالكَسلِ
فإن جَنَحْتَ إليه فاتَّخِذْ نَفَقًا
في الأرضِ أو سُلَّمًا في الجوِّ فاعتزلِ
ودَعْ غِمارَ العُلى للمقْدِمين على
رُكوبِها واقتنِعْ منهنَّ بالبَلَلِ
يَرْضَى الذَّليلُ بخفْضِ العيشِ مَسْكَنَةً
والعِزُّ بين رَسِيم الأَيْنُقِ الذُّلُلِ
فادْرَأْ بها في نحورِ البِيد جافلةً
مُعارِضاتٍ مَثانِى اللُّجْمِ بالجُدَلِ
إنَّ العُلَى حدَّثتْني وهي صادقةٌ
فيما تُحدِّثُ أنَّ العزَّ في النُّقَلِ
لو أنَّ في شرفِ المأوى بلوغَ مُنًى
لم تبرحِ الشمسُ يومًا دارةَ الحَمَلِ
أَهَبْتُ بالحظِّ لو ناديتُ مُسْتمِعًا
والحظُّ عنِّيَ بالجُهَّالِ في شُغُلِ
لعلَّهُ إنْ بَدا فَضْلي ونَقْصُهُمُ
لعينِه نامَ عنهمْ أو تنبَّهَ لي
أُعَلِّلُ النَّفْسَ بالآمالِ أَرْقُبُها
ما أضيقَ العيشَ لولا فُسْحةُ الأَمَلِ!
لم أرضَ بالعيش والأيامُ مقبلةٌ
فكيف أرضَى وقد ولَّتْ على عَجَلِ؟
غالَى بنفسيَ عِرفاني بقيمتِها
فصُنْتُها عن رخيصِ القَدْرِ مبتَذَلِ
وعادةُ النَّصْلِ أنْ يُزْهَى بجوهرِه
وليس يعملُ إلَّا في يدَيْ بَطَلِ
ما كنتُ أُوثِرُ أن يمتدَّ بي زمني
حتى أرى دولةَ الأوغادِ والسِّفَلِ
تقدَّمتْني أناسٌ كان شَوْطُهُمُ
وراءَ خَطْويَ إذ أمشي على مَهَلِ
هذا جَزاءُ امرِئٍ أقرانُه درَجُوا
من قَبْلهِ فتمنَّى فُسْحةَ الأجلِ
وإنْ عَلانِيَ مَنْ دُونِي فلا عَجَبٌ
لي أُسوةٌ بانحطاطِ الشمس عن زُحَلِ
فاصبرْ لها غيرَ محتالٍ ولا ضَجِرٍ
في حادثِ الدهرِ ما يُغْني عن الحِيَلِ
أعدَى عدوِّكَ أدنى مَن وَثِقْتَ به
فحاذرِ الناسَ واصحَبهمْ على دَخَلِ
فإنَّما رجلُ الدُّنيا وواحِدُها
من لا يعوِّلُ في الدُّنيا على رَجُلِ
وحسنُ ظَنِّكَ بالأيام مَعْجَزَةٌ
فظُنَّ شَرًّا وكُنْ منها على وَجَلِ
غاضَ الوفاءُ وفاضَ الغدرُ وانفرجتْ
مسافةُ الخُلْفِ بين القولِ والعَمَلِ
وشانَ صدقَك بين الناس كِذْبُهُمُ
وهل يُطابَقُ مُعْوَجٌّ بمعتَدِلِ؟!
إن كان ينجعُ شيءٌ في ثباتِهم
على العُهودِ فسبْقُ السيفِ للعَذَلِ
يا واردًا سؤْرَ عيشٍ كلُّه كَدَرٌ
أنْفَقتَ صَفْوَكَ في أيامِكَ الأُوَلِ
فيمَ اعتراضُكَ لُجَّ البحرِ تركَبُهُ
وأنتَ تكفيك منه مصَّةُ الوَشَلِ؟
مُلْكُ القناعةِ لا يُخْشَى عليه ولا
يُحتاجُ فيه إِلى الأنصار والخَوَلِ
ترجو البَقاءَ بدارٍ لا ثَباتَ لها
فهل سَمِعْتَ بظلٍّ غيرِ منتقلِ؟
ويا خبيرًا على الأسرار مُطَّلِعًا
اصْمُتْ ففي الصَّمْتِ مَنْجاةٌ من الزَّلَلِ
قد رشَّحوك لأمرٍ إنْ فطِنْتَ لهُ
فارْبَأْ بنفسكَ أن ترعى مع الهَمَلِ

(١٣٨) قال الطغرائي يفتخر

أبى اللهُ أنْ أسْمو بغيْرِ فضائلي
إِذا ما سَما بالمالِ كلُّ مُسَوَّدِ
وإنْ كَرُمَتْ قبْلي أوائلُ أُسْرَتِي
فإني بحمْدِ الله مبْدأُ سُؤدَدِي
يُذَمُّ لأجلي المُهْر إن يَكْبُ مَرَّةً
بجِدِّي وإنْ ينهضْ بجِدِّيَ يُحْمَدِ
وما مَنْصِبٌ إلا وقَدْريَ فَوْقَهُ
ولو حُطَّ رَحْلي بين نَسْرٍ وفَرْقدِ
إِذا شَرُفَتْ نفْسُ الفَتى زادَ قَدْرُهُ
على كلِّ أسنَى منه ذِكْرًا وأمجدِ
كذاكَ حديدُ السيفِ إنْ يَصْفُ جوهرًا
فقيمتُهُ أضْعافُه وزنَ عَسْجَدِ
تَكَادُ تَرَى مَنْ لا يُقاسُ نِجَادُهُ
بشِسْعِي إِذا ما ضَمَّنا صدرُ مَشهدِ
وما المالُ إلا عارةٌ مسْتَردَّةٌ
فهلَّا بفضلِي كَاثَرُوني ومَحْتِدِي
إِذا لم يكنْ لي في الولاية بَسْطةٌ
يَطولُ بها باعي وتَسطُو بها يدي
ولا كان لي حُكْمٌ مُطاعٌ أُجِيزهُ
فأُرْغِمُ أعدائي وأَكْبِتُ حُسَّدِي
فأُعْذَرُ إنْ قصَّرْتُ في حقِّ مُجْتَدٍ
وآمنُ أنْ يعتادَني كيدُ مُعتد
أَأُكْفَى ولا أَكْفِي وتلك غَضاضَةٌ
أرى دونَها وقْعَ الحُسامِ المُهَنَّدِ
ولولا تكاليفُ العُلى ومغارمٌ
ثِقَالٌ وأعْقاب الأحاديثِ في غَدِ
لأعطيتُ نفسي في التَّخلِّي مُرادَها
فذاكَ مُرادي مُذْ نشأتُ ومقصِدِي
من الحزمِ أن لا يَضْجَرَ المرءُ بالذي
يُعانيهِ من مكروهة فكأن قَدِ
إِذا جَلَدِي في الأمرِ خان ولم يُعِنْ
مُرَيْرَةَ عزمي نابَ عنه تجلُّدِي
ومَن يَسْتعِنْ بالصبرِ نالَ مُرادَهُ
ولو بعد حينٍ إنهُ خيرُ مُسْعِدِ

https://k.top4top.io/p_2007qrxtc1.png

عطر الجنة 07-01-2021 07:34 AM

رد: أدبيات اللغة العربية
 



https://k.top4top.io/p_2007qrxtc1.png


(١٣٩) المقامة الأولى الصنعانية


حدَّث الحارث بن همَّام قال: لما اقتعدتُ غارب الاغتراب، وأَنْأَتني المتربة عن الأتراب، طوَّحت بي طوائح الزمن، إلى صنعاء اليمن، فدخلتها خاوي الوفاض، بادي الإنْفاض، لا أملك بُلْغة،
ولا أجد في جرابي مضغة، فطفِقْت أجوب طرقاتها مثل الهائم، وأجول في حوْماتها جَوَلَان الحائم، وأَرُود في مسارح لَمَحَاتي، ومسايح غدواتي ورَوْحاتي، كريمًا أُخْلِق له ديباجتي، وأبوح إليه بحاجتي، أو أديبًا تفرِّج رؤيته غُمَّتي، وتُرْوِي روايته غُلَّتي، حتى أدَّتْني خاتمة المطاف، وهدتْني فاتحة الألطاف، إلى ناد رحيب، محتوٍ على زحام ونحيب، فولجْتُ غابة الجمع؛ لأسبُرَ مَجْلَبَةَ الدمْعِ، فرأيت في بُهْرَة الحلْقة، شخصًا شَخْت الخِلْقة، عليه أُهْبَة السياحة، وله رنة النياحة،

وهو يطبع الأسجاع بجواهر لفظه، ويقرع الأسماع بزواجر وعظه، وقد أحاطت به أخلاط الزُّمَر، إحاطة الهالة بالقمر، والأكمام بالثمر، فدلفْتُ إليه لأقتبس من فوائده، وألتقط بعض فرائده، فسمعته يقول حين خبَّ في مجاله، وهَدَرَتْ شقاشق ارتجاله: أيها السادر في غُلَوَائه، السادل ثوب خُيَلائه، الجامح في جهالاته، الجانح إلى خُزَعْبِلاته، إلامَ تستمرُّ على غيِّك، وتَسْتَمرئ مرعى بغيك؟ وحتَّام تتناهى في زهوك، ولا تنتهي عن لهوك؟ تبارز بمعصيتك،
مالكَ ناصيتك، وتجترئ بقبح سيرتك على عالم سريرتك! وتتوارى عن قريبك، وأنت بمرأى رقيبك! وتستخفي من مملوكك وما تخفَى خافيةٌ على مليكك! أتظن أن ستنفعك حالك إذا آن ارتحالك؟ أو ينقذك مالك حين توبقك أعمالك؟ أو يغني عنك ندمك إذا زلَّت قدمك؟ أو يعطف عليك معشرُك يوم يضمُّك محشَرُك؟ هلَّا انتهجت محجة اهتدائك، وعجَّلت معالجة دائك، وفلَلْت شَبَاةَ اعتدائك، وقَدَعْتَ نفسك فهي أكبر أعدائك؟ أمَا الحِمام ميعادُك، فما إعدادُك؟ وبالمشيب إنذارُك، فما أعْذَارُك؟ وفي اللَّحْد مقيلك، فما قِيلك؟ وإلى الله مصيرك، فمن نصيرك؟ طالما أيقظك الدهر فتناعست، وجذبك الوعظ فتقاعست، وتجلَّت لك العبر فتعاميت، وحصحص لك الحق فتماريت، وأَذْكَرَك الموت فتناسيت، وأمْكنك أن تُواسِي فما آسَيْت! تُؤْثِر فَلْسًا تُوعِيه على ذِكْر تَعِيه، وتختار قصرًا تُعْليه، على بِرٍّ تولِيه، وترغب عن هادٍ تَسْتَهْديه، إلى زاد تَسْتَهْديه، وتُغَلِّب حب ثوبٍ تشتهيه، على ثوابٍ تشتريه. يَوَاقيت الصِّلات أعْلَق بقلبك من مواقيت الصلاة، ومغالاة الصَّدُقات آثر عندك من موالاة الصَّدَقات، وصحاف الألوان أشهى إليك من صحائف الأديان، ودُعَابَةُ الأقران آنس لك من تلاوة القرآن. تأمر بالعرف وتنتهك حِماه، وتحمي عن
النُّكْر ولا تتحاماه! وتزحزح عن الظلم ثم تغشاه، وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه! ثم أنشد:
تبًّا لطالِبِ دُنْيا
ثَنَى إلَيها انْصِبابَهْ
ما يَسْتَفيقُ عَرَامًا
بها وفَرْطَ صَبابَةْ
ولوْ دَرَى لَكفَاهُ
مما يَرومُ صُبابَةْ


ثم إنه لبَّد عَجَاجَتَه، وغيَّض مُجَاجَته، واعتَضَد شكْوَته، وتأبَّط هراوته. فلما رنَت الجماعة إلى تحفُّزِه، ورأت تأهُّبه لمزايلة مركزه، أدخل كل منهم يده في جيبه، فأَفْعَم له سَجْلًا من سيبه، وقال: اصرف هذا في نفقتك، أو فرِّقْه على رُفْقتك. فقبله منهم مغضيًا، وانثنَى عنهم مُثْنِيًا،
وجعل يودِّع من يشيِّعه ليخفَى عليه مَهْيَعه، ويسرِّب من يتبعه، لكي يجهل مربعه.

