منتديات شبكة شعاع الدعوية للتعليم عن بعد

منتديات شبكة شعاع الدعوية للتعليم عن بعد (https://hwazen.com/vb/index.php)
-   شعاع العلوم الشرعية (https://hwazen.com/vb/f38.html)
-   -   قليلًا من البكاء (https://hwazen.com/vb/t23298.html)

إسمهان الجادوي 09-19-2023 10:57 AM

قليلًا من البكاء
 
قليلًا من البكاء

البكاء هو التعبير الصادق عن الرُّعُود التي تُجلجل بين الجوانح، والنبأ اليقين عن بُرُوق التأثر الكبير الذي يلمع في حنايا الصدر.

إنه الغيث الذي يَهْمِي نتيجة شدة هبوب رياح داخلية عاتية تُزْجي سحابه حتى يهطُلَ، فيسيل على الخدود، فهو رشح ذلك الغليان الذي يوقده لهبٌ متسامٍ، يشتعل في نفس لم تجد وسيلة مجدية لإطفائه.

لكن البكاء هو الصمت الناطق، والدواء الممكن الذي يخفف من وطأة ما نزل بالقلب من الألم، أو ما حلَّ فيه من استشعار التقصير، وما أحاط به من بؤس أو خوف.

ولو بقِيَ ذلك البكاء داخل النفس، لتحول إلى بركان يحرقها، وقد لا ينطفئ حتى تنطفئ الروح معه.

وقد تعارف أكثر الناس على التداوي بالبكاء في تهوين المصاب وإخماد ناره:
قال أبو بكر بن عياش: "كنت إذا أصابتني مصيبة وأنا شاب لا أبكي، وكان يؤذيني ذلك، حتى سمعت أعرابيًّا ينشد:
لعل انحدار الدمع يعقب راحةً https://hwazen.com/Images/alukah30/space.gif
من الوَجْدِ أو يَشفي شجيَّ البلابلِ https://hwazen.com/Images/alukah30/space.gif


فسألته لمن الشعر؟ فقال: لذي الرمة، فكنت إذا أُصبتُ بكيتُ، فاسترحت"[1].

وقال الشيخ عمر بن الشحنة: "كنت آوي إلى كوخ أيام محبسي بقلعة الموصل، فسمعت حمامة تهتف في أعلى ذلك الموضع، وعارضني عارض وجدت معه راحة بالبكاء، فقلت: لله درُّ غيلان كأنما أُوحيَ إليه؛ حيث يقول:
لعل انحدار الدمع يعقب راحةً = من الوجد أو يشفي شجي البلابل"[2].

وذكروا أن امرأة مات ولدها، فأمسكت نفسها عن البكاء صبرًا واحتسابًا، فخرج الدم من ثدييها؛ وذلك لِما ورد عليها من شدة الحزن مع الامتناع من البكاء[3].

وقال أبو بكر الخوارزمي: "إن الفجيعة إذا لم تُحارَب بجيش من البكاء، ولم يُخفَّف من أثقالها بشيء من الاشتكاء، تضاعف داؤها، وزاد عياؤها، وعز دواؤها".

وقال أبو إسحاق الصابي: "إن في إسبال العَبرة، وإطلاق الزَّفرة، والإجهاش والنشيج، وإعلان الصياح والضجيج - تنفيسًا من بُرَحاء القلوب، وتخفيفًا من أثقال الكروب"[4].

وقال أبو الحسن بن أبي القاسم القاشاني: "قد شفيت غليلي بما استدررته من أسراب الدموع المتجبرة، وخففت عني بعض البُرَحاء بما امتريتُه من أخلافها المتحدِّرة"[5].


وقالت الخنساء:
إن البكاء هو الشفاء https://hwazen.com/Images/alukah30/space.gif
من الجوى بين الجوانح[6] https://hwazen.com/Images/alukah30/space.gif



وقال امرؤ القيس:
وإن شفائي عَبرة مهراقة https://hwazen.com/Images/alukah30/space.gif
فهل عند رسمٍ دارسٍ من مُعَوَّلِ[7] https://hwazen.com/Images/alukah30/space.gif




وقال الفرزدق همام بن غالب:
ألم تَرَ أني يوم جوَّ سُوَيْقة https://hwazen.com/Images/alukah30/space.gif
بكيتُ فقالت لي هُنيدةُ ما ليا https://hwazen.com/Images/alukah30/space.gif
فقلت لها إن البكاء لراحة https://hwazen.com/Images/alukah30/space.gif
به يشْتَفي من ظنَّ أنْ لا تلاقيا[8] https://hwazen.com/Images/alukah30/space.gif



وقال رجل من تميم:
سأبكيك حتى تنفدَ العينُ ماءها https://hwazen.com/Images/alukah30/space.gif
ويشفي مني الدمعُ ما أتوجعُ[9]




وقال المتنبي:
وقلَّ جداءً عَبرة تسفحانها https://hwazen.com/Images/alukah30/space.gif
على أنها تشفي الحرارة في الصدر[10] https://hwazen.com/Images/alukah30/space.gif


وليس البكاء دائمًا دليلَ الضعف والوهن؛ كما يزعم زاعمون، وليس صحيحًا أنه الصفة الملازمة لضَعَفَةِ الناس من النساء والأطفال؛ كما يفوه القساة والمتجبرون، ولكنه برهان صادق عن النفس الإنسانية أنها تحمل شيئًا من معاني الرحمة والعطف، ومعاني الإحساس، واستشعار الأحوال، ومعاني وصول الأثر إلى ملك الجوارح، ومعاني الرغبة في إذهاب العناء، ولكن من غير قدرة عليه، ومعاني استعظام التقصير في حقِّ مَن لا ينبغي التقصير في حقه أو الاعتداء عليه.

