منتديات شبكة شعاع الدعوية للتعليم عن بعد

منتديات شبكة شعاع الدعوية للتعليم عن بعد (https://hwazen.com/vb/index.php)
-   شعاع العلوم الشرعية (https://hwazen.com/vb/f38.html)
-   -   ملف كامل عن الداء خفي: الحسد (https://hwazen.com/vb/t23143.html)

إسمهان الجادوي 07-04-2023 12:48 PM

ملف كامل عن الداء خفي: الحسد
 
الداء خفي

الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبيِّنا محمَّد وعلى آله وصحبه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

أمَّا بعد:
إنَّ مِن الأدواء الخطيرة التي تُصيب القُلوبَ داءً عُضالًا يُصيب القلبَ، فيُظلم ويخفت نورُه حتَّى تتجلَّى منه سحائبُ الانشراح، هو مرض ينقبض منه الصَّدر، وينشغل به الفِكر، فيشتغل صريعُه عن كلِّ أمرٍ حسن بكلِّ قبيحٍ خبيث نتن، ويفقد أسيرُه كلَّ معنى من معاني إحسان الظن، وينصرف طريحُه عن النيَّة الصالحة التي تَبلُغ بصاحبها مبلغَ المكثِر الفطن.

يدخل المرضُ على جِبال النوايا الحسنة، وهي بيضاء كالثَّلج، فتتهاوَى من ناره الضارية؛ لتسيلَ مياهُها جارفةً سوداء، تقتلع كلَّ نباتات الإيمان من جُذورها، حتَّى تغدوَ ساحة القلْب قاعًا من الإيمان، صفصفًا، لا تَرى فيها عوجًا ولا أمتًا.
أعرفتم الدَّاء؟!

إنَّه داءُ الحسد.فكم في الناس مِن صريع لهذا المرض المروِّع؟ وكم هم النَّاجون؟ أَعَلَى أصابع الكفِّ يُعدُّون؟! ويَزيد خطرُه خطرًا، ويعظم ضررُه ضررًا؛ أنَّه لا يكاد يشعُر به صاحبُه، فهو خفيٌّ ماكر، لكن مَن نوَّر الله له قلبَه، وآتاه بصيرةً تزيد على نورِ بصره، لا يصل إلى قلبِه ذلك الدَّاء الخطير، فإذا دَاهَمَه الشيطانُ بِحِيَلِه، وأراد أن يمكِّن الحسدَ من نفسه، تذكَّر وتفكَّر، فردَّد كما ردَّد موسى – عليه السلام - من قبله: ﴿ إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ ﴾ [القصص: 18].

والحَسدُ لا يمكن أن يجتمعَ في قلْبٍ مع إيمان عَليٍّ، وهو يختلف في أحواله، وله صورٌ عدَّة: فمِن حيث الأمرُ الذي يُحسد الناسُ من أجله، فمنه ما يكون مِن أجْل خيرٍ دُنيوي، ومنه ما يكون لخيرٍ دِيني، والأوَّل كثير، والثاني قليلٌ خطير.

فأمَّا الأوَّل، فلا يجتمع في قلْبِ مَن هانت الدنيا في نظره، وازدراها بعين بصيرتِه وبصره، وعامَلها معاملةَ مَن وعَى خبرَ الله عنها، أمَّا الطامع في خيراتها والرَّاغب في ملذَّاتها، فهو الذي يَطمع ألاَّ يسبقَه إلى جمْعها أحد، فتراه بين الخلائق في لَهْث ولَهْف، قد حوى مال قارون، وضِيقُ العَيْش لم يفارقْه؛ لأنَّه لا يريد خيرًا للناس، ويتمنَّى لو أنَّ أهلَ الأرض يتطوون جوعى، ويتلهَّثون عطشًا، هكذا الدنيا تُعلِّم تلاميذَها، وعلى ذلك الشرِّ يَنشأُ فتيانُها.

لذلك حذَّرنا الله – سبحانه - من خطرها، وبيَّن لنا ضررَها، في مُحكم الآيات وبأبلغ النُّذر والعِظات؛ قال الله - تعالى -: ﴿ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45) الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا ﴾ [الكهف: 45، 46]

أمَّا الحسدُ في الأمور الدِّينيَّة، فهو كذلك من تسويل الشَّيطان وحِيَلِه؛ بل إنَّه أحرص على هذا الصِّنف مِن حِرْصه على المتحاسدين في أمور الدنيا؛ لكنَّه يَزيد ويَعظُم في القلوب بقدر نُقصان أمرين:
الأول: توقير الناس، وإحسان الظنِّ فيهم.
والثاني: ازدراء النَّفس، وإنزالها منزلتَها.

فإذا كان العبد تُعجبه أعمالُه ومكانتُه، فإنَّه لا يرضى أن يتقدَّمه مَن لا يرى فيه الأهلية لأنْ يسبقَه على ذلك الأمر، أو يظن أنَّه مساوٍ له في أمور كثيرة، فإذا وجده قد فاقَه في أمر، أو أثنى عليه الناس في شيء لا يملكه هو - ظَهرَ منه الحسدُ عليه؛ ولذلك نجد أنَّ الأقران لا تنتهي مشاكلُهم، حتى قال بعضُ السَّلف:"كلام الأقران يُطوَى ولا يُروَى"، وسبب تحاسُدِهم أنَّهم ينظر بعضُهم للآخرِ أنَّه مساوٍ له، فكيف تَقدَّم عليه في هذا الأمر؟!

وللشيطانِ في هذه المسائل لَتٌّ وعجين، حتى يصلَ إلى مراده الذي هو إشغالُ أهلِ العِلم والفضل والدِّين - بعضهم ببعض - عن الأمور التي كان الأَوْلى بهم الانشغال بها، مِن نُصْح الناس وإرشادهم، وتعليم جاهلهم، وتذكير غافلهم، وتأييد مُصيبهم، والأخْذ بيدِ مُخطئِهم، وإقامة الحُجَّة على مُعاندهم، ومَن تجبَّر منهم، وكلُّ ما سبق أُمِرْنا به، وليس له مكانٌ في حياة مَن أشغل عقلَه وفِكرَه وجميعَ أطرافه، بما يُمليه ما يحويه قلبُه مِن حسد.

