منتديات شبكة شعاع الدعوية للتعليم عن بعد

منتديات شبكة شعاع الدعوية للتعليم عن بعد (https://hwazen.com/vb/index.php)
-   شعاع القران الكريم وعلومه (https://hwazen.com/vb/f28.html)
-   -   تفسير سورة آل عمران (https://hwazen.com/vb/t23563.html)

إسمهان الجادوي 05-07-2024 05:00 PM

تفسير سورة آل عمران
 
تفسير سورة آل عمران

مقدمة

الحمد لله رب العالمين، القائل في كتابه العزيز: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء:192-195]. والصلاة والسلام على المبعوث رحمةً للعالمين، القائل: "خَيْرُكم مَن تَعلّم القرآنَ وعلَّمَه"، وعلى آله وصحْبه الذين تعاهدوا القرآن الكريم، وتَلَوْه حقّ تلاوته كما سمعوه مِن فِيه -صلى الله عليه وسلم-، وعملوا بما فيه، وساروا على هداه، فنالوا بذلك الأجر العظيم والنعيم المقيم.

أسماءُ السُّورة:
سُمِّيتْ هذه السُّورةُ بسورة: آل عِمْرانَ. فعن النَّوَّاسِ بن سَمْعانَ رضِي اللهُ عنه قال: "سمعتُ رسولَ اللهِ ﷺ يقول: يُؤتَى بالقُرْآنِ يومَ القيامةِ وأهلِه الَّذين كانوا يَعمَلون به تَقدُمُه سورةُ البقرة وآلِ عِمْرانَ- وضرب لهما رسولُ اللهِ ﷺ ثلاثةَ أمثالٍ ما نَسيتُهنَّ بعدُ- قال: كأنَّهما غَمَامَتانِ، أو ظُلَّتانِ سَوْداوانِ بينهما شَرْقٌ، أو كأنَّهما حِزْقانِ من طَيرٍ صوافَّ تُحاجَّانِ عن صاحبِهما".
سُمِّيتْ هي والبقرةُ بالزَّهْرَاوَيْنِ. سُمِّيت سورة البقرة وآل عمران بالزهراوين لأنَّهما النيِّرتان وذلك إمَّا لهدايتهما قارئَهما بما يزهر له من أنوارهما، أي: من معانيهما. وإمَّا لِمَا يترتَّب على قراءتهما من النور التامِّ يوم القيامة، وقيل غير ذلك. فعن أبي أُمامةَ الباهليِّ رضي الله عنه، قال: سمعتُ رسولَ اللهِ ﷺ يقول: "اقْرَؤوا القُرْآنَ فإنَّه يأتي يَومَ القيامةِ شفيعًا لأصحابه، اقرَؤوا الزَّهْرَاوَيْنِ: البقرةَ وسورةَ آلِ عِمْرانَ".
فضائلُ السُّورةِ وخَصائِصُها:
سورةُ آل عِمْرانَ تُحاجُّ عن صاحبها يومَ القِيامة مع البقرةِ، فعن أبي أُمامةَ الباهليِّ رضِي اللهُ عنه، قال: سمعتُ رسول اللهِ ﷺ يقول: "اقْرَؤوا القُرْآنَ فإنَّه يأتي يومَ القيامةِ شفيعًا لأصحابه اقرَؤوا الزَّهرَاوَينِ : البقرةَ وسورةَ آلِ عِمْرانَ؛ فإنَّهما تأتِيانِ يومَ القيامةِ كأنَّهما غَمَامتانِ أو كأنَّهما فِرْقانِ من طيرٍ صوافَّ تُحاجَّانِ عن أصحابهما، اقرَؤوا سورةَ البقرةِ فإنَّ أَخْذَها بركةٌ، وتركَها حسْرةٌ، ولا يستطيعُها البَطَلَةُ" قال معاويةُ: بلغني أنَّ البَطَلَةَ السَّحَرةُ".
وعن النَّوَّاس بن سَمْعانَ رضِي اللهُ عنه، قال: سمعتُ رسول اللهِ ﷺ يقول: "يُؤتَى بالقُرْآنِ يومَ القيامةِ وأهلِه الَّذين كانوا يعمَلون به تقدُمُه سورةُ البقرةِ وآلُ عِمْرانَ، وضرب لهما رسولُ اللهِ ﷺ ثلاثةَ أمثالٍ ما نسيتُهنَّ بعدُ، قال: كأنَّهما غَمامَتانِ أو ظُلَّتانِ سَوْداوانِ بينهما شَرْقٌ أو كأنَّهما حِزْقانِ من طيرٍ صوافَّ، تُحاجَّانِ عن صاحبِهما".
تعظيمُ الصَّحابةِ رضِي اللهُ عنهم لقارِئ البقرةِ وآلِ عِمْرانَ؛ فعن أنسٍ رضِي اللهُ عنه، قال: "كان الرَّجُلُ إذا قرأ البقرةَ وآلَ عِمْرانَ جَدَّ فينا- يعني: عظُمَ- وفي رواية: يُعَدُّ فينا عَظيمًا، وفي أخرى: عُدَّ فينا ذا شأنٍ".
بيانُ المَكِّيِّ والمَدنيِّ:
سورةُ آل عِمْرانَ سورةٌ مدنيَّةٌ، نزلَتْ بعد الهجرةِ، ونقَل الإجماعَ على ذلك عددٌ من المفسِّرين.
مقاصد السُّورةِ:
مِن أهمِّ المقاصد الَّتي تضمَّنَتْها سورةُ آل عِمْرانَ:
إثباتُ وَحْدانيَّةِ الله وإقامة الأدلَّة والحُجَجِ عليها.
بيانُ أهميَّةِ عقيدةِ الولاءِ والبَرَاء والتَّحذيرُ من ولايةِ غيرِ المؤمنين، وتفصيلُ أحوالِ أهلِ الكتاب.
الاهتمامُ بجوانب التَّربيَةِ والإرشادِ والتَّوجيهِ للمؤمنين.
موضوعاتُ السُّورةِ:
يقول الإمام ابن جزيٍّ الكلبي في صدر سورة آل عمران: نزل صدرها إلى نيّفٍ وثمانين آية، لما قدم وفد نصارى نجران المدينة المنورة يناظرون رسول الله ﷺ في عيسى عليه السلام، ومِن أبرزِ الموضوعاتِ الَّتي تناولَتْها سورةُ آلِ عِمْرانَ:
هذه الآيات في صدر هذه السورة تتحدث وتركز على بيانُ وَحْدانيَّةِ اللهِ تبارَك وتعالَى المُطلَقةِ، وتقريرُ أنواعِ التَّوحيدِ الثَّلاثةِ: الألوهيَّةِ، والرُّبوبيَّةِ، والأسماءِ والصَّفاتِ، وتحتج على النصارى، وتبين حقيقة المسيح عليه السلام وما إلى ذلك.
تقريرُ وَحْدةِ الجِهةِ الَّتي تنزَّلَتْ منها جميعُ الكُتُبِ والدِّياناتِ السَّماويَّةِ.
بيانُ أقسامِ النَّاس مع مُحكَمِ القُرْآنِ ومُتشابِهِه.
تحذيرُ أهلِ الكفرِ المناوئين للهِ ورسولِه ﷺ فالسُّلطانُ والقوَّةُ والجاهُ والولَدُ لن يُغنيَ عنهم شيئًا من عذاب اللهِ وسَطوتِه وأنَّ نهايتَهم هي الخسرانُ المُبينُ في الدُّنيا والآخرةِ، وضرب لهم الأمثالَ لكفَّارٍ قبلَهم وكفَّارٍ بعدهم، وكيف كانت نهايتُهم.
الإشارةُ إلى غزوةِ بَدْرٍ الكبرى وذكرُ تفاصيلِ ما جرى في غزوةِ أُحُدٍ من أحداثٍ ﴿وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ﴾ [آل عمران:121]، تتحدث عن وقعة أُحد في سياقٍ طويل تضمن قضايا تتعلق بأسباب النصر والهزيمة، وما وقع للمسلمين في تلك الوقعة، وعزّاهم أحسن تعزية، وكان في مضامين تلك الآيات من الدروس والعظات والعبر ما لا يُقادر قدره -كما سيأتي.
الإشارةُ إلى أحبِّ الشَّهواتِ النَّفسيَّةِ للإنسانِ وبيان أنَّ هناك ما هو خيرٌ منها وهو ما أعَدَّه اللهُ للمتَّقين مِن نعيمٍ مقيمٍ في جنَّاتِ الخُلدِ.
بيانُ أهميَّةِ دِينِ الإسلامِ وأنَّه دينُ الله الَّذي لا يَقبَلُ غيرَه.
تفصيلُ أحوالِ أهل الكتاب وفَضْحُ ضلالاتِهم وما وقَعوا فيه من اختلافٍ في أمرِ دِينهم وما ارتكَبوه من جرائمَ وموبقاتٍ بتكذيبِهم بآياتِ اللهِ وقتلِهم أنبياءَه والدُّعاةَ إليه وامتناعِهم عن التَّحاكُمِ إلى كتابِه وقِصَّتُهم مع عيسى عليه السَّلام، وكُفْرُهم به ودعوةُ الرَّسولِ ﷺ إلى مُباهَلةِ كلِّ مَن جادَله منهم في شأنِ عيسى عليه السَّلام مِن بعدما جاء العلمُ، وأمرُ اللهِ لرسولِه أنْ يدعوَهم إلى كلمةٍ سواءٍ وهي كلمةُ التَّوحيد ومجادلتُهم في إبراهيمَ عليه السَّلام وبيانُ الحقِّ لهم في شأنِه، وذِكْرُ مجموعةٍ من صفاتهم الَّتي اتَّصفوا بها كإرادتهم إضلالَ المسلمين وكُفرِهم بآياتِ الله ولَبْسِهم الحقَّ بالباطل ولَيِّهم ألسنتَهم بالكتاب بما ليس منه إيهامًا للمؤمنين، وغيرُها. وأمرُ اللهِ لنبيِّه بمجادلتِهم وبيانُ الحقِّ لهم في أكثرَ مِن موضعٍ من مواضعِ السُّورةِ وتحذيرُ اللهِ لأوليائه المؤمنين من اتِّباعِهم وطاعتِهم، وإخبارُ اللهِ تبارَك وتعالَى أنَّ أهلَ الكتاب ليسوا سواءً، وثناؤُه على طائفةٍ منهم وهم الَّذين يتلُون آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيل ويُؤمنون باليومِ الآخِرِ ويَأمُرون بالمعروفِ ويَنهَوْن عن المنكَرِ، وغير ذلك ممَّا يتعلَّقُ بأهلِ الكتابِ.
التنبيهُ على عقيدةِ الولاء والبَرَاءِ، والتَّأكيدُ عليها، والتَّحذيرُ مِن ولاية غيرِ المؤمنين واتِّخاذِهم بِطانةً من دونِ المؤمنين.
بيانُ أنَّ محبةَ الله لها دلائلُ وعلاماتٌ وثمارٌ؛ فمِن دلائلِها: اتباعُ رسولِه ﷺ ومِن ثمارِها: محبَّتُه لِمَن أطاع ﷺ.
ذِكرُ الأنبياء وبيانُ علوِّ مراتبِهم واصطفاءِ الله لهم وبيان قصَّةِ مريمَ وابنِها عيسى عليهما السَّلام، وقصَّة زكريَّا وابنِه يحيى عليهما السَّلام.
ذِكرُ مجموعةٍ من الآدابِ التَّربويَّةِ للجماعةِ المسلِمةِ كالوصيَّةِ بالتَّقوى، والاعتصامِ بحبلِ اللهِ، ونَبْذِ الفُرقةِ والاختلافِ، وأمرهم بالدَّعوةِ إلى الخيرِ، وامتنانه عليهم بأنْ جعَلَهم خيرَ أمَّةٍ أُخرِجت للنَّاسِ، وحثهم على الإنفاقِ، وغيرها من الآدابِ العظيمةِ المنثورة في ثنايا السُّورةِ.
ذِكرُ بعض الأحكام الشَّرعيَّة كالجهادِ في سبيلِ الله، والنَّهيِ عن أكلِ الرِّبا، والنَّهيِ عن الغُلولِ، وعقوبة مانع الزَّكاةِ.

﴿الم (1) ﴾[آل عمران: 1]
هذه الحروفُ المقطَّعة التي افتُتِحَت بها هذه السُّورةُ وغيرُها، تأتي لبيانِ إعجازِ القرآن حيث تُظهرُ عَجْزَ الخَلْقِ عن مُعارضتِه بمثلِه مع أنَّه مركَّبٌ من هذه الحروفِ العربيَّة التي يَتحدَّثون بها، وقرأ الجمهور بفتح الميم هنا في الوصل؛ لالتقاء الساكنين نحو: من الناس.


﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) ﴾[آل عمران: 2]
أي: لا أحدَ معبودٌ بحقٍّ سِوى الله تعالى فهو وحْدَه المستحِقُّ للعبادة حبًّا وتعظيمًا له سبحانه لكمالِ صِفاتِه.
قال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ  [الحج:62]
﴿الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾[آل عمران: 2] أي إنَّ اللهَ تبارَك وتعالَى هو الذي له الحياةُ الكاملة التي لم يَسبِقها عَدَمٌ ولا يَلحَقها زَوالٌ المٌستلزِمةُ لجميعِ صِفاتِ الكمال وهو أيضًا القائمُ بنفْسِه فلا يَحتاج لأحدٍ، القائمُ بأمورِ غيرِه من خَلْقه مِن الرَّزق وغيرِه فكلُّ الموجوداتِ إليه مُفتَقِرةٌ ولا قِوامَ لها بدونه، وهذه القَيُّوميَّة مُستلزِمةٌ لجميعِ أفعالِ الكَمال. وهذا ردٌّ على النصارى في قولهم: إن عيسى هو الله؛ لأنهم زعموا أنه صُلب فليس بحيٍ وليس بقيوم..
قال تعالى: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ [الفرقان:58]. وقال سبحانه: وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ [الروم:25].


﴿نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3)﴾ [آل عمران:3]


﴿نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ﴾ أي: أَنزل اللهُ القُرْآنَ عليك- يا محمَّدُ- مُشتملًا على الحقِّ والصِّدق، وأيضًا فنزولُه حقٌّ لا شكَّ فيه فهو منزَّلٌ مِن عندِ اللهِ تعالى.
قوله: ﴿بِالْحَقِّ﴾ هذه الباء يجوز أن تكون بمعنى: أنه متلبسٌ بالحق نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ، يعني: متلبس بالحق، مشتملٌ على الحق، فهو نازلٌ بحق لا بالباطل، ويكون ذلك صفةً للكتاب. ويَحتمل أن تكون متعلقة بالتنزيل، أي: أن نزوله حق، وليس بباطل، ﴿نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ﴾ نزَّله، فإنزاله حق، والمعنى الذي قبله أنه: أنزله متلبسًا، متضمنًا، مشتملًا على الحق وليس الباطل، فلا سبيل للباطل إليه. ﴿مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ أي: مصدِّقًا للكتُبِ السَّابقةِ المنزَّلةِ قَبله مِن اللهِ على أنبيائه ورُسُلِه وذلك إمَّا باعتبار أنَّها أَخبرتْ به فكان نزولُهُ مصدِّقًا لها وإمَّا باعتبار أنَّه حاكمٌ عليها بالصِّدق.
فإنْ قيل: كيف يكونُ القرآنُ مُصدِّقًا لِمَا بَينَ يَديهِ وهو ناسخٌ لعامَّة أحكامِه؟
قيل: تَصديقُه إيَّاه تحقيقُه أنَّه مِن جِهة الله، ومطابقتُه إيَّاه في كونِه داعيًا إلى التَّوحيدِ وفِعلِ الخيرِ ونحوِ ذلك، وإلى أنواعِ العباداتِ دون قَدْرِها وهَيكلِها، وكيف إيقاعُها.
﴿وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ﴾أي: أنزل التَّوراةَ على موسى عليه السَّلام، والإنجيلَ على عيسى عليه السَّلام، مِن قَبلِ هذا القُرْآنِ الَّذي نزَّله عليك.
﴿هُدًى لِلنَّاسِ﴾، أي: بيانًا للنَّاسِ عُمومًا مِن اللهِ تعالى.
﴿وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ﴾ أي: وأنزَلَ في كُتبِه ما يُفرِّقُ بين الحقِّ والباطلِ والهُدى والضَّلال.


﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4)﴾ [آل عمران: 4]

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا قرَّر اللهُ سبحانه ما يتعلَّقُ بمعرفةِ الإله، وما يَتعلَّقُ بتقريرِ النُّبوَّةِ، أَتْبَع ذلك بالوعيدِ زجرًا للمُعرِضين عن هذه الدَّلائلِ الباهِرة عليهما، فقال:
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ﴾ هذه الآيات المُنزلة التي تضمنت الهدى الكامل من الله جلا ثناؤه لعباده، فإن الذين كَفروا بها فأَنكَروها وردُّوها بالباطلِ متوعدون بالعذاب الشديد، فكان في ذلك الإخبار بإنزال هذه الكتب الدعاء إلى الإيمان بها، والعمل بمقتضاها، فجاء هذا التهديد والوعيد لمن كفر لاسيما أن الخطاب كما سبق في صدر هذه السورة في بضع وثمانين آية موجه إلى النصارى، فيتوعدهم بعد هذه المقدمات التي تستدعي الإيمان ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ﴾ فذكر الكفر مع الاسم الموصول الَّذِينَ كَفَرُوا كل ذلك لإظهار متعلق الوعيد، وأن ذلك مُسبب عن الكفر، فمن وقع في شيء من ذلك بالكفر بأحد هذه الكتب كالقرآن فله عذاب شديد يوم القيامةِ، وهذه اللفظة "شديد" فيها معنى الشد والتضييق، وعذاب جهنم لا شك أنه بهذه المثابة وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا [الفرقان:13]، وذلك يكون كحال المشدود الذي ألمه مُضاعف ﴿لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ﴾ والله -تبارك وتعالى- وصف العذاب بالشدة، ووصفه بأنه أليم أيضًا في مواضع كثيرة من كتاب الله -تبارك وتعالى-، وهذا الألم يقع على الأجساد كما يقع على الأرواح، ووصفه أيضًا بأنه مُهين، وذلك واقع على الأرواح فيجتمع لهم هذا وهذا، كما قال الله -تبارك وتعالى يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ [القمر:48]، فالسحب على الوجوه لا شك أنه في غاية الإيلام مع الإهانة، وما يكون لهم مع ذلك من التبكيت ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدخان:49]، قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون:108]، فيحصل لهم من ضروب الإهانة الشيء الكثير، فيحصل الألم للأجساد والأرواح. وهذا العذاب الشديد لم يُقيد أنه في النار، أو في الآخرة، فيبقى على إطلاقه، قد توعدهم بالعذاب الشديد، فيكون ذلك في الدنيا بما يقع عليهم من المصائب والآلام والعقوبات العامة والخاصة، وكذلك ما يقع لهم على أيدي أهل الإيمان من إدالتهم عليهم والقتل والأسر، وما يقع لهم في البرزخ، وما يقع لهم في القيامة، وما يقع لهم في النار، فيكون هكذا بهذا الإطلاق -والله تعالى أعلم..
﴿وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ﴾ أي: عزيز" فهذا اسم من أسمائه العزيز، وهو يتضمن صفة العزة، وصفة العِزة من الصفات الجامعة، الصفات الجامعة هي التي تجمع معانٍ وأوصاف حتى يتحقق هذا الوصف، فالعزة والمجد وما أشبه ذلك مما لا يتحقق إلا بمجموع أوصاف كل ذلك يُقال له صفة جامعة، يعني: العزة لا تتحقق بمجرد القوة، فقد يكون قويًّا لكنه ليس بعزيز، ولا تتحقق بمجرد الغنى فقد يكون غنيًّا ولكنه في غاية الذُل، وإنما تكون العزة بمجموع ذلك فيكون له من العظمة والقوة، وما أشبه ذلك بحيث إنه لا يُضام ولا يُرام، فهذا العزيز، عزيزٌ في سُلطانِه لا يَمنَعُه مانعٌ ممَّن أراد عذابَه منهم ولا يحُولُ بينه وبينهم حائلٌ ولا يَستطيعُ أنْ يُعاندَه فيه أحدٌ وأنَّه ﴿ذُو انْتِقَامٍ﴾ ما قال: والله عزيز مُنتقم، وإنما قال: ﴿عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ﴾، وذو بمعنى صاحب، والفرق بين المقامين أن العزة صفة مُطلقة من أوصاف الله جلا جلاله يوصف أنه العزيز ويُسمى بالعزيز، يوصف بالعزة ويُسمى العزيز، ولكن الانتقام ذلك وصف مقيد، وليس بمطلق يعني هو مُنتقم ذو انتقام صاحب انتقام، مُنتقم من المجرمين، منتقم من الكافرين ممَّن جحَد حُجَجَه وأدلَّتَه وخالَف رُسلَه، لكن الانتقام لا يكون كمالاً بإطلاق إلا إذا كان في الموضع الذي يكون كمالاً فيه.
الهدايات والفوائد التربوية:
لَمَّا كان سببُ نزولِ صدْر هذه السُّورةِ هو قضيةَ مجادلةِ نصارى نَجْرانَ حينَ وفَدوا إلى المدينةِ وبيانَ فضلِ الإسلام على النَّصرانيَّةِ- ناسَب أنْ تُفتَتَحَ السُّورةُ بحروف التَّهجِّي المرموزِ بها إلى تحدِّي المكذِّبين بهذا الكتابِ.
قولُ الله تبارَك وتعالَى: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾فيه ردٌّ على النَّصارى في قولِهم بأُلوهيَّةِ عيسى عليه السَّلام فجاء البيانُ هنا أنَّ أحَدًا لا يستحقُّ العبادةَ سوى الله عزَّ وجلَّ.
الجمعُ بين الاسمينِ الكريمينِ﴿الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾فيه استغراقٌ لجميعِ ما يوصَفُ اللهُ به بجميعِ الكمالات ففي الحَيُّ كمالُ الصِّفاتِ، وفي القَيُّومُ كمالُ الأفعال، وفيهما جميعًا كمالُ الذَّات فهو كاملُ الصِّفاتِ والأفعالِ والذَّات.
القرآن نزلَ نُجومًا: شيئًا بعدَ شيءٍ فلذلك قال: ﴿نَزَّلَ﴾والتنزيلُ مَرَّةً بعدَ مرَّة، والتوراة والإنجيل نَزلَا دفعةً واحدة فلذلك قال: ﴿أَنْزَلَ﴾.
في قولِه تعالى: ﴿وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ﴾ جمَع التَّوارةَ والإنجيلَ في إنزالٍ واحدٍ، واستجدَّ للقرآنِ إنزالًا؛ تَنبيهًا على علوِّ رُتبتِه عنهما.
ذَكَر في قوله: ﴿مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ﴾ هذا القيدَ مِنْ قَبْلُ لكيلا يتوهَّم أنَّ هُدَى التوراةِ والإنجيل مُستمرٌّ بعد نزول القرآن، وفيه إشارةٌ إلى أنَّها كالمقدِّماتِ لنزولِ القرآن، الذي هو تمامُ مرادِ الله مِن البَشر﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلَامُ﴾ [آل عمران:19]
إثباتُ الحِكمةِ للهِ تعالى في أحكامِه الشَّرعيَّة، كما تَثبتُ في أحكامِه الكونيَّةِ؛ لقولِه: ﴿هُدًى لِلنَّاسِ﴾.
يُؤخَذُ من قولِه تعالى: ﴿وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ﴾ أنَّه كلَّما اهتدى الإنسانُ للفروقِ كان أعظمَ اهتداءً بالكتُب المنزَّلةِ من الله لأنَّ جميعَ كتبِ الله تبارَك وتعالَى فُرقانٌ؛ لِما تضمَّنَتْه من تفريقٍ بين الحقِّ والباطل، والصِّدقِ والكذِبِ، والمؤمنِ والكافر، والضَّارِّ والنَّافع، فمَن يُفرِّقُ مثلًا بين الشِّركِ الأصغرِ والأكبر، وبَين النِّفاقِ الاعتقاديِّ والعمليِّ، وبين الحلالِ والحرام- كان أشدَّ اهتداءً بالكتبِ ممَّن لا يُفرِّقُ.
في قوله تعالى: ﴿وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ﴾ أنَّ الكتبَ السَّماويةَ لا تَجمعُ بين مُختلفينِ ولا تُفرِّقُ بَين متماثلينِ أبدًا؛ فهي فُرقانٌ، والفُرقانُ هو الَّذي يُفرِّقُ بين شَيئينِ مختلفينِ، أمَّا شيئانِ لا يَختلفانِ فلا تَفريقَ بينهما، ويَتفرَّعُ على هذه الفائدةِ: إثباتُ القياسِ لأنَّه جمْعٌ بين متماثلينِ، وعَدمُ الأخْذِ بالقياس تفريقٌ بين مُتماثلينِ.
في قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ﴾ قال سبحانه: ﴿ذُو انْتِقَامٍ﴾ ولم يقُلْ: (ذو الانتقام) لأنَّ الانتقامَ ليس من أوصافِ اللهِ المطلَقةِ وليس من أسمائِه وإنَّما يُوصَفُ اللهُ به مقيَّدًا فيُقال: المنتقِمُ من المجرِمين كما قال تعالى: إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ [السجدة: 22] فقوله ذُو انْتِقَامٍ لا يُعطي معنى الانتقامِ المطلَقِ لأنَّ (انتقام) نكِرة فلا تُعطي المعنى على إطلاقِه بل له انتقامٌ مقيَّدٌ بالمجرِمينَ ونحوِهم، فهذا الختم والتذييل لهذه الآية بهذه الأوصاف لا شك أنه يتضمن وعيدًا فهو قادر على أخذهم، فالوعيد في قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ﴾[آل عمران: 4]، لا يتحقق إلا لمن كان عزيزًا، ومن كان قادرًا على الأخذ والانتقام من هؤلاء.

﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) ﴾[آل عمران:5]


﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ ﴾أي: إنَّ اللهَ تعالى لا يغيبُ عن عِلمِه شيءٌ في الأرض ولا في السماوات فهو سبحانه عالِمٌ بجميعِ الأشياء على التَّفصيلِ، وهذا بمعنى الإحاطة إحاطة العلم بكل صغيرة وكبيرة بهذا الكون في العالم العلوي والعالم السُفلي، ومثل هذا النفي ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ﴾ يتضمن ثبوت كمال ضده، إن النفي الذي يتوجه في أوصاف الله -تبارك وتعالى-، أو أوصاف النبي ﷺ، أو أوصاف الملائكة، أو القرآن؛ فإنه يقتضي ثبوت كمال ضده، فإذا قال: لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ [البقرة:255] فذلك لكمال حياته وقيوميته يعني فيه إثبات كمال حياته وقيوميته، فإذا نفى الظلم فذلك لكمال عدله، وهنا ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ﴾ لكمال علمه وإحاطته وإلا فالنفي بمجرده لا يكون مدحًا كما هو معلوم، فإذا جاء في أوصاف الله أو ما ذكرت فإنه يكون متضمنًا لثبوت كمال ضده..