قال الحارث بن همام: فاتَّبعته مواريًا عنه عياني، وقَفَوْتُ أَثَرَه من حيث لا يراني، حتى انتهى إلى مغارة، فانساب فيها على غَرَارة. فأمهلته ريثما خلع نعليه، وغسل رجليه، ثم هجمت عليه، فوجدته مُثَافنًا لتلميذ، على خبزٍ سَمِيذ، وجَدْيٍ حَنِيذ، وقبالتهما خابية نبيذ، فقلت له: يا هذا، أيكون ذاك خبرك، وهذا مخبرك؟! فزفر زفرة القيظ، وكاد يتميَّز من الغيظ، ولم يزل يُحَمْلق إليَّ، حتى خفتُ أن يسطو عليَّ، فلما أن خبت ناره، وتوارى أُواره، أنشد:
لَبِسْتُ الخَميصةَ أبْغي الخَبيصَةْ
وأنْشَبْتُ بشِصِّيَ في كل شِيصَةْ
وصيَّرتُ وعْظيَ أُحْبولَةً
أُريغُ القَنيصَ بها والقَنيصَةْ
وألْجأني الدَّهْرُ حتى ولَجْتُ
بلُطْفِ احتِيالي على اللَّيثِ عيصَةْ
على أنني لم أهَبْ صَرْفَهُ
ولا نَبَضَتْ ليَ مِنْهُ فَريصَةْ
ولا شرَعتْ بي على مَورِدٍ
يُدنِّسُ عِرضيَ نفْسٌ حَريصَةْ
ولو أنْصَفَ الدَّهرُ في حُكمِهِ
لَما ملكَ الحُكْمَ أهل النَّقيصَةْ

ثم قال لي: ادنُ فكل، وإن شئت فقم وقل. فالتفتُّ إلى تلميذه وقلت: عزمت عليك بمن تستدفع
به الأذى، لتخبرنِّي من ذا، فقال: هذا أبو زيد السَّرُوجي سراج الغرباء، وتاج الأدباء.
فانصرفت من حيث أتيت، وقضيت العَجَب مما رأيت.

https://k.top4top.io/p_2007qrxtc1.png


عطر الجنة 07-01-2021 07:36 AM

رد: أدبيات اللغة العربية
 


https://k.top4top.io/p_2007qrxtc1.png



(١٤٠) المقامة الثالثة الدينارية


روى الحارث بن همام قال: نظمني وأخدانًا لي ناد، لم يخِب فيه مناد، ولا كبا قدح زناد،
ولا ذكت نار عناد، فبينا نحن نتجاذب أطراف الأناشيد، ونتوارد طُرَف الأسانيد، إذ وقف بنا شخص عليه سَمَل، وفي مِشْيَته قَزَل، فقال: يا أَخَايِر الذَّخائر، وبشائر العشائر، عِمُوا صباحًا، وأَنْعِموا اصطباحًا. وانظروا إلى من كان ذا ندِيٍّ وندى، وجِدَةٍ وجَدَى، وعقارٍ وقُرَى ومقارٍ وقِرى. فما زالت به قطوب الخطوب، وحروب الكروب، وشرر شرِّ الحسود، وانتياب النُّوَب السُّود حتى صَفِرَت الراحة، وقَرَعَت الساحة، وغار المنبع، ونبا المرْبَع، وأقوى المجمع،

وأقضَّ المضجع، واستحالت الحال، وأعول العيال، وخلت المرابط، ورَحِم الغابط، وأوْدَى الناطق والصامت، ورَثَى لنا الحاسد والشامت، وآل بنا الدَّهْر المُوقِع، والفقر المُدْقِع، إلى أن احتذينا الوَجَى، واغتذينا الشجى، واستبطنَّا الجوى، وطوينا الأحشاء على الطَّوَى، واكتحلنا السُّهاد، واستوطنَّا الوِهاد، واستوطأنا القتاد، وتناسينا الأقتاد، واستطبنا الحَيْن المُجْتاح واستبطأنا اليوم المتاح. فهل من حرٍّ آسٍ، أو سمحٍ مُوَاسٍ؟ فوالذي استخرجني من قَيْلَةْ، لقد أمسيت أخا عَيْلَةْ، لا أملك بيت ليلةْ. (قال الحارث بن همام): فأَوَيْت لمفاقره،

ولوَيْتُ إلى استنباط فِقَره، فأبْرزت دينارًا، وقلت له اختبارًا: إن مدحتَه نظمًا، فهو لك حتمًا،

فانبرى ينشد في الحال، من غير انتحال:
أكْرِمْ بهِ أصفَرَ راقَتْ صُفرَتُهْ
جوَّابَ آفاقٍ ترامَتْ سَفْرَتُهْ
مَأْثورَةٌ سُمْعَتُهُ وشُهْرَتُهْ
قد أُودِعَتْ سِرَّ الغِنى أسرَّتُهْ
وقارَنَتْ نُجحَ المَساعي خطْرَتُه
وحُبِّبَتْ إلى الأنامِ غُرَّتُهْ
كأنَّما منَ القُلوبِ نُقْرَتُهْ
بهِ يصولُ مَنْ حوَتْهُ صُرَّتُهْ
وإنْ تَفانَتْ أو توانَتْ عِتْرَتُهْ
يا حبَّذا نُضارُهُ ونَضْرَتُهْ
وحبذا مَغْناتُهُ ونصْرَتُهْ
كمْ آمِرٍ بهِ استَتَبَّتْ إمرَتُهْ
ومُتْرَفٍ لوْلاهُ دامَتْ حسْرَتُهْ
وجيْشِ همٍّ هزمَتْهُ كرَّتُهْ
وبدرِ تِمٍّ أنزَلَتْهُ بدْرَتُهْ
ومُستَشيطٍ تتلظَّى جمْرَتُهْ
أسَرَّ نجْواهُ فلانَتْ شِرَّتُهْ!
وكمْ أسيرٍ أسْلمَتْهُ أُسْرَتُهْ
أنقَذَهُ حتى صفَتْ مسرَّتُهْ!
وحقِّ موْلًى أبْدَعَتْهُ فِطْرَتُهْ
لوْلا التُّقَى لقُلتُ جلَّتْ قُدْرتُهْ!


ثم بسط يده، بعدما أنشده، وقال: أنجز حر ما وعد، وسَحَّ خالٌ إذ رعد. فنبذت الدينار إليه،
وقلت: خذه غير مأسوف عليه. فوضعه في فيه، وقال: بارك اللهم فيه! ثم شمَّر للانثناء، بعد توفية الثناء. فنشأت لي من فكاهته نشوة غرام، سهَّلت عليَّ ائتناف اغترام، فجرَّدت دينارًا آخر، وقلت: هل لك في أن تذمه ثم تضمه؟ فأنشد مرتجلًا، وشدا عجِلًا:
تبًّا لهُ من خادِعٍ مُماذِقِ
أصْفَرَ ذي وجْهَيْنِ كالمُنافِقِ
يَبْدُو بوَصْفَينِ لِعَينِ الرَّامِقِ
زينَةِ معْشوقٍ ولوْنِ عاشِقِ
وحُبُّهُ عندَ ذَوي الحَقائِقِ
يدْعو إلى ارتِكابِ سُخْطِ الخالِقِ
لوْلاهُ لمْ تُقْطَعْ يَمينُ سارِقِ
ولَا بدَتْ مَظْلمَةٌ منْ فاسِقِ
ولا اشْمأزَّ باخِلٌ منْ طارِقِ
ولا شكا المَمطولُ مطلَ العائِقِ
ولا استُعيذَ منْ حَسودٍ راشِقِ
وشرُّ ما فيهِ منَ الخلائِقِ
أنْ ليسَ يُغْنِي عنْكَ في المَضايِقِ
إلَّا إذا فرَّ فِرارَ الآبِقِ
واهًا لمَنْ يقْذِفُهُ منْ حالِقِ
ومَنْ إذا ناجاهُ نَجْوَى الوامِقِ
قال لهُ قوْلَ المُحقِّ الصَّادِقِ
لا رأيَ في وصْلِكَ لي ففارِقِ

فقلت له: ما أغزر وبْلَك! فقال: والشرط أملك. فنفحته بالدينار الثاني، وقلت له: عوِّذْهُما بالمثاني. فألقاه في فمه، وقرنه بتوْءَمه، وانكفأ يحمَد مغداه، ويمدح النادي ونَداه. قال الحارث بن همام: فناجاني قلبي بأنه أبو زيد، وأن تَعارُجه لكيْد، فاستعدْتُه وقلت له: قد عُرِفت بوَشْيِك، فاستقم في مشيك، فقال: إن كنت ابن همَّام فحُيِّيت بإكرام، وحَيِّيت بين كرام! فقلت: أنا الحارث، فكيف حالك والحوادث؟ فقال: أتقلَّب في الحالين بؤس ورَخاء، وأنقلب مع الرِّيحين زَعْزع ورُخاء. فقلت: كيف ادعيت القَزَل، وما مثلك مَنْ هَزَل؟ فاستسرَّ بِشْرُه الذي كان تجلَّى، ثم أنشد حين ولَّى:
تعارَجْتُ لا رَغبَةً في العَرَجْ
ولكِنْ لِأَقْرَعَ بابَ الفرَجْ
وأُلْقيَ حَبْلي على غارِبي
وأسْلُكَ مَسْلَكَ مَنْ قد مَرَجْ
فإنْ لَامَني القَوْمُ قلتُ اعذُرُوا
فليسَ على أعْرَجٍ من حرَجْ



https://k.top4top.io/p_2007qrxtc1.png

عطر الجنة 07-01-2021 07:40 AM

رد: أدبيات اللغة العربية
 


https://k.top4top.io/p_2007qrxtc1.png



(١٤١) المقامة الحادية والعشرون الرَّازيَّة


(حدَّث الحارث بن همام) قال: عُنيت مذ أحكمت تدبيري، وعرفت قَبيلي من دَبيري، بأن أصغي إلى العظات، وأُلْغي الكلم المُحْفِظات؛ لأتحلَّى بمحاسن الأخلاق، وأتخلَّى مما يَسِم بالإخلاق. وما زلت آخذ نفسي بهذا الأدب، وأخمد به جمرة الغضب، حتى صار التطبُّع فيه طباعًا، والتكلُّف له هوى مطاعًا. فلمَّا حللت بالرَّيِّ، وقد حللت حُبَى الغي، وعرفت الحي من اللَّي، رأيت بها ذات بُكْرة، زمرة في أَثَر زُمْرة، وهم منتشرون انتشار الجراد، ومُسْتَنُّون استِنان الجِياد، ومُتواصفون واعظًا يقصدونه، ويُحِلُّون ابن سمعون دونه. فلم يَتَكاءَدني لاستماع المواعظ، واختبار الواعظ، أن أقاسي اللَّاغط، وأحتَمل الضاغط، فأصْحَبْت إصْحاب المِطْوَاعة، وانخرطت في سلك الجماعة، حتى أفضينا إلى ناد جمع الأمير والمأمور، وحشد النبيه والمغمور، وفي وسط هالته، ووسط أهلَّته، شيخٌ قد تقوَّس واقْعَنْسس، وتقلْنَس وتطلَّس، وهو يصدع بوعظ يشفي الصدور،

ويلين الصخور. فسمعته يقول، وقد افْتَتَنت به العقول: ابنَ آدم، ما أغراك بما يغرُّك، وأضراك بما يضرك! وألْهَجك بما يطغيك، وأبهجك بما يطريك! تُعنى بما يُعنِّيك، وتُهمِل ما يعنيك، وتنزِع في قوس تعدِّيك، وترتدي الحرص الذي يُرْدِيك! لا بالكفاف تقتنع، ولا من الحرام تمتنع، ولا للعظات تستمع، ولا للوعيد ترتدع! دأبك أن تتقلب مع الأهواء، وتخبط خبط العَشْواء. وهمُّك أن تدأب في الاحتراث، وتجمع التراث للوُرَّاث، يعجبك التكاثر بما لديك، ولا تذكر ما بين يديك، وتسعى أبدًا لِغارَيْك، ولا تبالي ألك أم عليك! أتظن أن ستُتْرك سدى، وأن لا تحاسَب غدا؟ أم تحسب أن الموت يقبل الرشا، أو يميز بين الأَسد والرَّشا؟ كلا، والله لن يدفع المنون مالٌ ولا بنون! ولا ينفع أهل القبور سوى العمل المبرور! فطوبى لمن سمع ووعى، وحقَّق ما ادَّعى! ونهى النفس عن الهوى، وعلم أن الفائز من ارْعَوى! وأن ليس للإنسان إلا ما سعى، وأن سعيه سوف يُرى. ثم أنشد إنشاد وَجِل، بصوت زَجِل:

لعَمرُكَ ما تُغْني المَغاني ولا الغِنى
إذا سكنَ المُثْري الثَّرَى وثوَى بهِ
فجُدْ في مَراضي اللهِ بالمالِ راضِيًا
بما تقْتَني منْ أجرِهِ وثوابِهِ
وبادِرْ بهِ صرْفَ الزَّمانِ فإنَّهُ
بمِخلَبِهِ الأَشْغَى يَغُولُ ونابِهِ
ولا تأمَنِ الدَّهْرَ الخَئُونَ ومَكرَهُ
فكمْ خامِلٍ أخْنى عليهِ ونابِهِ!
وعاصِ هوى النَّفسِ الذي ما أطاعَهُ
أخو ضَلَّةٍ إلَّا هَوَى من عِقابِهِ
وحَافِظْ عَلَى تَقْوى الإلهِ وخَوفِهِ
لِتَنْجوَ مما يُتَّقَى منْ عِقابِهِ
ولا تَلْهَ عن تَذكَارِ ذَنبِكَ وابكِهِ
بدَمْعٍ يُضَاهي المُزْنَ حَالَ مَصَابِهِ
وَمَثِّلْ لعَيْنَيْكَ الحِمَامَ ووَقْعَهُ
ورَوْعَةَ مَلْقَاهُ ومَطْعَمَ صَابِهِ
وإنَّ قُصَارى مَنْزِلِ الحيِّ حُفرَةٌ
سَينْزِلُها مُسْتَنْزَلًا عن قِبابِهِ
فَواهًا لعَبْدٍ سَاءهُ سوءُ فعلِهِ
وأبْدى التَّلافي قَبلَ إغلاقِ بابِهِ


قال: فظل القوم بين عبرة يُذْرُونها، وتوبة يُظْهِرونها، حتى كادت الشمس تزول،
والفريضة تعول. فلما خشعت الأصوات، والتأم الإنصات، واستكنَّت العبرات والعبارات، استصرخ مستصرخٌ بالأمير الحاضر، وجعل يجأر إليه من عامله الجائر، والأمير صاغ إلى خصمه، لاهٍ عن كشف ظُلمه. فلما يئس من رَوْحه، اسْتَنْهض الواعظ لنُصْحه، فنهض نهضة الشِّمِّير، وأنشد مُعرِّضًا بالأمير:
عَجَبًا لِرَاجٍ أنْ يَنَالَ وِلَايَةً
حَتَّى إذَا مَا نَالَ بُغْيَتَهُ بَغَى
يُسْدِي وَيُلْحِمُ في المَظَالِمِ وَالِغًا
فِي وِرْدِهَا طَوْرًا وَطَوْرًا مُولِغَا
مَا إنْ يُبَالي حِينَ يَتَّبِع الهَوَى
فِيهَا أَأَصْلَحَ دينَه أم أَوْتَغَا
يَا وَيْحَهُ لَوْ كَانَ يُوقِنُ أنَّهُ
مَا حالةٌ إلَّا تَحُول لَمَا طَغَى
أوْ لَوْ تَبَيَّنَ مَا نَدَامَةُ مَنْ صَغَى
سَمْعًا إلَى إفْك الوُشَاةِ لَمَا صَغَا
فَانْقَدْ لِمَنْ أَضْحَى الزِّمَامُ بِكَفِّهِ
وَتَغَاضَ إنْ أَلْغَى الرِّعَايَة أَوْ لَغَا
وَارْعَ المُرارَ إذَا دَعَاكَ لرَعْيِهِ
ورِدِ الأُجاجَ إذَا حَمَاكَ السَّيِّغَا
وَاحْمِلْ أَذَاهُ إذا أَمَضَّكَ مَسُّهُ
وَأسالَ غَرْبَ الدَّمْعِ مِنْكَ وَأَفْرَغَا
فَلَيُضْحِكَنْكَ الدَّهْرُ مِنْهُ إذَا نَبَا
عَنْهُ وَشَبَّ لكَيْدِهِ نَارَ الوَغَى
وَلَيَنْزِلَنَّ بِهِ الشَّمَاتُ إذَا بَدَا
مُتَخَلِّيًا من شُغْلِهِ مُتَفَرِّغَا
وَلَتَأْوِيَنَّ لَهُ إذَا مَا خَدُّهُ
أَضْحَى عَلَى تُرْبِ الهَوَانِ مُمَرَّغَا
هَذَا لَهُ وَلَسَوْفَ يُوقَفُ مَوْقِفًا
فيه يُرَى رَبُّ الفَصَاحَة أَلْثَغَا
وَلَيُحْشَرَنَّ أَذَلَّ من فَقْعِ الفَلَا
وَيُحَاسَبَنَّ عَلَى النَّقِيصَةِ والشَّغَا
وَيُؤَاخَذَنَّ بمَا اجْتَنَى وَمَنِ اجْتَنَى
وَيُطَالَبَنَّ بمَا احْتَسَى وَبمَا ارْتَغَى
وَيُنَاقَشَنَّ عَلَى الدَّقَائِقِ مِثْلَ مَا
قَدْ كَانَ يَصْنَعُ بالوَرَى بَل أَبْلَغَا
حَتَّى يَعَضَّ عَلَى الوِلَايَةِ كَفَّهُ
وَيَوَدَّ لَوْ لَمْ يَبْغِ مِنْهَا مَا بَغَى


ثم قال: أيها المتوشِّح بالولاية، المترشِّح للرعاية، دع الإدلال بدولتك،
والاغترار بصَوْلتك؛ فإن الدولة ريح قُلَّب، والإمرة برقٌ خُلَّب، وإن أسعد الرُّعاة من سعدت به رعيته، وأشقاهم في الدارين من ساءت رعايته. فلا تك ممن يذر الآخرة ويُلْغيها، ويحب العاجلة ويبتغيها، ويظلم الرعية ويؤذيها، وإذا تولَّى سَعَى في الأرض ليفسد فيها. فوالله، ما يغفُل الدَّيَّان، ولا تُهْمَل يا إنسان، ولا تُلْغَى الإساءة ولا الإحسان، بل سيوضع لك الميزان، وكما تدين تدان. قال: فوجم الوالي لمَا سمع، وامْتُقِع لونُه وانْتُقِع، وجعل يتأفَّف من الإمرة، ويردف الزفرة بالزفرة، ثم عمَد إلى الشاكي فأشكاه، وإلى المشكو منه فأشجاه، وألطف الواعظ وحباه، واستدعى منه أن يغشاه، فانقلب عنه المظلوم منصورًا والظالم محسورًا، وبرز الواعظ يتهادى بين رُفْقته، ويتباهى بفوز صفقته. واعْتَقَبْته أخطو متقاصرًا، وأريه لمْحًا باصرًا، فلما استشفَّ ما أخفيه، وفطَن لتقلُّب طرفي فيه، قال: خير دلِيلَيْك من أرشد، ثم اقترب مني وأنشد:
أَنَا الذِي تَعْرِفُهُ يَا حَارِثُ
حِدْثُ مُلوكٍ فَكِهٌ مُنَافِثُ
أُطْرِبُ مَا لا تُطْرِبُ المَثالِثُ
طوْرًا أخو جِدٍّ وطوْرًا عَابِثُ
ما غيَّرَتْني بَعْدَكَ الحَوادِثُ
ولا التَحَى عُودي خَطْبٌ كَارِثُ
ولا فَرَى حَدِّيَ نَابٌ فَارِثُ
بَلْ مِخلَبي بكُلِّ صَيْدٍ ضَابِثُ
وكُلُّ سَرْحٍ فيهِ ذِئْبي عَائِثُ
حتَّى كَأَنِّي للأَنَامِ وارِثُ
سَامُهُمُ وحَامُهُمُ ويَافِثُ


قال الحارث بن همام: فقلت له: تالله، إنك لأبو زيد، ولقد قمت لله ولا عمرو بن عبيد.
فهشَّ هشاشة الكريم إذا أم، وقال: اسمع يا ابن أم. ثم أنشأ يقول:
عَلَيْكَ بالصدْقِ ولوْ أنَّهُ
أحرَقَكَ الصِّدقُ بنارِ الوَعيدْ
وابْغِ رِضَا اللهِ فأغْبَى الوَرَى
مَنْ أسْخَطَ الموْلَى وأَرْضَى العَبيدْ



ثم إنه ودَّع أخدانه، وانطلق يسحب أردانه. فطلبناه من بعد بالرَّي، واستَنْشَرنا خبره من مدارج الطي، فما فينا من عرف قراره، ولا درى أي الجراد عَارَه

https://k.top4top.io/p_2007qrxtc1.png
.

عطر الجنة 07-01-2021 07:42 AM

رد: أدبيات اللغة العربية
 


https://k.top4top.io/p_2007qrxtc1.png

(142 نُخْبة من وصية ابن سعيد المغربي لابنه وقد أراد السفر


أُودِعُكَ الرَّحْمَنَ في غُرْبَتِكْ
مُرْتَقِبًا رُحْمَاهُ في أَوْبَتِكْ
فَلَا تُطِلْ حَبْلَ النَّوَى إِنَّنِي
وَاللهِ أشْتَاقُ إلى طَلْعَتِكْ
واخْتَصِرِ التَّوْدِيعَ أَخْذًا فَمَا
لي نَاظِرٌ يَقْوَى عَلَى فُرْقتِكْ
واجْعَلْ وَصَاتي نُصْبَ عَيْنٍ وَلَا
تَبْرَح مَدَى الْأيَّامِ مِنْ فِكْرَتِكْ
خُلَاصَةُ العُمْرِ الَّتي حُنِّكَتْ
في ساعةٍ زُفَّتْ إلَى فِطْنَتِكْ
فَلِلتَّجَارِيبِ أمُورٌ إذَا
طَالَعْتَهَا تَشْحَذ مِنْ غَفْلَتِكْ
فلا تَنَمْ عن وَعْيها سَاعَةً
فإِنَّهَا عَوْنٌ إلى يَقْظَتِكْ
وكُلُّ مَا كَابَدْتَهُ في النَّوَى
إيَّاكَ أَنْ يَكْسِرَ مِنْ همَّتكْ
فَلَيْسَ يُدْرَى أصْلُ ذِي غُرْبَةٍ
وإنَّمَا تُعْرَفُ مِنْ شِيمَتِكْ
وامْشِ الهُوَيْنَا مُظْهِرًا عِفَّةً
وابْغِ رِضَا الأعْيُنِ عَنْ هَيْئَتِكْ
وانْطِق بحيث العِيُّ مُسْتَقْبَحٌ
واصْمُتْ بحيث الخَيْرُ في سَكْتَتِكْ
ولِجْ عَلَى رِزْقِك مِنْ بِابِه
واقْصِدْ لَهُ مَا عِشْتَ في بُكْرتِكْ
وَوَفِّ كُلًّا حَقَّهُ وَلْتَكُنْ
تكْسِر عِنْد الفَخْرِ مِنْ حِدَّتِكْ
وَحَيْثُمَا خَيَّمْتَ فاقْصِدْ إلى
صُحْبَةِ مَنْ تَرْجُوهُ في نُصْرَتِكْ
وللرَّزَايا وَثْبَةٌ مَا لَهَا
إلَّا الذي تَذْخَرُ مِنْ عُدَّتِكْ
وَلَا تَقُلْ أَسْلَمُ لي وَحْدَتِي
فَقَدْ تُقَاسِي الذُّلَّ في وَحْدَتِكْ
وَلْتَجْعَلِ العَقْلَ مِحَكًّا وخُذْ
كُلًّا بما يَظْهَر في نَقْدَتِكْ
وَاعْتَبِرِ النَّاسَ بِأَلْفَاظِهِمْ
واصْحَبْ أخًا يَرْغَبُ في صُحْبَتِكْ
كَمْ مِنْ صَدِيقٍ مُظْهِرٍ نُصْحَهُ
وفِكْرُهُ وَقْف عَلَى عَثْرَتِكْ
إيَّاكَ أنْ تَقْرَبَه إنَّهُ
عَوْنٌ مع الدَّهْرِ عَلَى كُرْبَتِكْ
وانْمُ نُمُوَّ النَّبْتِ قدْ زاره
غِبُّ النَّدى واسْمُ إلى قُدْرَتك
وَلَا تُضَيِّعْ زَمَنًا مُمْكِنًا
تَذْكَارُهُ يُذْكِي لَظَى حَسْرَتِكْ
والشَّرُّ مَهْمَا اسْطَعْتَ لَا تَأْتِهِ
فَإنَّهُ حُورٌ عَلَى مُهْجَتِكْ