ولحسدِ الأقران آثار: أقلُّها ألاَّ يقبلَ الحاسدُ رأيَ المحسود واجتهادَه في بعض المسائل العلميَّة، أو أن يَشتدَّ عليه في الرُّدود، ويقسو شدةً وقسوةً ليستْ في موضعها، وأعلاها مآثرُ تهول لذِكرها الأسماع، وتَزيد بعرضِها على المؤمن الأوجاع، فمِن تكفير مَن لم يأتِ بمُكفِّر، وتبديع مَن ليس له في البِدعة كَرٌّ ولا فَرٌّ، واتهام للنوايا، وقدْح في الذوات، ولو تأمَّلْناها لوجدناها صُورًا كثيرة؛ لكنَّها غالبًا ما تحصل لأصحاب الأهواء وأمراض القلوب - عياذًا بالله من ذلك.

واللاَّئق بالمؤمن أن يكون محسنًا ظنَّه بإخوانه، محدِّثًا نفسه دائمًا بأنَّهم أفضلُ منه، وهم إلى الله أقرب منه، ومُذكِّرًا نفسَه بعيوبها وسوْءاتها، ومصفيًا قلبَه لهم بالصَّفْح والعفو، ومستحضرًا - على الدَّوام - جزاءَ حُسن ظنِّه عند ربِّه، وإحلال رِضوانه عليه، وأنَّه - سبحانه - استثنى أهلَ القلوب السليمة من الناس ممَّن لا ينتفع بماله ولا بِبَنيه، فتكون لهم تلك السَّلامةُ وقايةً من عذاب الله؛ ﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [الشعراء: 88، 89].

فأنت أخي، حين تتأمَّل حال أخيك، تجدُ أنَّه لا يَظهر لك من حالِه إلَّا ما أظهره الله لك، ويَخفى عليك ما يَعلمه الله مِن حاله الكثير والكثير، فبإحسانك الظنَّ لِمَا خفي عنك من أحواله، والنُّصح له لِمَا ظهر لك منه ما لا يُرضيك عنه - تكون بذلك قد رَدَدتَ كيدَ العدوِّ اللدود؛ فإنَّ الظنَّ الحسن يُعلي مقامَ أخيك في قلبك، ممَّا يجعلك تنظر له نظرةَ تبجيلٍ وتقديرٍ وتوقير، حتى إذا رأيتَ منه ما يُعجبك، لا يستدعي ذلك منك الاستغرابَ والحيرةَ، التي يَدخل من خلالها الشَّيطانُ عليك بسلعته، ويَعرِض في نفسك بضاعتَه.




حمدان بن راشد البقمي

م ق
الألوكة

إسمهان الجادوي 07-04-2023 12:50 PM

رد: الداء خفي
 
الحسد.. مرض كل العصور


الحسد: هو تمنِّي زوال النِّعمة عن الغير، وهو - في جوهرِه - اعتِراضٌ على عطاء المنعم - سبحانه وتعالى.

وقد قسَّم الله سبحانه وتعالى الحظوظَ والملَكاتِ والأرزاقَ على بني آدَم بِمقاديرَ مُختلفة، وأشكالٍ مُتباينة؛ حتَّى يستقيم أمرُ الحياة الدنيا على الهيئة الَّتي هي عليها.

ويقول الحق في بيان أسباب هذا التفاوُت: ﴿ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِياً ﴾ [الزخرف: 32].

والحسد: أوَّل ذنبٍ عُصِيَ به اللهُ في السماء، وأوَّل ذنبٍ عُصِيَ اللهُ به في الأرض.

وأمَّا ما كان في السماء، فهو عِصيان إبليسَ أمرَ ربِّه أن يَسجُد لآدَم، لقد كان دافعَه الحسدُ لإكْرام الله له؛ قال تعالى: ﴿ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ﴾ [الحجر: 29]، وسجد الملائكةُ لأمر ربهم، وأبى إبليس.

ولمَّا سُئِلَ عن سبب ذلك - أجاب: ﴿ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ ﴾ [الأعراف: 12]، وكفر إبليس وطُرِدَ من السماء، وخسِر خسرانًا مبينًا بسبب تلك الآفة القاتلة.

وأمَّا ما كان في الأرض، فقَتْلُ قابيل لأخيه هابيل، لقد قدَّم كلٌّ منهُما قُربانًا إلى الله، فقُبِلَ قربانُ هابيل، ولم يُقْبل قربان قابيل، وقتل قابيلُ أخاه هابيل، وعجز عن مواراة جثَّته، إلى أن أرسل الله له غُرابيْنِ فاقْتَتَلا، وحفر القاتلُ حفرةً، ودفَن الآخَرَ القتيلَ، فحذا قابيلُ حذوَه، ووارى أخاه التُّراب.

لقد كان الحسد هو الدافعَ وراءَ أوَّل جريمةٍ على الأرض، على ما ساقه الله من فضل وإكرام لعبده، الذي قرَّب إليه قربانًا فتقبَّله منه، إشارةً إلى رضاه عنه، فحسده أخوهُ على ذلك الفضل.

وقد كان الأنبياءُ في بني إسرائيل كثيرين، منهم وإليهم، وشاء اللهُ أن يحوِّل النبوَّة إلى العرب، فبعثَ مُحمَّدًا صلَّى الله عليه وسلَّم إلى النَّاس كافَّة، بالإسلام عقيدةً وشريعةً، لا يتلوه رسالة.