﴿هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6) ﴾[آل عمران: 6]


مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا قرَّر سبحانه إحاطةَ عِلمِه بالمعلومات كلِّها جلِيِّها وخفِيِّها ظاهرِها وباطنِها ذَكَر مِن جملةِ ذلك ومن دقيقه وعجيبه مما لا تقع عليه الأبصار أبصار الخلق هو ما في الأرحام الأَجِنَّةَ في البطون الَّتي لا يُدركُها بصرُ المخلوقين ولا يَنالُها عِلمُهم، وهو تعالى يدبِّرُها بألطفِ تدبير ويقدِّرُها بكلِّ تقدير، بل هو الذي يُقلبهم ويصورهم في الأرحام كيف يشاء، فهذا الذي تحويه الأجنة، وما يحصل من التخليق والأطوار من غير حاجة إلى شق بطن، ولا أشعة، ولا غير ذلك مما يمكن أن يُتعرف به على ما في الجوف، أو على ما يحويه الرحم وهو منبت الولد، فقال:
﴿هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ﴾ أي: هو الَّذي يَجعلُكم صُوَرًا في أرحام أمَّهاتِكم على أيِّ كيفيَّةٍ شاء، يفعل ذلك جميعًا من غير أدوات ومناظير، ولا أجهزة، ولا وسائط، ومن غير أن تشعر الأم بشيء من ذلك مما يحصل في داخل جوفها ورحمها، فيجعَلُ هذا ذَكَرًا وهذا أنثى، وهذا أبيض، وذاك أسود، وهذا أحمر، وهذا حَسَنًا وهذا قَبيحًا، وهذا طويلاً، وهذا قصيرًا، وهذا صحيحًا، وهذا عليلاً،، إعطاء كل واحد من هؤلاء المخاليق صورة يتميز بها عن غيره، وله بصمته التي يفترق بها عن الآخرين، بصمة نفسية، وبصمة في البنان، وبصمة في الصوت، وبصمة في العين، خلقهم هذا الخلق الدقيق، فهذه النطفة تتحول فيكون ما يكون من الخلق قلبًا ويكون بعضه عينًا، ويكون بعضه أمعاء، ويكون بعضه رئة، ويكون بعضه دماغًا، ويكون بعضه جلدًا. وهكذا خلق هذا الإنسان في شعره وبشره بهذه الدقة العجيبة، الأُذن في موضعها، والعين في موضعها، والرأس في موضعه، والكبد في موضعه، والطُحال في موضعه، والمعدة في موضعها، الأنف في موضعه، والرجل في موضعها، والأصابع في مواضعها، أصابع القدمين تختلف عن أصابع اليدين، كل ذلك بإحكام، وفي غاية الدقة يتكون ويتحول في بطن أمه كما قال الله تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ، هذا في أصل الخلق الأول، ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ، وهذا في ذرية آدم عليه السلام، ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا [الحج:5]. وقال سبحانه: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ هذا في الأصل ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ هذا في النسل وهو الرحم في هذا الموضع المكين الحصين في أقوى المواضع، وأقوى العظام وهي عظام الحوض، في حال من التمكن والاستقرار والحفظ والصيانة، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [المؤمنون:12-14] فهذا من تخليقه -تبارك وتعالى- وتصويره.
وشرَح النبيُّ ﷺ كيفيَّةَ التصويرِ في الحديثِ الذي رواه ابنُ مسعودٍ وغيرُه عن النبيِّ ﷺ، أنَّه قال: "إنَّ أحدَكُم يُجمَعُ خَلقُه في بَطنِ أمِّهِ أربعينَ يومًا، ثمَّ يَكونُ في ذلك عَلقةً مثلَ ذلِكَ، ثمَّ يَكونُ مُضغةً مثلَ ذلِكَ، ثمَّ يُرسَلُ الملَكُ فيَنفخُ فيهِ الرُّوحَ ويُؤمرُ بأربعٍ، كلِماتٍ: بكَتبِ رزقِه وأجلِه وعملِه وشقيٌّ أو سعيدٌ". وقوله -تبارك وتعالى وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ [لقمان:34] "ما" هذه تُفيد العموم، بعض الناس يستشكلون علم الناس في العصر الحديث عبر الأشعة يعلمون حال الجنين هل هو ذكر أو أنثى، فيستشكلون هذه الآية، وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ [لقمان:34] وأن ذلك من خصائص الله جل في علاه، وما علموا شيئًا هؤلاء بأشعتهم ما علموا شيئًا؛ لأن قوله: مَا فِي الْأَرْحَامِ الملك يُبعث إليه فيعلم ذلك قبل أن يعلموه، و"ما" تفيد العموم ليست قضية ذكر أو أنثى شقيّ أم سعيد، من يعلم هذا؟! هذا لا يُعلم لا بأشعة ولا بغيرها. أجله، من الذي يعلم الأجل ؟! ما أجل هذا الجنين؟! وهل سيخرج حيًّا أو ميتًا؟! كم سيعيش إذا خرج حيًّا؟! ماذا عن عمله؟! ماذا عن صحته؟! ماذا عما يجري له في حياته مما قدره الله تبارك وتعالى؟! ثم أيضًا الطب لا يعلم ذلك إلا بعد مدة، الله يعلمه منذ البداية قبل أن يعلمه الملك، الطب لا يعرف في الأربعين الأولى حينما يكون نطفة هل هو ذكر أو أنثى، ما يعلمون هذا. وفي هذا ردٌّ على النصارى لأن عيسى لا يقدر على التصوير بل كان مُصورًّا كسائر بني آدم فدلَّت هذه الآيةُ على أنَّ عيسى ابنَ مريمَ عبدٌ مخلوق مربوب لله -تبارك وتعالى-.كما خَلَق اللهُ سائرَ البشر لأنَّ اللهَ تعالى صوَّره في الرَّحِم وخَلَقه كما يشاء؛ فكيف يكونُ إلَهًا كما زعمَتْه النَّصارى، وقد تَقلَّب في الأحشاءِ، وتنقَّل من حالٍ إلى حال كما قال تعالى: يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ [الزمر:6]. فمن يفعل ذلك أنه ينبغي أن يُفرد بالعبادة، لذا قال اللهُ تعالى بعد ذلِك مقررًا انفرادَه بالأُلوهيَّة: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ أي: هو المستحقُّ للإلهيَّة وحْدَه لا شريكَ له، العزيزُ في مُلكِه لا يَغلِبُه شيء ولا يمتنعُ منه شيءٌ وما شاء كان بلا ممانعٍ والحكيمُ في خَلْقِه وصُنعِه وتدبيره.


﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7) ﴾[آل عمران: 7]


هذه الآية في صدر هذه السورة له ارتباط ظاهر في هذا السياق الطويل الذي جاء في الرد على النصارى، وفي إبطال دعواهم في تقرير التوحيد الخالص لله رب العالمين، وذلك من جهة أن النصارى كانوا يتبعون المتشابه من القرآن ويُلبسون به، لما قدم عليهم المُغيرة بن شعبة إلى نجران سألوه عن ذكر هارون مع مريم في قوله تبارك وتعالى: يَا أُخْتَ هَارُونَ [مريم:28] قالوا: كان بين هارون عليه السلام ومريم مدة من الزمان طويلة فلم يدرِ ما يُجيبهم حتى قدم على النبي ﷺ فسأله فقال: "إنهم كانوا يسمون بأنبيائهم والصالحين قبلهم". يعني: أن هارون الذي قيل فيه يَا أُخْتَ هَارُونَ [مريم:28] هو مُسمى على هارون عليه السلام الذي هو من أنبيائهم، وهو أخو موسى -عليهما السلام-، فهذا من اتباع المتشابه، وهناك أشياء كانوا يتبعونها في المتشابه في قضايا الاعتقاد والتثليث يحتجون بأشياء من القرآن، يقولون: إنه تدل على اعتقادهم الفاسد الإشراك والتثليث، وأن عيسى إله وأنه ابن الله، فالنصارى وَالِغُون في اتباع المتشابه. فهذه الآية فيها تقرير عام لهذا الأصل الكبير بأن أهل الزيغ يتبعون المتشابه، فهذا من أبرز سماتهم، وأما أهل الرسوخ فهم أهل الإذعان والتسليم فلا يتتبعون المتشابه، ولا يضربون كتاب الله بعضه ببعض، فهذا سبيل الراسخين اتباع المحكمات ورد المتشابهات إلى المحكمات.
﴿هوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾ أي: هو الَّذي أنزَل عليك- يا محمَّدُ-الكتاب هذا القُرْآنَ وأن هذا الكتاب ينقسم من حيث الإحكام والتشابه إلى قسمين: الأول: المتشابه، والثاني: المحكمات،﴿مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ﴾ أي: مِن القُرْآن آياتٌ بيِّناتٌ واضحاتُ الدَّلالة لا التباسَ فيها على أحدٍ من النَّاسِ ولا شُبهةَ ولا إشكالَ ولا تحتاج إلى غيرها لفهم معناها بخلاف المتشابهات فإنها بحاجة إلى ردها إلى المحكم لتبين المراد، هذا أحسن ما قيل في معنى المحكم والمتشابه وهو الذي قال به الإمام أحمد -رحمه الله.
﴿هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ أي: وهذه الآياتُ المُحكَماتُ هي أصل هذا الكتابِ ومُعظَمُه الَّذي يُرجَعُ إليه عند الاشتباهِ، الإحكام والتشابه في كتاب الله -تبارك وتعالى- جاء بإطلاقين: الإطلاق الأول وهو الإطلاق العام، فالله وصف القرآن كله بأنه مُحكم، ووصف القرآن كله بأنه مُتشابه.كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ [هود:1]، كل القرآن مُحكم بهذا الاعتبار، والمعنى على هذا أنه مُتقن في مبانيه وألفاظه، ليس فيه خلل، ولا لحن، ولا خطأ، ولا عيب، وكذلك أيضًا هو مُحكم في معانيه، مُحكم في المباني والألفاظ، مُتقن وهو محكم أيضًا من جهة المعاني ليس فيه تعارض وتضارب، ليس في مضامينه شيء يمكن أن يُقال إنه غلط، أو أنه يُضاد ويُخالف العقول أبدًا، فهو مُحكم لا يمكن لأحد أن يستدرك عليه قليلًا ولا كثيرًا، هذا كلام رب العالمين الذي أحاط بكل شيء علما. وهذه الآية هي الوحيدة في كتاب الله تبارك وتعالى التي تذكر الإحكام والتشابه بالمعنى الخاص، بمعنى أن التشابه المحكم والمُتشابه بالمعنى الخاص، المُحكم ما استقل بمعناه وظاهر وبان المُراد منه، فلم يحتج إلى غيره لمعرفة المراد به مثل قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]، اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255]، وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [النساء:77]، وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196]، وهذا أكثر القرآن، ظاهر من جهة المراد.
﴿وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾ أي: ومِن القُرْآنِ آياتٌ أُخَرُ يَلتبسُ معناها أو تشتبهُ دَلالتُها على كثيرٍ من النَّاسِ أو بعضهم وهذا النوع الثاني: المُتشابه وهو ما احتاج إلى غيره، يعني: يحتاج أن يُرجع إلى المُحكم لتبين المراد، فهذا كقوله -تبارك وتعالى: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ [الأنعام:3]، وَهُوَ اللَّهُ فِي السماوات وَفِي الأَرْضِ، ما المراد؟ هل يُفهم من هذا أن الله تبارك وتعالى، وتقدست أسماؤه، وتنزه وتعالى عن كل عيب ونقص- في السماوات والأرض؟ حاشا وكلا، لكن لو أنه التبس على أحد من هذه الآية المراد يرجع إلى الآيات المُحكمات الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، في سبعة مواضع من كتاب الله عز وجل يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ [النحل:50]، فهو مُتصف بالعلو والفوقية، مستوٍ على عرشه، بائن من خلقه، إذًا ما المراد بقوله: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ [الأنعام:3]؟ بعض العلماء فسره، قال: وَهُوَ اللَّهُ، يعني: المألوه، فِي السماوات وَفِي الأَرْضِ، يعني: يؤلهه أهل السماء وأهل الأرض، هذا المعنى، ليس أنه في السماوات وفي الأرض مُخالطا لخلقه؛ فالله بائن من خلقه فوق سماواته، مستوٍ على عرشه، وَهُوَ اللَّهُ فِي السماوات وَفِي الأَرْضِ [الأنعام:3]، فتُرجع إلى الآيات الأخرى المحكمات. ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ﴾ أي: فأمَّا الَّذين في قلوبِهم مَيْلٌ عن الحقِّ وانحرافٌ عنه وضلال فيَتعلَّقون بالمتشابِهِ من آياتِ القُرْآن ويأخذون به ويتركون المُحكَمَ ﴿ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ﴾ أي: طلَبًا للشُّبهاتِ واللَّبْسِ على المؤمنين وإضلالِهم إيهامًا بأنَّهم يحتجُّونَ بالقُرْآن ﴿وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ﴾ أي: وطلَبًا لتفسيرِه على ما يُريدون تحريفًا له وَفْقَ أهوائِهم الفاسدةِ لاحتمالِ لفظِه لِما يصرِفونه إليه.
عَن عَائِشَةَ رضِي الله عنها، قالت: "تَلا رسولُ اللهِ ﷺ هذه الآيةَ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ، قالَتْ: قال رسولُ اللهِ ﷺ "فإذا رأيتِ الَّذين يتَّبِعون ما تَشابَه منه فأُولئكِ الَّذين سَمَّى اللهُ فاحذَرُوهم".
﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ﴾ أي: وما يعلَمُ عواقِبَ الأمورِ وما تؤولُ إليها ولا حقائقَها إلَّا اللهُ عزَّ وجلَّ وحده؛ وذلك كحقائقِ صفاتِ الله وكيفيَّتِها، وحقائق أوصاف ما يكونُ في اليومِ الآخِرِ، ونحو ذلك.
أمَّا الرَّاسخون في العِلم المتمكِّنون منه المُتقِنون له فيقولون ﴿آمَنَّا بِهِ﴾ وصدَّقْنا بالمتشابهِ من آيِ الكِتابِ، وأنَّه حقٌّ وإن لم نعلَمْ تأويلَه، هذا على قراءة الوقفِ على اسمِ الله، أمَّا على قِراءة الوصلِ فيكون المعنى: وما يَعلَمُ تفسيرَ المتشابهِ وبيانَه ورَدَّه إلى المُحكَم ودَفْعَ شُبَهِه إلَّا اللهُ والرَّاسخون في العِلم المتمكِّنون منه المُتقِنون له أيضًا يعلَمون ذلك ويقولون: ﴿آمَنَّا بِهِ﴾ وصدَّقْنا بالمتشابهِ من آيِ الكتابِ﴿كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا﴾ أي: كلٌّ مِن المحكَمِ من الكتاب والمتشابهِ منه الجميعُ مِن عند ربِّنا أوحاه إلى نبيِّه ﷺ يُصدِّقُ كلٌّ منهما الآخَرَ ويشهَدُ له، فدل ذلك على منزلة أهل الرسوخ والثناء عليهم، فتلك فضيلة ينبغي على العبد أن يسعى ويحرص على التحقق بالعلم إن كان ذلك في إمكانه، يعني ممن هم بصدد العلم الشرعي والاشتغال به، والتفرغ له، والتخصص فيه فينبغي أن لا يرضى الواحد منهم أن يكون سطحيًّا، ولا يكون له تحقق في العلم مع أنه قد تفرغ لذلك. ﴿وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ أي: وما يَتذكَّرُ ويتَّعِظُ ويفهَمُ ويَقبَلُ النُّصحَ إلَّا أصحابُ العقول السَّليمة، هذا التذكر هنا جاء بأقوى صيغ الحصر، فأقوى صيغ الحصر النفي والاستثناء، ﴿وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ ، فدل ذلك على أنه بقدر ما يكون عند الإنسان من العقل الصحيح يكون عنده من الانتفاع واستخراج المعاني والهدايات والتذكر، وهذا فيه أيضًا الثناء والمدح لأهل العقول الراجحة كذلك يدل على أن الراسخين في العلم أنهم أولوا الألباب.


﴿رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً
إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) ﴾[آل عمران: 8]

﴿رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا﴾ أي: ويقول الرَّاسخونَ في العِلم أيضًا: يا ربَّنا لا تُمِلْ قلوبَنا عن الهُدى والحقِّ بعد إذ هديتَنا إليه فوفَّقْتَنا للإيمانِ بمُحكَمِ كتابِك ومتشابِهه فلا تَجْعَلْنا كالَّذين في قلوبهم زَيغٌ ممَّن يتَّبِعُ ما تشابهَ من القُرْآن، وهذا يدل على أن القلوب لها أحوال من الزيغ والهدى بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا ثم حاجة العبد إلى تثبيت الله سبحانه وتعالى له أن يحفظ عليه قلبه وإيمانه. عن عبدِ الله بن عمرٍو قال: قال رسول اللهِ ﷺ "إنَّ قلوبَ بَني آدمَ كلَّها بينَ إصبَعينِ من أصابعِ الرَّحمنِ كقَلبٍ واحِدٍ يُصرِّفُه حيثُ يشاءُ ثمَّ قالَ رسولُ اللهِ ﷺ اللَّهمَّ مُصرِّفَ القلوبِ، صرِّفْ قلوبَنا على طاعتِكَ".
وعن أمِّ سلَمةَ رضِي اللهُ عنها قالت: "كانَ أَكْثرُ دعائِهِ: يا مُقلِّبَ القلوبِ، ثبِّت قلبي علَى دينِكَ، قالَت: فقُلتُ: يا رسولَ اللهِ، ما أَكْثرَ دُعاءَكَ: يا مقلِّبَ القلوبِ، ثبِّت قَلبي علَى دينِكَ! قال: يا أمَّ سلَمةَ، إنَّهُ لَيسَ آدميٌّ إلَّا وقلبُهُ بينَ أُصبُعَيْنِ من أصابعِ اللهِ، فمَن شاءَ أقامَ، ومن شاءَ أزاغَ، فَتلا معاذ: رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا".
﴿وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً﴾ أي: وأعطِنا يا ربَّنا- تفضُّلًا مِن عندك- رحمةً عظيمةً تَزيدُنا بها إيمانًا وثَباتًا ويقينًا وسَدادًا ﴿إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ﴾ أي: إنَّك أنت واسعُ العطايا والهِبَاتِ كثيرُ الإحسان فإنَّنا إنَّما طلَبْنا منك هبةَ الرَّحمةِ لأنَّك ﴿أنتَ الوهَّابُ﴾.


﴿رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9) ﴾[آل عمران: 9]

﴿رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ أي: ويقول الرَّاسخون في العِلمِ أيضًا يا ربَّنا إنَّك تبعَثُ النَّاسَ وتجمَعُهم في يومٍ لا شكَّ فيه وهو يوم القيامة وذلك للفصلِ بينهم ومجازاةِ كلِّ واحد بعمَلِه فاغفِرْ لنا يومئذٍ واعفُ عنَّا ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾ أي: إنَّ اللهَ لا يُخلِفُ وعده أنَّ مَن آمَن به واتَّبَع رسولَه وعمِل صالحًا أنَّه يغفِرُ له.

الهدايات والفوائد التربوية:
في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ... ﴾ حضٌّ على تربيةِ الإنسان لنفسِه على امتثالِ ما أمَره الله به واجتنابِ ما نهاه عنه وأنْ يتيقَّنَ أنَّ عمَلَه لا يَخفَى على الله بل هو معلومٌ له.
في ﴿قوله لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ﴾ عدَّة فوائد منها:
خصَّ اللهُ تبارَك وتعالَى الأرضَ والسَّماء بالذِّكر لكونِهما مَشهودَينِ لنا أمَّا ما عدا ذلك فإنَّنا لا نعلَمُه إلَّا عن طريقِ الغيب.
ابتدأ في الذِّكر بالأرض ليتَسنَّى التدرُّجُ في العطف إلى الأبعدِ في الحُكم لأنَّ الكثيرَ من أشياءِ الأرض يعلَمُها كثيرٌ من النَّاس أمَّا أشياءُ السَّماء فلا يعلم أحدٌ بعضَها فضلًا عن عِلم جميعِها.
وأيضًا في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاء﴾ صفةٌ سلبيَّةٌ يرادُ بها بيانُ كمالِ العِلم لأنَّ الصِّفاتِ المنفيَّةَ لا يرادُ بها مجرَّدُ النَّفي وإنَّما يراد بها بيانُ كمال الضِّدِّ.
والآية استئنافٌ يَتنزَّلُ منزلةَ البيان لوصف الحيِّ لأنَّ عموم العِلم يبيِّنُ كمالَ الحياة.
وفيها ردٌّ على غلاةِ القدريَّةِ الَّذين يَزعُمون أنَّ اللهَ لا يعلَمُ بعمَلِ العبدِ إلَّا بعد وقوعِه.
إحاطةُ علمِ اللهِ بالكلِّيَّات والجزئيَّات وذلك يؤخَذُ من قوله ﴿شَيْءٌ﴾ فهي نكِرةٌ في سياق النَّفي فأفادت العمومَ.
قوله: ﴿هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ﴾ استئنافٌ يُبيِّنُ شيئًا من معنى القيُّوميَّةِ فهو كبَدَلِ البعضِ من الكلِّ، وخَصَّ بالذِّكرِ مِن بين شؤونِ القيُّومية تصويرَ البَشر لأنَّه مِن أعجبِ مظاهرِ القدرةِ، ولأنَّ فيه تعريضًا بالرَّدِّ على النَّصارى في اعتقادِهم إلهيَّةَ عيسى عليه السَّلام، وردٌّ أيضًا على أهلِ الطَّبيعة إذ يجعلونها فاعلةً مستبدَّةً.
يُؤخَذُ من قوله: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ... ﴾ الآيةَ أنَّ اللهَ سبحانه وتعالى أنزَل المتشابِهَ ليمتحِنَ قلوبَنا في التَّصديق به، للتمييزِ بين الثابت على الحقِّ والمتزلزل فيه، فإنَّه لو كان كلُّ ما ورَد في الكتاب معقولًا واضحًا لَمَا كان في الإيمان شيءٌ من معنى الخضوعِ لأمرِ الله تعالى والتَّسليمِ لرُسلِه، ولكي يكونَ حافزًا لعقل المؤمنِ إلى النَّظر كيلا يضعُفَ فيموتَ، ولتعويد حَمَلةِ هذه الشَّريعةِ وعلماءِ هذه الأمَّةِ بالتَّنقيبِ والبحثِ واستخراج المقاصدِ من عويصاتِ الأدلَّة، وليظهر فيها فضلُهم ويزداد حِرصُهم على أن يجتهدوا في تَدبُّرها وتحصيل العلوم المتوقِّف عليها استنباطُ المراد بها، فينالوا بها، وبإتعابِ القرائحِ في استخراجِ معانيها، والتوفيقِ بينها وبين المُحكَمات الدَّرجاتِ العُلى عند الله تعالى.
لَمَّا ذكَر أنَّ القُرْآن مُحكَمٌ ومتشابِهٌ نظَر إليه جملةً- كما اقتضاه التَّعبيرُ بالكتابِ- فعبَّر عن ذلك بالإنزالِ دون التَّنزيل فقال﴿أَنْزَلَ عَلَيْكَ﴾.
قسَّم اللهُ الأدلَّةَ السَّمعية إلى قِسمين: مُحكَمٍ ومتشابهٍ، وجعَل المحكَم أصلًا للمتشابهِ، وأُمًّا له، وأمُّ الشَّيء مرجعُه وأصلُه، فما خالَف ظاهرَ المُحكَم، فهو متشابهٌ يُرَدُّ إلى المحكَم؛ ولذا قدَّم وصف هذه المحكَمات بقوله: ﴿هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ ليتبادرَ إلى الذهن أوَّلَ ما يتبادر أنَّه يردُّ المتشابهات إلى المحكَماتِ لأنها كالأمِّ لها؛ فالمحكَماتُ تُفهَم بذواتها بينما المتشابهات لا تُفهَم إلَّا بالاستعانة بالمُحكَمات.
قال تعالى: ﴿هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ﴾، ولم يجمَعْ فيقول: (هنَّ أمَّهاتُ الكتاب)، وقد قال: هُنَّ لأنَّه أراد: جميعُ الآياتِ المحكَماتِ أمُّ الكتاب، لا أنَّ كلَّ آيةٍ منهنَّ أمُّ الكتاب، ونظيرُ ذلك، قولُه تعالى: وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً [المؤمنون:50] ولم يقُلْ: آيتينِ لأنَّ معناه: وجعلنا جميعَهما آيةً؛ لأنَّ المعنى واحدٌ فيما جُعِلا فيه عبرةً للخَلْقِ.
الاشتباه قد يكونُ اشتباهًا في المعنى، بحيث يكون المعنى غيرَ واضح، أو اشتباهًا في التعارضِ، بحيث يظنُّ الظانُّ أنَّ القُرْآن يعارضُ بعضُه بعضًا، وهذا لا يمكن أنْ يكون واقعًا في القرآن لأنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ قال: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا [النساء:82] والقُرْآن يُصدِّقُ بعضُه بعضًا.
التَّشابُه في التفسيرِ والمعنى أمرٌ نِسبيٌّ فقد يتشابهُ عند هذا ما لا يتشابه عند غيرِه، ولكن ثَمَّ آياتٌ مُحكَماتٌ لا تشابُهَ فيها على أحدٍ، وتلك المتشابهات إذا عُرِف معناها صارَتْ غيرَ متشابهة.
في قوله: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ ﴾ ذكَر اللهُ أشدَّ الميْل وهو مَيْلُ القلب، وفي إشعارِه ما يلحَقُ بزيغِ القلوبِ من سيِّئِ الأحوال في الأنفُس وزلَلِ الأفعال في الأعمال، فأنبَأَ عن الأشدِّ وأبهم ما هو الأضعفُ.
في قوله سبحانه: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ﴾ دليلٌ على أنَّ مِن علامةِ الزَّيغِ اتِّباعَ المتشابِهِ من القُرْآنِ سواءٌ تبِعه الإنسانُ بالنِّسبة لتصوُّرِه فيما بينه وبين نفسِه بإيراد الآياتِ المتشابهاتِ عليها أو كان يتَّبِعُ ذلك بالنِّسبة لعَرْضِ القُرْآن على غيره.
في قوله: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ﴾ على قراءةِ الوقفِ بيانُ أنَّ في القُرْآن ما لا يعلَمُ تأويلَه إلَّا اللهُ (أي: وما يعلَمُ عواقبَ الأمورِ وما تؤولُ إليها ولا حقائقَها إلَّا اللهُ عزَّ وجلَّ وحده)، وفيه امتحانٌ للعباد بتأدُّبِهم مع الله عزَّ وجلَّ، هل يحاولون الوصولَ إلى شيءٍ لا تدركُه عقولُهم أو يقفون على حدودِ ما تُدركه عقولُهم.
في قوله تعالى: ﴿وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ فضيلةُ الرُّسوخ في العِلم وضرورةُ الثَّبات فيه والتعمُّقِ في أخذِه والبعدِ عن السَّطحيَّةِ فيه والرُّسوخُ في العِلم قدرٌ زائدٌ على مجرَّد العِلم فالرَّاسخُ في العِلم يقتضي أنْ يكون عالِمًا محقِّقًا وعارفًا مدقِّقًا قد رسخ قدمُه في أسرارِ الشَّريعةِ عِلمًا وحالًا وعمَلًا، وينبغي للإنسان أنْ يحرِصَ على أنْ يكون راسخًا في العِلم لا مُجرَّدَ جامعٍ له فالرُّسوخُ في العِلم يُولِّد عند الشَّخص ملَكةً يستطيعُ من خلالها تقريبَ العِلم بعضِه من بعض وقياسَ بعضِه على بعض.
مُقتضى الرُّبوبيَّة أنَّ اللهَ تعالى يُنزِّل على عبادِه كتابًا لا يكونُ فيه اختلافٌ يوقِعُهم في الشَّكِّ والاشتباهِ لقوله سبحانه: ﴿ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا﴾ أي: المحكَم والمتشابِهُ، وما كان من عندِ الرَّبِّ المعتني بعبادِه بربوبيَّتِه فلن يكونَ فيه تعارُضٌ ولا تناقُضٌ بل هو متَّفِق يصدِّقُ بعضُه بعضًا ويشهَدُ بعضُه لبعض فإذا أشكَل مجمَلُ المتشابِهِ فهو مردودٌ يقينًا إلى المحكَمِ.
لا يَنتفعُ بهذا القُرْآن ولا يتذكَّرُ بآياته إلَّا مَن كان له عقلٌ كما قال تعالى: ﴿وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ وكلَّما ازداد المرءُ عقلًا ازداد تذكُّرًا بكلامِ الله وكلَّما نقَص تذكُّرُه دلَّ ذلك على نقصٍ في عقلِه بناءً على قاعدة: "الحكم المعلَّق على وصفٍ يَزيد بزيادته ويَنقُص بنقصانه".
في قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا﴾ بيانُ أنَّ للقلبِ حالينِ: حالَ استقامةٍ وحالَ زيغٍ، والإنسان مضطرٌّ إلى أنْ يسأَلَ اللهَ سبحانه وتعالى ألَّا يُزيغَ قلبَه حتى يكونَ مستقيمًا فهو لا يملِكُ قلبَه لذا لا بدَّ أنْ يلجأَ إلى اللهِ بسؤالِه ألَّا يُزيغَ قلبه، ولا يغتَرَّ بنفسِه ويتَّكِلَ على إيمانِه فكم من مؤمنٍ زلَّ وارتكَس والعياذُ بالله.
القلبُ عليه مدارُ العمَلِ لذلك سلَّط اللهُ فِعْلَ الزَّيغ عليه فقال: ﴿لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا﴾ .
التَّخليَة تكونُ قبل التَّحليَة ومن ذلك قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا﴾ ثمَّ قال: ﴿وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً﴾ فقدَّم اللهُ تبارَك وتعالَى السُّؤال في تطهير القلبِ عمَّا لا يَنبغي على طلبِ تَنويرِه بما ينبغي لأنَّ إزالةَ المانع قبل إيجادِ المقتضِي عينُ الحكمة.
قولهم: ﴿بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا﴾ لا يُرادُ به الافتخارُ بل يرادُ به التَّوسُّل بالنِّعَم السَّابقة إلى النِّعَم اللَّاحقة ودليلٌ على أنَّ الهُدى والضَّلال مِن اللهِ تعالى، وأنَّه متفضِّلٌ بما يُنعِم على عبادِه، لا يجبُ عليه شيءٌ ما.
الإنسان مضطرٌّ إلى ربِّه في الدَّفعِ والرَّفع، أو في الجلبِ والدَّفع؛ لأنَّهم سأَلوا ألَّا يُزيغَ قلوبَهم بعد إذ هداهم وسأَلوا أنْ يهَبَ لهم منه رحمةً فدعاؤُهم ألَّا يُزيغَ قلوبَهم دعاءٌ بالرَّفعِ ودعاؤهم بـ ﴿وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً﴾ دعاءٌ بالدَّفع.
الدُّعاء غالبًا ما يُصَدَّر بالرَّبِّ لأنَّ الدُّعاءَ يتطلَّبُ الإجابةَ، والإجابةُ من الأفعال، والأفعال علاقتُها بالرُّبوبيَّة أكثر من علاقتها بالألوهيَّة؛ فالربوبيةُ تَقتضي القيامَ بأمورِ العباد وإصلاحِها؛ فكان العبدُ مُتعلِّقًا بمَنْ شأنُه التربيةُ والرفقُ والإحسان.
طلبُهم الرَّحمةَ مِن عندِ الله بقولهم: ﴿وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً﴾ حتى لا يكونَ لأحدٍ عليهم منَّةٌ سواه، ولأنَّها متى ما كانت مِن عندِه كانت عظيمةً؛ فالعطاءُ على قدرِ المعطي.
نبَّه تعالى بقوله: ﴿هَبْ لَنَا﴾ على أنَّ العبدَ يَنبغي ألَّا يلتفتَ إلى شيءٍ من عمَلِه ولا أنْ يَطلُبَ العِوَضَ به، بل يَرجو رَجاءَ المفَاليسِ الطَّالبين للتفضُّلِ والهِبَة لا العِوَض.
في قوله تعالى: ﴿إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ﴾ إثباتُ اسمِ الله الوهَّاب وما يتضمَّنُه من صفةِ الهِبَة وهي صِفةٌ فعليَّةٌ لله تعالى.

﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا
وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ(10) ﴾[آل عمران: 10].


مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا ذكَر الله تعالى يومَ القيامة، وتَحقَّق أنَّ يومَ الجمْعِ كائنٌ لا محالةَ، تحقَّق أنَّ مِن نتائجه تَحقيقًا لعزَّتِه سبحانه وتعالى: أنْ يحاسِبَ الَّذين كفروا، وأنْ يَنتقمَ منهم. ولَمَّا حَكَى اللهُ تعالى ما دعَا به المؤمنون: مِن دوامِ الهدايةِ، وسؤالِ الرَّحمة، والفوزِ يومَ القِيامة، ذَكَر حالَ الكافرين في ذلك اليومِ، على عادةِ القُرآن في إردافِ البشارة بالنذارة، وتعقيبِ دُعاءِ المؤمنين، بذِكر حالِ المشركين فقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا﴾ أي: إنَّ الَّذين كفَروا باللهِ وآياتِه، كفروا بكتبه، كفروا بالقرآن، كفروا بما يجب الإيمان به، وكذَّبوا رُسلَه، وجحَدوا دينَه، لن تُنجيَهم أموالُهم ولا أولادُهم من عُقوبةِ اللهِ إذا حلَّتْ بهم، ولن تجزي عنهم من الله شيئا، لن تجزي عنهم تلك الأموال، ولو كثُرت، ولن تجزي عنهم الأولاد وإن كثروا. كما قال تعالى: يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88، 89]. ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ الآية صُدرت بالتأكيد وهذه الأداة "إِنَّ" بمنزلة إعادة الجملة مرتين، فهذا تأكيد لهذا الخبر، والحكم الذي حكم به عليهم.
﴿لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا﴾ هذا يدل على كمال قدرة الله وأن نواصي الخلق تحت قبضته، وتصرفه، فلا يمتنع عليه أحد مهما كان عنده من الإمكانات، والأملاك، والأموال، فالله -تبارك وتعالى- لا يُعجزه شيء، ولا يمتنع عنه أحد، أراد أخذه ومعاقبته. وجاء بأقوى صيغة من صيغ النفي ﴿لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللّهِ شَيْئًا﴾، "لن" قدم الضمير المتعلق بهم، ما قال لن تغني أموالهم، ولا أولادهم عنهم شيئا، وإنما قال : ﴿لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم﴾، "عنهم" وذلك أن هذا هو المعتنى به، هم يريدون التعزز بهؤلاء الأولاد، والأموال، والاستغناء بها، والدفع عن أنفسهم، فإن ما يرجع إليهم هو المقصود الأعظم، فقدم ما يتصل بهم: لن تغني عنهم، ذكر الأموال والأولاد، وغير الأموال والأولاد من الأتباع والأولياء، والخدم والحشم والعتاد، كل ذلك داخل فيه، لكنه ذكر أقرب ما يكون للإنسان مما يكون رهن إشارته، وهو ماله الذي يتصرف فيه، ويفتدي به، فإن ماله تحت يده، وطوع إشارته. ﴿شَيْئًا﴾ نكرة في سياق النفي، تفيد العموم، لن تغني عنهم كثيرًا ولا قليلاً، لن تغني عنهم في أدنى الأشياء، لا في المحاجة عنهم، ولا في تخفيف العذاب، ولا في تقليله، أو تقليل مدته، فوجودها كعدمها تمامًا، يعني: الذي ليس عنده أولاد ولا أموال، والذي يملك أملاك قارون وعنده أولاد كثير، هؤلاء سواء، لن يحصل لهم انتفاع بهذه الأموال ولا الأولاد.
﴿وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ﴾ أي: وأولئك هم حطَبُ النَّارِ الَّذي توقَدُ به، الملازِمونَ لها دائمًا أبدًا؛ كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [آل عمران:116]. ثمَّ ذكَرَ تعالى مثلًا لهؤلاء الكافرينَ الذين استغْنَوْا بما أُوتوا في الدُّنيا عن الحقِّ فعارضُوه وناهضُوه حتَّى أَخَذهم، فقال:


﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ
وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ(11) ﴾[آل عمران: 11]


﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا﴾ أي: شأنُهم في ذلك كشأنِ فِرْعون وآلِه والأُمَم المكذِّبةِ بآياتِ الله مِن قبلِهم؛ كقوم نوحٍ، وقوم هودٍ، وأمثالِهم وكذلك كسنة الله تبارك وتعالى بالمكذبين من الأخذ والعقوبة والنكال، وهذا يدل على أن سنته -تبارك وتعالى- قد مضت في أهل التكذيب والكفر والعتو على الله -تبارك وتعالى- بالأخذ والعقاب والنكال والعذاب الأليم في الدنيا قبل الآخرة، وهذا فيه من الوعيد لكل المكذبين والكافرين والمعرضين عن دعوة الرسل عليهم الصلاة والسلام.
﴿كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا﴾ والآيات هنا تشمل الآيات المُنزلة وتشمل أيضًا الآيات التي هي بمعنى البراهين والدلائل التي تدل على صدق الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-، فهؤلاء الفراعنة فرعون ومن معه كذبوا بما جاء به موسى عليه السلام، كذبوا بالمعجزات التي أراهم إياها وكان أعظم ذلك العصى التي انقلبت إلى حية وصارت تلتهم وتبتلع ما يأفكون، وكذلك أيضًا سائر الآيات.
﴿فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ الفاء هذه تدل على التعقيب المُباشر تدل على ترتيب ما بعدها على ما قبلها، الباء تدل على السببية يعني بسبب ذنوبهم، ويحتمل أن يكون بمعنى المُلابسة أخذهم الله تبارك وتعالى حال كونهم مُلابسين ومقارفين للذنوب، يعني: أخذهم بجرمهم المشهود حال مواقعة الجُرم، لكن الأول أقرب، ما سبب الأخذ؟ هو الكفر والتكذيب بآيات الله -تبارك وتعالى أي: أهلَكهم اللهُ بسببِ ذُنوبهم، علة الأخذ هو التكذيب، فدل على أن التكذيب سبب لعقوبة الله تبارك وتعالى وعذابه، وهذا كله يوجب الحذر من الذنوب والمعاصي والكفر وكل ما يوجب سخط الله تبارك وتعالى. ﴿فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ﴾ ولم يقل: كذبوا بآياتنا فأخذناهم بذنوبهم، لا، ﴿فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ﴾، فأظهر الاسم الكريم في مقام يصح فيه الإضمار، العرب تُعبر بالضمائر اختصارًا لكنها تُظهر في مقام يصح فيه الإضمار وذلك أنه أوقع هنا في القلب، وأعظم في المهابة، وتربيتها في النفوس، وكذلك أفخم، ويدل على شدة الأخذ، فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ من الذي أخذهم؟ الله، فأخذه أليم شديد، فأضاف ذلك إليه واللهُ شديدُ الأخذِ، أليمُ العذابِ، هذا أيضًا يدل على التهويل والتعظيم والتفخيم، يعني: أظهر الاسم الظاهر، ﴿فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾، هنا ما قال: وهو شديد العقاب، وإنما قال: "والله"، فأظهر في مقام الإضمار أيضًا، وهذه الجملة أيضًا تدل على معنى التخويف وتدل على شدة بأس الله -تبارك وتعالى.

الهدايات والفوائد التربوية:
في قوله تعالى : ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ﴾ دليلٌ على أنَّ الكفَّارَ لا تنفَعُهم أموالُهم ولا أولادُهم، لا في دُنياهم ولا أُخراهم، بخلافِ المؤمنين الَّذين ينتفعون بأموالِهم وأولادِهم، في حياتِهم وبعدَ موتهم، وفي الآيةَ: تحذيرًا مِن الغرورِ؛ إذ إنَّ الجحودَ مِن النَّاس نتيجةٌ حتميَّةٌ لغرورِهم بأنفسِهم؛ حيث تُوهِمُهم الاستغناءَ عن الحقِّ.
في قوله تعالى : ﴿فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ﴾ بيانُ أنَّه قد مضَتْ سنَّةُ اللهِ تبارَك وتعالَى بأن يكونَ العقابُ أثَرًا طبيعيًّا للذُّنوبِ والسَّيِّئاتِ، فوجَب الحذرُ منها.
في قوله ﴿بِذُنُوبِهِمْ﴾ ردٌّ على الجَبْريَّةِ الَّذين لا ينسُبون فِعْلَ العبدِ إليه؛ فاللهُ قد أضاف الذُّنوبَ إليهم، والفِعلُ لا يُنسَبُ إلَّا لِمَن قام به حقيقةً.
كمالُ العذابِ هو أنْ يَزولَ عنه كلُّ ما كان منتفعًا به، ثمَّ يجتمع عليه جميعُ الأسبابِ المؤلِمة؛ فالأوَّلُ هو المرادُ بقوله تعالى : ﴿لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ﴾؛ فإن المرءَ عند الشِّدَّة يفزَعُ إلى المالِ والولَدِ؛ لأنهما أقربُ الأمورِ الَّتي يفزَعُ إليها في دفعِ النَّوائب، فبيَّن تعالى أنَّ صفةَ ذلك اليوم مخالِفةٌ لصفةِ الدُّنيا، وإذا تعذَّر عليه الانتفاعُ بالمالِ والولَدِ، وهما أقربُ الطُّرقِ، فما عداه بالتَّعذُّرِ أَولى، وأمَّا الثَّاني مِن أسباب كمال العذابِ، وهو اجتماعُ الأسباب المؤلِمة، فهو المرادُ بقوله تعالى : ﴿وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ﴾، وهذا هو النِّهايةُ في العذاب؛ فإنَّه لا عذابَ أعظمُ مِن أنْ تشتعلَ النَّارُ فيهم كاشتعالِها في الحطَبِ اليابس.
خَصَّ اللهُ آلَ فِرْعون بالذِّكْرِ- من بين بقيَّةِ الأُمَم- في قوله: ﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ﴾؛ لأنَّ هلاكَهم معلومٌ عند أهلِ الكتاب، بخلاف هلاكِ عادٍ وثمودَ؛ فهو عند العربِ أشهرُ، وقدَّمهم لأنَّهم أكثرُ الأُممِ طغيانًا، وأعظمُهم تعنُّتًا على أنبيائِهم، فكانوا أشدَّ الناسِ عذابًا.

﴿قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ(12) ﴾[آل عمران: 12]


القِراءاتُ ذاتُ الأثرِ في التَّفسير:
في قوله تعالى: ﴿سَتُغْلَبُونَ﴾ قراءتان:
قراءة ﴿سَيُغْلَبُونَ﴾ على معنى أنَّ الكُفَّارَ غُيَّبٌ. قرأ بها حمزة والكسائي وخلف..
وقيل معناه: قلْ لليهود: سيُغلبُ مُشرِكو العربِ ويُحشرون إلى جَهنَّمَ، فتكونُ المخاطبةُ لليهود، وتكونُ الغلبةُ واقعةً على مُشركي قريش، والتوجيهُ الأوَّل أرجحُ لصريحِ الخِطاب ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾.
قِراءة ﴿سَتُغْلَبُونَ﴾ هي أمرٌ من الله لنبيِّه أنْ يُخاطِبَ الكفَّارَ بهذا أي: قل لهم-يا محمَّدُ-مواجهًا بالخطاب ﴿ستُغلبون وتُحشرون إلى جهنَّمَ﴾ قرأ بها الباقون.
﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ﴾ أي: قُلْ- يا محمَّدُ- للَّذين كفروا: يدخل في هذا الذين كفروا من أهل الكتاب؛ لأن هذه الآيات في صدر هذه السورة في مخاطبتهم ومجادلتهم والرد عليهم، وكذلك عموم الذين كفروا يدخل فيه سائر طوائف الكفار كل الكفار في كل زمان ومكان ستُغلَبون من قِبَلِ المؤمنين في الدُّنيا، وهذا وعيد لهم في الدنيا والآخرة، وهو وعد من الله -تبارك وتعالى- لنبيه ﷺ "سُتغلبون"، والغلبة هنا يدخل فيها الغلبة بنوعيها الغلبة في ميدان المعركة، وهي المتبادرة، وهي الإطلاق الأغلب في كتاب الله تبارك وتعالى، ويدخل فيه الغلبة أيضًا بالحُجة والبُرهان، ولا شك أن هذه الغلبة بنوعيها حاصلة ومتحققة، وقد حصل ذلك فقد غُلبوا في ميدان المعركة، وغلبوا أيضًا في ميدان الحجة، وذلك ليس للرسول ﷺ بل يكون لأتباعه بقدر ما يكون لهم من الاقتداء والاتساء والاتباع، فيكون لهم من النصر والغلبة بحسب ذلك كما قال تعالى: كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [المجادلة:21]، وكما قال: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ [غافر:51].
﴿وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ﴾
القِراءاتُ ذاتُ الأثرِ في التَّفسير:
في قوله تعالى ﴿وَتُحْشَرُونَ﴾ قِراءتان:
قِراءة ﴿وَيُحْشَرُونَ﴾ بالياء، على لفظِ الغَيبة، قرأ بها حمزةُ والكسائيُّ وخلفٌ.
قِراءة ﴿وَتُحْشَرُونَ﴾ بالتَّاء بالخِطابِ، قرأ بها الباقون.

﴿وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ﴾ أي: وتُجمَعون يَومَ القِيامةِ إلى النَّار. كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ [الأنفال:36]
﴿وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾: الفراش الموطأ للصبي يُقال له: مهاد فيكون مهادهم لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ [الأعراف:41]، فهذا هو حال هؤلاء الكفار يفترشون النار -نسأل الله العافية- تكون لهم فراشًا، وأيضًا تغشاهم النار من فوقهم. وبئس الفِراشُ جهنَّمُ الَّتي تُحشَرون إليها.

﴿قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ
يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13) ﴾[آل عمران: 13]

﴿قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ﴾ الخطاب في قوله: ﴿قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ عام لجميع طوائف الكفار بما فيهم اليهود، ثم يكون الخطاب الآخر ﴿قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ﴾ موجهاً للجميع أيضاً والله تعالى أعلم، ومن أهل العلم من يقول: إن الخطاب الثاني ﴿قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ﴾ موجه للمسلمين، فهو خاطب الكفار بقوله: ﴿قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ﴾، ثم قال للمسلمين: ﴿قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ﴾ أي فيما حصل في غزوة بدر من هزيمتكم للمشركين مع كثرة عددهم وقلَّتكم. أي: قد كان لكم علامةٌ ودلالةٌ على أنَّ الغَلَبةَ تكونُ للمؤمنين، وأنَّ اللهَ مُعزٌّ دِينَه، وناصرٌ رسولَه، ومُظهِرٌ كلمتَه.
﴿فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ﴾ أي: في طائفتينِ لقِي بعضُهما بعضًا للقتالِ فيما بينهما، لا خِلافَ بين المفسِّرين أنَّ الإشارةَ بهاتين الفِئتين هي إلى يوم بدر. طائفةٍ تُقاتِلُ في سبيلِ الله، وهم النَّبيُّ ﷺ ومَن معه من المسلِمين، وطائفةٍ كافرةٍ، وهم مُشرِكو قُريشٍ، وذلك يومَ بَدْرٍ. كما قال تعالى:الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا [النساء:76]
﴿يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ﴾ الضمير في يرونهم يرجع على هذا القول إلى المشركين أي يرى المشركون يوم بدر المسلمين مثليهم في العدد رأي أعينهم" يعني أن الله تبارك وتعالى قد كثّر المسلمين في أعين المشركين فرأوا أنهم كثير. والقول الآخر -وهو قول الجماهير من أهل العلم: أن ذلك يرجع إلى المسلمين، أي أن المسلمين يرون المشركين مثليهم رأي العين، ويدل على هذا القول القراءة الأخرى –قراءة نافع- (ترونهم) بالتاء، وهي قراءة متواترة، فعلى كل حال الضمير هنا يحتمل. يرَى المسلِمون الكافرين مثلي عدد المسلمين، رؤيةً ظاهرةً لا لَبْسَ فيها؛ حيث تَلحقُهم أبصارُهم، وإنْ كانوا أكثرَ من ذلك في حقيقةِ الأمر، ليتوكَّلوا على اللهِ، ويَطلُبوا منه الإعانةَ.
﴿وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ أي: واللهُ يُقوِّي بنَصرِه مَن يشاء ممَّن تَقتضي الحِكمةُ نَصْرَه أو تأييدَه.
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ﴾ أي: إنَّ في تأييدِنا الفئةَ المسلِمةَ- مع قلَّتِها في العدَدِ- على الفئةِ الكافرة- مع كثرتها في العدَدِ- لَمُعتَبَرًا ومتَّعظًا لِمَن له بصيرةٌ وفهمٌ يَهتدي به إلى حِكَمِ اللهِ وأفعالِه، وقَدَرِه الجاري بنصرِ عباده المؤمنين في هذه الحياة الدُّنيا، ويومَ يقومُ الأشهادُ.

الهدايات والفوائد التربوية:
من قولِ الله تعالى لرسولِه ﷺ: قُلْ يُعلَم أنَّه عبدٌ تُوجَّه إليه الأوامرُ؛ فهو عبدٌ لا يُعْبَد، ورسولٌ لا يُكَذَّب.
في قوله: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ﴾ دليلٌ على أنَّه لو رجَع المسلِمون إلى دِينهم حقًّا في العقيدةِ والقولِ والعملِ والأخلاقِ والآداب، وجميعِ أمور الدِّين، لحصَلَتْ لهم الغَلَبةُ على الكفَّار، ويَشهَدُ لهذا تاريخُ المسلِمينَ حيث ملَكوا مشارقَ الأرضِ ومغاربَها.
ضَرْبُ الأمثالِ بالأمورِ الواقعةِ أبلغُ في التَّصديقِ والطُّمأنينةِ، فينبغي للواعظِ والدَّاعي إلى اللهِ عزَّ وجلَّ أنْ يضرِبَ المَثَلَ للمدعوِّين بالأمورِ الواقعة؛ لأنَّ ذلك أبلغُ، يؤخَذُ ذلك من قوله : ﴿قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا﴾.
من قوله: ﴿فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ يُؤخَذُ أنَّ القتالَ لا يكون سببًا للنصرِ إلَّا إذا كان في سبيلِ الله؛ إخلاصًا، وموافقةً للشَّرع، واجتنابًا للمحارِمِ، فإذا تمَّتْ هذه الأمورُ الثَّلاثةُ، فهذا هو الَّذي في سبيلِ الله، وإذا كان القتالُ في سبيلِ الله، توجَّهَتْ إليه النَّفسُ بكلِّ ما فيها من قوَّةٍ وشُعورٍ، وما تستطيعُه من تدبيرٍ واستعدادٍ، مع ثقةٍ قويَّةٍ بأن وراءَ قوتها معونةَ اللهِ وتأييدَه.
لا أُلفةَ بين المؤمنين والكافرين؛ لقوله: ﴿ فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ﴾، فمَن حاوَل أنْ يجمَعَ بين المؤمنين والكافرين، فقد حاوَل الجمعَ بين النَّارِ والماء.
النَّصرُ ليس بكثرةِ العَدَدِ، ولا بقوَّة العُدَدِ، ولكنَّه من الله؛ لأنَّ اللهَ لَمَّا ضرَب هذا المَثَلَ قال : ﴿وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ ؛ فالنَّاظرُ إلى مجرَّدِ الأسبابِ الظَّاهرة يجزم بأنَّ غلَبةَ الفئةِ القليلة للفئة الكثيرة مِن المُحالات، ولكن وراءَ هذا السَّبب المُشاهَدِ بالأبصار، سببٌ أعظمُ منه، لا يُدرِكُه إلَّا أهلُ البصائر والإيمانِ والتَّوكُّلِ، وهو نصرُ اللهِ، وإعزازُه لعباده المؤمنين.
انتفاءُ العِبرةِ يدلُّ على ضَعْفِ البَصيرةِ أو عدَمِها بالكلِّيَّةِ، فإذا وجَد الإنسانُ من نفْسِه عدمَ اعتبارٍ واتِّعاظٍ بما يجري، فليعلَمْ أنَّه ضعيفُ البَصيرةِ؛ لقوله: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ﴾.
الرَّدُّ على الجَبْريَّةِ في قولِه: ﴿تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ فأضاف الفِعلَ إليها.

﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) ﴾[آل عمران: 14]


مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا ذكَر اللهُ تعالى في الآياتِ السَّابقة عاقبةَ الكافرين، وأنَّهم لم تُغنِ عنهم أموالُهم ولا أولادُهم، وعَظ وحذَّر مِن أنْ تُلهيَ زينةُ الدُّنيا وشهواتُها عن الآخرةِ فقال: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ﴾[آل عمران: 14] بُني الفعل فعل التزيين "زُيِّنَ" للمجهول حُذف فاعله، فالله -تبارك وتعالى- هو الذي زين ذلك بما جبل النفوس على محبة هذه المذكورات والميل إليها وشدة الرغبة فيها كما قال الله: وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا [الفجر:20]، وقال :إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ [التغابن:15]، لشدة علوق القلب بذلك، ولذلك لما رأى النبي ﷺ الحسن أو الحسين والنبي ﷺ على المنبر وهذا يمشي ويقع فنزل وقطع خطبته -عليه الصلاة والسلام- ثم بعد ذلك ضمه وحمله، وقال:صدق الله: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ [التغابن:15] يعني: أن ذلك لا يخلو بحال من الأحوال من جهة تعلق القلب بهم، وجاء بها كما ترون في صيغة الحصر: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ [التغابن:15]، وكما ذكر في العداوة قال: إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ [التغابن:14]، "من" فهي للتبعيض؛ لأن بعضهم أي بعض الزوجات والأولاد يحثون على طاعة الله تبارك وتعالى، وقد يستقيم حال الوالد بسبب هؤلاء الزوجات والأولاد، ولكن بالنسبة للفتنة لا شك أن الأموال والأولاد فتنة.
﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ﴾ أي: زيَّن اللهُ تعالى للنَّاسِ محبَّةَ المشتهَيات؛ من النِّساءِ، والذُّكورِ من الأولاد، والمال الكثير المتضاعف ؛ من الذَّهب والفضَّةِ والخيل الرَّاعية، والإبل والبقَر والغَنَم، والأرض المتَّخذة للزِّراعة. ﴿الناس﴾ "ال" للجنس يعني جميع الناس: المؤمن والكافر، البر والفاجر، زُين لهم: رُكب في نفوسهم حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة، محبة الشهوات، محبة المُشتهيات، وهو ما يميل إليه الإنسان بطبعه ويهواه فتلك شهوته. والقِنطار اختلفت عبارات المفسرين وأهل اللغة في تفسيره؛ ولكن الأقرب أنه يُقال: للمال الكثير، لا يُقال: للقليل قنطار، وإنما يُقال: للكثير، وهنا صيغة الجمع "قناطير" ثم جاء ما يدل على الكثرة الكاثرة فقال ﴿الْمُقَنْطَرَةِ﴾، ومعنى المقنطرة يعني المُضاعفة، قناطير أموال كثيرة ومُضاعفة. ومعنى الخيل المسومة فُسر بتفسيرات متعددة، قيل: "المسومة" يعني السائمة التي تسوم في المرعى، وقيل: المسومة يعني الخيل الجميلة التي عليها سيما الجمال، والجمال في الخيل ظاهر، وهو أظهر منه في الإبل مثلاً أو غيرها من الدواب؛ وبعضهم يقول الخيل المُعلمة عليها شيات وعلامات، إلى غير ذلك من الأقوال، وبعض المفسرين جمع بين هذه الأقوال قال: هي سائمة وجميلة وعليها علامات، كل ذلك واقع.
﴿وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ ﴾والمقصود بها: بهيمة الأنعام من الإبل والبقر والغنم، ﴿والحرث﴾ وهو الزرع بأنواعه.
﴿ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ أي: جميعُ ما ذُكِر من النِّساء والبنين، والقناطير المقنطَرة مِن الذَّهب والفضَّة، والخيلِ المسوَّمة، والأنعام والحَرْث، ممَّا يُستمتَعُ به في الدُّنيا، وهو مع قلَّتِه إلى زوالٍ فهو شيء زائل ومُضمحل.
﴿وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ﴾ أي: والله عنده حُسنُ المرجعِ إلى جنَّات تجري من تحتها الأنهارُ، وإلى أزواج مُطهَّرةٍ، ورضوانٍ من الله، وذلك للَّذين اتَّقَوا ربَّهم.