يا بُنَيَّ، الذي لا ناصح له مثلي، ولا منصوح لي مثله، قد قدمت لك في هذا النظم ما إن أخْطَرته بخاطرك في كل أوانٍ، رجوتُ لك حُسْن العاقبة إن شاء الله — تعالى — وإنَّ أخَفَّ منه للحفظ، وأعْلَقَ بالفكر، وأَحَقَّ بالتقدم قول الأول:
يَزينُ الغَرِيب إذَا مَا اغْتَرَبْ
ثَلَاثٌ فَمِنْهُنَّ حُسْنُ الأدَبْ
وثَانِيةٌ حُسْنُ أخْلَاقِهِ
وَثَالثَةٌ إجْتِنَابُ الرِّيَبْ

واصْغِ يا بُنَيَّ إلى البيت الذي هو يتيمة الدهر، وسُلَّم الكرم والصبر:
وَلَوَ انَّ أَوْطَانَ الدِّيَارِ نَبَتْ بِكُمْ
لَسَكَنْتُمُ الأَخْلَاقَ وَالآدَابَا


إذْ حسن الخلق أكرم نزيل، والأدب أرحب منزل. ولتكن كما قال بعضهم في أديبٍ متغرِّب: وكان كلما طرأ على ملِكٍ، فكأنه معه وُلِد، وإليه قَصَد، غير مُسْتَريب بدهره، ولا مُنْكرٍ شيئًا من أمره. وإذا دعاك قلبك إلى صُحْبَةِ مَنْ أخذ بمجامع هواه، فاجعل التكلُّف له سُلَّما، وهُبَّ في روض أخلاقه هبوب النسيم، وحُلَّ بطرفه حلول الوَسَن، وانزل بقلبه نزول المسرة؛ حتى يتمكن لك ودادُه، ويخْلُص فيك اعتقاده، وطَهِّر من الوقوع فيه لسانَك، وأَغْلِقْ سمعك، ولا تُرَخِّص في جانبه لحسودٍ لك منه، يريد إبعادك عنه لمنفعةٍ، أو حسودٍ له يغار لتجمُّله بصُحبتك، ومع هذا فلا تَغْتَرَّ بطول صحبته، ولا تتمهَّد بدوام رَقدته، فقد ينبِّهُه الزمان، ويتغَيَّر منه القلب واللسان. وإنما العاقل من جعل عقله معيارًا، وكان كالمرآة يَلْقَى كلَّ وجهٍ بمثاله، وفي أمثال العامة: من سبقك بيوم فقد سبقك بعقل. فاحْتَذِ بأمثلة من جَرَّب، واستمع إلى ما خَلَّد الماضون بعد جَهْدهم وتَعَبهم من الأقوال، فإنها خلاصة عمرهم، وزُبْدَة تجاربهم، ولا تَتَّكل على عقلك، فإن النظر فيما تَعِب فيه الناس طول أعمارهم، وابتاعوه غاليًا بتجاربهم يُرْبِحُك، ويقع عليك رخيصًا، وإن رأيت من له عقل ومروءة وتجربة فاستَفِدْ منه، ولا تضيع قوله ولا فعله، فإن فيما تلقاه تلقيحًا لعقلك، وحثًّا لك واهتداء.

وليس كل ما تسمع من أقوال الشعراء يحسن بك أن تتَّبعه حتى تتدبَّره، فإن كان موافقًا لعقلك، مُصْلِحًا لحالك، فراعِ ذلك عندك، وإلَّا فانْبِذْه نَبْذَ النَّواة، فليس لكل أحد يُتَبَسَّم ولا كل شخص يُكَلَّم، ولا الجود مما يُعَمُّ به، ولا حسن الظن وطيب النفس مما يُعامَل به كل أحد، ولله دَرُّ القائل:
وَمَا ليَ لَا أُوفِي البَرِيَّةَ قِسْطَهَا
عَلَى قَدْرِ مَا يُعْطِي وَعَقْلِيَ مِيزَانُ؟

وإياك أن تُعطيَ من نفسك إلا بِقَدَرٍ، فلا تعامل الدُّون بمعاملة الكفء، ولا الكفء بمعاملة الأعلى، ولا تضيِّع عمرك فيمن يعاملك بالمطامع، ويُثيبك على مصلحةٍ حاضرة عاجلة بغائبةٍ آجلة.

ولا تَجْفُ النَّاسَ بالجملة، ولكن يكون ذلك بحيث لا يَلْحَق منه مَلَل ولا ضَجَر ولا جَفَاء، فمتى فارقت أحدًا فعلى حُسْنَى في القول والفعل، فإنك لا تدري هل أنت راجعٌ إليه، فلذلك قال الأوَّل: «ولما مضى سَلْمٌ بكيت على سَلْمِ»، وإياك والبيت السائر:
وَكُنْتَ إذَا حَلَلْتَ بِدَارِ قَوْمِ
رَحَلْتَ بِخِزْيَةٍ وتَرَكْتَ عَارَا

واحرص على ما جمع قول القائل: ثلاثةٌ تبقي لك الودَّ في صدر أخيك: أن تبدأه بالسلام، وتوسِّع له في المجلس، وتدعوه بأحب الأسماء إليه. واحذر كل ما بيَّنه لك القائل: كل ما تغرسه تجنيه إلا ابن آدم فإذا غرستَه يَقْلَعُك، وقول الآخر: ابن آدم ذئب مع الضعف وأسد مع القوة.

وإياك أن تثبت على صُحْبة أحد قبل أن تُطِيل اختباره. ويُحكى أن ابن المقفع خطب من الخليل صُحْبَتَه، فجاوبه: إن الصحبة رِقٌّ، ولا أضع رِقِّي في يديك حتى أَعْرِف كيف مَلَكَتُك. واسْتَمْلِ من عين مَنْ تعاشره، وتفقَّد في فَلَتَات الألسن وصفحات الأوجه، ولا يحملك الحياء على السكوت عما يضرك أن لا تبيِّنه، فإن الكلام سلاح السِّلْم، وبالأنين يُعرف ألم الجرح، واجعل لكل أمر أخذت فيه غايةً تجعلها نهاية لك.
وَخُذْ مِنَ الدَّهْرِ مَا أَتَاكَ بِه
مَنْ قرَّ عَيْنًا بِعَيْشِهِ نَفَعَه

إذ الأفكار تجلب الهموم، وتضاعف الغموم، وملازمة القُطوب عُنوان المصائب والخُطوب، يستريب به الصاحب، ويشمت العدو والمُجَانِب. ولا تضر بالوساوس إلا نفسك، لأنك تنصر بها الدهر عليك، ولله دَرُّ القائل:
إذَا مَا كُنْتَ للْأحْزَانِ عَوْنًا
عَلَيْكَ مَعَ الزَّمَانِ فَمَنْ تَلُوم؟

مع أنه لا يردُّ عليك الغائب الحُزْن، ولا يرْعوي بطول عَتْبك الزمن. ولقد شاهدت بغرناطة شخصًا قد أَلِفَتْه الهموم، وعشقته الغموم، من صغره إلى كبره لا تراه أبدًا خليًّا من فكرة، حتى لُقِّب ï؛‘ «صدر الهم»، ومن أعجب ما رأيته منه أنه يتنكَّد في الشدة، ولا يتعلَّل بأن يكون بعدها فرج، ويتنكَّد في الرخاء خوفًا من أن لا يدوم، وينشد:
توقَّع زوالًا إذا قيل تَمَّ

وينشد:
وعند التَّنَاهِي يَقْصُر المُتَطَاوِلُ

وله من الحكايات في هذا الشأن عجائب، ومثل هذا عمره مخسور يمرُّ ضياعًا.

ومتى رفعك الزمان إلى قوم يذُمُّون من العلم ما تُحْسِنُه حسدًا لك، وقصدًا لتصغير قدرك عندك، وتزهيدًا لك فيه، فلا يَحْمِلْك ذلك على أن تزهد في علمك، وتركن إلى العلم الذي مدحوه، فتكون مثل الغراب الذي أعجبه مشي الحَجَلَة فرام أن يتعلمه فصَعُب عليه، ثم أراد أن يرجع إلى مشيه فَنَسِيَه، فبقي مُخَبَّل المشي،
كما قيل:
إنَّ الغُرَابَ وَكَانَ يَمْشِي مِشْيَةً
فِيمَا مَضَى مِنْ سَالِفِ الأجْيَالِ
حَسَدَ القَطَا وَأَرَادَ يَمْشِي مَشْيَهَا
فَأَصَابَهُ ضَرْبٌ مِنَ العُقَّالِ
فَأَضَلَّ مِشْيَتَهُ وَأَخْطَأَ مَشْيَهَا
فَلِذَاكَ كَنَّوْهُ أبَا مِرْقالِ


ولا يُفْسِد خاطرك من جعل يذُمُّ الزمان وأهله ويقول: ما بقي في الدنيا كريم ولا فاضل،
ولا مكان يُرْتَاحُ فيه. فإن الذين تراهم على هذه الصفة أكثر ما يكونون ممن صَحِبه الحِرْمَان،
واستحقَّت طلعته للهوان، وأبْرَمُوا على الناس بالسؤال فمقتوهم، وعجزوا عن طلب الأمور من وجوهها، فاستراحوا إلى الوقوع في الناس وأقاموا الأعذار لأنفسهم بقطع أسبابهم. ولا تُزِل هذين البيتين من فكرك:

لِنْ إذَا مَا نِلْتَ عِزًّا
فَأَخُو العِزِّ يَلِينُ
فَإِذَا نَابَكَ دَهْرٌ
فَكَمَا كُنْتَ تَكُونُ


والأمثال تُضرب لذي اللُّبِّ الحكيم، وذو البصر يمشي على الصراط المستقيم، والفَطِن يقنع بالقليل،
ويستدلُّ باليسير. والله — سبحانه — خليفتي عليك، لا ربَّ سواه.

https://k.top4top.io/p_2007qrxtc1.png


عطر الجنة 07-01-2021 07:46 AM

رد: أدبيات اللغة العربية
 


https://k.top4top.io/p_2007qrxtc1.png

(143) الجامع الأزهر



هذا الجامع أول مسجد أُسس بالقاهرة، والذي أنشأه القائد جوهر الكاتب الصِّقِلِي مولى الإمام أبي تميم مَعَدٍّ، الخليفة أمير المؤمنين المعز لدين الله، لمَّا اختطَّ القاهرة.

وشُرِعَ في بناء هذا الجامع في يوم السبت لستٍّ بقين من جُمَادى الأولى سنة تسع وخمسين وثلاثمئة، وكمل بناؤه لتسع خلون من شهر رمضان سنة إحدى وستين وثلاثمئة، وجُمِّع فيه، وكتب بدائر القبة التي في الرواق الأول، وهي على يمنة المحراب والمنبر ما نصه بعد البسملة: مما أمر ببنائه عبد الله ووليه أبو تميم معد الإمام المعز لدين الله أمير المؤمنين، صلوات الله عليه وعلى آبائه وأبنائه الأكرمين، على يد عبده جوهر الكاتب الصقلي، وذلك في سنة ستين وثلاثمئة. وأول جمعة جُمِّعت فيه في شهر رمضان لسبع خلون منه سنة إحدى وستين وثلاثمئة، ثم إن العزيز بالله أبا منصور نزار بن المعز لدين الله جدَّد فيه أشياء.


وفي سنة ثمان وسبعين وثلاثمئة سأل الوزير أبو الفرج يعقوب بن يوسف بن كِلْس الخليفة العزيز بالله في صلة رزق جماعة من الفقهاء، فأطلق لهم ما يكفي كل واحد منهم من رزق النَّاضِّ، وأمر لهم بشراء دار وبنائها، فبُنيت بجانب الجامع الأزهر، فإذا كان يوم الجمعة حضروا إلى الجامع وتحلَّقوا فيه بعد الصلاة إلى أن تُصلَّى العصر. وكان لهم أيضًا من مال الوزير صلة في كل سنة، وكانت عدتهم خمسة وثلاثين رجلًا، وخلع عليهم العزيز يوم عيد الفطر وحمَلهم على بغلات. ويقال: إن بهذا الجامع طِلَّسْمًا فلا يسكنه عُصْفُور ولا يفْرِخ به،
وكذا سائر الطيور من الحمام واليمام وغيره، وهو صورة ثلاثة طيور منقوشة، كل صورة على رأس عمود، فمنها صورتان في مقدم الجامع بالرواق الخامس، منها صورة في الجهة الغربية في العمود وصورة في أحد العمودين اللذين على يسار من استقبل سُدَّة المؤذِّنِين، والصورة الأخرى في الصحن في الأعمدة القبلية مما يلي الشرقية. ثم إن الحاكم بأمر الله جدده ووقف على الجامع الأزهر وجامع المقس والجامع الحاكمي ودار العلم بالقاهرة رِباعًا بمصر.