وكان أمرُ هذه البعثةِ وخبَرُها معلومًا لأهل اليهوديَّة والنصرانيَّة في ذلك الوقت، منذُ أن أُنْزِلَ كتاباهُما من السماء، ولكنَّهم لم ينصاعوا إلى هذا الحقِّ الذي أُنْزِل من السماء، ولم يُؤْمِنوا بنبوَّة مُحمدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم ولا بالإسلام؛ لأنَّهم حسدوا المسلمين على هذا الإِكْرام الإلهيِّ العظيم.

قال تعالى يُقَرِّر حقيقةَ عِلْمِهم بنبوَّة مُحمد صلَّى الله عليه وسلَّم ونَفْي ادِّعائهم بأنَّهم لا يعلمون شيئًا من ذلك، بقولٍ قاطع لا يقدر أحدٌ على دحضه: ﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 146]، وقال: ﴿ وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداًّ مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الحَقُّ ﴾ [البقرة: 109].

ويحذِّرُ رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم من هذه الآفةِ الخطيرة، من آفات النفس البشريَّة القاتلة، والتي تفْتِكُ بالآخَرين، وتَمنَعُ الإنْصاتَ لصوت العقل، وتُفْضِي إلى الخصومة، ثُمَّ إلى الكفر والنَّار، بأنَّها ضارَّة بصاحبها أيضًا.

يقول رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((الحسدُ يأكلُ الحسناتِ، كما تأكل النَّارُ الحطب))[1].

ولمَّا كان الحسد سلوكًا، له آثارُه الضارَّة على المؤمن، فقد أمَرَ الحقُّ عبادَه أن يعوذوا به من شرِّ هذه الآفة القاتلة؛ قال تعالى: ﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الفَلَقِ * مِن شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي العُقَدِ * وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ﴾ [الفلق: 1 - 5].

كمال العدل الإلهي:
وإذا كانت الإرادة الإلهيَّة قد قضتْ بِهذا التفاوت في الملَكات، والقُدُرات الإنسانيَّة، وأرزاقِ الناس في الحياة، فهلْ ذلك يسري على حظوظِ الآخرة؟

من كمال العدْل الإلهيِّ، أنَّ قِسْمَة الدُّنيا لا تقرِّرُ حظوظَ الآخِرة؛ ذلك أنَّ الفوزَ في الآخِرة أمرٌ في قُدْرَة كلِّ إنسانٍ، مهْما كان حظُّه من الدنيا.

إنَّ الحياة الدنيا مرحلةٌ متوسِّطة في الوجود، فللإنسان وجودٌ قبلَ المجيء إلى الدنيا، وله وجودٌ بعد الحياة الدنيا؛ قال تعالى: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا ﴾ [الأعراف: 172]، ذلك هو الوجود السابق على الحياة الدنيا.

ويموت الإنسان، ويكون له وجودٌ يقف فيه بين يدَيِ الله؛ ليحاسَب على ما كان منه في دار الاختبار؛ يقول تعالى: ﴿ إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ * فَالْيَوْمَ لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلاَ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [يس: 53 - 54].

هذه العلاقة بين العَمَلِ والحساب هي التي جعلتْ حظوظَ الآخرة متعلِّقةً بأبسطِ القُدُرات والملَكات الإنسانيَّة، يقدر على أدائها كلُّ إنسان مهما كان حظّه من الدنيا.

فطِن لذلك نفرٌ من المسلمين، فشكَوْا إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ذلك: "يا رسول الله، ذهب أهلُ الدُّثور (الأموال) بالأُجور، يصلُّون كما نصلِّي، ويصومون كما نصوم، ويتصدَّقون بفضول أموالهم (وهذا موطِنُ التفاوت)، قال: ((أوليس قد جعل الله لكم ما تصدَّقون به؟ إنَّ بكل تسبيحةٍ صدقة، وكل تكبيرةٍ صدقة، وكلّ تَحميدةٍ صدقة، وأمر بالمعروف ونَهي عن المنكر صدقة))؛ "رياض الصالحين: 120".

وهكذا أتاح الله لكلِّ النَّاس، أن يَجدوا كمال العدْل الإلهي في رحلةِ الإنسان الوجوديَّة؛ ليكونَ لَهُم نصيب في الآخرة، يوصِّلُهم إلى الجنَّة، ويُنقِذُهم من النَّار، بأدائِهم لِما شرع لهم من عبادات، هي في مستوًى يقدِرُ عليْهِ كلُّ واحدٍ منهم، فالصلاة نُعلِّمها لتلميذٍ عمرُه ستُّ سنوات، ويؤدِّيها صبيُّ العاشرةِ، والشابّ، والكهل، وهي تتَّفق مع القدرة الإنسانية وتدورُ معها، فمَنْ لا يستطيع الصلاةَ قائمًا يؤدِّيها قاعدًا، فإنْ لَم يستطِعْ فعلى جنبِه، كما تفصِّلُه كتب الفقه.

والزكاةُ تتعلَّق بالمال إذا بلغَ النِّصاب، وحال عليْه الحول، والحجُّ لِمن استطاع إليه سبيلاً.

والتوبةُ طريقٌ مفتوح في كلِّ مراحل العمر؛ لينضمَّ التَّائهُ إلى قافلة الإيمان، ويودِّعَ كلَّ ذنوبه؛ قال تعالى: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر: 53].

ولله قبل ذلك وبعده فضلٌ على كل عباده، ويَختصُّ بعضَهم بِما يشاء من الفضل؛ ليُريَ الناسَ بعض آياته.

لقد خصَّ بعضَهم، وهم من العامَّة الذين لا يؤبَهُ لشأنِهم؛ فليس لهم سلطانٌ من الدنيا يُعْرَفون به، ولا مالٌ كثير يرفعُهم في عيون النَّاس، ولا جاهٌ عريضٌ يَمشون به في الأرض - خصَّهم الحقُّ بكرامة أعلَتْ من شأنِهم علوًّا كبيرًا، من أولئك: أويْسُ بن عامرٍ القرني، "كان بارًّا بأمِّه"، ذلك بعض أسبابِ إكرام الله له، "لو أقْسَم على الله لأبرَّه"، يا سبحان الله! ما كل هذا الإكرام!