﴿قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15)﴾ [آل عمران: 15]


مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا ذكَر اللهُ تعالى متاعَ الدُّنيا، عقّب ذلك ببيان انحطاط مرتبتها، فقال ﴿ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ ثم ذكر ما عنده من حُسن المرجع والمصير، فقال: ﴿وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ﴾ وذلك فيه ما فيه من تغليب رحمته على عقوبته، فذكر حُسن المآب، ولم يذكر سوء المآب للكافرين، كما قال تعالى: "إن رحمتي سبقت غضبي". بعد ذلك ذكر من حُسن المآب ما أعد الله -تبارك وتعالى- لعباده المؤمنين المتقين، مما هو خير من ذلك المتاع الزائل ثم شوَّق عبادَه إلى متاعِ الآخرةِ فقال: ﴿قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ﴾. أي: قُلْ- يا محمَّدُ- للنَّاس: أأُخبِرُكم وأُعلِمُكم بخيرٍ وأفضلَ ممَّا زُيِّن لكم في هذه الحياةِ الدُّنيا، طريقة من طرائق الخطاب والتشويق ولفت الأنظار، باستخدام هذا الاستفهام وأيضًا همزة الاستفهام تدل على التقرير والعرض وهذا يدل على أن ما سيُذكر بعده في غاية الأهمية.
(قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ) أأخبركم، فهذا يجعل السامع يتطلع إلى ما سيُقال. ولما كان الخطاب موجهًا لجميع الناس، جاء هنا الضمير بصيغة الجمع (أَؤُنَبِّئُكُمْ) يا معشر الناس.
(بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ) فالمخاطب هو مجموع الناس وهذه الصيغة (ذَلِكُمْ) للبعيد، والميم تدل على الجمع، والنبأ يُقال لما له خطب وشأن، فكل خبر له خطب وشأن فهو نبأ، فالنبأ أخص من الخبر وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ [ص:21]، تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ [هود:49] أنباء يعني أخبار مهمة، ثم أيضًا التنكير في قوله (بِخَيْرٍ) يدل على التعظيم، وهو بهذه المثابة من قبيل المُبهم.
(بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ) فتتطلع النفوس إلى ما هو هذا الخير؟ وخير هنا أفعل التفضيل، يعني أخير، مع أنه لا مجال للمقارنة بين نعيم الآخرة وما في الدنيا من اللذات، وهذا له نظائر كثيرة في القرآن آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ [النمل:59] أفعل التفضيل تكون بين اثنين اشتركا في صفة، وزاد أحدهما على الآخر أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ [الصافات:62] الجنة أو شجرة الزقوم؟! لا مجال للمقارنة والمفاضلة بينهما. ثم أيضًا ذكر بعد ذلك تفاصيل هذا النعيم المذكور الذي شوقهم إليه، ورغبهم فيه ﴿لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا﴾ ففي قوله : ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ﴾ للغائب، ثم قال: ﴿قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ﴾ هذا للمُخاطب، وهذا يسمونه الالتفات، فهنا جاء إلى أمر مهم في غاية الأهمية فغير الخطاب ونوّعه، وجه إليهم الخطاب مباشرة، ﴿قل أؤنبئكم﴾ أيها الناس الذين زُين لهم حب الشهوات فهذا خير منها أي: للَّذين اتقوا الشرك، والكبائر، واتقوا الذنوب، والمعاصي، خافوا اللهَ فأطاعوه؛ بأداء فرائضِه، واجتنابِ معاصيه عند ربِّهم جنَّاتٌ كثيرةٌ ومتنوِّعة، تجري من تحتِ أشجارِها وقصورِها ومن أرجائِها أنهارُ العسَلِ واللَّبَنِ والخمرِ والماءِ، وغير ذلك، ماكثين فيها أبدَ الآبادِ، لا يذوقون فيها الموتَ.
﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ يؤخذ منه أن ذلك في غاية الفخامة والعِظم، بحيث لا يُقادر قدره فهو عِنْدَ رَبِّهِمْ وليس عند أحد من أهل الدنيا، فهذا يدل على القرب من الله -تبارك وتعالى-، ويدل على كثرة الجزاء، وما أعد الله لهم من النعيم، إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [القمر:54-55].
﴿وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ﴾ أي: ولهم أزواجٌ من نِساء الجنَّةِ، اللَّواتي طهُرْنَ مِن كلِّ أذًى؛ مِن الحَيضِ، والمنِيِّ، والبولِ، والنِّفاس، ومن مساوئِ الأخلاق، وآفاتِ القلبِ والِّلسانِ والجوارحِ، وغير ذلك من كلِّ عيبٍ ظاهرٍ وباطنٍ ممَّا يعتري نساءَ أهلِ الدُّنيا.
﴿وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ﴾ أي: ولهم رضًا مِن الله تعالى يُحِلُّه عليهم، وفي الحديثِ عن أبي سعيدٍ الخدريِّ رضِي اللهُ عنه، أنَّ رسولَ اللهِ ﷺ قال: "إنَّ اللهَ تبارَك وتعالَى يقولُ لأهلِ الجنَّةِ: يا أهلَ الجنَّةِ، فيقولون: لبَّيْكَ ربَّنا وسعدَيْكَ، فيقولُ: هل رضِيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نَرضَى وقد أعطيتَنا ما لم تُعطِ أحدًا مِن خَلقِك؟! فيقولُ: أنا أُعطيكم أفضلَ من ذلك، قالوا: يا ربِّ، وأيُّ شيءٍ أفضلُ من ذلك؟ فيقولُ: أُحِلُّ عليكم رِضواني، فلا أسخَطُ عليكم بعده أبدًا".
﴿وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾ أي: واللهُ بصيرٌ بكلِّ العباد- مؤمنِهم وكافرِهم، بَرِّهم وفاجرِهم، مُتَّقيهم وعاصيهم- بَصرَ نظَرٍ؛ فلا يغيبُ عن نظَره شيءٌ، وبصَرَ عِلمٍ؛ فلا يعزُبُ عن عِلمه شيءٌ، وإذا كان كذلك جازاهم بما يستحقُّون.

﴿الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ(16) ﴾[آل عمران: 16]


مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا ذكَر اللهُ تعالى نعيمَ الآخرة، وأنَّه بصيرٌ بمَن يستحقُّ ما أعدَّ مِن الفوز العظيمِ، والنَّعيم المُقِيم، ذكَر مَن يستحقُّ هذا النَّعيمَ، ومَن هم أهله الَّذين هم أَولى به، وما استحقُّوا ذلك به من الأوصاف، تفضلًا منه عليهم بها، وبإيجابِ ذلك على نفسِه؛ حثًّا لهم على التَّخلُّقِ بتلك الأوصافِ. ثم فسَّر أحوالَ المتَّقين الموعودين بالجنَّاتِ فقال: ﴿ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا﴾ أي: هم الَّذين يقولونَ: يا ربَّنا، إنَّنا آمنَّا بك، وبكتابِك وبرسولِك؛ فهذا القول منهم هو إعلان وإعلام بالإيمان، يتقربون به إلى الله -تبارك وتعالى-، ويتوسلون إليه، وقد جاء الإعلام والإعلان بالإيمان كثيرًا في القرآن، من قِبل الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-، ومن قِبل أتباعهم، وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ [الأعراف:143] فهنا الَّذِينَ يَقُولُونَ عُبر بالمضارع؛ ليدل على أنه يتكرر منهم، والفعل المضارع أيضًا يدل على الاستمرار، فهم مستمرون على هذا الإيمان، وهذا هو الغالب في القرآن في دعاء الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-، وأهل الإيمان، فإنهم يدعون بهذا الاسم الكريم (الرب)؛ لأن من معاني الربوبية - العطاء، والمنع، والغفر، والجزاء، وإدخال الجنة، والثواب والرزق، والإحياء والإماتة، فكل المطالب إنما تُطلب بهذا الاسم الكريم؛ لأن من ربوبيته -تبارك وتعالى- أن يرزق ويُعطي ويمنع، ويُجيب السائلين، ويُعطيهم سؤلهم، ويُلاحظ أيضًا أنه حُذف ياء النداء.
﴿الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا﴾ أصله (يا ربنا) فحذفه يُشعر باستشعارهم القُرب من الله -تبارك وتعالى-، وأنه قريب منهم، يسمع دعاءهم ونداءهم، فسألوا بهذه الصيغة ﴿رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا﴾ وجيء بـ(إن) الدالة على التوكيد إِنَّنَا آمَنَّا وهي بمنزلة إعادة الجملة مرتين، وذلك لتوكيد الإيمان، وهو مما يُطلب تأكيده وتقريره.
﴿فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا﴾ فالفاء هذه تدل على التعليل، وتدل أيضًا على ترتيب ما بعدها على ما قبلها، يعني: كأنهم يقولون: لأننا آمنا فبسببِ إيمانِنا، استُرْ ذنوبَنا، ولا تُعاقِبْنا عليها، فهذا توسل إلى الله -تبارك وتعالى- بالإيمان، فهم يتوسلون بإيمانهم كما جاء في آخر السورة: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السماوات وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [آل عمران:190-191] فهذا من التوسل المشروع، وهو أن يتوسل إلى الله -تبارك وتعالى- بعمله الصالح، كما توسل الثلاثة الذين أطبقت عليهم الصخرة إلى الله تبارك وتعالى بصالح أعمالهم، فالتوسل المشروع أن يتوسل إلى الله تبارك وتعالى بأسمائه الحسنى، كقولهم هنا رَبَّنَا وكذلك يتوسل بإيمانه أو بعمله الصالح ﴿إِنَّنَا آمَنَّا﴾ فجمعوا بين الأمرين: توسلوا إلى الله تبارك وتعالى بهذا الاسم الكريم، وهو توسل بالأسماء والصفات، وكذلك أيضًا توسلوا بإيمانهم، وعملهم الصالح وهذا من الأدب في الدعاء أن يُقدم الإنسان بين يدي سؤله ما يكون سببًا وسبيلاً للإجابة، ولا يبدأ المسألة مُباشرة.
﴿فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا﴾ والغفر يتضمن معنيين: الستر، والوقاية، فهم يسألون أن لا يفتضحوا في الدنيا، ولا في الآخرة، وألا يلحقهم من جراء هذه الذنوب شيء من التبعات، فهذا حقيقة الغفر.
﴿وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ أي: ادفَعْ عنَّا عذابَ النَّار، ولا تُعذِّبْنا بها. ثم ذكر لهم أوصافًا كاملة، مفصلة، مرتبة ومُتدرجة، فقال:


﴿الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17) ﴾[آل عمران: 17]


(الصَّابِرِينَ) هؤلاء الذين يسألون هذا السؤال هم المتقون الذين اتصفوا بالصبر على القيامِ بالطَّاعات، وتَرْك المحرَّمات، وعلى أقدارِ الله المؤلِمَة حبس النفس على طاعة الله تبارك وتعالى، وبحبسها عن معصيته، وبحبسها عن الجزع والتسخط والاعتراض على أقدار الله المؤلمة، فكل ذلك داخل في الصبر، (وَالصَّادِقِينَ) في أقوالِهم وأفعالِهم الصدق في الإيمان، والصدق في الأقوال، والصدق في الأفعال، وفي الأحوال، والصدق في الاعتقاد والقلب، فهذا خلاف النفاق، وقد يُظهر الإيمان ويقول: آمنا، كما قال الله تبارك وتعالى عن المنافقين: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ يعني: إذا دخلوا على النبي ﷺ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ [المنافقون:1].
(وَالْقَانِتِينَ) أي: والمطيعين، الذين يُداومون على الطَّاعةِ، مع مُصاحَبةِ الخشوعِ والخُضوعِ للهِ تعالى (وَالْمُنْفِقِينَ) أي: مِن أموالِهم في جميعِ ما أُمِروا به من الطَّاعاتِ؛ كأداءِ الزَّكاةِ والصَّدقات، وصلةِ الأرحام والقَرابات، ومواساةِ ذوي الحاجاتِ، وغيرِ ذلك مِن الوجوه الَّتي أذِنَ اللهُ لهم بالإنفاقِ فيها، ويدخل أيضًا في عموم الإنفاق إنفاق العلم، وإنفاق الجاه، وإنفاق الجهد البدني، كل بحسبه، ومن عنده رأي، أو عنده عقل، أو مشورة، ونحو ذلك، فإنه يبذل ذلك للناس؛ لينتفعوا به، وقد يكون بعض ذلك أعظم من إنفاق المال، فالناس قد يحتاجون إلى مشورة، وقد يحتاجون إلى فتوى، وقد يحتاج الناس إلى تدبير، ونحو ذلك، فهذا قد يكون خير من المال في بعض الحالات، ولا شك أن العلم أشرف من المال.
(وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ) أي: السَّائلين المغفرةَ في آخِرِ اللَّيل ؛ فهو وقتُ نُزولِ اللهِ عزَّ وجلَّ إلى سماءِ الدُّنيا؛ ففي الحديثِ عن أبي هُرَيرَةَ رضِي اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ ﷺ: "يَنْزِلُ ربُّنا تباركَ وتعالى كلَّ ليلةٍ إلى السَّماءِ الدُّنيا، حينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيلِ الآخِرُ، يقولُ: من يَدعوني فأَستجيبَ له، من يَسْأَلُني فأُعْطِيَه، مَن يستغفرُني فأَغْفِرَ له".

الهدايات والفوائد التربوية:
في قوله تعالى : ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ﴾[آل عمران: 14] قيل قدَّم ما تعلُّقُ الشَّهوةِ به أقوى، وهو النِّساءُ، الَّتي فِتنتُهنَّ أعظمُ فِتَنِ الدُّنيا، ثمَّ ذكَر البنين المتولِّدين منهنَّ، وكلاهما مقصودٌ له لذاته، ثمَّ ذكر شهوةَ الأموال؛ لأنَّها تُقصَد لغيرها؛ فشهوتها شهوةُ الوسائل، وقدَّم أشرفَ أنواعها، وهو الذَّهب، ثمَّ الفضَّة بعده، ثمَّ ذكر الشَّهوةَ المتعلِّقةَ بالحيوان، الَّذي لا يُعاشَر عِشْرةَ النِّساءِ والأولاد؛ فالشَّهوةُ المتعلِّقةُ به دونَ الشَّهوةِ المتعلِّقة بها، وقدَّم أشرفَ هذا النَّوع، وهو الخيلُ؛ فإنَّها حصونُ القوم، ومعاقِلُهم، وعِزُّهم، وشرفُهم، ثمَّ ذكَر الأنعامَ وقدَّمها على الحرثِ؛ لأنَّ الجَمَالَ بها والانتفاعَ أظهرُ وأكثرُ مِن الحرثِ، وأيضًا فصاحبُها أعزُّ مِن صاحبِ الحرثِ وأشرفُ، وهذا هو الواقعُ؛ فإن صاحب الحرث لا بدَّ له من نوعِ مذلَّةٍ، فجعَل الحرثَ في آخر المراتبِ؛ وَضْعًا له في موضعِه.
خصَّ اللهُ حُبَّ الذَّكَرِ بالذِّكْرِ دون الأنثى في قوله: وَالْبَنِينَ؛ لأنَّ التَّمتُّعَ بهم ظاهرٌ من حيث السُّرورُ والتَّكثُّرُ بهم، إلى غير ذلك.
التَّعبيرُ بـالقَنَاطِيرِ المُقَنْطَرةِ يُشعِر بأنَّ الكثرةَ هي مَظِنَّةُ الافتتانِ؛ لاشتغالِ القلبِ بالتَّمتُّعِ بها، واستغراقِ الوقت في تدبيرِها، حتى لا يكادَ يَبقَى في قلبِ صاحبِها حاجةٌ إلى طلَبِ الحقِّ، ونُصرتِه في الدُّنيا، والاستعدادِ لِما أعدَّه الله للمتَّقين في الأخرى.
التَّزهيدُ في التَّعلُّقِ بهذه الأشياء المذكورة في قوله تعالى : ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ﴾ وذلك لقولِه سبحانه : ﴿ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾، وكلُّ ما كان للدُّنيا فلا ينبغي للإنسان أنْ يُتبِعَه نفسَه؛ لأنَّه زائلٌ، فلا تُتبِعْ نفسَك شيئًا مِن الدُّنيا، إلَّا شيئًا تستعينُ به على طاعةِ الله، وفي الآية تسليةٌ للفقراءِ الَّذين لا قُدرةَ لهم على هذه الشَّهواتِ، الَّتي يقدِرُ عليها الأغنياءُ، وتحذيرٌ للمغترِّين بها.
قوله ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ﴾ يدلُّ على أمورٍ ثلاثةٍ مُرتَّبةٍ، أوَّلُها: أنَّ المرء يشتهي أنواعَ المشتَهَيات، وثانيها: أنَّه يُحبُّ شهوتَه لها، وثالثها: أنَّه يعتقدُ أنَّ تلك المحبَّةَ حَسَنةٌ وفضيلةٌ، ولَمَّا اجتمعت الدَّرجاتُ الثَّلاثةُ بلغتِ الغايةَ القُصوى في الشِّدَّةِ والقوَّة، ولا يكاد ينحَلُّ ذلك إلَّا بتوفيقٍ عظيمٍ مِن الله تعالى.
قوَّة التَّعبير القُرْآني، وأنَّه أعلى أنواعِ الكلام في الكمالِ؛ إذ سلَّط الحبَّ على الشَّهواتِ، لا على ذاتِ الأشياء؛ لأنَّ هذه الأشياءَ حبُّها قد يكون محمودًا.
في قوله تعالى ﴿مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ إشارةٌ إلى أنَّ هذه المتعةَ غايتُها الزَّوالُ، فإمَّا أنْ تزولَ عنها، وإمَّا أنْ تزولَ عنك، ولو اجتمَعَتْ كلُّها للمرءِ فما هي إلَّا متاعُ الحياة الدُّنيا، يتمتَّعُ بها الإنسانُ ثمَّ يُفارقُها أو تُفارِقُه هي.
يُستفاد مِن قوله :(الدُّنْيَا) أنَّ اللهَ قد أَدْنَى مرتبةَ هذه الأشياءِ؛ ليتنبَّهَ الإنسانُ أنَّها متاعُ الحياة الدُّنيا، فينظُرَ إليها نظرةَ جِدٍّ لا نظرةَ شَهوة، فإذا كان ذلك ينفَعُه في الآخِرةِ، فالنَّظرُ إليه طيِّبٌ ونافعٌ، ويكونُ مِن حَسَنة الدُّنيا والآخرة، أمَّا إذا نظَر إليه مجرَّدَ نظَرِ الشَّهوةِ، فإنَّه يُخشى عليه أنْ يُغلِّبَ جانبَ الشَّهوةِ على جانبِ الحقِّ.
حُسن أسلوبِ التَّعليم والدَّعوة، وأنَّه يَنبغي للإنسانِ في مقامِ الدَّعوة أنْ يأتيَ بالألفاظ الَّتي تُوجِبُ الانتباهَ والتَّشويقَ؛ كما في قوله : ﴿قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ﴾.
في قوله تعالى: ﴿لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ﴾[آل عمران: 15] ما يُقابل شهواتِ الدُّنيا في ذِكرِ نعيمِ الآخرةِ؛ قيل لأنَّ لذَّةَ البنين، ولذَّة المالِ هنالك مفقودةٌ، للاستغناءِ عنها، وكذلك لذَّةُ الخيلِ والأنعامِ، فبَقِي ما يُقابل النِّساءَ والحَرْثَ، وهو الجنَّاتُ والأزواجُ؛ لأنَّ بهما تمامَ النَّعيم والتَّأنُّس- وقيل: نصَّ على أزواج مطهَّرة; ليُعرف الفرقُ بين نساء الدنيا ونساء الآخرة- وزِيدَ عليهما رِضوانُ الله، الَّذي حُرِمَه مَن جعَل حظَّه لذَّاتِ الدُّنيا، وأعرَض عن الآخرةِ.
إضافةُ لفظ (رَبّ) إلى ضَميرِ المتَّقين في قوله تعالى: ﴿ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ إشعارٌ بفضلِهم، وعنايةِ مَن ربَّاهم بهم، واهتمامِه بشأنهم.
قوله: ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ العِنديَّةُ هنا: تُفيدُ فضلًا عظيمًا؛ لأنَّها هي القُربُ مِن الله عزَّ وجلَّ؛ كما قال تعالى :إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ [الأعراف:206]، فثواب المتَّقين عند اللهِ، والعِنديَّة تُفيد القُرْب، ولا أقربَ مِن شيء يكونُ سقفُه عرشَ اللهِ عزَّ وجلَّ؛ كالفِرْدَوس الأعلى؛ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [القمر: 54-55].
عطف (وَرِضْوَانٌ) مِنَ اللَّهِ على ما أعدَّ للَّذين اتَّقَوا عند اللهِ؛ لأنَّ رِضوانَه أعظمُ من ذلك النَّعيمِ المادِّيِّ؛ لأنَّ رضوانَ اللهِ تقريبٌ رُوحانيٌّ؛ قال تعالى: وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التوبة:72].
يُستفاد من قوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾[آل عمران: 15] التَّحذيرُ مِن مُخالفةِ أمرِه؛ لأنَّه متى علِم الإنسانُ أنَّ اللهَ بصيرٌ به، فسوف يردَعُ نفسَه عن مخالفة ربِّه؛ لأنَّه إذا خالَف ربَّه فاللهُ بصيرٌ به، وسوف يُجازيه بحسَب مخالَفتِه. وختَم اللهُ الآيةَ بقوله: ﴿وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾؛ قيل لبيانِ أنَّه ليس كلُّ مَن ادَّعى التَّقوى يكون متَّقيًا، وإنَّما المتَّقي هو مَن يعلَمُ اللهُ منه التَّقوى، وفي ذلك تنبيهٌ وإيقاظٌ للنَّاس لمحاسبةِ نفوسِهم
في قوله تعالى: ﴿ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا﴾[آل عمران: 16] جوازُ التَّوسُّلِ بالإيمانِ؛ فالفاء هنا للسببيَّةِ، تدلُّ على أنَّ ما بعدَها مُسبَّبٌ عمَّا قبلها، أي: بسببِ إيمانِنا فاغفِرْ لنا؛ لأنَّ الإيمانَ لا شكَّ أنَّه وسيلةٌ للمغفرةِ، وكلَّما قوِيَ الإيمانُ، قوِيَتْ أسبابُ المغفرة، وهذا من بابِ التَّوسُّلِ بالطَّاعةِ لقَبولِ الدُّعاء؛ فهم توسَّلوا إلى اللهِ برُبوبيَّتِه، للإخبارِ بحالِهم في الإيمانِ به، كأنَّهم يقولونَ: ربَّنا آمَنَّا، ولكنَّنا لم نصِلْ إلى الإيمانِ إلَّا برُبوبيَّتِك لنا، تلك الرُّبوبيَّة الخاصَّة المقتضيَة للعنايةِ التَّامَّةِ.
يدلُّ قولُه تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا﴾ أنَّ مِن صفاتِ المتَّقين إعلانَهم الإيمانَ باللهِ، واعترافَهم بالعبوديَّة، وعدمَ إعجابِهم بأنفسِهم، واعترافَهم بتقصيرِهم في طلَبِ المغفرةِ من اللهِ.
في قوله : ﴿الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ﴾[آل عمران: 17] حصرٌ لمقاماتِ السَّالك على أَحسنِ ترتيبٍ؛ فإنَّ معاملتَه مع اللهِ تعالى إمَّا توسُّل، وإمَّا طلَبٌ، والتَّوسُّل إمَّا بالنَّفس، وهو منعُها عن الرَّذائلِ، وحبسُها على الفضائل، والصَّبرُ يَشمَلُهما، وإمَّا بالبدنِ، وهو إمَّا قوليٌّ، وهو الصِّدقُ، وإمَّا فِعْليٌّ، وهو القُنوتُ الَّذي هو ملازمةُ الطَّاعة، وإمَّا بالمالِ وهو الإِنفاقُ في سُبلِ الخيرِ، وأمَّا الطَّلب فبالاستغفارِ؛ لأنَّ المغفرةَ أعظمُ المطالبِ، بل الجامعُ لها.
في قوله (الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ) قُدِّم ذِكْرُ الصَّبر على ما بعده؛ قيل لأنَّه كالشَّرط لها، وبدونه لا يتمُّ صِدقٌ، ولا قنوتٌ، ولا إنفاقٌ، ولا استغفارٌ في الأسحار.
خُصَّص وقتَ السَّحَر بالذِّكر في قوله: (وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ) قيل لأنَّ العبادةَ فيه أشدُّ إخلاصًا، وأشقُّ على أهلِ البداية; لطِيبِ النَّومِ في ذلك الوقتِ، وأروحُ لأهل النِّهايةِ; لصفاء النَّفسِ، وفراغِ القلبِ من الشَّواغلِ، ولدَلالتِه على اهتمامِ صاحبِه بأمرِ آخرتِه، وختَم اللهُ هذه الأعمالَ العظيمة بذِكْرِ الاستغفارِ في الأسحارِ؛ قيل: لِمَا في الاستغفارِ من اعترافٍ بالعجزِ عن القيامِ بالواجب، وذلك هو العُمدةُ في الخَلاصِ.

﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ
لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) ﴾[آل عمران: 18]

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا مدَح اللهُ عزَّ وجلَّ المؤمنين وأثْنى عليهم بقولِه: ﴿ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا﴾ [آل عمران:16] أردَفه بأنْ بيَّنَ أنَّ دلائلَ الإيمانِ ظاهرةٌ جليَّةٌ فقال: ﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ وكفى به شهيداً وهو أصدق الشاهدين وأصدق القائلين وأعدلهم وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا [النساء:122]، وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا [النساء:87] عَلِمَ أنَّه لا معبودَ بحقٌّ إلَّا هو، وتكلَّمَ بذلك، وأخبر به خلْقَه، وأَمَرَهم وأَلْزَمهم به كما قال تعالى: لَّكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ الآية [النساء:166]،. ﴿ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ﴾ المتفرد بالإلهية لجميع الخلائق وأن الجميع عبيده وخلقه والفقراء إليه، وهو الغني عن ما سواه، ثم قرن شهادة ملائكته وأولي العلم بشهادته، فقال: ﴿شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ﴾ وهذه خصوصية عظيمة للعلماء في هذا المقام أي: (شَهِدَ اللَّهُ) وذلك يدل على التوكيد، وعلى أهمية التوحيد، فهو أول بعثة الرسل -عليهم الصلاة والسلام-، وأول ما يدعون إليه، وهو أول واجب على المُكلف، وآخر ما يُخرج به من الدنيا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة". وهو مفتاح الجنة، وكلمة التوحيد هي أصدق كلمة، وأعظم كلمة، وأجل كلمة على الإطلاق..
والشهادة لا تكون إلا بأمر متيقن، ولا تكون بالظنون، وإنما تكون مبنية على اليقين بمنزلة المُشاهد بالبصر، يعني أن علم التوحيد، أو أن قضية التوحيد، أو أن العلم بوحدانية الله -تبارك وتعالى- ينبغي أن يكون متيقنًا، فإذا قال الإنسان: أشهد أن لا إله إلا الله، فذلك يكون منه بمنزلة ما يُشاهده ببصره ويراه، ولا يقول ذلك وهو شاك غير متقين، فإن الشك يُنافي هذه الشهادة، وكما هو معلوم من شروط لا إله إلا الله: اليقين المُنافي للشك. وهذه الشهادة ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ هذا هو الموضع الوحيد في القرآن، الذي أثبت الله شهادته عليه، وشهادة وهذه الشهادة ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ﴾ هذا هو الموضع الوحيد في القرآن، الذي أثبت الله شهادته عليه، وشهادة الملائكة، وشهادة أولي العلم، فذلك يدل على أن هذا هو المطلوب الأعظم، الذي ينبغي أن يُعتنى به غاية العناية، بمعرفته وحقيقته وشروطه ومُبطلاته، وما يُناقضه، ويُنافيه. ﴿والْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ﴾ أي: وشهِدَتِ الملائكةُ أيضًا بذلك وأصحابُ العِلم، فهذا يدل على منزلتهم، ومنزلة العلم، وأنه فضيلة عظيمة، ينبغي على العبد أن يحرص عليها، فالإنسان إنما يشرُف بمكتسباته، وما يتحلى به ظاهرًا وباطنًا من الفضائل، ومن أجلها العلم.
﴿قَائِمًا بِالْقِسْطِ﴾ أي: حالَ كونِه قائمًا بالعَدْلِ، وهو في جميعِ الأحوال كذلك، لم يزَلْ متَّصِفًا بالقِسطِ في أفعالِه وتدبيرِه بين عِبادِه؛ فهو على صراطٍ مستقيمٍ فيما أمَر به ونهى عنه، وفيما خلَقه وقدَّرَه.
﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ تأكيدٌ لتفرُّدِه بالألوهيَّةِ، وتقريرٌ لتوحيدِه، وأنَّه لا يستحقُّ العبادةَ غيرُه.
﴿الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ أي: القويُّ المتينُ، الَّذي لا يُغلَبُ، ولا يَمتنعُ عليه شيءٌ أراده، ولا يَنتصِرُ منه أحدٌ، أو يَنالُ منه، الحَكيمُ في أقوالِه وأفعالِه، وشَرْعِه وقَدَرِه، والحَكيمُ يتضمَّنُ حُكْمَه وعِلْمَه وحِكمتَه فيما يقولُه ويفعلُه، فإذا أمَر بأمرٍ كان حَسَنًا، وإذا أخبَرَ بخبَرٍ كان صِدقًا، وإذا أرادَ خَلْقَ شيءٍ كان صوابًا؛ فهو حكيمٌ في إراداتِه وأفعالِه وأقوالِه.