ثم إن المستنصر جدد هذا الجامع أيضًا، وجدده الحافظ لدين الله، وأنشأ فيه مقصورة لطيفة تجاور الباب الغربي الذي في مقدم الجامع بداخل الرواقات عُرفت ï؛‘ «مقصورة فاطمة»، من أجل أن فاطمة الزهراء — رضي الله تعالى عنها — رُئيت بها في المنام. ثم إنه جُدِّد في أيام الملك الظاهر بيبرس البندقداري، قال القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر في كتاب «سيرة الملك الظاهر»:

لما كان يوم الجمعة الثامن عشر من ربيع الأول سنة خمس وستين وستمئة، أقيمت الجمعة بالجامع الأزهر بالقاهرة، وسبب ذلك أن الأمير عز الدين أيدمر الحلي كان جار هذا الجامع من مدة سنين، فرعى — وفقه الله — حرمة الجار، ورأى أن يكون كما هو جاره في دار الدنيا أنه غدًا يكون ثوابُه جارَه في تلك الدار، ورسم بالنظر في أمره وانتزع له أشياء مغصوبة كان شيء منها في أيدي جماعة، وحاط أموره حتى جمع له شيئًا صالحًا، وجرى الحديث في ذلك، فتبرع الأمير عز الدين له بجملة مستكثرة من المال الجزيل، وأطلق له من السلطان جملة من المال، وشرع في عمارته، فعَمَّر الواهي من أركانه وجدرانه، وبيَّضه وأصلح سقوفه، وبلَّطه وفرشه وكساه، حتى عاد حرمًا في وسط المدينة، واستجدَّ به مقصورة حسنة، وأثر فيه آثارًا صالحة يثيبه الله عليها. وعمل الأمير بيلبك الخازندار فيه مقصورة كبيرة رتب فيها جماعة من الفقهاء لقراءة الفقه على مذهب الإمام الشافعي — رحمه الله — ورتب في هذه المقصورة محدثًا يُسمع الحديث النبوي والرقائق، ووقف على ذلك الأوقاف الدارَّة، ورتَّب به سبعة لقراءة القرآن الكريم، ورتَّب به مدرسًا، أثابه الله على ذلك! ولما تكمَّل تجديده تحدث في إقامة جمعة فيه، فنودي في المدينة بذلك، واستخدم له الفقيه زين الدين خطيبًا، وأقيمت الجمعة فيه في اليوم المذكور، وحضر الأتابك فارس الدين والصاحب بهاء الدين علي بن حنا وولده الصاحب فخر الدين محمد وجماعة من الأمراء والكبراء وأصناف العالم على اختلافهم، وكان يوم جمعة مشهودًا.

ولمَّا فُرِغ من الجمعة جلس الأمير عز الدين الحلي والأتابك والصاحب وقرئ القرآن ودُعِي للسلطان، وقام الأمير عز الدين ودخل إلى داره ودخل معه الأمراء، فقدم لهم كل ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، وانفصلوا. وكان قد جرى الحديث في أمر جواز الجمعة في الجامع وما ورد فيه من أقاويل العلماء، وكُتب فيها فُتْيا أُخذ فيها خطوط العلماء بجواز الجمعة في هذا الجامع وإقامتها، فكتب جماعة خطوطهم فيها، وأقيمت صلاة الجمعة به واستمرت، ووجد الناس به رفقًا وراحة لقربه من الحارات البعيدة من الجامع الحاكمي. قال: وكان سقف هذا الجامع قد بُني قصيرًا، فزيد فيه بعد ذلك وعلا ذراعًا، واستمرت الخطبة فيه حتى بُني الجامع الحاكمي، فانتقلت الخطبة إليه، فإن الخليفة كان يخطب فيه خطبة وفي الجامع الأزهر خطبة، وفي جامع ابن طولون وفي جامع مصر خطبة.

وانقطعت الخطبة من الجامع الأزهر لما استبدَّ السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب بالسلطنة، فإنه قلد وظيفة القضاء لقاضي القضاة صدر الدين عبد الملك بن درباس، فعمل بمقتضى مذهبه وهو امتناع إقامة الخطبتين للجمعة في بلد واحد كما هو مذهب الإمام الشافعي، فأبطل الخطبة من الجامع الأزهر وأقر الخطبة بالجامع الحاكمي من أجل أنه أوسع، فلم يزل الجامع الأزهر معطَّلًا من إقامة الجمعة فيه مئة عام، من حين استولى السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب إلى أن أُعيدت الخطبة في أيام الملك الظاهر بيبرس كما تقدم ذكره. ثم لما كانت الزلزلة بديار مصر في ذي الحجة سنة اثنتين وسبعمئة سقط الجامع الأزهر والجامع الحاكمي وجامع مصر وغيره، فتقاسم أمراء الدولة عمارة الجوامع، فتولى الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير عمارة الجامع الحاكمي، وتولى الأمير سلَّار عمارة الجامع الأزهر، وتولى الأمير سيف الدين بكتمر الجوكندار عمارة جامع الصالح، فجددوا مبانيها وأعادوا ما تهدم منها.

ثم جُدِّدت عمارة الجامع الأزهر على يد القاضي نجم الدين محمد بن حسين بن علي الإسْعَرْديِّ محتسب القاهرة في سنة خمس وعشرين وسبعمئة، ثم جددت عمارته في سنة إحدى وستين وسبعمئة عندما سكن الأمير الطواشي سعد الدين بشير الجامدار الناصري في دار الأمير فخر الدين أبان الزاهدي الصالحي النجمي بخُطِّ الأبارين بجوار الجامع الأزهر بعدما هدمها وعمرها، وهي التي تعرف هناك إلى اليوم بدار بشير الجامدار، فأحب — لقربه من الجامع — أن يؤثِّر فيه أثرًا صالحًا، فأستأذن السلطان الملك الناصر حسن بن محمد بن قلاوون في عمارة الجامع، وكان أثيرًا عنده مُخَصًّا به فأذن له في ذلك، وكان قد استُجدَّ بالجامع عدة مقاصير، ووُضِعت فيه صناديق وخزائن حتى ضيَّقته، فأخرج الخزائن والصناديق، ونزع تلك المقاصير، وتتبَّع جدرانه وسقوفه بالإصلاح حتى عادت كأنها جديدة، وبيَّض الجامع كله وبلَّطه ومنع الناس من المرور فيه، ورتَّب فيه مصحفًا، وجعل له قارئًا، وأنشأ على باب الجامع القبلي حانوتًا لتسبيل الماء العذب في كل يوم، وعمل فوقه مكتب سبيل لإقراء أيتام المسلمين كتاب الله العزيز، ورتب للفقراء المجاورين طعامًا يُطبخ كل يوم، وأنزل إليه قدورًا من نحاس جعلها فيه، ورتب فيه درسًا للفقهاء من الحنفية يجلس مُدرِّسهم لإلقاء الفقه في المحراب الكبير، ووقف على ذلك أوقافًا جليلة باقية إلى يومنا هذا، ومؤذنو الجامع يدعون في كل جمعة وبعد كل صلاة للسلطان حسن إلى هذا الوقت. وفي سنة أربع وثمانين وسبعمئة وُلِّي الأمير الطواشي بَهادر المقدم على المماليك السلطانية نظر الجامع الأزهر، فتنجَّز مرسوم السلطان الملك الظاهر برقوق بأن من مات من مجاوري الجامع الأزهر عن غير وارث شرعي وترك موجودًا، فإنه يأخذه المجاورون بالجامع، ونقش ذلك على حجر عند الباب الكبير البحري. وفي سنة ثمانمئة هدمت منارة الجامع وكانت قصيرة، وعمِّرت أطول منها، فبلغت النفقة عليها من مال السلطان خمسة عشر ألف درهم نَقْرة، كملت في ربيع الآخر من السنة المذكورة، فعُلِّقت القناديل فيها ليلة الجمعة من هذا الشهر، وأُوقدت حتى اشتعل الضوء من أعلاها إلى أسفلها، واجتمع القراء والوعاظ بالجامع وتلَوْا ختمة شريفة ودعوْا للسلطان، فلم تزل هذه المئذنة إلى شوال سنة سبع عشرة وثمانمئة، فهُدمت لميلٍ ظهر فيها، وعُمل بدلها منارة من حجر على باب الجامع البحري بعدما هُدم الباب وأعيد بناؤه بالحجر، وركِّبت المنارة فوق عقده، وأُخذ الحجر لها من مدرسة الملك الأشرف خليل التي كانت تجاه قلعة الجبل وهدمها الملك الناصر فرج بن برقوق، وقام بعمارة ذلك الأمير تاج الدين الشَّوْبَكِيُّ والي القاهرة ومحتسبها، إلى أن تمت في جمادى الآخرة سنة ثمان عشرة وثمانمئة، فلم تقم غير قليل ومالت حتى كادت تسقط، فهدِّمت في صفر سنة سبع وعشرين وأُعيدت، وفي شوال منها ابتدئ بعمل الصهريج الذي في وسط الجامع، فوُجد هناك آثار فسقية ماء ووُجد أيضًا رِمَمُ أموات، وتم بناؤه في ربيع الأول، وعُمل بأعلاه مكان مرتفع له قبة يُسبَّل فيه الماء، وغُرس بصحن الجامع أربع شجرات فلم تفلح وماتت. ولم يكن لهذا الجامع ميضأة عندما بُني، ثم عملت ميضأته حيث المدرسة الأقبغاوية إلى أن بنى الأمير أقبغا عبد الواحد مدرسته المعروفة بالمدرسة الأقبغاوية هناك.

وأما هذه الميضأة التي بالجامع الآن، فإن الأمير بدر الدين جنكل بن البابا بناها ثم زِيد فيها بعد سنة عشر وثمانمئة ميضأة المدرسة الأقبغاوية. وفي سنة ثمان عشرة وثمانمئة ولي نظر هذا الجامع الأمير سودوب القاضي حاجب الحجاب،
فجرت في أيام نظره حوادث لم يتفق مثلها، وذلك أنه لم يزل في هذا الجامع منذ بُني عدة من الفقراء
يلازمون الإقامة فيه، وبلغت عدتهم في هذه الأيام سبعمئة وخمسين رجلًا ما بين عجم وزيالعة ومن
أهل ريف مصر ومغاربة، ولكل طائفة رواق يُعرف بهم، فلا يزال الجامع عامرًا بتلاوة القرآن ودراسته وتلقينه والاشتغال بأنواع العلوم الفقه والحديث والتفسير والنحو ومجالس الوعظ وحِلَق الذكر، فيجد الإنسان إذا دخل هذا الجامع من الأنس بالله والارتياح وترويح النفس ما لا يجده في غيره، وصار أرباب الأموال يقصدون هذا الجامع بأنواع البر من الذهب والفضة والفلوس، إعانةً للمجاورين فيه على عبادة الله — تعالى — وكلَّ قليل تُحمل إليهم أنواع الأطعمة والخبز والحلاوات لا سيما في المواسم؛ فأمر في جمادى الأولى من هذه السنة بإخراج المجاورين من الجامع ومنعهم من الإقامة فيه، وإخراج ما كان لهم فيه من صناديق وخزائن وكراسي المصاحف، زعمًا منه أن هذا العمل مما يُثاب عليه، وما كان إلا من أعظم الذنوب وأكثرها ضررًا، فإنه حل بالفقراء بلاء كبير من تشتت شملهم وتعذر الأماكن عليهم، فساروا في القرى، وتبذَّلوا بعد الصيانة، وفُقد من الجامع أكثر ما كان فيه من تلاوة القرآن ودراسة العلم وذكر الله، ثم لم يرضه ذلك حتى زاد في التعدي وأشاع أن أناسًا يبيتون بالجامع ويفعلون فيه منكرات، وكانت العادة قد جرت بمبيت كثير من الناس في الجامع ما بين تاجر وفقيه وجندي وغيرهم، منهم من يقصد بمبيته البركة ومنهم من لا يجد مكانًا يؤويه، ومنهم من يَسْتَرْوح بمبيته هناك خصوصًا في ليالي الصيف وليالي شهر رمضان، فإنه يمتلئ صحنه وأكثر رواقاته.