أخبر عنه رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((يأتيكم في أمدادِ أهل اليَمَن من قرن: أوَيْس بن عامر، فمَنْ لقِيَه فليَطْلُبْ منه أن يستغفِرَ اللهَ له))[2]، إنه مستجاب الدعاء!

رسول الله وأبو جهل:
كثيرون هم الذين لم يُتابِعوا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فيما دعا إليْه، وماتوا على الشِّرْك، وما منعَهُم من الإيمان إلا أهواؤهم، ولننظر في هذه الواقعة، وكم فيها من غيْرة ومن حسد.

التقى أبو جهلٍ، وأبو سُفيان بن حرب، والأخنسُ بن شريق، وقدِ انصرفوا من حوْلِ بيْتِ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وقد جاءوا لا يَعرف كلُّ واحد منهم من خبر الآخَر شيئًا، يستمعون إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يتلو القُرآن الكريم، وكان ذلك لقاءَهم الثالثَ، وتعاهدوا أن لا يعودوا لِمثلها فيُرَوْا على غيْرِ ما يعهدهم الناس، وفي صباح اليوم الثالث، دلَف الأخنسُ بن شريق إلى بيْتِ أبي جهل، يستطْلِعُ الأثَرَ الذي تركَه سَماعُ القرآن الكريم من فَمِ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في نفس أبي جهل، ويسألُ الأخنس: فيم سَمع من محمد؟ ويردُّ أبو جهل: ما سمعت! (أي مثل ما سَمعتَ يا أخنس): "تنازعنا نَحن وبنو عبدمناف الشَّرفَ: أطعموا فأطعمْنا، وحَملوا فحملْنا، وأعطَوْا فأعطَيْنا، حتَّى كنَّا كفرَسَيْ رهان قالوا: منَّا نبيٌّ يأتيه الوحي من السماء، فمتى نُدْرِك مثلَ هذه؟ واللهِ، لا نُؤمِنُ به أبدًا، ولا نُصدِّقُه".

وانكشف للأخنس ما انطَوَتْ عليْهِ نفسُ أبي جهل، لقد كان الحسد، فهو وراءَ كلِّ تلك الخصومة، واللَّدَد، والمقاومة الشديدة للإسلام ونبيِّه.

لقد صار أبو جهلٍ مدرسةً في الكفر؛ بسبَبِ هذه الآفةِ القاتلة، الحسدِ، وَعَلَمًا عليها.

يوسف عليه السلام وإخوته:
في سورة يوسف عِبرٌ كثيرة، لا يوفِّيها حقَّها سِفْرٌ عظيم، وقد وصفها الحقُّ بأنَّها "أحسن القَصَص"، وفضل الله يؤتيه مَن يشاءُ من عباده.

يقصُّ يوسف على أبيه رؤياه؛ أنَّه رأى الشَّمس والقمرَ وأحدَ عشر كوكبًا، رآهُم له ساجدين، ولفَتَ أبوه نظرَه إلى أن لا يقُصَّ رؤياه على إخوته؛ لكي لا يَكيدوا له كيدًا، حسدًا من أنفسهم، ويَحسُده إخوتُه على ما يروْنَه من إعزازِ أبيهم له، ويأتمرون به، ودبَّروا أمرًا ونفَّذوه.

وعادوا إلى منزِلِهم عشاءً يبكون، ويُعْلِنون أنَّ الذِّئْب أكلَ يوسف، وجاءوا بقميصِه وقد لُطِّخ بالدَّم كذِبًا، وأدرك يعقوبُ - عليْه السلام - الكيْدَ الذي أذهبَ يوسف في آفاقِ الأرض، لا يعلَمُ عنْه أحدٌ شيئًا.

ويبدأُ يوسف عليه السلام رحلةَ العذاب الشَّاقَّة، وينتهي به الأمرُ مكرمًا معزَّزًا، قيِّمًا على خزائنِ مصْرَ وأرزاقها، ويأتي إخوته وهم لا يعرفونه إليه في مصر، ويشتَرون منه قمحًا، ويردُّ لَهم أموالهم، ويعودون بأخيهِ الشقيق بنيامين، ويَستبقيه بِحيلةٍ عنده، ويعودون إلى ديارِهم بدونه.

ويُعْطِيهم قميصَه فيرتدُّ إلى أبيهِم بصرُه بإذن الله، ويدعوهم يوسُفُ إلى مصر، ويوصي يعقوبُ عليه السَّلام أبناءه أن لا يَدْخُلوا من بابٍ واحدٍ، فلا يزالُ هاجسُ الحسد يأخُذُ بِجماع نفسه من أثر قصَّة يوسف، وذهابِ بصرِه عليه، ويقف إخوتُه وهم أحد عشر وأبوهُ وخالتُه (ليئة) وهي بِمثابة أُمِّه، ويسجدون أمامه، ثُمَّ رفَعَ أبويْه بِجانبه، ذاك تأويلُ رؤيا يوسف التي قصَّها على أبيه، وما يقضيه الله ينفذ، ولا يستطيع كيدٌ بشريٌّ أن يعلوَ على تدبير الله، ﴿ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ [يوسف: 21]، وانظُرْ إلى هذه الآفة القاتلة: ماذا سبَّبَتْ لِيوسف وأبيهِ من عذابٍ وألَم؟

البخاري والذاكرة المحسودة:
أُوتيَ الإمام محمد بن إسماعيل البخاريُّ ذاكرةً من أعاجيب الخوارق، وكأنَّه قد جاء إلى هذه الدنيا ليقومَ بِما قام به من جَمعٍ لأحاديثِ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم ليس غير! وقد عرَف النَّاسُ له حقَّه من التوقير والتقدير والاحترام، حتَّى كانوا يَخرجون إلى خارجِ بَلْدتِهم يتلقَّوْنه بالتّرحاب إذا علِموا أنَّه قادم إليهم.