الهدايات والفوائد التربوية:
شَهادةُ اللهِ لنفسِه بانفرادِه بالألوهيَّةِ قد تكونُ قوليَّةً، كما في هذه الآيةِ، وقد تكون فعليَّةً فيما يُظهِرُه اللهُ مِن آياته؛ فكلُّ الكائناتِ تشهَدُ لله عزَّ وجلَّ بالوحدانيَّةِ بلسانِ الحال.
الشَّهادة لا تكونُ إلَّا عن عِلمٍ يقينيٍّ يكونُ بمنزلة المشاهَدة البصريَّةِ، وفي ذلك دليلٌ على أنَّ مَن لم يصِلْ في علمِ التَّوحيد إلى هذه الحالةِ، فليس مِن أُولي العِلم.
في قوله: (وَالْمَلَائِكَةُ) جعَل اللهُ الملائكةَ في المرتبةِ الأُولى في الشَّهادةِ بالتَّوحيدِ بعدَه سبحانه؛ قيل: لبيان فضيلتِهم، ولأنَّهم الملأُ الأعلى، وعِلمُهم كلُّه ضروريٌّ، وهو ما يقع بغير اكتساب بخلاف البشَر؛ فإنَّ عِلمَهم ضروريٌّ واكتسابيٌّ.
تأكيدُ الشَّيء المهمِّ، وإن كان المخبِرُ به من أهل الصِّدق؛ حيث صدَّر اللهُ تعالى وحدانيَّتَه بالشَّهادةِ، وبيَّن أنَّ هذه الشَّهادةَ ليست له وحده، بل له، وللملائكةِ، ولأُولي العِلم.
في قوله (وَأُولُو الْعِلْمِ) دليلٌ على شرَفِ العِلم من وجوهٍ، منها:
تخصيصُ اللهِ لهم بالشَّهادةِ على أَعظمِ مشهودٍ عليه.
قرَنَ اللهُ شَهادتَهم بشَهادتِه وشَهادةِ ملائكتِه.
أضافَهم اللهُ إلى العِلم؛ فهم القائمونَ به، المتَّصفون بصِفَتِه.
جعَلهم اللهُ شُهداءَ وحُجَّةً على النَّاس، وألزَم النَّاسَ العملَ بما شهِدوا به، فكانوا هم السَّببَ في ذلك، فيكونُ كلُّ مَن عمِل بذلك نالهم مِن أجْرِه.
أنَّ إشهادَه لهم يتضمَّنُ تزكيتَهم وتعديلَهم.
لم يَذكُرِ اللهُ سبحانه شهادةَ رُسلِه مع الملائكة، فيقول: شهِدَ اللهُ أنَّه لا إلهَ إلَّا هو والملائكةُ والرُّسل، وهم أعظمُ شهادةً مِن أُولي العِلم؛ لعِدَّة فوائد:
منها: أنَّ أُولي العِلم أعمُّ من الرُّسل والأنبياء، فيَدخُلون هم وأتباعُهم.
ومنها: أنَّ في ذِكر أُولي العلم في هذه الشهادة، وتعليقِها بهم: ما يدلُّ على أنَّها من مُوجِبات العِلم ومُقتضياتِه، وأنَّ مَن كان من أُولي العِلم فإنَّه يَشهدُ بهذه الشَّهادة... ففي هذا بيانُ أنَّ مَن لم يَشهَدْ له الله سبحانه بهذه الشَّهادة فهو من أعظمِ الجُهَّال، وإنْ عَلِم من أمور الدنيا ما لم يَعلَمْه غيرُه؛ فهو من أُولي الجَهل، لا مِن أُولي العِلم، وإنْ وسَّع القولَ وأكْثَر الجِدال.
ومنها: الشَّهادة من الله سبحانه لأهل هذه الشهادة أنهم أولو العلم.
قوله تعالى (قَائِمًا بِالْقِسْطِ) "القِسْط": هو العَدْلُ، فشهِد الله سبحانه: أنَّه قائمٌ بالعدلِ في توحيده، وبالوحدانيَّةِ في عَدْله، والتَّوحيد والعَدْل هما جِماعُ صفات الكمال؛ فإنَّ التَّوحيد يتضمَّنُ تفرُّدَه سبحانه بالكمالِ والجلالِ والمجد والتَّعظيم، الَّذي لا ينبغي لأحدٍ سواه، والعدل يتضمَّنُ وقوعَ أفعاله كلِّها على السَّداد والصَّواب، وموافقة الحِكمة.
ختَم بقوله (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)؛ قيل: ليكونَ دليلًا على قِسطِه؛ إذ لا يَصِحُّ أبدًا لذي العزَّةِ الكاملة والحِكمة الشَّاملة أنْ يتصرَّفَ بجَوْرٍ، ودليلًا على وحدانيَّتِه؛ لأنَّه لا يصحُّ التفرُّدُ بدون الوصفينِ، وقدَّم العَزِيز على الحَكِيم لأنَّ العزَّةَ تُلائِمُ الوحدانيَّة، والحِكمة تُلائِمُ القيامَ بالقِسط، فأتى بهما لتقريرِ الأمرينِ على ترتيبِ ذِكرهما.
تَضمَّنَتْ هذه الآيةُ وهذه الشَّهادةُ: الدَّلالةَ على وَحدانيَّتِه المنافيةِ للشِّركِ، وعلى عَدْلِه المنافي للظُّلم، وعِزَّتِه المنافيةِ للعجز، وحِكمتِه المنافية للجهلِ والعيبِ؛ ففيها الشَّهادةُ له بالتَّوحيد، والعَدْل، والقُدرة والعِلم والحِكمة؛ ولهذا كانتْ أعظمَ شَهادةٍ.

﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19) ﴾[آل عمران: 19]


مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا قرَّر اللهُ عزَّ وجلَّ أنَّه الإلهُ الحقُّ المعبود، بَيَّن العبادةَ والدِّينَ الَّذي يتعيَّنُ أنْ يُعبَدَ به ويُدانَ له، وهو الإسلامُ إذ الإسلام هو التوحيد، فذلك بيان للدين الذي يقبله ويرضاه، ولا يقبل ولا يرضى دينًا سواه، فهذا هو دينه الذي شرعه. فقال : ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلَامُ﴾ ففيه معنى الحصر، أي: الدين الإسلام، فلا دين سواه، كذلك أكده بـ(إنَّ) التي هي بمنزلة إعادة الجملة مرتين، إنَّ الدِّينَ المقبولَ عند اللهِ،
كما قال تعالى ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [آل عمران:85]. والإسلامُ هو الانقيادُ لله وحده، ظاهرًا وباطنًا، بما شرَعه على ألْسنةِ رُسله، إلى أنْ خُتِموا بمحمَّدٍ ﷺ فجميعُ الطُّرقِ مسدودةٌ إلَّا مِن جِهته.
﴿وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾ أي: اختلَف الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ العلم بكتابهم، وما جاء به رسولهم، والعلم بدينهم، والعلم بما جاء به الرسول ﷺ، بعدَما قامتْ عليهم الحُجَّة؛ بإرسالِ الرُّسلِ إليهم، وإنزال الكتُب عليهم، وعِلمِهم بالحقِّ، وحَمَلَهم على ذلك مجاوزتُهم الحدَّ بالعدوانِ والظُّلم، وبالتَّفريط وتضييعِ الحقِّ، وفيه إشارة إلى أن هذا الاختلاف والبغي الذي وقع منهم هو نوع من الكفر؛ لأنه قال بعده: ﴿ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ فهؤلاء أفسدوا الدين، وفرقوه، وتفرقوا فيه، وجحدوا دين الإسلام، ومَن يكفر بحُجَج اللهِ تعالى وما أنزَل في كتابِه، فإنَّ اللهَ سيُجازيه ويُحاسبه على ذلك؛ فإنَّه سبحانه يُحصي أعمالَ العبادِ بسرعةٍ، دون الحاجةِ إلى فِكرٍ أو رَوِيَّة، كما يَفعَلُ الخَلقُ، أو استخدامِ أداةٍ، وهو سريعُ المحاسَبة وسَريعُ المجازاةِ لعباده يومَ القيامة دون أنْ يَظلِمَ أحَدًا شيئًا فيُحاسبُهم على كثرتِهم في وقتٍ وجيزٍ جدًّا، كما أنَّ حسابَه عزَّ وجلَّ قريبٌ؛ لسرعةِ انقضاءِ هذه الحياةِ الدُّنيا.

﴿فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ
وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20) ﴾[آل عمران: 20]

أي: فإنْ جادَلوك وخاصَموك بالباطل-يعني أهل الكتاب- في الإسلام والتوحيد والإخلاص لله -تبارك وتعالى- بعبادته وحده، دون ما سواه، بعد إقامة الحجة عليهم، فقل لهم - يا محمَّدُ- بأنني قد أخلصت لله وحده عملي وعبادتي لا شريكَ له،﴿ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ ﴾ وإسلام الوجه بمعنى: الإخلاص لله -تبارك وتعالى- في العبادة، ومن اتبعني من أهل الإيمان أخلصوا لله -تبارك وتعالى-، وانقادوا له، فلا نُوجِّهُ وُجوهَنا إلى غيره.
﴿وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ﴾ أي: وقلْ للَّذين أوتوا الكِتابَ مِن اليهودِ والنَّصارى والأُمِّيِّين الَّذين لا كتابَ لهم مِن مُشرِكي العربِ: أَأفرَدْتُم التَّوحيدَ لله وأخلَصْتم له العبادةَ؟ والمعنى: أسلِموا للهِ تعالى ووحِّدوه وأَخلِصوا له.
﴿فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا﴾ دخلت (قد) على الفعل الماضي، وإذا دخلت على الفعل الماضي، فهي للتحقيق، (فَقَدِ اهْتَدَوا) يعني: تحقق لهم الهدى على أكمل الوجوه، انقادُوا واستسلَموا للهِ ظاهرًا وباطنًا، فقدِ اهتدَوْا هدايةَ توفيقٍ، وأصابوا سبيلَ الحقِّ.
﴿وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ﴾ أي: وإنْ أَدبَروا مُعرِضين عمَّا تَدْعوهم إليه من الإسلامِ، وإخلاصِ التَّوحيد للهِ، ولم يَنقادوا بظَواهرِهم ولا ببَواطنِهم، ﴿فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ﴾ فليس عليك إلَّا تبليغُ رسالةِ ربِّك، وبه وقَعَ أَجرُك على ربِّك، وقامتْ عليهم الحُجَّة، وحصر وظيفته بالبلاغ في هذا السياق باعتبار أن ذلك يتضمن الوعيد والتهديد لهؤلاء المُعرضين، وهذا الحصر الذي يسمونه بالحصر الإضافي، فالنبي ﷺ إنما هو مُبلغ عن الله، وهو يحكم بين الناس أيضًا، وهو يقوم بوظائف العبودية، والله -تبارك وتعالى- هو الذي يتولى جزاءهم وحسابهم، ويُعاقبهم على أعمالهم. ﴿ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾ أي: مطَّلِع على جميعِ الخَلْق أتمَّ الاطِّلاعِ، ويعلمُ أحوالهم؛ مَن يُطِيع منهم، ومَن يُعرِض، ويتولَّى جزاءَهم، وهذا فيه إثبات صفة البصر لله -تبارك وتعالى-، وهذه الصيغة (بصير) هي صيغة مُبالغة، على وزن (فعيل) أي: أن بصره نافذ فيهم، فلا يخفى عليه من أحوالهم خافية، ومثل هذا يحمل على المراقبة لله تبارك وتعالى فيُراقب العبد ربه في كل حالاته، وفي حركاته وسكناته، وفي كل ما يأتي ويذر؛ لأن الله -تبارك وتعالى- يراه، وهنا يرتقي إلى مرتبة الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، فإذا استشعر العبد مثل هذا، فإن ذلك يحمله على المراقبة، ومن ثَم إحسان العمل، فيستوي عنده في حال السر والعلانية. (أل) في قوله : ﴿بِالْعِبَادِ﴾ تُفيد العموم، فالعباد على اختلاف أقطارهم، وعلى كثرتهم، فالله بصره نافذ فيهم، لا يخفى عليه من أمورهم خافية.

الهدايات والفوائد التربوية:
على المسلمِ ألَّا يَنظُرَ إلى الآية الَّتي ذَكرتِ الخلافَ الَّذي وقع للَّذين أوتوا الكتابَ كحدَثٍ تاريخيٍّ، بل يتلوها متذكِّرًا أنَّها أُنزلتْ تحذيرًا للمسلمين من الخلافِ في الدِّين، والتَّفرُّقِ إلى شِيَعٍ اتِّباعًا لسَنَنِ مَن قبْلَهم.
في قوله تعالى : ﴿وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ تلميحٌ إلى أنَّ هذا الاختلافَ والبغيَ كفرٌ؛ لِمَا أفْضَى إليه مِن نقْضِ قواعدِ أديانِهم، ونُكرانِ دِين الإسلام؛ ولذلك ذيَّله بقوله: ﴿ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ﴾. وعبَّر عنهم بقوله (أُوتُوا الْكِتَابَ) زيادةُ تَقبيحٍ لهم؛ فإنَّ الاختلافَ بعدَ إتيان الكتابِ أقبحُ، وقوله : ﴿إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ﴾ زيادةٌ أخرى؛ فإنَّ الاختلافَ بعد العِلم أزيدُ في القَباحةِ، وقوله (بَغْيًا بَيْنَهُمْ) زيادةٌ ثالثة؛ لأنَّه في حيِّزِ الحَصْر، فيكون أزيدَ في القُبح.
في قوله (بَغْيًا بَيْنَهُمْ) إشارةٌ إلى أنَّه عند مخالفةِ الإنسان غيرَه يَنبغي ألَّا يتطاولَ عليه وألَّا يكون مقصِدُه بسَوْق الأدلَّةِ والحُجَج المؤيِّدةِ لقولِه، البَغيَ على غيره.
في إسنادِ الأفعالِ إلى فاعليها ردٌّ على الجَبْريَّة، فإنَّ اللهَ تبارَك وتعالَى قال : ﴿وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾، وقال : ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ﴾، وقال: ﴿بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾ وكلُّ ذلك يُفيد أنَّ للإنسانِ إرادةً وفعلًا اختياريًّا.
ستفادُ من قوله: ﴿ فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ﴾ أنَّه إذا عَلِم الإنسانُ أنَّ مَن يُحاجُّه إنَّما يَقصِدُ نصْرَ قولِه ولو كان باطلًا، فله الإعراضُ عنه؛ لأنَّه ليس أهلًا للمحاجَّةِ أو الخُصومةِ.
الوجهُ أشرفُ الأعضاء، وبه يكونُ الانقيادُ وعدمُه؛ لهذا كان أقربَ ما يكونُ العبدُ من ربِّه في حال سُجودِه؛ لوَضعِه أشرفَ أعضائِه على مَوطئِ الأقدامِ؛ لذا قال تعالى: ﴿ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ﴾.
في قوله تعالى : ﴿أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ﴾ دليلٌ على أنَّه ليس قولُ أحدٍ من أهل العِلم حُجَّةً على الآخَر؛ فهم كلُّهم تابِعون لا متبوعون.
﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21) ﴾[آل عمران: 21]


﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ﴾ أي: إنَّ الَّذين يَكفُرون بآياتِ الله فيُكذِّبون بها استكبارًا وعِنادًا، يجحدون بها، ولا يُذعنون إليها، ولا يُقرون بها، وآيات هنا مُضاف إلى معرفة ﴿بِآيَاتِ اللَّهِ ﴾ فهي للعموم وهذا يشمل الآيات المتلوة، وهو الوحي المُنزل على الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، كما يشمل الآيات التي هي من براهين ودلائل نبوتهم، والتي يُقال لها: المُعجزات التي أعطاها الله تبارك وتعالى الأنبياء، كما يشمل ذلك سائر الآيات الدالة على إلهيته ووحدانيته وربوبيته وعظمته، وما إلى ذلك. وهذا قد جاء على سبيل التهديد والوعيد، وعُبر بالفعل المضارع ﴿يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ﴾ ليدل على أن الكفر منهم مستمر.
﴿وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾.
القِراءاتُ ذاتُ الأثرِ في التَّفسير:
في قوله تعالى (وَيَقْتلُونَ) قِراءتان:
قراءة (وَيُقَاتِلُونَ) من القِتال، أي: يُحارِبون الذين يُخالفونهم في كُفرِهم، فالمقاتلةُ مِن اثنينِ. قرأ بها حمزة.
قِراءة (وَيَقْتلُونَ) من القتْل؛ فالقتْلُ مِن جانبٍ واحد. قرأ بها الباقون.
﴿وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ أي: ويَقتُلون أنبياءَ الله المرسَلين إليهم بغيرِ سببٍ ولا جريمةٍ منهم، وعُبر بالمُضارع هنا لأن ذلك مُستمر فيهم، فهم قد وضعوا السم للنبي ﷺ حتى إنه قال ﷺ في مرضه الذي مات فيه: "يا عائشة، ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم". فما زال يجد أثر السم من تلك الشاة المسمومة التي وضعته المرأة اليهودية عام خيبر.
قال هنا: (بِغَيْرِ حَقٍّ) وفي موضع آخر في سورة البقرة قال: بغَيْرِ الْحَقِّ [البقرة:61] فما وجه ذلك؟ بعض أهل العلم ذكر في التعريف الحق يعني بغَيْرِ الْحَقِّ المعروف عند أهل الإيمان، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يحل دم امرئ مسلم، يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث..". يعني: بالوجه الشرعي، وهنا (بِغَيْرِ حَقٍّ) جاء مُنكرًا يعني بغير وجه حق لا في الوجه الشرعي عند أهل الإيمان، ولا عند غيرهم، يعني من غير أدنى سبب، لا قليل ولا كثير، ولا مما يعرفه أهل الإيمان من الحق، ولا مما يكون عند غيرهم، سواء كان هؤلاء اليهود، أو غير اليهود.
﴿وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ﴾ أي: ويَقتُلون الَّذين يَأمرون بالعَدلِ مِن النَّاس من غيرِ الأنبياء، وهو الأمرُ بالمعروفِ والنَّهيُ عن المنكَر، وقتلُهم لهم هو غايةُ الكِبْر كما قال النَّبيُّ ﷺ: "الكِبْرُ بَطَرُ الحقِّ، وغَمْطُ النَّاس".
﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ أي: فأخبِرْهم أنَّ لهم عذابًا مؤلِمًا موجِعًا بالغًا في الشِّدَّةِ.

﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22) ﴾[آل عمران: 22]


﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ أي: الَّذين ذكَرْناهم هم الَّذين بطَلَتْ أعمالُهم في الدُّنيا، فلا يَنتفعون بآثارِها الطَّيِّبةِ في الدُّنيا، ولا يَنالون بها مَحْمدةً ولا ثناءً مِن النَّاس، مع بقاء الذَّمِّ واللَّعنة عليهم، وأمَّا في الآخرةِ، فلا يَنتفعون بثوابِ أعمالِهم، مع ما أعدَّ لهم فيها من العقابِ.
﴿وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ أي: وما لهؤلاءِ القومِ مِن ناصرٍ ينصُرُهم مِن الله، ويُنقِذهم من العذابِ إذا هو انتقَم منهم.
الهدايات والفوائد التربوية:
في قوله سبحانه: ﴿إنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ﴾ توبيخٌ للمعاصِرين لرسولِ اللهِ ﷺ بمساوئِ أسلافِهم، وببقائِهم أنفسِهم على فِعلِ ما أمكَنَهم من تلك المساوئِ؛ لأنَّهم كانوا حريصين على قتْلِ محمَّدٍ ﷺ.
دلَّ قوله تعالى: ﴿وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ﴾ على أنَّ الأمرَ بالمعروفِ، والنَّهي عن المنكَرِ، كان واجبًا في الأُممِ المتقدِّمةِ.
دلَّ قوله سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾[آل عمران: 21] على أنَّ القائمَ بالأمرِ بالمعروفِ تَلي منزلتُه في العِظَمِ منزلةَ الأنبياء.
جمَع اللهُ لِمَن يَكفُرون بآياته ويقتُلون أنبياءَه ومَن يأمُرُ بالقِسط مِن عبادِه، ثلاثةَ أنواعٍ من الوعيد؛ الأوَّل: اجتماع أسبابِ الآلامِ والمكروهاتِ في حقِّهم؛ كما في قوله: ﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾، والثَّاني: زوال أسبابِ المنافعِ عنهم بالكلِّيَّة؛ كما في قوله ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾، والثَّالث: لُزُوم ذلك في حقِّهم على وجهٍ لا يكونُ لهم ناصرٌ ولا دافعٌ؛ كما في قوله: ﴿وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾.
لَمَّا تقدَّم ذِكْرُ معصيتِهم بثلاثةِ أوصافٍ، ناسَب أنْ يكونَ جزاؤُهم بثلاثة؛ ليُقابَلَ كلُّ وصفٍ بمُناسِبِه، ولَمَّا كان الكفرُ بآيات الله أعظمَ، كان التَّبشيرُ بالعذابِ الأليم أعظمَ، وقابَل قتلَ الأنبياءِ بحُبوطِ العملِ في الدُّنيا والآخرة؛ ففي الدُّنيا بالقتْلِ والسَّبيِ وأَخْذِ المال والاسترقاقِ، وفي الآخِرةِ بالعقابِ الدَّائم، وقابَل قتْلَ الآمِرين بالقسط بانتفاءِ النَّاصرين عنهم إذا حلَّ بهم العذابُ، كما لم يكُنْ للآمِرين بالقِسْطِ مَن ينصُرُهم حين حَلَّ بهم قتلُ المعتدين، كذلك المُعتَدُون لا ناصرَ لهم إذا حلَّ بهم العذابُ.

﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ﴾[آل عمران:23]


مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا نبَّه اللهُ تعالى على عِنادِ القومِ بقوله: ﴿فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ﴾ [آل عمران:20]، بَيَّن في هذه الآيةِ غايةَ عنادِهم، وهو أنَّهم يُدْعَون إلى الكتابِ الَّذي يزعُمونَ أنَّهم يؤمنون به، وهو التَّوراةُ، ثمَّ إنَّهم يتمرَّدون، ويتولَّوْن، وذلك يدُلُّ على غايةِ عنادهم. ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ﴾ أي: ألم ترَ- يا محمَّدُ- إلى اليهودِ الَّذين أُعطُوا حظًّا من العِلم بالتَّوراة، هذا الاستفهام يفيد معنى التعجب؛ وذلك أن هؤلاء الذين أعطاهم الله تبارك وتعالى كتاباً، كان الحري بهم أن يقبلوا التحاكم إليه..
﴿يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ﴾ أي: يُدْعَون إلى التَّوراةِ لتحكُمَ بينهم ؛ فهم يُقرُّون ويُصدِّقون بها.
﴿ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾ أي: يَستدبرُ فريقٌ منهم عن كتابِ الله مُعرِضًا عنه مُنصرِفًا، والمقصود: أن الله تبارك وتعالى يعجب نبيه ﷺ من صنيع هؤلاء الذين ناقضوا أنفسهم، فهم يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللّهِ، والكتاب هنا هو الكتاب المنزل عليهم وهو التوراة، وذلك أن هؤلاء لا يؤمنون بالقرآن أصلاً، وإنما يؤمنون بكتابهم ويعتقدون أنه من عند الله -تبارك وتعالى- ومع ذلك إذا دعوا إلى التحاكم إليه في أمر لا يوافق أهواءهم فإنهم يعرضون ويأبون ذلك، عن عبدِ اللهِ بن عمرُ رضِي اللهُ عنهما أنَّ اليهودَ جاؤوا إلى رسولِ اللهِ ﷺ، فذكَروا له أنَّ رجلًا منهم وامرأةً زَنَيَا، فقال لهم رسولُ اللهِ ﷺ "ما تجِدون في التَّوراةِ في شأنِ الرَّجْمِ؟ فقالوا: نفضَحُهم ويُجْلَدُون، فقال عبدُ اللهِ بنُ سَلَامٍ: كذَبْتُم، إنَّ فيها الرَّجْمَ، فأتَوْا بالتَّوراةِ فنشَروها، فوضَعَ أحدُهم يدَه على آيةِ الرَّجْمِ، فقَرأَ ما قبلَها وما بعدَها، فقال له عبدُ اللهِ بنُ سَلَامٍ: ارفعْ يدَك، فرَفَعَ يدَه، فإذا فيها آيةُ الرَّجْمِ، فقالوا: صدَقَ يا محمدُ؛ فيها آيةُ الرَّجْمِ، فأمَرَ بهما رسولُ اللهِ ﷺ فرُجِمَا" وذكَر الله تعالى سبب إعراضِهم فقال:


﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ
مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) ﴾[آل عمران: 24]

أي: ذلك التَّولِّي والإعراضُ بسبب قولِهم: لن نُعذَّبَ في النَّار إلَّا أيَّامًا قلائلَ، ثمَّ يُخرِجنا منها ربُّنا، حملهم وجرأهم على مخالفة الحق افتراؤهم على الله فيما ادعوه لأنفسهم أنهم إنما يعذبون في النار سبعة أيام، عن كل ألف سنة في الدنيا يوماً، أو أنهم يعذبون بقدر عبادتهم للعجل كما جاء في بعض المرويات، هذا الذي غرهم في دينهم فقالوا: ﴿ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ﴾ عن أبي هُرَيرَةَ رضِي اللهُ عنه قال: قال رسولُ اللهِ ﷺ لليهود: "مَن أهلُ النَّارِ؟ فقالوا: نكونُ فيها يسيرًا، ثمَّ تَخْلُفُوننا فيها، فقال لهم رسولُ اللهِ ﷺ اخسَؤوا فيها، واللهِ لا نَخْلُفُكم فيها أبدًا".
﴿وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ أي: ثَبَّتَهم على دِينِهم الباطل ما خدَعوا به أنفسَهم مِن زعمِهم أنَّ النَّارَ لن تمسَّهم إلَّا أيَّامًا معدوداتٍ، وادِّعائِهم أنَّهم أبناءُ الله وأحبَّاؤُه، إلى غيرِ ذلك، وهم الَّذين افتَرَوْا هذا مِن تلقاءِ أنفسِهم واختَلَقوه.
ثمَّ قال الله تعالى مُتهدِّدًا لهم ومتوعِّدًا:


﴿فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ
وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25) ﴾[آل عمران: 25]