وقد أخطأ من ظنَّ عدم جدوى البكاء، وأنه رَخاوة في النفس البشرية؛ كما "قال بعض الحكماء لبعض الملوك وقد رآه في مصيبة يبكي: ليس يليق بالسلطان ما هو عادة الصبيان والنسوان".

وكان محمد بن عبدالملك الزيات يقول: "إن البكاء من خور الطبيعة، وضعف النحيزة، وترك البكاء في الخطوب النُّزل، من أخلاق القوم البُزْل"؛ ولذلك قال الشاعر:
يُبكى علينا ولا نبكي على أحد https://hwazen.com/Images/alukah30/space.gif
لنحن أغلظ أكبادًا من الإبلِ https://hwazen.com/Images/alukah30/space.gif


وقال أبو تمام في التجلد وترك البكاء عند المصيبة:
خُلقنا رجالًا للتجلد والأسى https://hwazen.com/Images/alukah30/space.gif
وتلك الغواني للبكا والمآتمِ https://hwazen.com/Images/alukah30/space.gif


وقال ابن الرومي في الرزايا وترك البكاء:
ترحَّل من هويت وكل شمس https://hwazen.com/Images/alukah30/space.gif
ستكسف أو ستغرب حين تمسي https://hwazen.com/Images/alukah30/space.gif
وما ألهاك عن ذكرى حبيب https://hwazen.com/Images/alukah30/space.gif
كعدِّك أمس يوم بعد أمسِ https://hwazen.com/Images/alukah30/space.gif
رأيت الدهر يجرح ثم يأسو https://hwazen.com/Images/alukah30/space.gif
يؤسي أو يعوض أو ينسي https://hwazen.com/Images/alukah30/space.gif
أبت نفسي البكاء لرزء شيء https://hwazen.com/Images/alukah30/space.gif
كفى شجوًا لنفسي رزء نفسي https://hwazen.com/Images/alukah30/space.gif
أتهلع وحشةً لفراق إلفٍ https://hwazen.com/Images/alukah30/space.gif
وقد وطَّنتها لحلول رمسِ[11] https://hwazen.com/Images/alukah30/space.gif



يقول الآمدي في تخطئة أبي تمام في هذا الباب: "ومن أخطائه قوله:
ظعنوا فكان بكاي حولًا بعدهم https://hwazen.com/Images/alukah30/space.gif
ثم ارعويت وذاك حكم لبيدِ https://hwazen.com/Images/alukah30/space.gif
أجدر بجمرةِ لوعةٍ إطفاؤها https://hwazen.com/Images/alukah30/space.gif
بالدمع أن تزداد طول وقودِ https://hwazen.com/Images/alukah30/space.gif


وهذا ما خلف عليه العرب، وضد ما يعرف من معانيها؛ لأن المعلوم من شأن الدمع أن يطفئ الغليل، ويبرد حرارة الحزن، ويزيل شدة الوجد، ويعقب الراحة، وهو في أشعارهم كثير موجود ينحى به هذا النحو من المعنى ..."، ثم يقول: "ما عدل به أحد منهم عن هذا المعنى، وكذلك المتأخرون هذا السبيل سلكوا، وأبو تمام من بينهم ركب هذا المعنى وكرره في شعره متبعًا لمذاهب الناس؛ فمن ذلك قوله:
نثرت فريد مدامع لم ينظمِ https://hwazen.com/Images/alukah30/space.gif
والدمع يحمل بعض ثقل المغرمِ https://hwazen.com/Images/alukah30/space.gif


وقال في موضع آخر:
واقعًا بالخدود والحر منه https://hwazen.com/Images/alukah30/space.gif
واقع بالقلوب والأكبادِ https://hwazen.com/Images/alukah30/space.gif

وقال أيضًا:
فافزع إلى ذخر الشؤون وغربه https://hwazen.com/Images/alukah30/space.gif
فالدمعُ يذهب بعض جهد الجاهدِ https://hwazen.com/Images/alukah30/space.gif


وقال أيضًا:
فلعل عينك أن تعين بمائها https://hwazen.com/Images/alukah30/space.gif
والدمع منه خاذل ومواسِ https://hwazen.com/Images/alukah30/space.gif


وقال أيضًا:
فلعل عَبرة ساعة أذريتُها https://hwazen.com/Images/alukah30/space.gif
تَشفيك من إرباب وجد محولِ https://hwazen.com/Images/alukah30/space.gif