ويَحضُر البخاريُّ إلى بغداد، فأجْمَع بعضُ علمائِها أن يَمتحِنوه امتحانًا عسيرًا، ظانِّين أنَّهم يقدِرون على إسْقاط ما حازه من ثِقة النَّاس به، وبعلمِه، وشهرته، وذاكِرَته الخارقة، أحضروا صبيانًا عشرة، وحفِظ كلُّ واحدٍ منهم عشَرَةَ أحاديثَ، وكان كلُّ حديث مشوشًا في سنده ومتنه، وتَحلَّق الناس ومعهم البُخاريُّ يستمعون، حتَّى أتمَّ الصبْيانُ قراءتَهُم للأحاديثِ المئة، واشرأبَّتِ الأعناقُ نَحو البُخاريِّ أعجوبة زمانه، وأنصتَ الجميعُ مندهشين يرقبون ما يكون منه.

وبدأ صاحب "الجامع الصحيح" يتدفَّق كالسَّيل الهادر، أعادَ قِراءةَ الأحاديث كما سيقت مشوشة السند والمتن، ثُمَّ صحَّحها واحدًا واحدًا، سندًا ومتنًا حتَّى أتَّمَّها، وسبحان مُقَسِّم الأقدار والمَلَكات والأرزاق، وكلُّ ذي نِعمة مَحسود.

أراد الإقامة في نيسابور، لكن بعض العلماء الأفاضل - وليسوا بالمعصومين - اعتراهُمُ الحسدُ عليه في العلم، فاتَّهموه بقولٍ مُخالفٍ لاعتِقاد أهل السنة، لمَّا صنَّف كتابًا، توهَّموا منه تلك المُخالفة، ولم يكن الأمرُ على ما قالوا،، والله المستعان.

فوجد عليه أميرُ نيسابور، وخرج من تلك البلدة قاصدًا بُخارى، فاستُقْبِل استقبالاً يَليقُ بِمثله، ونُثِرَتْ عليْهِ الدَّراهم والدَّنانير، وخرَج النَّاس كلُّهم لاستِقْباله".

وفي بُخارَى لم يهنَأْ له المقام، فقد وقعَ بيْنَه وبين أميرِها خالد بن أحمد الذهلي جفوةٌ، أخرَجَتْه من المدينة إلى أخرى تسمى خرتنك، ذلك أنَّ أمير بُخارَى أرسل إلى البخاري: "أن احْمِل إليَّ كتابَ الجامع والتاريخ لأسمع"، فلم يعجبه ذلك، وهاج عليه العامة والغوغاء، حتى راموا إخراجه من مدينته.

ذلك فصلٌ من فصولِ آفة الحسَدِ، مِمَّا يَعتري النَّفْسَ البشريَّة، ولا يُطْفِئُها ويُخْمِد نارَها إلا الإيمانُ بِالله، والرِّضا بِقِسمتِه وعدله.

مراجع البحث:
القرآن الكريم.
تفسير القرطبي.
الوجيز في تفسير القرآن الكريم.
رياض الصالحين، شرح صبحي الصالح.
سيرة ابن هشام، عبدالسلام هارون.
المصطفى في عصر المبعث، عائشة عبدالرحمن.
حديث للشيخ علي الطنطاوي في التلفزيون السعودي.
ملحق لمجلة الأزهر عن الإمام البخاري.

[1] رواه أبو داود وابن ماجه، وفيه ضعف، وحسن العراقي إسناده في "تخريج الإحياء"، وهو أيضا في "تاريخ بغداد".
[2] حديث شريف رواه مسلم، واللفظ المذكور هنا لعله بالمعنى، ولفظه: كَانَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ إذَا أَتَى عَلَيْهِ أَمْدَادُ أَهْلِ اليَمَنِ سَأَلَهُمْ: أَفِيكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ؟ حَتَّى أَتَى عَلَى أُوَيْسٍ فَقَالَ: أَنْتَ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: مِنْ مُرَادٍ ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَكَانَ بِكَ بَرَصٌ فَبَرَأْتَ مِنْهُ إِلاَّ مَوْضِعَ دِرْهَمٍ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: لَكَ وَالِدَةٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ((يَأْتِى عَلَيْكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ مَعَ أَمْدَادِ أَهْلِ اليَمَنِ مِنْ مُرَادٍ ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ، كَانَ بِهِ بَرَصٌ فَبَرَأَ مِنْهُ إِلاَّ مَوْضِعَ دِرْهَمٍ، لَهُ وَالِدَةٌ هُوَ بِهَا بَرٌّ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأَبَرَّهُ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَكَ فَافْعَلْ)) فَاسْتَغْفِرْ لي. فَاسْتَغْفَرَ لَهُ.


مصطفى محمد ياسين







إسمهان الجادوي 07-04-2023 12:52 PM

رد: ملف كامل عن الداء خفي: الحسد
 
الحسد

(من درر العلامة ابن جبرين رحمه الله)


تعريف الحسد:
عرَّف العلامةُ الشيخ ابن جبرين - رحمه الله- الحسدَ في كتابه، ووضح الفرق بينه وبين الغبطة في بداية الكتاب، فقال:
الحسد لغةً: قال في "لسان العرب": الحسد معروف، حسده يَحْسِدُه ويَحْسُدُه حسدًا، وحسَّده؛ إذا تمنى أن تتحول إليه نعمته وفضيلته، أو يسلبهما هو، وقال: الحسد أن يرى الرجل لأخيه نعمة فيتمنى أن تزول عنه، وتكون له دونه.

والغَبْطُ: أن يتمنى أن يكون له مثلها ولا يتمنى زوالها عنه.