فلما كانت ليلة الأحد الحادي عشر من جمادى الآخرة طرق الأمير سودوب الجامع بعد العشاء الآخرة والوقت صيف، وقبض على جماعة وضربهم في الجامع، وكان قد جاء معه من الأعوان والغلمان وغوغاء العامة ومن يريد النهب جماعة، فحلَّ بمن كان في الجامع أنواع البلاء ووقع فيهم النهب فأُخِذت فرشهم وعمائمهم وفُتِّشت أوساطهم وسُلبوا ما كان مربوطًا عليها من ذهب وفضة، وعَمل ثوبًا أسود للمنبر وعلَمين مزوَّقين بلغت النفقة على ذلك خمسة عشر ألف درهم على ما بلغني، فعاجل الله الأمير سودوب وقبض عليه السلطان في شهر رمضان وسجنه بدمشق.

https://k.top4top.io/p_2007qrxtc1.png


عطر الجنة 07-01-2021 07:52 AM

رد: أدبيات اللغة العربية
 


https://k.top4top.io/p_2007qrxtc1.png



(١٤٤) ذكر جامع دِمَشق المعروف بجامع بني أمَيَّة


وهو أعظم مساجد الدنيا احتفالًا وأتقنها صناعة وأبدعها حسنًا وبهجة وكمالًا، ولا يُعْلم له نظير، ولا يوجد له شبيه، وكان الذي تولى بناءه وإتقانه أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك بن مروان، ووجَّه إلى ملك الروم بقسطنطينية يأمره أن يبعث له الصُّنَّاع فبعث إليه اثني عشر ألف صانع، وكان موضع المسجد كنيسة فلما افتتح المسلمون دمشق دخل خالد بن الوليد — رضي الله عنه — من إحدى جهاتها بالسيف فانتهى إلى نصف الكنيسة، ودخل أبو عبيدة بن الجراح — رضي الله عنه — من الجهة الغربية صلحًا فانتهى إلى نصف الكنيسة، فصنع المسلمون من نصف الكنيسة الذي دخلوه عنوة مسجدًا، وبقي النصف الذي صالحوا عليه كنيسة، فلما عزم الوليد على زيادة الكنيسة في المسجد طلب من الروم أن يبيعوا له كنيستهم تلك بما شاءوا من عوض فأبوا عليه فانتزعها من أيديهم، وكانوا يزعمون أن الذي يهدمها يُجَنُّ فذكروا ذلك للوليد فقال: أنا أول من يُجنُّ في سبيل الله، وأخذ الفأس وجعل يهدم بنفسه، فلما رأى المسلمون ذلك تتابعوا على الهدم وأكذب الله زعم الروم، وزيِّن هذا المسجد بفصوص الذهب المعروفة بالفُسَيْفساء تخالطها أنواع الأصبغة الغريبة الحسن.

وذَرْع المسجد في الطول من الشرق إلى الغرب مئتا خطوة وهي ثلاثمئة ذراع، وعرضه من القبلة إلى الجوف مئة وخمس وثلاثون خطوة وهي مئتا ذراع، وعدد شمسات الزجاج الملونة التي فيه أربع وسبعون، وبلاطاته ثلاثة مستطيلة من شرق إلى غرب، سعة كل بلاط منها ثمان عشرة خطوة. وقد قامت على أربع وخمسين سارية، وثماني أرجل جَصِّيَّة تتخللها، وست أرجل مُرَخَّمة مُرَصَّعة بالرخام الملون قد صُوِّر فيها أشكال محاريب وسواها، وهي تُقِلُّ قُبَّة الرصاص التي أمام المحراب المسماة بقبة النَّسْر، كأنهم شبهوا المسجد بنسرٍ طائرٍ والقبة رأسه، وهي من أعجب مباني الدنيا، ومن أي جهة استقبلت المدينة بدت لك قبة النسر ذاهبة في الهواء منيفة على جميع مباني البلد، وتستدير بالصحن بلاطات ثلاثة من جهاته الشرقية والغربية والجوفية، سعة كل بلاط منها عشر خطاوٍ، بها من السواري ثلاث وثلاثون، ومن الأرجل أربع عشرة، وسعة الصحن مئة ذراع، وهو من أجمل المناظر وأتمها حسنًا، وبها يجتمع أهل المدينة بالعشايا، فمن قارئ ومحدِّث وذاهب، ويكون انصرافهم بعد العشاء الأخيرة، وإذا لقي أحد كبرائهم من الفقهاء وسواهم صاحبًا له أسرع كل منهما نحو صاحبه وحط رأسه.

وفي هذا الصحن ثلاث من القباب، إحداها في غربيه، وهي أكبرها، وتسمى قبة عائشة أم المؤمنين، وهي قائمة على ثمان سَوارٍ من الرخام مزخرفة بالفصوص والأصبغة الملونة مسقَّفة بالرصاص، يقال: إن مال الجامع كان يُخزَّن بها، وذُكر لي أن فوائد مستغلَّات الجامع ومجابيه نحو خمسة وعشرين ألف دينار ذهبًا في كل سنة. والقبة الثانية من شرق الصحن على هيئة الأخرى إلا أنها أصغر منها، قائمة على ثمانٍ من سواري الرخام، وتسمى قبة زين العابدين. والقبة الثالثة في وسط الصحن وهي صغيرة مثمَّنة من رخام عجيب محكم الإلصاق، قائمة على أربع سوارٍ من الرخام الناصع، وتحتها شُبَّاك حديد في وسطه أنبوب نحاس يمُجُّ الماء إلى علو فيرتفع ثم ينثني كأنه قضيب لُجَين، وهم يسمونه قفص الماء، ويستحسن الناس وضع أفواههم فيه للشرب.

وفي الجانب الشرقي من الصحن باب يفضي إلى المسجد بديع الوضع، يسمى مشهد علي بن أبي طالب — رضي الله عنه — ويقابله من الجهة الغربية حيث يلتقي البلاطان الغربي والجوفي موضع يقال إن عائشة، رضي الله عنها، سمعت الحديث هناك. وفي قبلة المسجد المقصورة العظمى التي يؤم فيها إمام الشافعية، وفي الركن الشرقي منها إزاء المحراب خزانة كبيرة فيها المصحف الكريم الذي وجهه أمير المؤمنين عثمان بن عفان — رضي الله عنه — إلى الشام، وتفتح تلك الخزانة كل يوم جمعة بعد الصلاة فيزدحم الناس على لثم ذلك المصحف الكريم، وهنالك يُحَلِّف الناس غُرَماءهم ومن ادَّعوا عليه شيئًا. وعن يسار المقصورة محراب الصحابة، ويذكر أهل التاريخ أنه أول محراب وُضع في الإسلام، وفيه يؤم إمام المالكية، وعن يمين المقصورة محراب الحنفية، وفيه يؤم إمامهم، ويليه محراب الحنابلة، وفيه يؤم إمامهم.


ولهذا المسجد ثلاث صوامع؛ إحداها بشرقيِّه، وهي من بناء الروم، وبابها داخل المسجد، وبأسفلها مطهرة وبيوت للوضوء يغتسل فيها المعتكفون والملتزمون للمسجد ويتوضئون. والصومعة الثانية بغربيِّه، وهي أيضًا من بناء الروم، والصومعة الثالثة بشماله، وهي من بناء المسلمين، وعدد المؤذنين به سبعون مؤذنًا، وفي شرق المسجد مقصورة كبيرة فيها صِهريج ماء، وهي لطائفة الزيالعة السودان. وفي وسط المسجد قبر زكريا — عليه السلام — وعليه تابوت معترض بين أسطوانتين مكسُوٌّ بثوب حرير أسود مُعْلَم فيه مكتوب بالأبيض: يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى. وهذا المسجد شهير الفضل، وقرأت في فضائل دمشق عن سفيان الثوري أن الصلاة في مسجد دمشق بثلاثين ألف صلاة، وفي الأثر عن النبي ﷺ أنه قال: يُعْبَد الله فيه بعد خراب الدنيا أربعين سنة. ويقال: إن الجدار القبلي منه وضعه نبي الله هود — عليه السلام — وإن قبره به، وقد رأيت على مقربة من مدينة ظَفارِ اليمن بموضع يقال له الأحقاف بَنِيَّة فيها قبر مكتوب عليه: هذا قبر هود بن عامر ﷺ.

ومن فضائل هذا المسجد أنه لا يخلو عن قراءة القرآن والصلاة إلا قليلًا من الزمان، والناس يجتمعون به إثر صلاة الصبح فيقرءون سُبعًا من القرآن ويجتمعون بعد صلاة العصر لقراءة تسمى الكوثرية، يقرءون فيها من سورة الكوثر إلى آخر القرآن، وللمجتمعين على هذه القراءة مرتبات تجري لهم، وهم نحو ستمئة إنسان، ويدور عليهم كاتب الغيبة، فمن غاب منهم قطع له عند دفع المرتب بقدر غيبته. وفي هذا المسجد جماعة كبيرة من المجاورين لا يخرجون منه، مقبلون على الصلاة والقراءة والذكر لا يفترون عن ذلك، ويتوضئون من المَطَاهر التي بداخل الصومعة الشرقية التي ذكرناها، وأهل البلد يعينونهم بالمطاعم والملابس من غير أن يسألوهم شيئًا من ذلك. وفي هذا المسجد أربعة أبواب: باب قبلي يُعرف بباب الزيادة، وبأعلاه قطعة من الرمح الذي كانت فيه راية خالد بن الوليد — رضي الله عنه — ولهذا الباب دهليز كبير متسع، فيه حوانيت السقاطين وغيرهم، ومنه يُذهب إلى دار الخيل، وعن يسار الخارج منه سماط الصقارين، وهي سوق عظيمة ممتدة مع جدار المسجد القبلي، من أحسن أسواق دمشق، وبموضع هذه السوق كانت دار معاوية بن أبي سفيان — رضي الله عنه — ودور قومه،
وكانت تسمى الخضراء،

فهدمها بنو العباس، رضي الله عنهم، وصار مكانها سوقًا. وباب شرقي، وهو أعظم أبواب المسجد، ويسمى بباب جَيْرون، وله دهليز عظيم يُخْرَج منه إلى بلاط عظيم طويل أمامه خمسة أبواب لها ستة أعمدة طوال، وفي جهة اليسار منه مشهد عظيم كان فيه رأس الحسين — رضي الله عنه — وبإزائه مسجد صغير يُنسب إلى عمر بن عبد العزيز، رضي الله عنه، وبه ماء جارٍ، وقد انتظمت أمام البلاط دَرَج يُنْحدر فيها إلى الدهليز وهو كالخندق العظيم يتصل بباب عظيم الارتفاع تحته أعمدة كالجذوع طوال، وبجانبي هذا الدهليز أعمدة قد قامت عليها شوارع مستديرة فيها دكاكين البزَّازين وغيرهم، وعليها شوارع مستطيلة فيها حوانيت الجوهريين والكُتْبيين وصنَّاع أواني الزجاج العجيبة. وفي الرحبة المتصلة بالباب الأول دكاكين لكبار الشهود، منها دكانان للشافعية وسائرها لأصحاب المذاهب، يكون في الدكان منها الخمسة والستة من العدول والعاقد للأنكحة من قبل القاضي، وسائر الشهود مفترقون في المدينة، وبمقربة من هذه الدكاكين سوق الوراقين الذين يبيعون الكاغِد والأقلام والمداد. وفي وسط الدهليز المذكور حوض من الرخام كبير مستدير عليه قبة لا سقف لها، تُقِلُّها أعمدة رخام، وفي وسط الحوض أنبوب نحاس يُزْعج الماء بقوة فيرتفع في الهواء أزيد من قامة الإنسان، يسمونه الفَوَّارة، منظره عجيب. وعن يمين الخارج من باب جَيْرون، وهو باب الساعات، غرفة لها هيئة طاق كبير، فيه طيقان صغار مُفَتَّحة لها أبواب على عدد ساعات النهار، والأبواب مصبوغ باطنها بالخضرة وظاهرها بالصفرة، فإذا ذهبت ساعة من النهار انقلب الباطن الأخضر ظاهرًا والظاهر الأصفر باطنًا، ويقال: إن بداخل الغرفة من يتولى قلبها بيده عند مضي الساعات. والباب الغربي يُعرف بباب البريد، وعن يمين الخارج منه مدرسة للشافعية، وله دهليز فيه حوانيت للشماعين وسماط لبيع الفواكه، وبأعلاه باب يُصعد إليه في دَرَج له أعمدة سامية في الهواء، وتحت الدرج سِقَايتان عن يمين وشمال مستديرتان، والباب الجوفي يُعرف بباب النطفانيين، وله دهليز عظيم، وعن يمين الخارج منه خانقاه تُعرف بالشميعانية، في وسطها صهريج ماء، ولها مطاهر يجري فيها الماء، ويقال إنها كانت دار عمر بن عبد العزيز —
رضي الله عنه — وعلى كل باب من أبواب المسجد الأربعة دار وضوء، يكون فيها
نحو مئة بيت تجري فيها المياه الكثيرة (لابن بطوطة).