فلو كان اقتصر على هذا المعنى الذي جرت به العادة في وصف الدمع، لكان المذهب الصحيح المستقيم، ولكنه أحب الإغراب؛ فخرج إلى ما لا يُعرف في كلام العرب، ولا مذاهب سائر الأمم، وقد تبعه على الخطأ البحتريُّ؛ فقال:
فعلام فيض مدامع تدق الجوى https://hwazen.com/Images/alukah30/space.gif
وعذاب قلب في الحِسان معذَّب"[12]https://hwazen.com/Images/alukah30/space.gif



ويكفينا في صحة ما ذهب إليه أكثر الناس في هذا فِعْلُ سيدِ الخلق وقوله:
ففي قصة موت ابن رسول الله إبراهيم، قال أنس بن مالك: ((فجعلت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تذرفان، فقال له عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه: وأنت يا رسول الله؟! فقال: يا ابن عوف، إنها رحمة، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يُرضي ربنا عز وجل، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون، ولولا أنه وعد صادق، وموعود جامع، وأن الآخر تابع للأول، لوَجَدْنا عليك - يا إبراهيم - أفضل مما وجدنا))[13].

إن الإنسان الذي لا يبكي لا يظنَّنَّ أحد أنه مستريح، أو سالٍ في مصابه؛ فكم باكٍ أحسن حالًا من عديم البكاء، وأفسح صدرًا في عنفوان العناء!

إن ذلك الشخص الذي أجدبت عيناه يعيش المعاناة في أكمل صورها؛ لأن بكاءه الذي عجز عن إسالة دمعه يغلي في داخله، ويتحول إلى جمر يحرق باطنه، ويطوي باللهيب أحشاءه.

وإذا كان المرء لا تصنع منه المبكيات دمعًا، فهو يعيش مرضًا حقيقيًّا، وألمًا شديدًا يحتاج إلى علاج يقضي على هذا الداء قبل أن يستفحل.

فمتى تُليت عليه المواعظ، وعُرضت عليه المؤثرات الإيمانية، ولم تسِل منه دمعة، فقلبه ميت أو مريض.

ومتى أذنب واستشعر قبح ما فعل، ولم تسعفه عيناه بدموع الندم والخوف من مغبة الخطيئة، فهو يعيش قحطًا عبوسًا، يفتقر منه إلى استسقاء يُطيل به المقام للابتهال في محاريب المؤثرات الروحية التي تبدأ معه مرحلة التباكي لتنتهي به إلى مرحلة البكاء.

ومتى فقد الإنسان حبيبًا أو قريبًا ودودًا، وامتلأ قلبه بالعبرة، ولم تفضِ بسرِّها على الجفون بدمعة، فالخطب شديد يحتاج إلى استدراك قبل الهلاك.

فنحن – إذًا - بحاجة إلى قليل من البكاء - ولو في السر - حتى تهون الخطوب على القلوب، وتستريح الصدور من جثوم الأحزان، وحتى تُزجَى النفوس نحو التوبة وإحسان العبادة، وحتى يَعْشَوْشِب الخير في النفس الإنسانية، وتهتز بالإخبات وحب المعروف؛ لأنها لو بقيت بلا دمع فستعيش في قحط يورثها العبوس والقسوة، وستصفر في نواحيها رياح الكدر والغلظة، وسيبث على سمائها غبار العناء والشدة.

[1] محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء (2/ 527)، الصناعتين: الكتابة والشعر (ص: 126).

[2] أنس المسجون وراحة المحزون (ص: 131).

[3] الصناعتين: الكتابة والشعر (ص: 125).

[4] اللطائف والظرائف (ص: 237).

[5] اللطائف والظرائف (ص: 238).

[6] أنوار الربيع في أنواع البديع (ص: 23).

[7] ديوان امرئ القيس (ص: 1).

[8] الحماسة البصرية (1/ 256).

[9] الكامل في اللغة والأدب (1/ 73).

[10] محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء (2/ 527).

[11] اللطائف والظرائف (ص: 239).

[12] الموازنة بين شعر أبي تمام والبحتري (1/ 209).

[13] رواه البخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجه.






عبدالله بن عبده نعمان العوضي
م ق الألوكة


عطر الجنة 09-19-2023 05:29 PM

رد: قليلًا من البكاء
 
نحن – إذًا - بحاجة إلى قليل من البكاء - ولو في السر -
حتى تهون الخطوب على القلوب، وتستريح الصدور من جثوم الأحزان،
وحتى تُزجَى النفوس نحو التوبة وإحسان العبادة،

نفع الله بك عزيزتي
ع الانتقاء الطيب
جزاك الله خيرا ع جهودك الباهية


إسمهان الجادوي 10-21-2023 02:26 PM

رد: قليلًا من البكاء
 
شكرا لمرروك الذي عطر المكان
ونشر بشذاه أركان موضوعي
فبارك الله فيك


الساعة الآن 03:01 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
Search Engine Friendly URLs by vBSEO 3.6.1 TranZ By Almuhajir
new notificatio by 9adq_ala7sas
HêĽм √ 3.1 BY: ! ωαнαм ! © 2010
يرحل الجميع ويبقي شعاع بيت العلم والحب(ملك الكلمة)