والحسد اصطلاحًا: هو تمني زوال نعمة المحسود وإن لم يَصِرْ للحاسد مثلها. أو تمني عدم حصول النعمة للغير.

أدلة وجود الحسد من القرآن والسنة:
قال الله تعالى: ﴿ وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ ﴾ [البقرة: 109]، وهذا تحذير للمؤمنين عن طريق اليهود الذين يحاولون رد المؤمنين إلى الكفر، يحملهم على ذلك الحسدُ الدفين في أنفسهم لما جاء هذا النبي من غيرهم، فحسدوا العرب على إيمانهم، وحاولوا أن يردوهم كفارًا، ولكن الحق واضح فتمسكوا به.

وقال تعالى: ﴿ أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ﴾ [النساء: 54]، وذلك هو حسدهم النبي - صلى الله عليه وسلم - على ما رزقه الله من النبوة العظيمة، ومنعهم الناس من تصديقهم له حسدًا له لكونه من العرب.

وقال تعالى: ﴿ وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ﴾[الفلق: 5]، فالحاسد هو الذي يتمنى زوالَ النعمة عن أخيه المحسود، ولا بد أنه سوف يبذل جهده في إزالتها إن قدر، فهو ذو شر وضرر بمحاولته وسعيه في إيصال الضرر، ومنع الخير.

وقد حكى الله تعالى أمثلة من الحسد كقصة ابني آدم؛ فإن أحدهما قتل أخاه حسدًا لما تقبل قربانه، فأوقعه الحسد في قتل أخيه بغير حق.

وقد ثبت في الصحيحين قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إياكم والظن؛ فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسَّسوا، ولا تجسَّسوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا))، وهذا النهي للتحريم بلا شك، لما في التحاسد من الأضرار والمفاسد، وقطع الصلات بين المسلمين.

وثبت في السنن عن أبي هريرة وأنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إياكم والحسد؛ فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النارُ الحطبَ)).

الفرق بين العائن والحاسد:
الحاسد هو: الذي يهمه ما يرى في إخوانه المسلمين من النعمة والخير، والصحة والمنزلة الراقية، فيحقد عليهم، ويغتم لذلك، ثم يسعى في زوالها، ويبذل ما في وسعه من وشاية وكذب، وافتراء عليه، ويؤلب عليه من له سلطة أو ولاية، حتى تزول تلك النعمة التي يتمتع بها أخوه، وليس هناك دافع له على إزالتها سوى الحقد والبغض، فلا يقر قراره حتى يتلف المال، أو يفتقر الرجل، أو يمرض، أو يُحرم من حرفته أو عمله.

أما العائن فهو: إنسان قد تكيفت نفسه بالخبث والشر، فأصبحت تمتد إلى ما يلفِت النظر، وترسل إليها ما يحطمها ويغيرها، فيسقط الطائر من الهواء، ويعطب الوحش البري، بمجرد كلمته ونظرته السامة، فقد ذكر ابن القيم - رحمه الله - أن منهم من تمر به الناقة أو البقرة السمينة فيعينها، ثم يقول لخادمه: خذ المكتل والدرهم، وأتنا بشيء من لحمها، فما تبرح حتى تقع فتنحر.

أسباب الحسد:
1- العداوة والبغضاء.

2- التعزز؛ كأن ينال قرين الشخص منصبًا عاليا دونه.

3- استخدام الغير ليكون تابعًا له؛ كما في قول الله: ﴿ أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا ﴾ [الأنعام: 53]،كأنهم احتقروا المسلمين الذين كانوا أتباعًا فاستقلوا عنهم.

4- التعجب من تفضيل شخص مثله.

5- الخوف من فوات المقاصد؛ كما في قول الشاعر:
حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فالقوم أعداء له وخصوم https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
كضرائر الحسناء قلن لوجهها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
حسدًا وبغيًا إنه لدميم https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


6- حب الرياسة.

7- شح النفس.

مراتب الحسد الخمس:
أولا: تمني زوال النعمة عن الغير والسعي لإزالتها، فيولد عليه الأكاذيب ويلصق به العيوب لتزول النعمة عن أخيه، وهي أخبث المراتب.

ثانيا: تمني زوال النعمة مع عدم الطمع فيها، حقدًا وحسدًا.

ثالثا: الرغبة في زوال النعمة عن المحسود، ولكن لا يعمل لإزالتها، خوفًا من الظلم، ولكن ينبغي أن يجاهد نفسه ويعالج تلك الرغبة.

رابعا: تمني زوال النعمة عن الظالمين فقط؛ ليرتاح الناس من شره.

خامسا: تمني نفس النعمة وعدم تمني زوالها عن أخيه، وهذا في الحقيقة لا يسمى حسدًا إلا في الظاهر فقط، وقد قال في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا حسدَ إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالًا فسلِّط على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها)).

كيفية علاج الحسد:
يمكن أن يلخص علاجه في أمرين: العلم والعمل:
أما العلم، ففيه مقامان:
إجمال: وهو أن يعلم أن الكل بقضاء الله وقدره، وأن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأن رزق الله لا يجره حرص حريص، ولا يرده كراهية كاره.