https://k.top4top.io/p_2007qrxtc1.png

عطر الجنة 07-01-2021 07:53 AM

رد: أدبيات اللغة العربية
 


https://k.top4top.io/p_2007qrxtc1.png

(١٤٥) لأبي البقاء صالح بن شريف الرَّنْدي يرثي الأندلس

لِكُلِّ شَيءٍ إِذا ما تَم نُقْصَانُ
فَلا يُغَرَّ بِطيبِ العَيشِ إِنسانُ
هِيَ الأُمُورُ كَمَا شَاهَدَتْها دُوَلٌ
مَنْ سَرَّهُ زَمَنٌ سَاءَتْهُ أَزمانُ
وَهَذِهِ الدَّارُ لا تُبْقِي عَلى أَحَدٍ
وَلا يَدُومُ عَلى حَالٍ لَها شَانُ
يُمَزِّقُ الدَّهرُ حَتمًا كُلَّ سابِغَةٍ
إِذ نَبَتْ مَشرَفِيَّات وَخُرْصانُ
وَيَنْتَضِي كُلَّ سَيفٍ للفَناء وَلَو
كانَ ابنَ ذِي يَزَنٍ وَالغِمْدَ غُمْدانُ
أَينَ المُلوكُ ذَوُو التِّيجانِ مِن يَمَنٍ
وَأَينَ مِنهُم أَكالِيلٌ وَتيجَانُ؟
وَأَينَ ما شادَهُ شَدَّادُ في إِرَمٍ
وَأينَ ما ساسَه في الفُرسِ ساسانُ
وَأَينَ ما حازَهُ قارُونُ من ذَهَبٍ
وَأَينَ عادٌ وَشدَّادٌ وَقَحْطانُ
أَتى عَلى الكُلِّ أَمرٌ لا مَرَدَّ لَهُ
حَتى قَضَوْا فَكَأنَّ القَوم ما كانُوا
وَصارَ ما كانَ مِن مُلْكٍ وَمِن مَلِكٍ
كَما حَكى عَن خَيالِ الطَّيفِ وَسْنانُ
دارَ الزَّمانُ عَلى دَارَا وَقاتِلِهِ
وَأَمَّ كِسْرى فَما آواهُ إِيوانُ
كَأَنَّما الصَّعْبُ لَم يَسْهُل لَهُ سببٌ
يَومًا وَلا مَلَكَ الدُّنيا سُلَيمانُ
فَجائِعُ الدَّهْرِ أَنواعٌ مُنَوَّعَةٌ
وَلِلزَّمانِ مَسرَّاتٌ وَأَحْزانُ
ولِلْحَوادِثِ سُلْوانٌ يُسَهِّلُها
وَما لِما حَلَّ بِالإِسلامِ سُلْوانُ
دَهَى الجَزيرَة أَمرٌ لا عَزاءَ لَهُ
هَوَى لَهُ أُحُدٌ وَانهَدَّ ثَهْلانُ
أَصابَها العينُ في الإِسلامِ فارْتزَأتْ
حَتى خَلَتْ مِنْهُ أَقْطارٌ وَبُلْدانُ
فاسْأل بَلَنْسِيةً ما شَأْنُ مُرْسِيَةٍ
وَأَينَ شَاطِبةٌ أَمْ أَينَ جيَّانُ؟
وَأَين قُرْطُبةٌ دَارُ العُلُومِ فَكَم
مِن عَالِمٍ قَدْ سَمَا فِيها لَهُ شانُ؟!
وَأَينَ حِمْصٌ وَما تَحويهِ مِن نُزَهٍ
وَنَهرُها العَذبُ فَيَّاضٌ وَمَلآنُ؟
قَوَاعدٌ كُنَّ أَركانَ البِلادِ فَما
عَسى البَقاءُ إِذا لَم تَبْقَ أَركانُ
تَبكِي الحَنيفِيَّةُ البَيضَاءُ مِن أَسَفٍ
كَما بَكى لِفِراقِ الإِلْفِ هَيْمَانُ
عَلى دِيارٍ منَ الإِسلامِ خالِيَةٍ
قَدْ أَقْفَرَت وَلَها بالكُفْرِ عُمْرانُ
حَيثُ المَساجِدُ قَد صارَت كَنائِس ما
فيهِنَّ إِلا نَواقِيسٌ وصُلْبانُ
حَتى المَحاريبُ تَبكي وَهيَ جامِدَةٌ
حَتَّى المَنابِرُ تَرثي وَهْيَ عيدَانُ
يا غافِلًا وَلَهُ في الدهرِ مَوعِظَةٌ
إِنْ كُنتَ في سِنَةٍ فالدهرُ يَقظانُ
وَماشِيًا مَرِحًا يُلْهِيهِ مَوطِنُهُ
أَبَعْدَ حِمصٍ تَغُرُّ المَرءَ أَوطانُ؟
تِلكَ المُصِيبَةُ أَنسَتْ ما تَقَدَّمَها
وَما لَها مَعْ طُولِ الدَّهرِ نِسيانُ
يا راكِبينَ عِتاقَ الخَيلِ ضامِرَةً
كَأَنَّها في مَجالِ السَّبْقِ عِقْبانُ
وَحامِلينَ سُيُوفَ الهِندِ مُرْهَفَةً
كَأَنَّها في ظَلامِ النَّقْعِ نيرَانُ
وَراتِعينَ وَراءَ البَحْرِ في دَعَةٍ
لَهُم بِأَوطانِهِم عِزٌّ وَسلطانُ
أَعِندكُم نَبَأ مِن أَهلِ أَندَلُسٍ
فَقَد سَرى بِحَدِيثِ القَومِ رُكبَانُ
كَم يَسْتَغيثُ بِنا المُستَضْعَفُونَ وَهُم
قَتْلى وَأَسْرى فَما يَهْتَزُّ إِنسانُ
ماذا التَّقاطعُ في الإِسلامِ بَينَكُمُ
وَأَنتُمُ يا عِبَادَ اللَّهِ إِخوَانُ؟
أَلَا نُفوسٌ أَبيَّاتٌ لَها هِمَمٌ
أَمَا عَلى الخَيرِ أَنْصارٌ وَأَعْوانُ!
يا مَن لِذلَّةِ قَوم بَعدَ عِزِّهِمُ
أَحالَ حالَهُمُ جَوْرٌ وَطُغْيانُ
بِالأَمْسِ كانُوا مُلُوكًا فِي مَنازِلهِم
وَاليَوْمَ هُمْ في بِلادِ الكُفْرِ عُبْدانُ
فَلَو تَراهُم حَيارى لا دَلِيلَ لَهُم
عَلَيهِمُ في ثيابِ الذُلِّ أَلوانُ
وَلَو رَأَيت بُكاهُم عِندَ بَيْعِهمُ
لَهالَكَ الأَمْرُ وَاسْتَهْوَتْكَ أَحْزانُ
يا رُبَّ أمٍّ وَطِفلٍ حِيلَ بَيْنَهُما
كَما تُفَرَّقُ أَرواحٌ وَأَبْدَانُ!
وَطَفْلَةٍ مِثلَ حُسْنِ الشَّمْسِ إِذ طَلَعَت
كَأَنَّما هيَ ياقُوتٌ وَمَرجانُ
يَقُودُها العِلْجُ لِلمَكْروهِ مُكْرَهَةً
وَالعَينُ باكِيَةٌ وَالقَلبُ حَيْرانُ
لِمثْلِ هَذا يَذُوبُ القَلْبُ مِن كَمَدٍ
إِنْ كانَ في القَلْبِ إِسْلامٌ وَإِيمانُ

https://k.top4top.io/p_2007qrxtc1.png



عطر الجنة 07-01-2021 07:56 AM

رد: أدبيات اللغة العربية
 



https://k.top4top.io/p_2007qrxtc1.png


(١٤٦) مدينة الزهراء في الأندلس

كان الخليفة عبد الرحمن الناصر كَلِفًا بعمارة الأندلس، وإقامة معالمها، وتخليد الآثار الدالة على قوة المُلك وعزة السلطان، فأفْضَى به الإغراق في ذلك إلى أن ابتنى مدينة الزهراء البناء الشائع ذكره المنتشر صيته، واستفرغ جهده في تنميقها وإتقان قصورها وزخرفة مصانعها. فاستدعى عُرفاء المهندسين، وحشد بُرعاء البنائين من كل قُطر، فوفدوا عليه حتى من بغداد والقُسطنطينية، ثم أخذ في بناء المُسْتَنْزهات وإنشاء مدينة الزهراء الموصوفة بالقصور الباهرة، وأقامها بطرق البلد على ضفة نهر قرطبة، ونسَّق فيها كل اقتدار معجز ونظام. وكان قصر الخليفة متناهيًا في الجلالة والفخامة، أطبق الناس على أنه لم يُبْن مثله في الإسلام البتَّة، وما دخل إليه أحد من سائر البلاد النائية والنحَل المختلفة إلَّا وكُلُّهم قطع أنه لم ير له شبيهًا بل لم يسمع به بل لم يتوَّهم كوْنَ مثله. ولو لم يكن فيه إلا السطح المُمَرَّد المُشْرِف على الروضة المباهي بمجلس الذهب والقبة، وعجيب ما تضمنه من إتقان الصنعة، وفخامة الهمة، وحسن المستَشْرَف، وبراعة الملبس والحلية، ما بين مرمرٍ مسنُون وذهب مصُون وعَمَدٌ كأنما أُفرغت في القوالب وتماثيل لا تُهْدَى الأوهامُ إلى سبيل استقصاء التعبير عنها؛ (لكفى مثلًا.) وكنت ترى في مقصورة الخليفة بركةً يجري الماء فيها بصنعة محكمة، وفي وسطها يعوم أسد عظيم الصورة، بديع الصنعة، شديد الروعة، لم يشاهَد أبهى منه فيما صوَّر الملوك في غابر الدهر، مطلِيٌّ بذهب إبريز، وعيناه جوهرتان لهما وبيصٌ شديد، فيمُجُّ الماء في تلك البركة من فيه فَيَبْهَر المناظر بحسنه وروعة منظره وثجَّاج صبِّه، فتُسقَى من مُجاجه جِنان هذا القصر على سعتها، ويستفيض على ساحاته وجَنَبَاته. وهذه البِركة وتِمثالها من أعظم آثار الملوك في غالب الدهر لفخامة بنيانها، وما يخص سائر البنايات. فكان الناصر قد جلب إليها الرخام الأبيض المجزَّع من رَيَّة، والأبيض من غيرها، والوَرْدِي والأخضر من أفريقية. وبنى في القصر المجلس، وجعل في وسطه اليتيمة التي أتحف الناصر بها إليون ملك قسطنطينية. وكانت قَرامد هذا القصر من الذهب والفضة، وهذا المجلس في وسطه صِهْريج عظيم مملوء بالزئبق. وكان في كل جانب من هذا المجلس ثمانية أبواب، قد انعقدت على حنايا من العاج والأَبُنُوس المرصَّع بالذهب وأصناف الجواهر، قامت على سوارٍ من الرخام الملون والبلور الصافي. وكانت الشمس تدخل على تلك الأبواب، فيضرب شعاعها في صدر المجلس وحيطانه، فيصير من ذاك نور يأخذ بالأبصار. وكان بناء الزهراء في غاية الإتقان والحسن، وبها من المرمر والعَمَد كثير، وأجرى فيها المياه، وأحدق بها البساتين. وقد أتقنه إلى الغاية، وأنفق عليه أموالًا طائلة. ووضع في وسط البحيرة قبةً من زجاج ملون منقوش بالذهب، وجلب الماء على رأس القبة بتدبير أحكمه المهندسون. فكان الماء ينزل من أعلى القبة على جوانبها محيطًا بها، ويتصل بعضه ببعض، وكانت قبة الزجاج في غِلالةٍ مما سُكب خلف الزجاج لا يفتُر من الجري، وتوقد فيها الشموع فيُرى لذلك منظر بديع. وتم بناء الزهراء في أربعين سنة (للمقري).