أي: فكيفَ يكونُ حالُهم مع ما صنَعوا وقد افتروا على الله وكذبوا رسله، وقتلوا أنبياءه والعلماء من قومهم الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، إذا جمَعَهم اللهُ للفصلِ بينهم، ولحسابِهم في يومٍ لا شكَّ في مجيئِه ووقوعِه، وهو يومُ القيامة؟! وما أعظَمَ ما يلقَوْنَ من عقوبةٍ ! ﴿وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ﴾ أي: وأَعْطَى اللهُ كلَّ نفسٍ جزاءَ ما عمِلَتْ من الخيرِ أو الشَّرِّ كاملًا وافيًا ﴿وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ أي: لا يُنقَصُ أحدٌ من حَسناتِه، ولا يُزاد في سيِّئاتِه، أو يُعاقَبُ بغير جُرمِه كما قال تعالى ولاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49]، وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:46]، وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْمًا وَلاَ هَضْمًا [طه:112]. وفي الحديثِ القُدسيِّ الذي رواه أبو ذرٍّ الغفاريُّ رضِي اللهُ عنه، عن النبيِّ ﷺ، فيما روَى عن اللهِ تبارَك وتعالَى أنَّهُ قال "يا عِبادي، إنِّي حرَّمْتُ الظُّلمَ على نفْسِي..."
الهدايات والفوائد التربوية:
في قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ﴾ دليلٌ على أنَّ الإنسانَ قد يُعطى عِلمًا، إلَّا أنَّه لا يوفَّق للعمل به.
في قوله تعالى (لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ) بيانُ أنَّ الحُكم في كتاب الله يَشمَلُ كلَّ شيءٍ مِن عباداتٍ ومعاملات وأخلاق؛ لأنَّه لم يخصَّص منها شيءٌ، وفي هذا ردٌّ على مَن يزعم أنَّ الشَّرعَ إنَّما جاء في تنظيمِ العبادات فقط، أمَّا المعاملاتُ فهي إلى الخَلْق.
3-في قول: ﴿ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾ تحذيرٌ مِن التَّولِّي والإعراضِ عند الدَّعوةِ إلى التَّحاكُمِ إلى كتاب الله، بل الواجبُ على كلِّ أحدٍ إذا دُعِيَ إلى ذلك أنْ يسمَعَ ويُطيعَ وينقادَ، فلا يمكن أنْ يحتويَ قلبُ امرئٍ على الخوف من الآخرةِ والحياءِ من الله، ثمَّ يُعرِض عن الاحتكامِ إلى كتابِ الله، وتحكيمِه في كلِّ شأنٍ من شؤون الحياةِ.
يُؤخَذُ من قوله تعالى: ﴿ لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾ بُطلانُ الأمانيِّ، وأنَّ النَّفْس قد تُمنِّي الإنسانَ ما لا يكون؛ لذا يجبُ على الإنسان الحَذرُ من الاتِّكالِ على الأمانيِّ؛ فإنَّ هذا الخُلُقَ سِمةٌ من سِمات اليهود والنَّصارى.
عبَّر بالقولِ عن مُعتقَدِهم فقال: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا﴾ ولم يقُل: (اعتقدوا)؛ قيل للدَّلالة على أنَّ هذا الاعتقادَ لا دليلَ عليه، وأنَّه قولٌ مفترًى مدلَّسٌ، وهذا المعتقدُ هو عقيدةُ اليهود.
في قوله تعالى: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾ دلالةٌ على أنَّ اعتقادَ النَّجاةِ مِن عذابِ الله تعالى على كلِّ حال يحملُ المرءَ على الجُرأة على الإعراض عن الحقِّ، كما أنَّ هذا الاعتقادَ مُؤذِنٌ بسَفالة الهمَّة الدِّينيَّة، فلا تحصُلُ المنافسةُ في تزكية النَّفْس.
في قوله تعالى: ﴿وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ بيانُ أنَّ الاغترار بالعمل قصورٌ في النَّظر؛ لأنَّه ليس الشَّأنُ هو القيامَ بالعمل، بل الشَّأنُ كلُّ الشَّأن أنْ يُقبَلَ منه العمل، فكم مِن عاملٍ ليس له مِن عملِه إلَّا التَّعبُ؛ لوجود مُبطِلٍ سابقٍ أو لاحقٍ.
من قوله تعالى: ﴿وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ يتَّضح أنَّ المخالفةَ إذا لم تكُن عن غرورٍ، فالإقلاعُ عنها مَرجوٌّ، أمَّا المغرورُ فلا يُترقَّبُ منه إقلاع.
في قوله: ﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾ دليلٌ على أنَّهم يؤمنون بالبعث، إلَّا أنَّه لا فائدةَ في الإيمانِ المجرَّد بوجودِ الله أو اليومِ الآخِر ما لم يَتْبَعْه قَبولٌ وإذعان؛ فمجرَّدُ التَّصديقِ لا يُعدُّ إيمانًا.
﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)﴾ [آل عمران: 26]


مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا أخْبَر تعالى أنَّ الكفَّارَ سيُغلَبون، وأنَّه ليس لهم من ناصرين، كان حالُهم مقتضيًا لأنْ يقولوا: كيف نُغلَبُ مع قوَّتنا وكثرتِنا وقلَّة أعدائِنا وضَعْفِهم؟ فقال الله تعالى:﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ﴾.
هذا تعليم من الله -تبارك وتعالى- لنبيه ﷺ وهو تعليم لأمته؛ لأن الخطاب للنبي ﷺ هو خطاب للأمة؛ باعتبار أن الأمة تُخاطب بشخص قدوها ﷺ وهو أمر للنبي ﷺ، وذلك يدل على أن النبي ﷺ عبد مأمور أرسله الله -تبارك وتعالى- ليُبلغ عنه، فالله يأمره ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ﴾ فالنبي ﷺ مُبلغ عن الله أي: قُلْ- يا محمَّدُ- متوجهًا إلى الله -تبارك وتعالى- بالثناء والدعاء والحمد يا أللهُ، يا مَن لك الملكُ كلُّه؛ مُلكُ الدُّنيا والآخِرة، فتملِك جميعَ الممالكِ وتُصرِّفها وتُدبِّرها، الحديث عن اليهود قبلها، وهؤلاء اليهود قد حسدوا النبي ﷺ وهذه الأمة على تحول الكتاب والنبوة فيهم، موسى عليه السلام يُذكّر قومه: اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ [المائدة:20]، لكنهم لم يكونوا بتلك المنزلة فاستحقوا الإبعاد واللعن والطرد، قال الله تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا [فاطر:32]، وهم هذه الأمة بطبقاتها الثلاث: فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ [فاطر:32]، فهذا أوقع حسدًا في نفوس هؤلاء اليهود، زال عنهم النبوة، ومن ثَم زال عنهم التمكين والقوة والملك فصاروا بحال كما قص الله -تبارك وتعالى- وكما حكم: وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا [الأعراف:168] ثمَّ فصَّل في بعضِ وجوه تصاريفِه وتدابيرِه في مُلكِه فقال:
﴿تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ﴾ أي: تُعطي المُلكَ مَن تشاءُ أنْ تُعطيَه، ﴿الْمُلْكَ﴾ فـ "ال" هذه يمكن أن تكون للاستغراق، كل الملك هو مالكه هو الذي يملكه، فإذا كان هو الذي يملكه النتيجة مذكورة بعده: ﴿تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ﴾ وعبر هنا بالإيتاء ما قال تُملك الملك؛ لأن المسألة إيتاء إعطاء، وهب مؤقت وملك الله -تبارك وتعالى- مُطلق ولم يُسبق بفقد، ولا يلحقه فقد، أما ملك المخلوق فهو مسبوق بفقد، ويعقبه فقد ولا محاله، إن بقي على ملكه إلى الوفاة فإن الموت يكون سلبًا لملكه. ﴿تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ﴾، هذا أبلغ مما لو قال تؤتي الملك بعض خلقك، يدل على أن له المشيئة المُطلقة.
﴿وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ﴾ أي: وتَنزِعُ الملكَ ممَّن تشاءُ أنْ تنزعَه منه؛ فتُزيلُ عنه وصْفَ المُلكِ، وفي تقديم الإيتاء على النزع﴿تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ﴾، فيه ما يتصل بتقديم المحبوب على المكروه، وذلك أن الإيتاء أمر مرغوب فيه بخلاف النزع، فقدم ما فيه الرغبة على ما فيه الرهبة، كما هو الغالب في القرآن، ثم أيضًا الجمع بينهما: ﴿تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ﴾ يدل على كمال القدرة.
﴿وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ﴾ أي: وتُعزُّ مَن تشاء أنْ تُعزَّه بطاعتِك، أو بإعطائِه المُلكَ، وبَسْطِ القدرةِ له، أو نَصْرِه، وغير ذلك، هذا يدل على أن العزة ملك لله؛ فينبغي أن يتوجه إليه في طلبها، هذه العزة لا تتحقق بمجرد سعي الإنسان إليها بالأخذ بأسباب القوة مثلاً، وإنما تكون بقوة الصلة بمالك العزة، فالله يُعز أوليائه.
﴿وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ﴾ أي: وتذلُّ مَن تشاءُ أنْ تذلَّه بمعصيتِك، أو بسَلْبِ مُلكِه، وتسليطِ أعدائِه عليه، أو هزيمتِه، وغير ذلك.
﴿بِيَدِكَ الْخَيْرُ﴾ فيه إثبات صفة اليد لله -تبارك وتعالى- على ما يليق بجلاله وعظمته، أي: الخيرُ كلُّه بيديك، ليس لأحدٍ معك منه شيءٌ فكل خير هو في خزائنه -تبارك وتعالى ﴿بِيَدِكَ الْخَيْرُ﴾ فهذا للعموم، كل الخير بيده، فالخير يُضاف إلى الله -تبارك وتعالى-، أفعاله كلها خير، وأوصافه كلها خير، والشر ليس إليه. وفي حديثِ عليِّ بن أبي طالب رضي الله عنه أنَّ رسولَ اللهِ ﷺ كان يُثْني على ربِّه في دُعاءِ الاستفتاحِ فيقول: "لبَّيْكَ وسَعْدَيْك، والخيرُ في يَديك، والشَّرُّ ليس إليك".
﴿الْخَيْرُ﴾ "ال" للاستغراق فمن أراد الخير -كل أحد يريد الخير- فعليه أن يتوجه إلى من يملك الخير، والنفع، والضر، فلا يُذلّ الإنسان نفسه لمخلوق من أجل أن يُحصل شيئا من النفع.
﴿إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ ي: إنَّ الله قديرٌ على كلِّ شيءٍ، على ما شاءَه وما لم يَشَأْه؛ فلا يمتنعُ عليه أمرٌ من الأمور، "إنّك" دخول "إنّ" هذه للتوكيد، ﴿إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ فجاء بأقوى صيغة من صيغ العموم ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾، وجاء بصيغة المُبالغة ﴿قَدِيرٌ﴾ على وزن فعيل، فقدرته نافذة لا يمكن أن يمتنع عليه شيء جلا جلاله.


﴿تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27) ﴾[آل عمران: 27]


﴿تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ﴾ أي: تُدخِلُ اللَّيلَ في النَّهار، وتُدخِل النَّهارَ في اللَّيل، فتجعلُ ما نَقَصْتَ من ساعاتِ اللَّيل زيادةً في ساعاتِ النَّهار، وما نَقصْتَ من ساعاتِ النَّهار زيادةً في ساعات اللَّيلِ.
﴿وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ﴾ أي: وتُخرجُ الإنسانَ الحيَّ والأنعامَ والبهائمَ الأحياءَ من النُّطَف الميتةِ، وتُخرج الزَّرعَ من الحَبَّةِ، والنَّخلةَ من النَّواة، والدَّجاجةَ مِن البيضةِ، وكذلك أيضًا في الحياة المعنوية فيُخرج المؤمن من صُلب الكافر، إلى غيرِ ذلك.
﴿وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ﴾ أي: وتُخرجُ النُّطفةَ الميِّتة من الإنسانِ الحيِّ والأنعامِ والبهائمِ الأحياءِ، وتُخرجُ الحَبَّةَ من الزَّرع، والنَّواةَ من النَّخلةِ، والبيضةَ من الدَّجاجةِ، كذلك يُخرج الكافر من صُلب المؤمن، إلى غير ذلك.
﴿وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ أي: وتُعطي مَن تشاءُ من الخَلْقِ الرِّزقَ الواسعَ دون تَقتيرٍ أو تضييقٍ أو مُحاسَبةٍ، فالله يرزق من يشاء يوسع له في الرزق ويمنع من شاء، يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ [القصص:82]، ويُضيق الرزق على آخرين، كُلاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ [الإسراء:20-21]، في الرزق، هذا التفاضل الذي يوجد بين الناس في أرزاقهم ومعايشهم كل ذلك من عطاء الله -تبارك وتعالى- فهو يرزق من يشاء بغير حساب، وهنا عُلق بالمشيئة، وهذا يدل على كمال التفرد والغنى والقدرة والإرادة، فإن العبد يتوجه في رزقه وطلبه إلى مولاه جلا جلاله، هو الذي يملك الرزق فإذا أيقن المؤمن بهذه الحقيقة فإنه لا يخاف على رزقه.
الهدايات والفوائد التربوية:
في قوله تعالى ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ﴾ الآية: تَعليمٌ من الله تعالى لنبيِّه محمَّد ﷺ أنْ يفوِّضَ الأمرَ إليه، والخِطاب الموجَّهُ له موجَّهٌ لأمَّته، إمَّا عن طريق التَّأسِّي، وإمَّا لأنَّ الخِطاب للإمام خِطابٌ له ولِمَن اتَّبَعه، ما لم يدلَّ الدَّليلُ على أنَّه خاصٌّ به.
في قوله تعالى ﴿تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ﴾ تقديمُ الإيتاءِ على النَّزع إشارةً إلى أنَّ الداعي يَنبغي أن يبدأَ بالترغيبِ، ﴿وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ﴾ فيه إشارةٌ إلى إنَّ الدعاء باللِّين إنْ لم يُجدِ ثُنِّي بالترهيب.
من قوله تعالى: ﴿وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ﴾ يُؤخَذ أنَّ اللهَ سبحانه وتعالى تامُّ الملك والسُّلطان؛ لكونه يُذِلُّ مَن يشاء، ولو بلَغ ما بلغ من العِزَّة البشريَّة؛ فإنَّ يدَ الله فوقَه مهما بلَغ الإنسانُ مِن العزِّ؛ فالله قادرٌ على إذلاله.
في قوله ﴿تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ﴾ تعريضٌ بأهلِ الكتاب، بأنَّ إعراضَهم إنَّما هو حسَدٌ على زوالِ النُّبوَّة وانقراضِ المُلكِ منهم، مع الإيماءِ إلى أنَّ الشَّريعةَ الإسلاميَّة مُقارِنةٌ للسُّلطان والمُلك.
في قوله ﴿تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ﴾، تسليةٌ للنَّبيِّ ﷺ في مقامِ بَيانِ عِنادِ المنكِرين، ومكابَرة الجاحدين، وتذكيرِه بقُدرتِه تعالى على نَصرِه وإعلاءِ كَلمةِ دِينه، وفيه إشارةٌ إلى أنَّه لا تلازُمَ بين العزِّ والمُلك؛ فقد يكون الملِكُ ذليلًا إذا ضَعُف استقلالُه بسوءِ السِّياسةِ وفسادِ التدبير، حتَّى صارتِ الدُّولُ الأخرى تَفْتاتُ عليه.
في قوله تبارَك وتعالَى ﴿تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ﴾ أنَّ الثناءَ ممَّا يُتوسَّل به إلى الله، وهو في الآية يتضمَّنُ ما تدلُّ عليه هذه الجملةُ، فإذا أثنيتَ على الله بأنَّه يُعِزُّ مَن يشاء، فأنت تسألُه العزَّة.
في قوله تعالى ﴿بِيَدِكَ الْخَيْرُ﴾ تنزيهُ اللهِ عن نِسبة الشَّرِّ إليه، بل كلُّ ما نُسِب إليه فهو خيرٌ، والشَّرُّ إنَّما صار شرًّا؛ لانقطاع نسبتِه وإضافتِه إليه، فلو أُضيف إليه لم يكن شرًّا، وهو سبحانه خالقُ الخيرِ والشَّرِّ؛ فالشَّرُّ في بعض مخلوقاتِه لا في خَلقِه وفِعلِه؛ فخَلْقُه وفعلُه وقضاؤُه وقدَرُه خيرٌ كلُّه.
أنَّ الله سبحانه وتعالى بيده الخيرُ، فإذا كان كذلك فإنَّه لا يُطلَب الخيرُ إلَّا منه؛ لأنَّه لا أحدَ بيده الخيرُ إلَّا هو؛ كما في قوله تعالى ﴿بِيَدِكَ الْخَيْرُ﴾.
في قوله تعالى : ﴿تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ﴾ بيانُ ضَعْفِ الإنسان وحاجتِه؛ فإيلاجُ اللَّيل في النَّهار والعكس، وما يَنتجُ عنه من تقلُّبٍ في الفصول يُعرِّفُ الإنسانَ بمدَى ضَعْفِه وافتقارِه إلى ربِّه، فإنْ جاءَ البردُ احتاج إليه، وإنْ جاء الحرُّ احتاج إليه.
في قوله: ﴿وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ﴾ أنَّ الرِّزقَ بيد الله؛ وعليه فإنَّه يَنبغي للعاقل فضلًا عن المؤمن، ألَّا يَطلُبَ الرِّزق مِن أيدي النَّاس، وإنَّما يَطلُبه من الله عزَّ وجلَّ.

﴿لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ
وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28) ﴾[آل عمران: 28]


مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا بيَّن اللهُ تعالى أنَّه مالكُ المُلك، وأنَّ بيده مجامعَ الخير، والسُّلطانَ المطلقَ في تصريف الكون، يُعطي مَن يشاء، ويَمنعُ مَن يشاء، ويُعزُّ مَن يشاء، ويُذلُّ مَن يشاء، فإذا كانت العزَّةُ والقوَّة له- عزَّ شأنُه- فمِن الجهلِ والغرورِ الاعتزازُ بأحدٍ من دونه، أو اللُّجوءُ إلى غيرِ بابِه، أو موالاةُ أعدائه، وقد يحصل لدى بعض الناس تعلق بالكفار وطلب العزة منهم، فجاءت هذه الآيات في اجتثاث هذا الاعتقاد الذي قد يعتقده بعض الناس بطلب العزة من الكفار. فقال تعالى:
﴿لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ أي: لا تتَّخِذوا- أيُّها المؤمنون- الكفَّارَ أنصارًا وأعوانًا، تحبُّونهم وتظاهرونهم وتوالونهم متجاوزين المؤمنين إليهم ﴿لَّا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ وصفهم بالإيمان يدل على أنّ هذا الفعل قد يخالف أصل الإيمان أو كماله، دلالة على أنّ المؤمن لا يحصل منه تولي الكفار، وأنّ ذلك قد ينقض إيمانه، إما من أصله وإما من كماله، ينقض أصل الإيمان، أو كمال الإيمان، أو ينقضه تماما، والولي هو الذي يليك، أي أقرب الناس إليك، فيتولى المؤمن الكافر من دون المؤمن، كما قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ [الممتحنة:1] وقال سبحانه :يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة:51] وقال عزَّ وجلَّ :يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [النساء:144] وقد بين النبي ﷺ هذا الأصل كما ورد عن أبي أمامة عن رسول الله - ﷺ - فقال: "مَن أحبَّ لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان".
﴿لا يَتَّخِذِ﴾ مُضمن معنى النهي والأصل أن النهي للتحريم، إضافة إلى قوله -تبارك وتعالى متوعَّدا مَن يفعل ذلك ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ﴾، فهذا لا يكون إلا لأمر محرم أي: ومَن يفعلْ ذلك المذكورَ فيتَّخِذهم أولياءَ من دون المؤمنين، فقد بَرِئ مِن اللهِ، وبرِئَ اللهُ منه. ﴿شَيْءٍ﴾ هنا جاءت نكرة في سياق النفي، والنكرة إذا جاءت في سياق النفي دلت على العموم. فدلت على أنه ليس من الله في شيء، لا صغير ولا كبير، لا قليل ولا كثير، وأنّ الله جل وعلا قد برئ منه بهذا الفعل، ﴿فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ﴾ فهذا يدل على مُباعدته، وعلى أنه في حال من الانحراف والضلال والبُعد عن صراط الله المستقيم، وذلك أنه جمع بين ما يدعيه من محبة الله وولايته ومحبة أعداء الله -تبارك وتعالى-، وهذان لا يجتمعان.
قوله ﴿مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ ظهر في موضع يصح الإضمار، يعني: ما قال لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دونهم، وإنما قال﴿ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ فكل ذلك لإبراز هذا اللفظ "المؤمنين" يدل على أن مُتعلق الولاية هو الإيمان، وإذا كان ذلك هو متعلقها فهذا يقتضي أن يكون الموالاة بحسب الإيمان، يعني: حتى لأهل الإيمان، فإن الولاء عند أهل السنة والجماعة الموالاة تتفاوت زيادة ونقصًا، فإذا كان الإيمان أكمل كانت الموالاة أعظم وأتم، وإذا ضعُف الإيمان فإن ذلك يكون سببًا يوجب ضعف الموالاة، فالحب في الله والبُغض في الله كما قال النبي ﷺ: "أوثق عُرى الإيمان؛ لأن الإيمان الحي النابض هو المُحرك والدافع الذي يدفع صاحبه من أجل أن يُقرب أو يُباعد، إيمانه هو الذي يحكمه وليس الذي يحكمه أهواءه وذوقه، الرابطة الإيمانية هي التي تجمع بين أبي بكر القُرشي رضي الله عنه وبلال الحبشي، وسلمان الفارسي، بل هي التي تربط بين أهل السماء والأرض، فالله أخبر عن الملائكة من حملة العرش :وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا [غافر:7]، فهذا الاستغفار للذين آمنوا باعتبار الإيمان لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ [غافر:7]، فهذا دعاء الملائكة -عليهم السلام- لأهل الإيمان والتوبة والاستقامة واتباع سبيل الرب تبارك وتعالى، فهذه الوشيجة والرابطة الإيمانية هي التي تجتمع ﴿إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾ [آل عمران:103]، هذه نعمة الإيمان وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا، فكل الذهب والفضة والمال، مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ [الأنفال:63]، ألف بينهم بالإيمان، فهو معقد الولاء، وإذا كان ذلك هو معقد الولاء فإن الإيمان يزيد وينقص، ومن ثَم فإن الموالاة تنقص وتزيد بحسب نقص الإيمان وزيادته، فإذا كان العبد مُكملاً للإيمان كان له من الولاء أكمله، وإذا كان ناقص الإيمان مجترئًا على حدود الله -تبارك وتعالى- فله من الولاء ما يليق بمثله، بخلاف الخوارج والمعتزلة فإن الولاء عندهم لا يتجزأ؛ لأنه إما أن يوالى موالاة كاملة، وإما أن يتبرأ منه براءة كاملة، وهذا مذهب أهل البدع، أهل السنة يقولون: يتفاوت فقد يكون المؤمن على حال من الصلاح والاستقامة، وقد يكون مقصرًا عاصيًا فلا ينتفي عنه الولاء لكن لا يكون كموالاة ذاك الذي قد كمل الإيمان.
﴿إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً﴾ هنا جاء الاستثناء والرخصة لأهل الإيمان، إلَّا أنْ تَخافوا على أنفسِكم مِن شرِّهم، فلَكُم أنْ تتَّقوهم بمداراتِهم، وإظهارِ الوَلايةِ لهم بألْسنتِكم، مع إضمارِ العَداوةِ والبُغضِ لهم، وعدمِ مُشايعتِهم على كُفرِهم، أو إعانتِهم على المسلمين، والمقصود بذلك المُداراة والمُلاطفة والمُلاينة بالقول من غير أن يهدم حقًّا أو يبني باطلاً، فيكون ذلك المداراة في الظاهر فقط وأما في الباطن فإنهم يحملون لهم العداء والبغضاء، فهذا لا إشكال فيه مع القريب والبعيد والموافق والمُخالف، وقد نُقل ذلك عن الحسن -رحمه الله- بأن المُداراة نصف العقل فهذا من حُسن الخُلق.
ثمَّ هدَّد وتوعَّد مَن فعَل ما نَهى عنه فقال: ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ﴾ أي: ويُخوِّفُكم اللهُ من نفسِه؛ فلا تَتعرَّضوا لسَخطِه وعذابِه بركوبِ مَعاصيه، أو موالاةِ أعدائِه فهو قادر على إنفاذه متى شاء، وذلك أبلغ في التحذير حيث أضافه إلى النفس، والنفس هنا صفة ثابتة لله تبارك وتعالى وهي مفسرة بالذات كما قال ذلك أهل السنة.
﴿وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ﴾ هذا لا شك أنه مؤكد للتحذير والوعيد، فهو خبر مُضمن معنى التهديد، أي: إليه المرجعُ بعدَ الموت، فيُجازي كلَّ عاملٍ بعمله؛ فإيَّاكم أنْ تفعلوا مِن الأعمالِ ما تَستحقُّون به العقوبةَ، واعمَلوا ما به يَحصُل الأجرُ والمثوبة، ﴿وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ﴾ يدل على الحصر بتقديم الجار والمجرور﴿ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ﴾ ولم يقل: المصير إلى الله، وحينما يُقدم ما حقه التأخير فهذا يدل على الحصر والقصر، يعني أن المصير إلى الله وحده دون من سواه، فالناس يصيرون إلى الله جميعًا لا يصيرون إلى غيره، وهذا مُناسب لقوله قبله: ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ﴾، فهو الذي قد توعد وتهدد، وهو الذي يتولى الحساب بنفسه والعباد صائرون إليه لا محالة دون ما سواه.
الهدايات والفوائد التربوية:
في قوله تعالى: ﴿لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ... ﴾ علَّق اللهُ حُكم (الموالاة) بالمؤمنين؛ لأنَّ مُقتضى الإيمانِ الحقيقيِّ أنَّ يتَّخذَ الإنسانُ الكافرين أعداءً، ولأنَّ اتِّخاذهم أولياءَ يُنافي أصلَ الإيمان أو كمالَه، ودلالةٌ على أنَّه لا َيجوزُ أنْ يولَّى كافرٌ ولايةً من ولاياتِ المسلمين، ولا يُستعانُ به على الأمورِ الَّتي هي مَصالحُ لعمومِ المسلمين.
قوله : ﴿مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ لا مفهومَ له؛ أي لا يفهم من ذلك أنه يجوز للكافر، أن يتولى المؤمن الكافر مع المؤمن، وأنّ المحرم فقط أن يتولاه دون المؤمن، هذا مرتبط بسبب النزول، بيانا لما حصل، وذلك أنّ بعض المؤمنين تولوا الكافرين من دون المؤمنين، وليسَ المرادُ إخراجَ المفهومِ عن حُكم المنطوقِ؛ فمِن مَوانعِ اعتبارِ مفهومِ المخالفةِ كونُ المنطوقِ نازلًا على حادثةٍ واقعة، ومعلومٌ أنَّ اتِّخاذَ المؤمنين الكافرين أولياءَ، ممنوعٌ على كلِّ حالٍ، وفيه أيضًا إشارةٌ إلى أنَّ الحقيقَ بالموالاةِ هم المؤمنون، وفي موالاتهم مندوحةٌ عن موالاة الكفَّار.
المداراةُ فيما لا يَهدِم حقًّا ولا يَبني باطلًا كِياسةٌ مُستحبَّة، يَقتضيها أدبُ المجالسة ما لم تَنتهِ إلى حدِّ النِّفاق؛ وذلك لقولِه تعالى: ﴿إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً﴾.
في قوله: ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ﴾ ذكَر اللهُ في تَحذيره النَّفْس؛ قيل: ليُعلمَ أنَّ الوعيدَ صادرٌ منه، وهو القادرُ على إنفاذِه؛ إذ لا يُعجِزُه شيء، وقيل: جَعَل التَّحذيرَ هنا من نَفْسِ الله- أي ذاتِه- ليكونَ أعمَّ في الأحوال؛ لأنَّه لو قيل: يُحذِّرُكم اللهُ غَضبَه، لتُوهِّم أنَّ للهِ رِضًا لا يَضرُّ معه تعمُّدُ مخالفةِ أوامرِه، والعرب إذا أرادتْ تعميمَ أحوالِ الذَّات علَّقت الحُكم بالذَّات. ونظيرُ ذلك قوله تعالى :وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ- إلى قوله- لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [الفتح: 25].
في قوله: ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ﴾، إثباتُ النَّفْسِ لله تعالى، ونَفْسُه هي ذاتُه عَزَّ وجَلَّ، وتحذيرُ الله من نفْسِه تهديدٌ عظيم يُشعِر بتناهي المنهيِّ عنه من الموالاةِ في القُبح.