وتفصيل: وهو العلم بأن الحسد قذى في عين الإيمان، حيث كره حكم الله وقسمته في عباده، فهو غش للإخوان، وعذاب أليم، وحزن مقيم، ومورث للوسواس، ومكدر للحواس، ولا ضرر على المحسود في دنياه؛ لأن النعمة لا تزول عنه بحسدك، ولا في دينه، بل ينتفع به؛ لأنه مظلوم من جهتك، فيثيبه الله على ذلك، وقد ينتفع في دنياه أيضا من جهة أنك عدوه، ولا يزال يزيد غمومك وأحزانك، إلى أن يفضي بك إلى الدنف والتلف، قال الشاعر:
اصبِرْ على مضض الحسو https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
دِ فإن صبرك قاتلُهْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فالنار تأكلُ نفسَها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
إن لم تجد ما تأكله https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


وقد يستدل بحسد الحاسد على كونه مخصوصًا من الله تعالى بمزيد الفضائل، قال الشاعر:
لا مات أعداؤك بل خلدوا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
حتى يروا منك الذي يكمدُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
لا زلتَ محسودًا على نعمة https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فإنما الكامل من يُحسدُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


والحاسد مذموم بين الخلائق، ملعون عند الخالق، مشكور عند إبليس وأصدقائه، مدحور عند الخالق وأوليائه، فهل هو إلا كمن رمى حجرًا إلى عدو ليصيب به مقتله، فرجع حجره إليه فقلع حدقته اليمنى، فغضب فرماه ثانيًا فرجع ففقأ عينه الأخرى، فازداد غيظه فرماه ثالثًا فرجع إلى نفسه فشدخ رأسه، وعدوه سالم، وأعداؤه حواليه يفرحون ويضحكون، قال الله: ﴿ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى ﴾ [طه: 120].

وأما العمل: فهو أن يأتي بالأفعال المضادة لمقتضيات الحسد.

وقد ذكر ابن القيم أن شر الحاسد يندفع عن المحسود بعشرة أسباب؛ لخصها الشيخ - رحمه الله - فقال:
الأول: التعوُّذ بالله من شره، والتحصن به واللجوء إليه.

الثاني: تقوى الله وحفظه عند أمره ونهيه، فمن اتقى الله حفظه ولم يكله إلى غيره.

الثالث: الصبر على عدوه، فلا يقاتله ولا يشتكيه، ولا يحدث نفسه بأذاه، فما نصر على حاسده بمثل الصبر، والتوكل على الله، ولا يستطيل الإمهال له، وتأخير الانتقام منه.

الرابع: التوكل على الله؛ فمن توكل على الله فهو حسبه، فالتوكل من أقوى الأسباب التي يدفع بها العبد ما لا يطيق من أذى الخلق وظلمهم وعدوانهم، فمن كان الله كافيه وواقيه فلا مطمع فيه لعدوه ولا يضره.

الخامس: فراغ القلب من الاشتغال به، والفكر فيه، فيمحوه من باله، ولا يلتفت إليه، ولا يخافه، ولا يشغل قلبه بالفكر فيه.

السادس: الإقبال على الله، والإخلاص له، وجعل محبته ورضاه والإنابة إليه في محل خواطر نفسه وأمانيها، ويكون قلبه معمورًا بذكر ربه والثناء عليه، غير متشاغل بغيره.

السابع: تحرِّيه التوبة من الذنوب التي سلَّطت عليه أعداءه، فما سلِّط على العبد أحد إلا بذنبه، فعليه المبادرة إلى التوبة والاستغفار، فما نزل بالعبد بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة.

الثامن: الصدقة والإحسان مهما أمكن؛ فإن لذلك تأثيرًا عجيبًا في دفع البلاء، وشر الحاسد، فلا يكاد الأذى والحسد يتسلط على متصدق، فإن أصابه شيء كان معاملا باللطف والمعونة والتأييد.

التاسع: إطفاء نار الحاسد والباغي والظالم بالإحسان إليه، فكلما ازداد أذاه وشره وبغيه، ازددت إليه إحسانًا وله نصيحة، وعليه شفقة؛ لقوله تعالى: ﴿ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ ﴾ [المؤمنون:96].

العاشر: تجريد التوحيد لله تعالى، والترحل بالفكر في الأسباب إلى المسبب العزيز الحكيم، والعلم بأنها بيد الله تعالى، فهو الذي يصرفها عنه وحده.



أ. مروة يوسف عاشور

إسمهان الجادوي 07-04-2023 01:10 PM

رد: ملف كامل عن الداء خفي: الحسد
 










حسَد قتَل صاحبَه



قصةٌ كثيرًا ما تتكرَّر في أوساط المسلمين المتديِّنين حاملي لواء الدعوة، والعاملين ضمْن جماعاتٍ أسمَى أهدافِها نَشْرُ الدِّين، ودعوةُ الناس إلى الهداية والتوبة، وأرقَى أساليبِها النُّصْحُ والحِكمة، والموعظة الحسَنة.

إذ يجدُر أن يُرافق هذا الداعيَ وتلك الداعيةَ - إنْ صحَّتِ التسميةُ - مواصفاتٌ مِن شأنها أن تَرْقَى بهذا الإنسان، فيَعْلُوَ عن أخلاقٍ سيئةٍ كان يتَّصف بها، ويتحلَّى بغيرها مِن الصفات الأخلاقية الكريمة مِن تأدُّبٍ، وعطفٍ، وسَعة صدرٍ، وتضحيةٍ، وبذْل للآخر.

وليس القصد بالداعية العالِم، وإنما العامِل في صفوف الدعوة إلى الله، لا سيما في صفوف العمَل الجماعي المنظَّم.

فهل أساس بُنيان الدعوة إلا منهجٌ واضح، واتِّباعٌ حقيقيٌّ لِسُنَّة الله ورسوله، وتضحية لرفع راية الحق، ودهس رايات الباطل التي عمَّتْ وعُمِّمتْ وانتشرتْ؟!

التضحية والبَذْل وحُبُّ الآخر مِن أسمى معاني الدعوة؛ فالدعوة إلى الله حُبٌّ؛ حُبٌّ لِخَلْق اللهِ، وخوف عليهم مِن الانزلاق في مَزالق الباطل - وما أكثرَها! - حُبُّ الجَنَّة لهم، وبُغض النار أن تُحيط بهم، حُبُّ الخير لهم، وكُره الشرِّ نحوهم.