(١٤٧) وصف سفر البحر


لما ركبنا البحر، وحللنا منه بين السحر والنحر، شاهدنا من أهواله، وتنافي أحواله ما لا يعبَّر

عنه، ولا يُبلغ له كُنْه.
البَحْرُ صَعْبُ المَرَامِ جِدًّا
لَا جُعِلَتْ حَاجَتِي إِلَيْه!
أَلَيْسَ مَاءً وَنَحْنُ طِينٌ
فَمَا عَسَى صَبْرُنَا عَلَيْه؟


فكم استقبلتنا أمواجه بوجوه بواسر، وطارت إلينا من شراعه عقبانٌ كواسر،
قد أزعجتها أكُفُّ الريح من وكرها لمَّا نبَّهَتْ اللُّجج من سُكرها، فلم تُبْق شيئًا من قوَّتها ومكرها،

فسمعنا للجبال صفيرًا، وللرياح دويًّا عظيمًا وزفيرًا، وتيقنَّا أنَّا لا نجد من ذلك إلا فضل الله مُجيرًا وخفيرًا، وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ، وأيسْنا من الحياة؛ لصوت تلك العواصف والمياه، فلا حيَّا اللَّه ذلك الهَوَّ المزعج ولا بيَّاه! والموج يصفِّق لسماع أصوات الرياح، فيطرب بل ويضطرب، فكأنه من كأس الجنون يشرب أو شرب، فيبتعد ويقترب وفرقه تلتطم وتصطفق، وتختلف ولا تكاد تتفق، فتخال الجو يأخذ بنواصيها، وتجذبها أيديه من قواصيها، حتى كاد سطح الأرض يُكْشَف من خلالها، وعَنان السُّحْبِ يُخْطَفُ في استقلالها، وقد أشرفت النفوس على التلف من خوفها واعتلالها، وآذنت الأحوال بعد انتظامها باختلالها،

وساءت الظنون، وتراءت في صورها المَنون، والشراع في قراع مع جيوش الأمواج التي
أُمدت منها الأفواج بالأفواج. ونحن قعود، كدُودٍ على عود، ما بين فُرَادى وأزواج. وقد نَبَتْ بنا من القلق أمكنتنا، وخرِست من الفَرَق ألسنتنا، وتوهَّمنا أنه ليس في الوجود أغوار ولا نجود إلا السماء والماء وذلك السفين، ومن في قبر جوفه دفين، مع ترقب هجوم العدو في الرواح والغدو. فزادنا ذلك الحذر، الذي لم يُبق ولم يذر، على ما وصفناه من هول البحر قلَقًا،

وأجرينا إذ ذاك في ميدان الإلقاء باليد إلى التَّهلكة طلَقًا، وتشتَّتتْ أفكارنا فِرَقًا، وذُبنا أسًى وندمًا وفَرَقًا، إلى أن قضى الله بالنجاة، وكل ما أراد فهو الكائن، وإن نهى عنه وأخطأ المائن. فرأينا البَرَّ وكأننا قبلُ لم نره، وشُفيت به أعيننا من المَرَه، وحصل بعد الشدة الفرج، وشَمِمنا من السلامة أطيب الأَرَج (نفح الطيب للمقري).


https://k.top4top.io/p_2007qrxtc1.png

عطر الجنة 07-01-2021 07:59 AM

رد: أدبيات اللغة العربية
 


https://k.top4top.io/p_2007qrxtc1.png


(١٤٨) قال محمود سامي البارودي يصف حرب سكان جزيرة إقريطش (كريد) حين خرجوا عن الطاعة سنة ١٢٨٢ ويتشوق إلى مصر


أَخَذَ الكَرَى بِمَعَاقِدِ الأَجْفَانِ
وَهَفَا السُّرَى بِأَعِنَّةِ الفُرْسَانِ
وَاللَّيْلُ مَنْشُورُ الذَّوَائِبِ ضَارِبٌ
فَوْقَ المَتَالِعِ وَالرُّبَى بِجِرَانِ
لا تَسْتَبِينُ العَيْنُ فِي ظَلْمَائِهِ
إِلا اشْتِعَالَ أَسِنَّةِ المُرَّانِ
نَسْرِي بِهِ مَا بَيْنَ لُجَّةِ فِتْنَةٍ
تَسْمُو غَوَارِبُهَا عَلَى الطُّوفَانِ
فِي كُلِّ مَرْبَأَةٍ وَكُلِّ ثَنِيَّةٍ
تَهْدَارُ سَامِرَةٍ وَعَزْفُ قِيَانِ
تَسْتَنُّ عَادِيَةٌ وَيَصْهَلُ أَجْرَدٌ
وَتَصِيحُ أَجْرَاسٌ وَيَهْتِفُ عَانِ
قَوْمٌ أَبَى الشَّيْطَانُ إِلا خُسْرَهُمْ
فَتَسَلَّلُوا مِنْ طَاعَةِ السُّلْطَانِ
مَلَئُوا الفَضَاءَ فَمَا يَبِينُ لِنَاظِرٍ
غَيْرُ التِمَاعِ البِيضِ وَالْخُرْصَانِ
فَالبَدْرُ أَكْدَرُ وَالسَّمَاءُ مَرِيضَةٌ
وَالبَحْرُ أَشْكَلُ وَالرِّمَاحُ دَوَانِ
وَالْخَيْلُ وَاقِفَةٌ عَلَى أَرْسَانِهَا
لِطِرَادِ يَوْمِ كَرِيهَةٍ وَرِهَانِ
وَضَعُوا السِّلاحَ إِلَى الصَّبَاحِ وَأَقْبَلُوا
يَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسُنِ النِّيرَانِ
حَتَّى إِذَا مَا الصُّبْحُ أَسْفَرَ وَارْتَمَتْ
عَيْنَايَ بَيْنَ رُبًى وَبَيْنَ مَجَانِ
فَإِذَا الجِبَالُ أَسِنَّةٌ وَإِذَا الْوِهَا
دُ أَعِنَّةٌ وَالمَاءُ أَحْمَرُ قَانِ
فَتَوَجَّسَتْ فَرْطَ الرِّكَابِ وَلَمْ تَكُنْ
لِتَهَابَ فَامْتَنَعَتْ عَلَى الأَرْسَانِ
فَزِعَتْ فَرَجَّعَتِ الحَنِينَ وَإِنَّمَا
تَحْنَانُهَا شَجَنٌ مِنَ الأَشْجَانِ
ذَكَرَتْ مَوَارِدَهَا بِمصْرَ وَأَيْنَ مِنْ
مَاءٍ بِمصْرَ مَنَازِلُ الرُّومَانِ؟!
وَالنَّفْسُ لَاهِيَةٌ وَإِنْ هِيَ صَادَفَتْ
خَلَفًا بِأَوَّلِ صَاحِبٍ وَمَكَانِ
فَسَقَى السِّمَاكُ مَحَلَّةً وَمَقَامَةً
فِي مِصْرَ كُل مُرِنَّةٍ مِرْنَانِ!
حَتَّى تَعُودَ الأَرْضُ بَعْدَ ذُبُولِهَا
شَتَّى النَّمَاءِ كَثِيرَةَ الأَلْوَانِ
بَلَدٌ خَلَعْتُ بِهَا عِذَارَ شَبِيبَتِي
وَطَرَحْتُ فِي يُمْنَى الغَرَامِ عِنَانِي
فَصَعِيدُهَا أَحْوَى النَّبَاتِ وَسَرْحُهَا
أَلْمَى الظِّلالِ وَزَهْرُهَا مُتَدَانِي
فَارَقْتُهَا طَلَبًا لِمَا هُوَ كَائِنٌ
وَالمَرْءُ طَوْعُ تَقَلُّبِ الأَزْمَانِ
حَمَلَ الزَّمَانُ عَلَيَّ مَا لَمْ أَجْنِهِ
إِنَّ الأَمَاثِلَ عُرْضَةُ الحِدْثَانِ
نَقَمُوا عَلَيَّ وَقَدْ فَتَكْتُ شَجَاعَتِي
إِنَّ الشَّجَاعَةَ حِلْيَةُ الفِتْيَانِ
فَلْيَهْنَأ الدَّهْرُ الغَيُورُ بِرِحْلَتِي
عَنْ مِصْرَ وَلْتَهْدَأْ صُرُوفُ زَمَانِي
فَلَئِنْ رَجعْتُ وَسَوْفَ أَرْجِعُ وَاثِقًا
بِاللهِ أَعْلَمْتُ الزَّمَانَ مَكَانِي
صَادَقْتُ بَعْضَ القَوْمِ حَتَّى خَانَنِي
وَحَفِظْتُ مِنْهُ مَغِيبَهُ فَرَمَانِي
زَعَمَ النَّصِيحَةَ بَعْدَ أَنْ بَلَغَتْ بِهِ
غِشًّا وَجَازَى الحَقَّ بِالبُهْتَانِ
فَلْيَجْرِ بَعْدُ كَمَا أَرَادَ بِنَفْسِهِ
إِنَّ الشَّقِيَّ مَطِيَّةُ الشَّيْطَانِ
وَكَذا اللَّئِيمُ إِذَا أَصَابَ كَرَامَةً
عَادَى الصَّدِيقَ وَمَالَ بِالإِخْوَانِ
كُلُّ امْرِئٍ يَجْرِي عَلَى أَعْرَاقِهِ
وَالطَّبْعُ لَيْسَ يَحُولُ فِي الإِنْسَانِ
فَعَلَامَ يَلْتَمِسُ الْعَدُوُّ مَسَاءَتِي
مِنْ بَعْدِ مَا عَرَفَ الخَلائِقُ شَانِي
أَنَا لا أَذِلُّ وَإِنَّمَا يَزَعُ الفَتَى
فَقْدُ الرَّجَاءِ وَقِلةُ الأَعْوَانِ
فَلْيَعْلَمَنَّ أَخُو الجَهَالَةِ قَصْرَهُ
عَنِّي وَإِنْ سَبَقَتْ بِهِ قَدَمَانِ
فَلَرُبَّمَا رَجَحَ الخَسِيسُ مِنَ الحَصَى
بِالدُّرِّ عِنْدَ تَرَاجُحِ المِيزَانِ
شَرَفٌ خُصِصْتُ بِهِ وَأَخْطَأَ حَاسِدي
مَسْعَاتَهُ فَهَذَى بِهِ وَقَلانِي


https://k.top4top.io/p_2007qrxtc1.png


عطر الجنة 07-01-2021 08:04 AM

رد: أدبيات اللغة العربية
 


https://k.top4top.io/p_2007qrxtc1.png


(١٤٩) رسالة الشيخ حمزة فتح الله للسيد توفيق البكري يمدحه
إعادة العَرَض يوم العَرْض

مسألةٌ كلامية ثارتْ فيها عَجَاجة الكلام بين علماء الكلام، فمن إيجازٍ وإطناب في سلب وإيجاب (وتعلم أنت أنَّ الألفاظ أعْراضٌ سيَّالة)، لكنني آمنتُ عيانًا أنَّ الله — تعالى — يحيي الموتى أعراضًا وأعيانًا، إذ كانت كتبك زيادةً في البيان والبرهان، وإن كان خبر المعصوم أوثق من الحس في النفس، فأنشد الله امرَأً شيمته العدل والقول الفصل، أليست كتبك هذه حجةً للموجب دامغةً للسالب؟! أليس ذلك البيان غاية شأو قُسٍّ وسَحْبان؟! أليس قصارى ابن العميد وحُمَادَى عبد الحميد؟! فقد أعيد العرَض الذي هو الكلام في الدنيا ففي الأخرى أحرى، فتراني — يا مليك اليراعات، وقَسْور تلكم الغابات — أسيفًا على ضن الزمان بك إلى الآن،
فلو أن الله — تعالى — براك وخلقك فسواك حين استعر الخصام في هذا المقام،
لمَا اختلف في شأنه اثنان ولا انتطح عنزان.

المرجع

١ بلوغ الأَرَب في أحوال العرب.

https://k.top4top.io/p_2007qrxtc1.png


الساعة الآن 03:43 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
Search Engine Friendly URLs by vBSEO 3.6.1 TranZ By Almuhajir
new notificatio by 9adq_ala7sas
HêĽм √ 3.1 BY: ! ωαнαм ! © 2010
يرحل الجميع ويبقي شعاع بيت العلم والحب(ملك الكلمة)