﴿قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29) ﴾[آل عمران: 29]


مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا نهى اللهُ تعالى المؤمنين عن اتِّخاذ الكافِرين أولياءَ ظاهرًا وباطنًا، واستَثْنى منه التَّقيَّةَ في الظَّاهر، أتْبَع ذلك بالوعيدِ على أنْ يَصيرَ الباطنُ موافقًا للظَّاهر في وقت التَّقيَّة؛ وذلك لأنَّ مَن أَقْدَم عند التَّقيَّةِ على إظهارِ الموالاة، فقد يصيرُ إقدامُه على ذلك الفعلِ بحسَب الظَّاهر سببًا لحصولِ تلك الموالاةِ في الباطن؛ فلا جَرَم بَيَّن تعالى أنَّه عالمٌ بالبواطن كعِلْمِه بالظَّواهر، فيعلم العبدُ أنَّه لا بدَّ أنْ يجازيَه على كلِّ ما عزَم عليه في قلبه؛ لذا قال: ﴿قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ﴾ أي: قلْ- يا محمَّدُ-: إنْ تُخفوا ما في قلوبِكم وضمائرِكم- من الخيرِ أو الشَّرِّ، أو الولايةِ أو العَداوةِ وغير ذلك- أو تُظهروه، فإنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يَعلمُه ويُجازيكم عليه، عبر بالصدور ﴿تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ ﴾ولم يقل ما في قلوبكم، ولا شك أن القلب وهو موضع العقائد والإيرادات والأفكار والخواطر وما إلى ذلك، وهو مبعثها، ولكن جاء ذلك على طريقة العرب حيث يُعبرون بالصدر عن القلب، وذلك أن القلب في الصدر فهو مُستودع فيه فصار يُعبر بالصدر عنه ويُقام مقامه. والمقصود "بما في الصدور": يعني البواطن وما يقع في نفس الإنسان ويُضمره فذلك يرجع إلى القلب، ويتحرك في الصدر، ولهذا قيل للقلب: الفؤاد؛ لكثرة تفؤده يتفأد يتحرك يتوقد بالخواطر والإيرادات والأفكار لا يتوقف، وقيل له: قلب؛ لكثرة تقلبه وهو يتقلب، ﴿يَعْلَمْهُ اللَّهُ ﴾ هذا يدعوا إلى تطهير القلوب وتنقية النفوس، فالله -تبارك وتعالى- مُطلع على البواطن كما أنه مُطلع على الظواهر، وهذا يقتضي المحاسبة فإذا كان يعلمه، فقد أحصاه، وسيجازيكم عليه، وتقديم قوله -تبارك وتعالى: ﴿قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ﴾، فقدم الإخفاء على ما يُظهر ويُعلن ويُبدى أن ذلك يدل على أنه يستوي علمه -تبارك وتعالى- بالظواهر كما يستوي بالبواطن فهذا يدعو إلى إشغال القلب بعد تنقيته بمحاب الله تبارك وتعالى من الإيمان والأعمال القلبية من الخوف والرجاء والمحبة والتوكل وما إلى ذلك. وفي سورة البقرة: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ [البقرة:284]، فقدم الإبداء، فهنا يحتمل أن يكون ذلك باعتبار أن مثل هذه الأمور مما يتعلق بتولي أعداء الله سبحانه وتعالى مما يحرص الإنسان على إخفائه وكتمه، يعني بحسب السياق هنا، فقدم الإخفاء على الإبداء، ولا شك أن تقديم الإخفاء باعتبار أن ذلك أدل على قدرة الله تبارك وتعالى، فإذا كان يعلم الخفيات فمن باب أولى أنه يعلم الجليات، لا يخفى عليه خافية. ﴿وَيَعْلَمُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ ذكر الخاص أولاً، يعلم ما أخفته الصدور وما يُبديه العباد ثم قال: ﴿وَيَعْلَمُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأَرْضِ﴾ فهذا عام يشمل ما ذُكر قبله، فإن ما يُخفيه العباد في صدورهم هو مما في السماوات والأرض وكذلك ما يُبدونه ويُعلنونه بألسنتهم أو يواقعونه بجوارحهم، لكن علم ما في السماوات وما في الأرض أوسع من هذا، فيعلم كل حركة في هذا الكون ما يقع شيء إلا بعلمه وإرادته تبارك وتعالى، ما تسقط ورقة إلا بعلمه، وما تحمل من أنثى إلا بعلمه، ولا تضع إلا بعلمه، يعلم ما في قعر البحر، وما تحت الأرض وما فوقها، وما في بطن الصخرة الصماء يعلمه لا يغيبُ عنه شيءٌ، علمه أحاط بكل شيء. ﴿وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾أي: واللهُ قادرٌ على كلِّ شيء؛ فقُدرتُه نافذة، ولا يُعجِزه شيءٌ في الأرض ولا في السَّماء، ولكمالِ عِلمه وكمالِ قُدرته إذا أراد معاجلةَ أحدٍ بعقوبة، فلن يُفلِتَ من عِقابه، فاحذَروا، ولم يقل: وهو على كل شيء قدير، فأظهر الاسم الكريم وهذا لا شك أنه أدعى إلى تربية المهابة والتعظيم في النفوس حيث كرره وأظهره في موضع الإضمار.

﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ (30) ﴾[آل عمران: 30]


مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا أخبَر الله تعالى عن عِلمه وقُدرته، وفي ضِمنه الإخبارُ بما هو لازمُ ذلك من المجازاةِ على الأعمال، أخبَر عن مَحلِّ ذلك، وهو يومُ القيامة، الَّذي تُوفَّى فيه كلُّ نُفْسٍ ما كسبتْ ؛ فلهذا قال:
﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا﴾ الآية بدأت بذكر اليوم فقال يَوْمَ تَجِدُ فذكر أولا يوم القيامة، يوم الجزاء وذلك لأن موضع الاهتمام هنا هو يوم القيامة، وهو موضع العناية، ولذلك قدمها على الفعل، فقال ﴿يَوْمَ تَجِدُ﴾ وفي قوله ﴿تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ﴾ عمم كل النفوس مؤمنها وكافرها يومَ تجِد كلُّ نفْسٍ الَّذي عمِلَتْه من خيرٍ- سواء كان قليلًا أو كثيرًا- قد أُحضِر كاملًا موفَّرًا ينتظرها لتُجزى به، كما قال الله تعالى: وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا [الكهف:49]
﴿وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا﴾ أي: والَّذي عمِلَتْه كلُّ نفْس من سوء- قلَّ أو كثُر- فإنه يكون أيضًا في انتظارها تُحبُّ وتتمنَّى لو أنَّ هذا العمل السيء بينها وبينه مسافةً بعيدةً، أو زمانًا طويلًا متأخِّرًا، فهذا بمعنى الحث على التقوى، والمراقبة، والاستعداد لهذا اليوم. لاحظوا هنا دخول مِن لم يقل عملت سوءا وإنما قال ﴿وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ﴾، ودخول مِن هنا يدل على التنصيص في الصغير والكبير، في العمل السيء الصغير، والكبير، ولذلك قال ﴿مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا﴾. جاءت (كُلُّ) التي هي أقوى صيغ العموم ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ﴾، وجاء بعدها التنكير للنفس (كُلُّ نَفْسٍ) على سبيل الانفراد والاستقلال، تجد ما عملت من خير محضرا، كل نفس، يعني: هذه الآية تصدق على جميع الخلق البر، والفاجر، والمؤمن، والكافر، لا يخرج من ذلك أحد؛ لأن ذلك عام جاء التعميم فيه بأقوى صيغ العموم. ولفظة (تَجِدُ) تدل على الوجود، وهو حاصل، وواقع، وحاضر، وموجود، و"ما" هذه أيضًا تدل على العموم (مَا عَمِلَتْ) سواء كان ذلك كثيرًا، أو كان قليلاً، ولو كان شيئًا مما لا يعبأ به الإنسان وإن الرجل ليتكلم بالكلمة -يعني من رضوان الله تعالى- ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت وفي الرواية الأخرى- يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم أن يلقاه أخرجه الترمذي، كتاب أبواب الزهد، باب في قلة الكلام، برقم (2319)، ومالك في الموطأ، برقم (3611)، وقال الألباني في صحيح الترغيب، والترهيب: حسن صحيح، برقم (2247).وفي الرواية الأخرى: يرفعه الله بها في الجنة أخرجه ابن الأثير في جامع الأصول في أحاديث الرسول، برقم (9410)، وهو عند البخاري، كتاب الرقاق، باب حفظ اللسان، برقم، (6478). كلمة، فكيف بما هو أعظم من ذلك. ولهذا قال الله -تبارك وتعالى-: وَوُضِعَ الْكِتَابُ، يعني: كتاب الأعمال، كتاب كل إنسان، فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ، والإشفاق لفظة تدل على خوف لكنه خوف خاص، يعني: هو أخص من مطلق الخوف، وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا [الكهف:49]، كما قال بعض السلف: "ضجوا إلى الله من الصغائر قبل الكبائر" أنظر: التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة، للقرطبي، (1/ 298).، مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً، وقدم هنا الصغيرة؛ لأن الناس يتساهلون بها، ويقولون هذا شيء يسير، وقد مثل النبي ﷺ الصغائر بالحطب يجمعه القوم، هذا يأتي بعود، وهذا يأتي بعود، ثم بعد ذلك يوقدون، فأنضجوا طعامهم، فهذه النار التي أوقدوا عليها، وأنضجوا هي عبارة عن عود مع عود فيتكون منها نار، يمكن أن يحصل بها مقصودهم ومطلوبهم من إنضاج الطعام، فهنا بآية الكهف وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا [الكهف:49]، أيضًا للعموم مَا عَمِلُوا حَاضِرًا كل ما عملوا من الخير، والشر، ويضجون وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا [الكهف:49]، الإحصاء هنا يدل على الاستقصاء، فلا يذهب، ولا يفوت منه شيء، وهذا يدل على كمال علم الله جلا جلاله، وإحاطته، وقدرته حيث جميع الأعمال، وجميع العباد من أولهم إلى آخرهم، كل الأعمال قد أُحصيت. ثمَّ قال تعالى مؤكِّدًا ومهدِّدًا ومتوعِّدًا: ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ﴾ أي: ويُخوِّفُكم الله مِن نفْسِه، يُحذركم نفسه لكونه متصفًا بالرأفة بالعباد رؤوف بالعباد، فمن رأفته -تبارك وتعالى- بعباده أن حذرهم من أسباب عذابه.
﴿وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾ ما قال، وهو رؤوف بالعباد، وإنما أعاد هذا الاسم الكريم مُظهرًا، مع أن الإضمار هنا يفي بالمعنى الأصلي، ولكنه أظهره، وذلك أبلغ، وأقوى، وأدعى إلى تربية المهابة في النفوس، فهذا مقام تحذير، أي: واللهُ رحيمٌ بخَلْقه أشدَّ الرَّحمةِ وأرقَّها؛ لذا حذَّرهم، وفيه إشارة إلى معنى، وهو أن رحمته سبقت غضبه، ثم إنه فيه اتباع للوعيد بالوعد، والترهيب بالترغيب، والعقاب بالثواب، وهذا من مقتضى قوله تعالى الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني فإنه يثنى القرآن، يثنى فيتبع ذكر الجنة والنار ثم ترغيب وترهيب كما قال الله جل وعلا في آيات كثيرة إنّ ربك سريع العقاب، وإنه لغفور رحيم، نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم، وأنّ عذابي هو العذاب الأليم.
الهدايات والفوائد التربوية:
يُؤخَذُ من قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ﴾، أنَّه متى آمَن الإنسانُ بصِفة العِلمِ أوْجَب له ذلك أمرين:
الأوَّل: الهروبُ مِن معصيةِ الله، فلا يَجِده اللهُ عزَّ وجلَّ حيث نهاه.
الثَّاني: الرَّغبةُ في طاعةِ الله، فلا يَفقِده حيثُ أمَرَه؛ لأنَّه يؤمنُ بأنَّ الله تعالى يَعلَمُه.
المرادُ بالصُّدور في قوله: ﴿مَا فِي صُدُورِكُمْ﴾ البواطنُ والضَّمائر، وهو جريٌ على معروف اللُّغة من إضافة الخواطر النَّفسيَّة إلى الصَّدر والقلب؛ لأنَّ الانفعالاتِ النَّفسانيَّةَ وتردُّدات التَّفكُّر- كلُّها يشعُرُ لها بحركاتٍ في الصُّدور.
في قوله: ﴿يَعْلَمْهُ اللَّهُ﴾ إرشادٌ إلى تطهيرِ القلوب، واستحضارِ عِلمِ الله كلَّ وقت، فيستحي العبدُ من ربِّه أنْ يرى قلبَه محلًّا لكلِّ فِكرٍ رديءٍ، بل يَشغَلُ أفكارَه فيما يُقرِّبُ إلى الله.
ختَم الله الآية بقوله: ﴿ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ إشارةً إلى أنَّه قد وسِع كلَّ شيءٍ علمًا وقُدرةً، وأنَّه قادرٌ على الانتقامِ منكم فيما إذا أخفيتُم ما لا يَرضاه، ولكنَّه لحِكمته قد يُؤخِّرُ الانتقام وفيه إرشادٌ للإنسانِ إلى أنْ يَتعلَّق بربِّه؛ لأنَّه متى علِم أنَّ اللهَ على كلِّ شيء قديرٌ، فإنَّه لن يمنَعَه مانعٌ من أنْ يلتجئَ إليه سبحانه وتعالى بسؤال ما يُريد.
التَّحذيرُ والتَّذكيرُ لهذا اليومِ العظيمِ الَّذي يجِد فيه الإنسانُ ما عمِل من خيرٍ أو سوء، وذلك من قوله: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا﴾ وفيه إشارة الى كمالُ قُدرة الله عزَّ وجلَّ بإحضارِ ما عمِلَه الإنسانُ من قليلٍ وكثير؛ لقوله: مَا وهي موصولة تُفيد العُمومَ.
في قوله: ﴿ وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ... ﴾تنبيهٌ للعبد؛ ليحذَرَ من أعمال السُّوءِ الَّتي لا بدَّ أنْ يحزَنَ عليها أشدَّ الحزن.
في قوله: ﴿تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا﴾ بيانٌ لكراهةِ المسيءِ لِمَا عمِله في ذلك اليوم، وأنَّه يحبُّ أنْ يكونَ بينه وبينه كما بين المشرقِ والمغرب.
ترْكُ كلِّ شهوة ولذَّة- وإنْ عسُر تركُها على النَّفس في هذه الدَّار- أيسرُ مِن معاناةِ تلك الشَّدائدِ، واحتمالِ تلك الفضائِح.
أعاد تعالى التَّحذيرَ من نفْسه؛ رأفةً بالعبادِ ورحمةً؛ لئلَّا يطُولَ عليهم الأمدُ فتقسوَ قلوبُهم، وليجمعَ لهم بين التَّرغيب الموجِب للرَّجاء والعملِ الصالح، والتَّرهيبِ الموجِبِ للخوف وترْكِ الذُّنوب.
لَمَّا قال: ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ﴾ وهو للوعيدِ أتْبعه بقوله: ﴿وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾ وهو للوعدِ؛ ليعلَمَ العبدُ أنَّ وعْدَه ورحمتَه، غالبٌ على وعيدِه وسخَطه مع أنَّ المقامَ مقامُ تحذيرٍ، والتَّحذيرُ يَقتضي الوعيد؛ وذلك لأنَّ إخبارَ الإنسان بحقيقة الحال من الرَّأفة به، ومن رأفته عزَّ وجلَّ بالعباد أنْ حذَّرهم نفسَه، وأخبرَهم بأنَّ الأمر عظيمٌ.
أنَّه يَنبغي للإنسان أنْ يعرفَ قدْرَ نفْسِه بالنِّسبة إلى ربِّه، وأنَّه عبدٌ، والعبد يجبُ أنْ يكونَ منقادًا لأمر الربِّ، وأنْ يكونَ ذليلًا له شرعًا، كما أنَّه ذليل له قدَرًا.
لَمَّا كان الخِطابُ للمؤمنين سَمَّى الموعظة تحذيرًا في قوله : ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ﴾ لأنَّ المحذَّر لا يكونُ متلبسًا بالوقوع في الخطرِ؛ فإنَّ التَّحذير تبعيدٌ من الوقوع، وليس انتشالًا بعد الوقوع.
التَّعريفُ في العباد في قوله: ﴿رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾ للاستغراق؛ لأنَّ رأفةَ الله شاملةٌ لكلِّ النَّاس، مسلمِهم وكافرِهم، ولك أنْ تجعل (أل) عوضًا عن المضافِ إليه، أي: بعِبادِه، فيكون بِشارةً للمؤمنين.

﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ
وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) ﴾[آل عمران: 31]


مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا نهى الله سبحانه وتعالى عن مُوالاةِ الكفَّارِ ظاهرًا وباطنًا، وكان الإنسانُ ربَّما والَى الكافرَ وهو يدَّعي محبَّةَ الله سبحانه وتعالى، وختَم برأفتِه سبحانه وتعالى بعبادِه، وكانت الرَّأفةُ قد تكونُ عن المحبَّة الموجبة للقُرب، فكان الإخبارُ بها ربَّما دعا إلى الاتِّكال، ووقَع لأجْلِه الاشتباهُ في الحِزبَينِ، جعَل لذلك سبحانه وتعالى علامةً فقال: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي﴾
أي: قل- يا محمَّدُ- لِمَن يدَّعون محبَّةَ الله: إنْ كنتُم تحبُّون الله محبة صادقة حقيقية كما ادَّعيتم فاتَّبِعوني بتصديق خبَري وطاعةِ أمْري والاقتداءِ بي، آمنوا بي ظاهرًا، وباطنًا. هذه الآية كما يسميها بعض العلماء آية الابتلاء، الحسن البصري قال ادعى قوم محبة الله فابتلاهم بهذه الآية، ما الضابط في هذا؟ الضابط هو الاتباع. ﴿إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي﴾ هنا فعل شرط، وجواب شرط، فعل الشرط ﴿إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ﴾ وجوابه ﴿فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ للَّهُ، فاتَّبِعُونِي﴾ فالفاء تدل على ترتيب على ما بعدها على ما قبلها، بُرهان محبة الله تبارك وتعالى، فاتباع النبي ﷺ هذا هو الطريق، يُقال: بأن هذه الآية تدل دلالة واضحة في كل زمان، ومكان على أن من ادعى دعوى لم يُصدقها بعمله وواقعه فإن دعواه مرفوضة، ودعواه مردودة، والاتباع الذي أمرهم به جاء مُطلقًا ﴿فَاتَّبِعُونِي﴾ ما قال: فاتبعوني فيما يتعلق بالسلوك، والآداب، أو اتبعوني فيما يتعلق بالاعتقاد، أو اتبعوني في الأمور العملية، وإنما أطلق ذلك، فدل ذلك على أن المطلوب هو اتباع النبي ﷺ في كل شيء مما يُطلب فيه الاقتداء، فيدخل في ذلك الأمور العملية من أنواع العبادات، فالنبي ﷺ صلى على المنبر ليراه الناس، وقال: "صلوا كما رأيتموني أصلي". وكذلك أيضًا فإن النبي ﷺ حج، وركب راحلته ﷺ ليراه الناس، ويقتدوا به، وقال: ﷺ: "خذوا عني مناسككم". وهكذا في سائر التعبدات، فهو الأسوة الكاملة ﷺ، وهو القائل: من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد وعلى قدر الاتباع تكون محبة الله تبارك وتعالى للعبد، ويكون نقص حظ العبد من هذه المحبة بقدر ما يكون عنده من التقصير، والتفريط، والتضييع بالاقتداء برسول الله ﷺ، ومتابعته. ﴿يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾ أي: إنَّكم إنِ اتَّبعتموني يُحبَّكم الله، ويَغفِرْ لكم جميعَ ذُنوبِكم، يتجاوز عنها، ويسترها عليكم، ويقيكم التبعات الحاصلة من جراء هذه الذنوب، فَمَن كَانَ محبًّا لله لزِم أنْ يتَّبع الرَّسُول، ومَن اتَّبع الرَّسولَ فقد فعَل ما يُحبُّه الله، فيُحِبه الله، هذه الآية قد تضمنت أصولاً عظيمة، فهي حاكمة على كل من ادعى محبة الله -تبارك وتعالى-، وليس متبعًا للنبي ﷺ وتشمل ثلاثة أمور: الأول: دعوى المحبة لله﴿إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ﴾. الثاني :﴿فَاتَّبِعُونِي﴾الذي هو شرط الوفاء بما يُصدقها، وهو اتباع النبي ﷺ. الثالث: زيادة ﴿يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾، الحديث في دعوى محبة الله تبارك وتعالى، أن العبد يُحب ربه، فذكر لهم شرط هذه المحبة، وما يُصدقها، وزادهم على ذلك محبته لعباده المتبعين لرسوله ﷺ، فصار عندنا محبة الله للعبد، محبة العبد لربه ﴿إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ﴾، والاتباع، وهو بُرهانها، ومحبة الرب للعبد، فهما محبتان بينهما مُلازمة. فهذا هو المقياس وما أعظمه من ضابط، وما أعظمه من ثواب، أنّ الله جل وعلا يحبك، فكما قال ابن القيم رحمه الله ليس الشأن أن تحب الله جل وعلا ولكن الشأن أن الله جل وعلا يحبك، ولذلك جاء في الصحيح أنّ النبي ﷺ قال إنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وتَعَالَى إذَا أحَبَّ عَبْدًا نَادَى جِبْرِيلَ: إنَّ اللَّهَ قدْ أحَبَّ فُلَانًا فأحِبَّهُ، فيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنَادِي جِبْرِيلُ في السَّمَاءِ: إنَّ اللَّهَ قدْ أحَبَّ فُلَانًا فأحِبُّوهُ، فيُحِبُّهُ أهْلُ السَّمَاءِ، ويُوضَعُ له القَبُولُ في أهْلِ الأرْضِ".
﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ من صفاته جل وعلا المغفرة والرحمة، ومن أسمائه أنه غَفُورٌ رَّحِيمٌ، غفورٌ لذنوبِ عِبادِه؛ يسترُها عليهم، ويتجاوزُ عنها، رحيمٌ بهم؛ يَعطِفُ عليهم، ويُحسِن إليهم، والمغفرة والرحمة إذا قرنت كانت المغفرة للماضي والرحمة للمستقبل، وإذا ذكرت المغفرة لوحدها أو الرحمة لوحدها فإنها تشمل َالأمر الثاني، كما يقال إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا.


﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)﴾ [آل عمران: 32]

أي: قُلْ- يا محمَّدُ-: أطيعوا اللهَ باتباع كتابه، والامتثال لأمره، واجتناب نهيه، وأطيعوا الرَّسول محمدًا ﷺ باتباع سنته، وذلك في حياته إذا أمر مُباشرة، يُطاع فلا يُعصى وبعد موته تُتبع سنته. ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ﴾ هذا أمر، ومعلوم أن الأمر للوجوب، فطاعة الله، وطاعة رسوله ﷺ حتم لازم، وليس ذلك إلى العبد، إن شاء كان مُطيعًا، وإن شاء كان عاصيًا، والطاعة مطلقة، ما قال: أطيعوا الله والرسول في العبادات دون ما يتعلق بالقضايا المجتمعية، أو السلوكية الأُسرية، أو نحو ذلك، وإنما أطلقه، والأصل حمل المُطلق على إطلاقه، ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ﴾في كل شأن من الشؤون، وهذه الشريعة جاءت عامة، كاملة، شاملة في كل شأن من شؤون الحياة، فلا يصح أن يُطيع الإنسان في بعض الأبواب، كالعبادات مثلاً، ثم يعصي فيما يتعلق بالجوانب الأخرى بحجة أن الدين إنما يُنظم علاقة الإنسان بربه -تبارك وتعالى- في الجوانب التعبدية المحضة كالصلاة، والصيام، والحج، ونحو ذلك، ولا علاقة له بإدارة شؤون الحياة، بمختلف فروعها، وأبوابها، وجوانبها، فهذا لا يصح، ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ﴾ في كل ما يأمركم به، وجاء بالواو الدالة على التشريك﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ﴾يعني في الاستجابة، والطاعة، لأن طاعة النبي ﷺ أمر لازم، وهي من طاعة الله جلا جلاله؛ ولذلك ذكر طاعة النبي ﷺ بعد طاعة الله، ما قال: قل أطيعوا الله، وأطيعوني، فهو لا يُطاع لذاته ﷺ، وإنما يُطاع لوصف الرسالة، ولهذا أبرزه ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ﴾ فهو رسول، فهذا يقتضي التصديق لأخباره ﷺ؛ لأنه رسول.
﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾ أي: فإنْ أعرَضوا عن الطَّاعة، ولم يَنقادوا، فهذا كُفرٌ منهم، والله عزَّ وجلَّ لا يحبُّ الكافرين، بل يُبغِضهم ولا يغفِرُ لهم، وهذا يدل على أن مخالفته كفر وأن التولي كفر، ﴿لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ﴾ "لا" النافية مع الفعل بعدها يدل على العموم يعني انتفت جميع أنواع المحبة عنهم، فإن الله لا يُحبهم مطلقًا، وهذا لا يكون إلا للكفار.
الهدايات والفوائد التربوية:
قوله: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ... ﴾ جمَعَت هذه الآيةُ وجوبَ محبَّة الله، وعلاماتِها، ونتيجتَها وثمراتِها، وهي حُجَّةٌ على أهلِ الدَّعوى في كلِّ زمانٍ ومكان؛ إذ ما قيمةُ الدَّعوى يُكذِّبها العملُ؟! وكيف يجتمعُ الحبُّ مع الجهلِ بالمحبوبِ وعدمِ العنايةِ بأمره ونهيه ؟! وبهذه الآية يُوزَنُ جميعُ الخَلْق؛ فعلى حسَب حَظِّهم من اتِّباع الرَّسولِ يكونُ إيمانُهم وحبُّهم لله، وما نقَص من ذلك نقَص.
في قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ﴾ فَاتَّبِعُونِي جوازُ مخاطبةِ المدَّعي بالتحدِّي.
يَنبغي للإنسان أنْ يُجيبَ غيرَه بما هو أكثرُ من سؤاله إذا دعتْ إليه الحاجة؛ لأنَّه لم يقُلْ: فاتَّبعوني تحبُّوا الله، بل قال: يُحْبِبْكُمُ، ولا أحدَ يحبُّه اللهُ إلَّا وهو يحبُّ اللهَ.
كمالُ إحسانِ الله سبحانه وتعالى لجزائِه على العمل أكثرَ منه؛ لأنَّ الَّذي يتَّبِع الرَّسول يحصل له محبَّةُ الله ومغفرةُ الذُّنوب، كما قال تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾.
قوله: ﴿فَاتَّبِعُونِي﴾ أي: على ما أنا عليه مِن الشَّريعة؛ عقيدةً وقولًا، وفعلًا وتركًا، فمَن اتَّبَع الرَّسول ﷺ بهذه الأربعة، صدَقَ في اتِّباعه، ومَن خالَف فهو غيرُ صادق.
الجمعُ بين الغفور والرَّحيم لفائدةٍ عظيمة؛ قيل: هي الجمعُ بين الوقايةِ والعنايةِ؛ بين الوقايةِ مِن شرِّ الذُّنوب بالمغفرة، والعنايةِ بالتَّيسير لليُسرى وتجنيبِ العُسرى بالرَّحمة.
في قوله تعالى: ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ﴾ أتى بالواو الدَّالَّة على التَّشريكِ؛ لأنَّ طاعةَ الرَّسولِ ﷺ فيما يأمُرُ به مِن الشَّريعةِ من طاعةِ الله.
في قوله: ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ﴾ ردٌّ على مَن قال: إنَّ السُّنَّة لا يُعمَل بها إلَّا ما وافَق القُرْآن؛ وذلك لأنَّنا لو قلنا: إنَّ الرَّسول ﷺ لا يُطاعُ إلَّا فيما أمَر اللهُ به لَمْ يكُنْ للأمر بطاعتِه فائدةٌ؛ لأنَّ كلَّ مَن أمْر بما أمَر اللهُ به، فإنَّه مطاعٌ، لا لأمْره، ولكن لأمْر الله؛ فَطاعةُ أمرِ الرَّسول طاعةٌ مُستقلَّة.

﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33)﴾ [آل عمران: 33]

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا بيَّن سبحانه وتعالى أنَّ محبَّته منُوطة باتِّباع الرَّسول، فمَن اتَّبعه كان صادِقًا في دعْوى حبِّه لله، وجَديرًا بأنْ يكونَ محبوبًا منه- جلَّ علاه- بعد هذا جاء السياق للحديث عن المسيح عليه السلام، وكما قلنا: بأن صدر هذه السورة إلى بضع وثمانين آية هي في محاورة النصارى، والرد عليهم، فكان هذا المدخل في بيان حقيقة المسيح، والرد على النصارى فيما اعتقدوا فيه من الباطل، فبدأ بالحديث عن الاصطفاء، والاجتباء ليكون ذلك أدعى إلى القبول، قبول هؤلاء الذين يزعمون أنهم أتباع المسيح عليه السلام وذِكرَ مَن أحبَّهم واصطفاهم، وجَعَل منهم الرُّسلَ الَّذين يُبيِّنون طريقَ محبَّتِه، وهي الإيمانُ به مع طاعته فقال:
﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾
الاصطفاء هو الاختيار والإجتباء فالله جل وعلا من حكمته أنه ينظر في قلوب العباد يصطفي من يشاء. كما قال الله جل وعلا في كتابه وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ ۗ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ۚ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ (68)القصص اختار هؤلاء، وجعلهم أصفياء على الخلق، اصطفاهم على العالمين، بعض العلماء يقولون: اصطفاهم على أهل زمانهم من أجل أن لا يُفهم منه أنهم أفضل من النبي ﷺ، وبعضهم يقول هذا على إطلاقه إلا أن النبي ﷺ بلا شك أكمل، وأفضل لكنه لم يُذكر لشهرته، وأنه خليل الرحمن؛ ولأن الحديث موجه إلى النصارى ليكون ذلك مدخلاً لبيان الاعتقاد في المسيح عليه السلام، ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى﴾فالاصطفاء هو الاجتباء، ونوح هو أول رسول إلى أهل الأرض، أول الأنبياء آدم، وأول الرسل نوح عليه السلام.أي: إنَّ اللهَ اختار واجتبى آدمَ عليه السَّلام، فخلَقه بيدِه، ونفَخ فيه من رُوحِه، وأَسجدَ له ملائكتَه، وعلَّمه أسماءَ كلِّ شيء، إلى غيرِ ذلك، واختار نوحًا عليه السَّلام، فكان أوَّلَ رسولٍ بعَثه، وجعَل ذُرِّيَّته هم الباقين، واختار إبراهيمَ عليه السَّلام- خليلَ الله- وقومَه، ومنهم الأنبياء الَّذين مِن بعده؛ فهم مِن ذرِّيَّته، ومنهم محمَّد ﷺ، واختار عِمْرانَ والدَ مريم، وزوجتَه أمَّ مريم، ومريمَ وابنها عيسى عليه السَّلام؛ اختارَهم وفضَّلهم على العالَمين. ﴿وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ﴾ يحتمل أن يكون المراد بآل إبراهيم، وآل عمران نفس إبراهيم عليه السلام، ونفس عمران، فقد يرد الآل بمعنى الشخص نفسه، لما ذكر الله -تبارك وتعالى- التابوت وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ [البقرة:248]، قال: بعضهم: يعني مما ترك موسى آثار موسى عليه السلام، وآثار هارون عليه السلام، أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر:46]، يعني: فرعون، ويحتمل أن يدخل الرجل نفسه في الآل وأتباعه على دينه، ويحتمل أن يكون أضيق من ذلك بأهل بيته، فآل إبراهيم يحتمل أن يكون المراد إبراهيم عليه السلام، ويحتمل أن يكون إبراهيم ومن جاء من ذريته من الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-، وهكذا آل عمران.
قال الله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ [الحديد: 26]، وقال :فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا [النساء: 54].
إبراهيم عليه السلام أبو الأنبياء، كل الأنبياء الذين من بعده كانوا من ذريته، وهو الذي اتفقت الطوائف على تعظيمه، يعني اليهود يُعظمونه، والنصارى يُعظمونه، والمسلمون يُعظمونه، والكل يدعي الانتساب إليه، وأنه على دينه، فأكذبهم الله تبارك وتعالى كما سيأتي في ثنايا هذه السورة ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا ﴾ [آل عمران:67]، وبين بُطلان ما يعتقدونه من كونه يهوديًّا، أو نصرانيًّا. واصطفى محمدًا ﷺ للنبوة كما اصطفى إبراهيم عليه السلام فهو من آل إبراهيم ومن ذريته، من ولد إسماعيل، وكما قال النبي ﷺ: "إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم". فهذا من اجتبائه -تبارك وتعالى واختياره. ﴿وَآلَ عِمْرَانَ﴾، وهم مندرجون في آل إبراهيم فإذا كان هذا الاصطفاء واقع في آل عمران فقد وقع في مريم، وكذلك أيضًا وقع في عيسى عليه السلام، وإذا كان هؤلاء أهل اصطفاء فالنبي ﷺ من باب أولى.

﴿ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) ﴾[آل عمران: 34]


هؤلاء الأخيار، الأطهار، الأبرار هم سُلالة طُهر وفضل وخير، متواصلة متصلة بالصلاح، والإخلاص، والخيرية، والتوحيد لله تبارك وتعالى، والتقوى، والعمل بمرضاته، نَسْلًا بعضُه من بعض، في وراثةِ الاصطفاءِ والإيمانِ، والطَّاعةِ والموالاةِ في الدِّين، والتَّناصُر على الحقِّ كما قال تعالى لَمَّا ذكَر جملةً من الأنبياء الدَّاخلين في ضِمن هذه البيوتِ الكبار :وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الأنعام:87]
﴿ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ ﴾"مِنْ" هذه للاتصال، وليست للتبعيض، يعني: بينهم اتصال القرابة ذرية بعضها من بعض، وكذلك فيما يتعلق بالأحوال، والصلاح، والطُهر، فمن هذه الذرية مريم وعيسى عليه السلام، ليُحاج بذلك النصارى، ووفد نجران الذين جاءوا إلى النبي ﷺ، ودعاهم إلى المباهلة. ﴿وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ ذكر هذين الاسمين الكريمين "السميع، والعليم" المُتضمنين لصفتي السمع، والعلم، أي: يسمع أقوال العباد، ويَعلَم أحوالَهم وما في ضَمائرِهم ويسمع دعاءهم، وسيأتي دعاء امرأة عمران، ودعاء عمران نفسه، وهو عَلِيمٌ بهم، عليم بما في قلوبهم، عليم بأعمالهم، عليم بأحوالهم لا يخفى عليه منهم خافية، ويعلَمُ من يستحقُّ الاصطفاءَ فيَصطفيه؛ فلذا فضَّلهم واختارَهم، وهذا كقوله :اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ، وقوله: وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ.


﴿إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي
إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) ﴾[آل عمران: 35]


أي: واذكُرْ إذ قالت امرأةُ عِمْران: يا ربِّ، إنِّي أوجبتُ على نفْسي أنْ أَجعلَ ما في بطني مفرَّغًا لعبادتك، حبيسًا على خِدمةِ بيتِ المقدس.
﴿فَتَقَبَّلْ مِنِّي﴾ أي: فتقبَّلْ منِّي يا ربِّ، ما نذرتُ لك ﴿إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ أي: إنَّك أنت السَّميعُ لقولي ودُعائي، المستجيبُ له، العليمُ بنيَّتي وقَصْدي. يؤخذ من هذه الآية الكريمة ﴿إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا ﴾شرف هذه المرأة، فقد ذُكرت في القرآن مُضافة إلى زوجها عمران، ذُكرت بماذا؟ ذُكرت بالمال! ذُكرت بالجمال! ذُكرت بالجاه! ذُكرت بالصلاح، والبذل، بذلت أفضل وأغلى ما تملك لله، وفي سبيل الله ﴿نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا﴾.
﴿رَبِّ﴾ يعني يا رب حُذف منه ياء النداء، ربما لاستشعارها القرب من الله، فلم تحتج إلى ذكر ياء النداء "يا رب" وأكثر دعاء الأنبياء في القرآن رَبِّ بهذا الاسم الكريم؛ لأن من معانيه العطاء والمنع.
﴿إِنِّي نَذَرْتُ﴾ هذا يدل على أنها كانت جازمة بذلك، غير مترددة، فجاءت بـ "إنّ" التي تدل على التوكيد، وهي بمنزلة إعادة الجملة مرتين. وهذا يدل على أن النذر كان معروفًا عندهم، فالنذر عباده، وهو مكروه عند الفقهاء باعتبار أن المُكلف يُلزم نفسه ما لم يُلزمه به الشارع، فقد يعجز، ويضعف أو يفتر ويكسل، فإذا جاء وقت الوفاء بدأ يسأل عن كفارة النذر. والله -تبارك وتعالى- مدح وأثنى على الموفين بالنذر: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا [الإنسان:7]، فالوفاء به واجب، ولكن النذر في أصله مكروه، الحاصل أنها نذرت، ونذرت ماذا؟ نذرت لله ما في بطنها مُحررا، فدل هذا على جواز نذر الولد عندهم، والنذر قُربة وطاعة لله، فهي تتقرب بماذا؟ تتقرب بجعله وقفًا خالصًا مُخلصًا لخدمة بيت المقدس، والتفرغ للعبادة، ثم هذا الذي في بطنها هي لا تعلم هل هو ذكر أو أنثى، فنذرت قبل ولادته، فدل على أنه يصح النذر في المجهول، كأن يقول الإنسان مثلاً: ربح هذه التجارة صدقه لله، وهو لا يعلم هل هو كثير، أو قليل، هل تربح، أو لا تربح، فهذا نذر المجهول لا إشكال، هو يتقرب إلى الله تبارك وتعالى بهذا مُطلقًا. ﴿إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ﴾ ما قالت إني نذرت ما في بطني محررا، "لك" فقدم الجار والمجرور، لماذا؟ إشعارًا بالإخلاص، نَذَرْتُ لَكَ فذلك ليس للرياء، ولا السمعة، ولا لمآرب أخرى، وإنما لله خالصًا، وهذا لا شك أنه أصل في قبول العمل الإخلاص للمعبود، والله أغنى الشركاء عن الشرك. ﴿نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي﴾ "ما" هذه للعموم، ﴿مَا فِي بَطْنِي﴾ لو كان في بطنها توأم، ولدان، أو بنتان، ذكران ابنان، أو ابن، وبنت، فكل ذلك يكون في هذا السبيل، يعني: لا يصح أن تقول مثلاً أحد هذين يكون نذرًا، والآخر استبقيه، لا.
﴿نَذَرْتُ لَكَ﴾ مَا فهذه للعموم.
﴿مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا﴾ المحرر بمعنى الخالص، فهو خالص مُخلص لله تبارك وتعالى لا شائبة فيه، محرر من العبودية لغير الله وأيضًا هو مفرغ للعبادة.
﴿فَتَقَبَّلْ مِنِّي﴾ فالإنسان حينما يعمل الأعمال الصالحة فإنه يدعوا ربه بالقبول.
﴿إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ هنا التوكيد "إنّ" "إنّك" بمنزلة إعادة الجملة مرتين ﴿إِنَّكَ أَنْتَ﴾، وجاء هنا أيضًا بين طرفي الكلام "أنت" لتقوية النسبة، ما قالت: إنك سميع عليم، إِنَّكَ أَنْتَ﴾، ودخول أل السَّمِيعُ فهو ذو السمع الكامل، يسمع جميع الأصوات.
السَّمِيعُ، وإذا آمن العبد، واعتقد أن الله هو السميع فإنه لا ينطق بكلمة يكون عليه فيها مؤاخذة، مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18]، هذا الذي يؤمن بالسمع، وهذا يدل أيضًا على انقطاع رجائها عن غيره تبارك وتعالى.
﴿إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾، لا سميع حقًا يسمع كل الأصوات إلا أنت، ولا عليم يعلم كل المعلومات إلا أنت، فتقبل مني.

﴿فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) ﴾[آل عمران: 36]


لما نذرت امرأةُ عِمْران ما في بطنها، وذلك مُبهم، ولم تكن تعلم هل هذا الحمل ذكر، أو أنثى، فلمَّا ولَدَتِ إذَا بالمولودِ أُنثى، والأنثى لا تلي من الأعمال، والمهام، والوظائف ما يليه الرجال، فاعتذرتْ قائلةً: ﴿رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى﴾ قد لا يتحقق ما كنت أُأَمله في المنذور من الولد، من القيام على الخدمة ببيت المقدس.
﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ﴾
القِراءاتُ ذاتُ الأثرِ في التَّفسير:
في قوله تعالى ﴿وَضَعَتْ﴾ قراءتان:
1- (وَضَعْتُ) وتَعني أنَّه من قولِ أمِّ مريمَ وفِعلها قرأ بها ابن عامر ويعقوب وأبو بكر.
2-وَضَعَتْ وتَعني الإخبارَ مِن الله عزَّ وجلَّ عن فِعلها قرأ بها الباقون.
﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ﴾ أي: واللهُ أعلمُ مِن كلِّ أحدٍ بما وضعَتْه ﴿وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى﴾ أي: وليس الذَّكَرُ كالأنثى في القوَّة والجَلَدِ على خِدمةِ بيت المقدس، بالإضافةِ إلى ما يَعتري الأُنثى من الحيضِ ﴿وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ﴾ أي: وإنِّي جعلتُ اسمَها مريمَ، فأَطلقتْ عليها هذا الاسمَ يومَ ولادتِها، وقد جاء في البخاري أنّ النبي ﷺ لما ولد له ابنه إبراهيم سماه يوم ولادته.
﴿وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾ أي: وإنِّي أُجيرُها وأولادَها- أي: عيسى عليه السَّلام- بكَ وحْدَك من الشَّيطانِ المبعَدِ المطرودِ.
وقد استجابَ اللهُ تعالى لها؛ فعن أبي هُرَيرَةَ، رضِي اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ ﷺ: "ما من مولودٍ يُولَدُ إلَّا مسَّه الشَّيطانُ حين يُولد، فيستهلُّ صارخًا من مسِّه إيَّاه، إلَّا مريمَ وابْنَها )، ثمَّ يقول أبو هُرَيرَةَ: اقرؤوا إنْ شئتم: وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [آل عمران:36]".

﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)﴾ [آل عمران: 37]


أي: استجاب الله دعاءها، وقبل نذرها، قَبِل اللهُ مريمَ قَبولًا حسَنًا بأحسن قبول، ورضِي نَذْرَ أمِّها وإنْ كان أنثى، فيسَّرها لليُسرى، وسلَكَ بها طريقَ السُّعداء، ومن هنا ينبغي على الإنسان إذا تقرب بعمل صالح أن يُتبع ذلك الدعاء والسؤال للقبول ﴿فَتَقَبَّلْ مِنِّي﴾، والتوسل إليه بالأسماء اللائقة بهذا المقام ﴿إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾تسمع دعائي، وتعلم بحالي العليم، يؤخذ من هذه الآية الكريمة من الفوائد والهدايات: سرعة القبول، الفاء تدل على التعقيب المُباشر، هي قال: ﴿فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾، امرأة تُناجي ربها وتسأله ويأتي مُباشرة الجواب : ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ﴾فهذه الفاء تدل على سرعة الإجابة، وتدل على معنى آخر أيضًا، وهو أن ما بعدها مُرتب على ما قبلها، ماذا عملت؟ نذرت، وسألت القبول ﴿فَتَقَبَّلْ مِنِّي﴾، ثم اعتذرت لما جاء المولود أنثى مما يدل على صدقها، والقبول من معاني الربوبية، العطاء، المنع، الإجابة، ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا﴾، التعبير بقوله ﴿فَتَقَبَّلَهَا﴾ ما قال: فقبلها، والقاعدة أن زيادة المبنى لزيادة المعنى، يعني: إذا زاد حرف في الكلمة ففيه معنى زائد. ﴿وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا﴾ أي: أنشأَها نشأةً حسنةً في بَدَنِها، وخِلْقتِها، ودِينها، وأخلاقِها فكان لها من النشأة، والنماء بأنواعه ما يفوق نظائرها.
﴿وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا﴾
القِراءاتُ ذاتُ الأثرِ في التَّفسير:
في قوله ﴿وَكَفَّلَهَا﴾ قراءتان:
(وَكَفَّلَهَا) أي: ضَمَّها اللهُ تعالى إلى زكريَّا، قرأ بها الكوفيون.
(وَكَفَلَهَا) أي: ضَمَّها زكريَّا إليه، قرأ بها الباقون.
﴿وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا﴾ أي: جعَل اللهُ تعالى نَبيَّه زكريَّا عليه السَّلام كافلًا وضامنًا لها ؛ وذلك بعدَ أنْ وقَع الخلافُ فيمَن يَكفُل مريم، فاقْتَرعوا، فكانتْ من نصيبِ زكريَّا عليه السَّلام؛ وهو زوج خالتها على المشهور، فصار كافلاً لها. كما قال تعالى : ﴿وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾ [آل عمران:44].
﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا﴾ المحراب هو أشرف المواضع، مكان العبادة، الموضع الذي كانت تتقرب إلى الله تبارك وتعالى فيه، وتمكث فيه للعبادة، فيُقال: المحراب لأشرف المواضع، فسُمي المكان الذي يصلي فيه الإمام بهذا الاعتبار. كلَّما دخَلَ عليها زكريَّا عليه السَّلام مكانَ عِبادتها، ﴿كُلَّمَا دَخَلَ﴾ تتكرر هذه الكرامة، فهذه الكرامة هي وجود الرزق من غير سبب واكتساب، والله على كل شيء قدير، هذا على خلاف العادة الجارية خرق العادات هذا الذي يُقال له: المعجزات هو في لغة القرآن والسنة، يقال لها: الآيات والبراهين، فهذه براهين على صدق الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-، فخوارق العادات هي من البراهين، ﴿كُلَّمَا﴾، تدل على التكرار، يدل على حُسن رعايته لها، أنه كان يتردد عليها، ﴿وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا﴾ الرزق هنا تنكير يدل على العظيم وجَد عندها طعامًا تتغذَّى به، بلا كَسبٍ ولا تعبٍ فهي منقطعةٌ للعبادة، بعضهم يقول: يجد فاكهة الصيف في الشتاء مما لا عهد لهم به، ويجد فاكهة الشتاء في الصيف مما لا عهد لهم به، فيتعجَّبُ ويسألُها عن ذلك؛ وهو كافلها كما قال تعالى: ﴿قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا﴾ أي: قال زكريَّا لمريم: يا مريمُ، مِن أينَ لك هذا الرِّزق ؟
﴿قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ أي: إنَّ هذا الرِّزق مِن عندِ الله؛ فهو الَّذي ساقه إليَّ ورَزَقَنِيه.
﴿إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ أي: إنَّ اللهَ يُعطي الرِّزقَ مَن يشاء من غيرِ إحصاءٍ ولا حصرٍ ولا عددٍ يُحاسِب عليه، "إنّ" هنا تفيد التعليل، "إنّ الله"، "لأن الله" وهي تدل على التوكيد، تدل على اعتقاد راسخ، فهذا يوجب الثقة بالله تبارك وتعالى.
الهدايات والفوائد التربوية:
جاء ذكرُ آل إبراهيمَ في قوله: ﴿وَآلَ إِبْرَاهِيمَ﴾ قيل لترغيبِ المعترفين باصطفائِهم في الإيمانِ بنُبوَّة النبيِّ ﷺ، واستمالتِهم نحوَ الاعترافِ باصطفائِه بواسطةِ كونِه من زُمرتهم.
قوله: ﴿وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ فيه إشارةٌ إلى أنَّه اصطفاهم على تمامِ العِلم بهم؛ ترغيبًا في أحوالهم والاقتداءِ بأفعالهم وأقوالِهم.
يُؤخذُ من قول أمِّ مريم : ﴿إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي﴾ جوازُ النَّذرِ في الأمرِ المجهولِ.
الحثُّ على طردِ الإعجاب بالنَّفس، وتَرْك الإِدْلالِ على اللهِ بالأعمالِ، وهذا مستفادٌ من قولِ امرأة عِمْران: ﴿فَتَقَبَّلْ مِنِّي﴾.
لَمَّا كان حُسنُ إجابةِ المهتوفِ به الملتجأِ إليه على حسَب إحاطة سَمعِه وعِلمه، علَّلت سؤالَها في التقبُّل بأنْ قصَرَتِ السَّمع والعِلم عليه سبحانه فقالت: ﴿إِنَّكَ أَنْتَ﴾ أي: وحدَك ﴿السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾.
اعتذارُ الإنسان عند ربِّه إذا وقَع الأمرُ خلافَ ما أراد ؛ كما في قوله تعالى : ﴿قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى﴾.
كلمة ﴿وَضَعْتُهَا﴾ تُشعِر أنَّ الأمَّ تَتكلَّف الحملَ، وإذا قدَّرنا أنَّ هذا الطِّفلَ الَّذي في بطنِها سيبقَى تِسعةَ شُهور، وهي حاملةٌ له في بطنِها، في أرقِّ ما يكونُ من البدن، قائمةً وقاعدةً، ومستيقظةً ونائمةً، فماذا نَتصوَّر من التَّعب؟! لذا فحقُّ الأمِّ على الأولادِ عظيمٌ.
لا يَستوي الذُّكورُ والإناث، لا في الطَّبيعة، ولا في الأخلاقِ، ولا في المعاملةِ، بل ولا في الأحكامِ في بعضِ الأحيان ؛ كما في قولِه تعالى: ﴿وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى﴾.
في قولها : ﴿وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ﴾ جوازُ تَسميةِ الأطفالِ يومَ الولادةِ، وقبلَ اليومِ السَّابع، وفيه دلالةٌ على أنَّ للأمِّ تَسميةَ الولدِ إذا لم يَكْرَهِ الأبُ.
مشروعيَّةُ إعاذةِ الإنسانِ أبناءَه بالله عزَّ وجلَّ من الشَّيطان الرَّجيم، ومِن شرِّ الخَلْق؛ كما في قوله تعالى : ﴿وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾.
في قوله تعالى ﴿وَذُرِّيَّتَهَا﴾ بيانُ جوازِ الدُّعاء للمعدوم، فذُرِّيَّتُها لم تأتِ بعدُ.
عبَّر عن التَّربيةِ بالإنباتِ في قوله: ﴿وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا﴾؛ قيل لبيانِ أنَّ التَّربيةَ فِطريَّةٌ لا شائبةَ فيها.
تطوُّر الإنسانِ في حياتِه بأمرِ الله، وما الغذاءُ والعنايةُ بالطفل إلَّا سببٌ، والله تعالى هو المسبِّبُ، وهو المكوِّنُ للإنسان، والمُنبت له، كما في قوله تعالى: ﴿وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا﴾.
بقَدْرِ صلاحِ المربِّي يَكتسبُ مَن يُربِّيه مِن خُلقه وصلاحِه، وفي كفالةِ زكريَّا لمريم فضيلةٌ تَزيدُ من فضائِلها؛ قال تعالى: ﴿وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا﴾.
في قوله تعالى: ﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا﴾... دليلٌ على إثباتِ كراماتِ الأولياءِ الخارقةِ للعادة، وكلمة كلَّمَا تُفيد التَّكرار، وفي ذلك بيانٌ لحُسن كفَالةِ زكريَّا لها، وأنَّه كان يتفقَّدها عند تقديرِ حاجتِها إلى الطَّعام.
في قوله تعالى: ﴿هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ بيانُ أنَّ الأشياءَ تُضافُ إلى اللهِ وإنْ كان لها سببٌ.
أعظمُ الشُّكر لرزقِ الله سبحانه وتعالى معرفةُ العبد بأنَّه مِن الله تعالى، إنَّما يَشكُر رِزقَ الله مَن أخَذه مِن اللهِ سبحانه وتعالى.

﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38)﴾ [آل عمران: 38]


مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا رأى زكريَّا عليه السَّلام ما منَّ الله سبحانه به على مريمَ، وما أكرمَها به من رِزقه الهَنِيء الَّذي أتاها بغيرِ سعيٍ منها ولا كسبٍ، طمعتْ نفسُه بالولدِ مع كونه شيخًا كبيرًا قد وهَن عَظمُه، واشتعلَ رأسه شيبًا، وكانتِ امرأتُه مع ذلك كبيرةً وعاقرًا ؛ قال تعالى: ﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ﴾ أي: في ذلك المكانِ الَّذي وجَدَ فيه زكريَّا ذلك الرِّزقَ عند مريم، سأل ربَّه وناداه نداءً خفيًّا.
﴿قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً﴾ أي: قال: يا ربِّ، أَعطِني من عندك ولدًا صالحًا مبارَكًا، سأل ربه مع أن الحال يتعذر معها في مجاري العادات إنجاب الولد هو كبير في السن، وكذلك امرأته على كبر سنها عاقر لا تلد، والعاقر لا تُنجب ولو كانت شابة فكيف مع كبر السن، فاجتمعت هذه الأسباب الثلاثة كبر السن في حق زوجها، وكبر السن بالنسبة إليها، وكذلك العُقم. لكن الله -تبارك وتعالى- لا يُعجزه شيء، وهو على كل شيء قدير، فالذي خلق آدم عليه السلام من غير أب ولا أم، وخلق حواء من آدم، وخلق عيسى عليه السلام من أم بلا أب، فهذه صنوف ثلاثة وصور وحالات لا شك أنها دالة على كمال القدرة، وخلق باقي الخلق من أبوين، فالذي صرف هذا التصريف في الخلق ونوعه قادر على أن يهبه الولد من غير وجود المحل القابل ﴿قَالَ رَبِّ هَبْ لِي﴾ توجه إلى ربه الذي يملك النفع والضر والعطاء والمنع والرزق أن يهبه الولد لأن ذلك مناسب للوهب فإن الوهب من معاني الربوبية التي تضمنها هذا الاسم الكريم.
﴿إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾ سميع هذه صيغة مبالغة على وزن فعيل، سميع، يعني: عظيم السمع يسمع سؤال السائلين وهذا كالتعليل لما قبله، سألتك لأنك سميع الدعاء ذو سَمعٍ لدعاءِ مَن دعاك، ومجيبٌ له، فهذا توسل إلى الله جلا جلاله بهذه الصفة، وهذا من آداب الدعاء.
قال الله تعالى: ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا [مريم:2-6].
أخذ بعض أهل العلم من هذا الموضع إثبات القياس؛ لأن حقيقة القياس هو إلحاق النظير بالنظير، وقياس التمثيل الذي هو قياس الفقهاء هو إلحاق فرع بأصل في حكم، لعلة جامعة بينهما، والأقيسة أنواع هذا واحد منها، لكنه بمعنى إلحاق النظير بالنظير، فهو حينما رأى هذا العطاء والوهب من غير كد، ولا بذل ولا سبب، فالله -تبارك وتعالى- قادر على أن يهبه الولد، وإن كانت مقدمات ذلك في الطبائع البشرية، ومسببات ذلك في مجاري العادات مُمتنعة، فقد بلغ من الكِبر عتيا، والعتي هو ما يحصل من الجفاف في المفاصل من الكِبر، وكذلك أيضًا قد وهن العظم منه واشتعل الرأس شيبا، فهذا الوهن الذي يحصل في العظام -هشاشة العظام- هذا مما يحصل للكبار، وتكون القوى قد تلاشت وضعفت، القوى الغريزية التي تتجدد معها خلايا الجسم، فإذا ضعُف وضعُفت هذه القوى فإن ذلك يبدأ بالتلاشي فلا خلايا الجلد تتجدد فتبدأ التجاعيد، ولا خلايا الدماغ تتجدد، فإذا مات شيء منها بدأ الإنسان بالنسيان، وما يُسمى بالخرف أو الزهايمر أو نحو ذلك، واشتعال الرأس فيتحول اللون إلى أبيض، وذلك إشارة إلى ضعف هذا الإنسان وأنه صار إلى حال كما قال الله تبارك وتعالى: وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ [فاطر:37]، فقيل: الرسول، وقيل: الشيب، فهو نذير بقُرب الأجل.


الساعة الآن 04:16 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
Search Engine Friendly URLs by vBSEO 3.6.1 TranZ By Almuhajir
new notificatio by 9adq_ala7sas
HêĽм √ 3.1 BY: ! ωαнαм ! © 2010
يرحل الجميع ويبقي شعاع بيت العلم والحب(ملك الكلمة)