أنواع الخوف
الخوف له أنواع ثلاثة:
النوع الأول: الخوف من سخط الله تعالى ، والحرمان من رضوانه ، وهذا هو خوف المحبين ، فإن خوف المؤمن من فوات ما يحبه ويتعلق به قلبه من رضوان الله http://vb.tafsir.net/images/smilies/3za.png ومحبته وما يتبع ذلك من بركات عظيمة أشد من خوف كل خائف على أعظم كنز عنده، أو صحة نفسه أو حياة حبيبه.
ويكفي في ذلك أن تعلم أن غاية من تعلقت قلوبهم بمحبة الله http://vb.tafsir.net/images/smilies/glgalalh.png أن ينظروا إليه، فهذه أغلى الأمنيات وأعز المطالب، وكان من دعاء النبي http://vb.tafsir.net/images/smilies/slah.png: ((وأسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم، والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة)).
فأعظم عقوبة للمحب حرمانه من رؤية محبوبه الأعظم ورضاه، وخوفُه على هذا المطلب لا يعادله خوفٌ على غيره، وقد جعل الله من عقوبة الكفار حرمانهم من رؤيته فقال تعالى: http://vb.tafsir.net/images/smilies/qos1.pngكلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون . ثم إنهم لصالوا الجحيمhttp://vb.tafsir.net/images/smilies/qos2.png
فبدأ بعقوبة الحجاب قبل الجحيم؛ والتقديم مشعر بالتعظيم.
قال شيخ الإسلام: (فعذاب الحجاب أعظم أنواع العذاب، ولذة النظر إلى وجهه أعلى اللذات ؛ ولا تقوم حظوظهم من سائر المخلوقات مقام حظهم منه تعالى).
ثم إنَّ أنس المؤمن في حياته ونعيم روحه إنما هو في رضوان الله http://vb.tafsir.net/images/smilies/3za.png عليه، فإذا تعرض لسخط الله باقتراف معصية كان خوفه على فقد أنسه بالله وما تنعُم به روحُه من بركات رضوان الله أعظمَ من خوف أصحاب الأموال على أموالهم، بل إنه في حال الاستقامة يخاف من زوال هذه النعمة، ويخاف أن لا يدرك درجات تتوق إليها نفسه ويسعى لبلوغها؛ فيخاف من اقتراف ما يحول بينه وبينها.
وخوف المؤمن من الحرمان من رضوان الله
http://vb.tafsir.net/images/smilies/3za.png في الدنيا سببه معرفته بضعف نفسه وعجزها وأنه لا حول له ولا قوة إلا بالله، وأنه إذا لم يرض الله عنه ولم يهيئ له أسباب رحمته وفضله وبركاته فهو حليف الحرمان والشقاء والخسران والعياذ بالله.
فإذا تيقَّن المؤمن ذلك يقينا يحلّ في سويداء القلب ويستشعره في نفسه كان أحرص شيء على رضوان الله، ولا أخوف عنده على نفسه من أمر يجلب له مقت الله تعالى وسخطه ويحرمه من رضوانه.
وسخط الله تعالى له سبب واحد: هو معصية الله، لأن العبد إذا اجتنب فعل المعصية لم يعاقب، ولذلك قال علي بن أبي طالب
http://vb.tafsir.net/images/smilies/anho.png: (خمسٌ احفظوهن، لو ركبتم الإبل لأنضيتموهن قبل أن تدركوهن: لا يخاف العبدُ إلا ذنبَه، ولا يرجو إلا ربه، ولا يستحيي جاهل أن يسأل، ولا يستحي عالم إن لم يعلم أن يقول الله أعلم، والصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد إذا قطع الرأس نتن باقي الجسد، و لا إيمان لمن لا صبر له). رواه عبد الرزاق في مصنفه والبيهقي في شعب الإيمان.
فبدأ الوصايا بقوله: (لا يخاف العبد إلا ذنبه) لأن مصدر شقاء العبد وحرمانه وعذابه هو ذَنْبه.
النوع الثاني: الخوف من العذاب الدنيوي والأخروي، وهذا الخوف ملازم لقلب المؤمن، قال الله تعالى في صفات المؤمنين http://vb.tafsir.net/images/smilies/qos1.pngوَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28)http://vb.tafsir.net/images/smilies/qos2.png
وأشدّ ذلك وأشرفه الخوف من عذاب الآخرة وذلك يشمل عذاب القبر وأهوال يوم القيامة وعذاب النار، وهو مع ذلك يخاف من العذاب الدنيوي أيضاً.
ومن ذلك: أن كل معصية توعد عليها بلعنة الله وغضبه فهي مجال خوف عظيم ، وكم من إنسان بقي معذباً سنوات من عمره بسب لَعنةٍ لُعنها على كبيرة عملها، قد استهان بما عمل، ونسي وغفل، فلم يتب من ذنبه، ولم يسترح من عذابه.
فهذا من عذاب الدنيا الذي يخافه المؤمنون، فيوجب لهم ذلك محاسبة النفس وتأمل ما يعانونه من العذاب ومناسبته لما يخشون اقترافهم له من الذنوب؛ فإن الغالب أن يكون الجزاء من جنس العمل.
قال ذو النون المصري: (الخوف رقيب العمل).
وبين المحاسبة والخوف تلازم ؛ فالخوف يوجب محاسبة النفس حتى ينظر العبدُ ما ارتكب مما يستحق عليه العذاب، ومحاسبة النفس توجب الخوفَ من الله تعالى لأنه إذا حاسب نفسه عرف تقصيره فخاف أن يعاقب عليه.