ولا يَخفَى علينا ما يحمله الداعيةُ في قلبه مِن رغبةٍ جامحةٍ في أن يُكسِب دعوتَه مَن يحمل همَّ الإسلام والمسلمين، ودحض الممارسات الخاطئة له مِن أهله، وإعادة الثقة للمسلمين بدينهم، وأن يتحقَّق على يديه التغيير؛ فالدمُ الجديد في صفوف الدعوة مطلوب، والحثُّ عليه والسعي إليه أساسٌ لاستمرارها، وهذا العامِل في أحد ميادينها الواسعة في يده كنوزٌ نفيسة عظيمة يرعاها ويحتضنها، ويُسأل عنها، طاقاتٌ كامنة للمستقبل، ومواهبُ لم تَتفجَّرْ بعدُ، وطموحاتٌ لم تُترجَم لواقع، طاقاتٌ لا تنحصر بعُمر، أو مهنة، أو حالة اجتماعية؛ فكلٌّ يستطيع خدمةَ ديننا بحسب طاقته، ومجاله، وعلمه.

لكن، في ظلِّ تلك المشاعرِ التي تنتاب الداعيةَ مِن سعيٍ دؤوب لكسْب الطاقات، وشحذِ الهمم، وجمعِ المواهب الحيَّة - تبرز مشكلةٌ مِن أعظم المشكلات وأخطرها على الإسلام وأهله، وبين صفوف الجماعة الواحدة، وهي أُولى الشدائد التي يتعرَّض لها الخادمُ لِدِينِ الله.

فأيُّ إيمان يَعْمُر القلبَ بعدُ، وقد تملَّك الحسَدُ قلوبَ هؤلاء، واستحوذتِ الغَيْرة والأنانية وحُبُّ الظهور على قلب العامِل لِدِين الله، حتى بقيَ لِحُبِّ الدِّين والخير والبذْلِ النَّصِيبُ الضَّحل؟!

لكنَّ إيمان المؤمن لا يحتاج إلى ادِّعاء؛ لأنَّ سلوكه يُصَدِّق ذلك الإيمانَ أو يُكَذِّبه، ولا بدَّ للداعية حينها أن يراجع حساباتِه مع الله، أن يُعيد النظر في نيَّته وإخلاصه له - سبحانه.

فكيف بالداعية الحاسد أن يُدرِّب غيرَه مِن المُنخَرطين في صفوف الدعوة الجُدُد، على ما اكتسَبه مِن خبراتٍ دعويَّة، وهو يَشعر في نفسه أنه أحقُّ مِن هذا الراكبِ الجديد بالاهتمام والرعاية، والتقدير والتحفيز، وقد سَبَقه بسنواتٍ طِوال، وحُملت الدعوة على أكتافه وأكتاف غيره؟!

وكيف بدعوةٍ تَكْبُر وتَنتشر، وبدِين يَحْكم ويَنتصر، وقد بخِل بعضُ العاملين لخدمة دِين الله، مِن خدمة عباده؟! كيف بهم يُحبِطون عزائم مَن ركبوا في مركب الدعوة في حماسٍ وحبٍّ وحُرقةٍ للإسلام، وما يتعرَّض له مِن عداءٍ يَقْوَى عَضُدُه، ويشتدُّ ساعِدُه يومًا بَعد يوم؛ حتى تَفتُر هِمَّة الأخ الجديد أو الأخت الجديدة، ويصطدم بواقعٍ رسَمَه بعضُ الغيورين الحاسدين مِن العاملين في جماعات الدعوة؟!

ليس المقصود هنا التعميم؛ فمِن الدُّعاة مَن جعَل نفسَه جسرًا يَعبُر عليه غيرُه، وسُلَّمًا يَصْعد به كلُّ شَغُوف للدعوة، مُحِبٍّ للإسلام، فلا يَكتم علمَه وخبرته عنهم؛ بل يترصَّد الفُرَص لِبَثِّ هذا العلمِ والخبرة فيهم.

لكن الحسَد آفةٌ حذَّر منها نبيُّنا - صلى الله عليه وسلَّم – وأقرَّ وجودَها وحدَّث عنها؛ إذ إنها أول طريق الفشَل، يَهوي بها صاحبُها إلى التَّهلُكة، فيُحبَط عملُه، ويُرَدُّ في وجهه، وإن بعضَ الداعيات للإسلام يَلْمَسْنَ هذا الواقع، ويَصْطدمْنَ به، ويُعَانِينَه.

فواللهِ، خاسرٌ خاسرٌ مَن أفنَى روحَه ونفسَه وجسَده لِخدمة دِين الله، ثم أَحبَط عملَه بيده، ولم يُخلِص نيَّته، ولم يُحسِن لِدعوتِه وإخوانِه، ولم يمتلك الحكمةَ والحُبَّ لِيُقَرِّب غيرَهُ لأشرف مهنة في الأرض؛ بل هاجمَه وصَدَّه، واستحكَم بحداثة عهدِهِ في الدعوة؛ لأنَّ الشيطان قد زيَّن له عملَه، فساءتْ أعمالُه وأقواله، وأعمَى الشيطانُ عينيه عن إحقاق الحق وإزهاق الباطل، ولا يخفى ما قد يُسيء هذا الإنسانُ للجماعة المسلمة بأسْرها، ويُفقِدها بعضَ الطاقات المهمَّة والمهتمَّة.

إذا تحقَّق ذلك، فقد قتَل الحسَدُ صاحبَه.
فليُخاطِب كلُّنا نفسَه بهذه الآفة الخطيرة؛ لِنُطهِّر قلوبَنا منها.
عصَمَنا اللهُ مِن الحسَد وحُبِّ الأنا وأهلِه، وثبَّتنا على التضحية والبذل والوفاء.







ريما حلواني


م ق الألوكة


الساعة الآن 12:33 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
Search Engine Friendly URLs by vBSEO 3.6.1 TranZ By Almuhajir
new notificatio by 9adq_ala7sas
HêĽм √ 3.1 BY: ! ωαнαм ! © 2010
يرحل الجميع ويبقي شعاع بيت العلم والحب(ملك الكلمة)