النوع الثالث: الخوف من فوات الثواب؛ فإن العامل المجتهد يرجو ثمرة عمله ، ويخاف أن يخيب سعيه بشيء يقترفه فيخسر ما كان يرجوه من الثواب العظيم، ولذلك اشتد خوف الصالحين من اقتراف محبطات الأعمال، لأنها توبق سعي العبد وتحرمه من ثواب ما عمل.
ولا شيء أخوف عندهم من الشرك لأنه محبط لجميع العمل ولا يعفى عمَّن ارتكبه مهما بلغ من العلم والعبادة، كيف وقد قال الله تعالى لنبيه
http://vb.tafsir.net/images/smilies/slah.png:
http://vb.tafsir.net/images/smilies/qos1.png وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66)
http://vb.tafsir.net/images/smilies/qos2.png
وقال في أنبيائه الذين آتاهم الكتاب والحكم والنبوة:
http://vb.tafsir.net/images/smilies/qos1.png ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88)
http://vb.tafsir.net/images/smilies/qos2.png
وقد حذر النبي
http://vb.tafsir.net/images/smilies/slah.png من محبطات الأعمال عامها وخاصها تحذيراً شديداً، فالمحبطات العامة هي التي تحبط جميع العمل وهي نواقض الإسلام، والمحبطات الخاصة هي التي تحبط ثواب بعض الأعمال؛ كالمنَّة في النفقة ، والرياء الأصغر في العبادة، وطلب الدنيا بعمل الآخرة، ونحو ذلك.
وهذا التحذير يوجب الخوف من فوات الثواب بسبب ذنب يرتكبه العبد فيوبق سعيه، والعياذ بالله.
الأمر الثاني: الخوف من المقام بين يدي الله جلَّ وعلا، وهو أمر كائن لا محالة لكل مكلَّف محسن أو مسيء، فمن تفكر في هذا المقام وخافه في الدنيا هوَّنه الله عليه يوم القيامه، ومن استخف به في الدنيا شدده الله عليه يوم القيامة.
الأمر الثالث: مطالعة آيات الوعيد وأحاديثه ، وتأمّلُ ما أعده الله للعصاة من العذاب الشديد، فمن تفكر في ذلك وآمن به أوجب له ذلك الخوف من التعرض لسخط الله وعقابه.
الأمر الرابع: كثرة الذكر؛ فإن الغفلة تقسي القلب ؛ ولا يزال الغافل يقسو قلبه شيئاً فشيئاً لكثرة ما يرين عليه؛ حتى يختم على قلبه فلا يؤثر فيه زجر ولا وعظ إلا أن يشاء الله أن يتداركه برحمته فيمنَّ عليه بتوبة من عنده.
الأمر الخامس: تزكية النفس من الأخلاق السيئة ولا سيما الكبر والعجب والغرور.
آثار الخوف من الله وثمراته
للخوف من الله تعالى ثمرات عظيمة وآثار جليلة:
منها: أنه يوجب في القلب إجلال الله تعالى وتعظيمه وتوقيره وخشيته ، وهذا هو حقيقة التعبد.
ومنها: أنه يدفع العبد للاستقامة والمسارعة إلى الخيرات، والتورع عن الشبهات، والتقلل من فضول المباحات، ومراقبة الجوارح.
قال الله تعالى:
http://vb.tafsir.net/images/smilies/qos1.png إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61) وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ
http://vb.tafsir.net/images/smilies/qos2.png وعن أبي هريرة http://vb.tafsir.net/images/smilies/anho.png قال: قال رسول الله http://vb.tafsir.net/images/smilies/slah.png: (( من خاف أدلج ، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة )) رواه الترمذي.
قال النووي: ( (( أدْلَجَ )): بإسكان الدال ومعناه سار من أول الليلِ، والمراد التشمير في الطاعة).
قال أبو عثمان الحناط: سمعت ذا النون وشكا إليه رجل السُّبات فقال له: (لو خفت البيات لم يغلبك السبات). رواه البيهقي في الشعب.
ومنها: أنه سبب للانتفاع بالقرآن العظيم وما يتبع ذلك من بركات عظيمة؛ فإن الخوف هو ثمرة الإنذار ، وقد قال الله تعالى: http://vb.tafsir.net/images/smilies/qos1.pngوَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51)http://vb.tafsir.net/images/smilies/qos2.png، وقال تعالى: http://vb.tafsir.net/images/smilies/qos1.png فَذَكِّرْ بِالْقُرْآَنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِhttp://vb.tafsir.net/images/smilies/qos2.png
ومنها: أنه يهذب النفس وينقيها من الأخلاق السيئة ، ويطهر القلب من أدوائه؛ فالخوف والكبر لا يجتمعان، إذا حل الوجل في القلب طرد الكبرَ والغرور والعجب ، وما يتركب من هذه الآفات ويتولد عنها من شرور عظيمة وبلايا جسيمة تودي بصحابها إلى المهالك.
ومنها: أنه يزجر العبد عن الظلم والعدوان ؛ فمن خاف انزجر، فيأمن الناس شرَّه، ويسلم المسلمون من لسانه ويده، بل يجعل الله له في القلوب مودة ومهابة، وقد روى البيهقي في شعب الإيمان عن عمر بن عبد العزيز وجعفر بن محمد بن زين العابدين والفضيل بن عياض أنهم قالوا: (من خاف الله أخاف منه كلَّ شيء، ومن لم يخف الله أخافه من كل شيء).
وقد روي مرفوعاً من حديث ابن مسعود وحديث واثلة ابن الأسقع ولا يصحان.
وقال يحيى بن معاذ الرازي: (على قدر حبك الله يحبك الخلق، وعلى قدر خوفك من الله يهابك الخلق، وعلى قدر شغلك بأمر الله يشغل في أمرك الخلق). رواه البيهقي في الشعب.