بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
حقًّا؛ قليلٌ أولئكَ الآباء أو الأمَّهات الَّذينَ باستطاعتهم أن يَستَعمِلُوا الثَّناءَ في الأوقاتِ الصَّعبةِ عندما يقوم الأولادُ بأمورٍ غير مُناسِبةٍ وغيرِ لائقةٍ بهم، وبدلاً من التَّأنيبِ يوحون إليهم بالسُّلوكِ الحَسَنِ ويُذِكِّرُونَهم بتَصرُّفاتٍ قاموا بها في السَّابِق واستحقَّت المدح
وهاك مثالاً يُقرِّبُ لك مدى تأثيرِ الكلمةِ في سامعها وأهمِّيَّةِ صياغتِها، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشرٌّ
«محمَّد» ولد مُجتَهدٌ في دراستِه، عنده طُموحٌ وجُنوحٌ إلى التَّفوُّق، لا يجرُؤ أن يَتَفَوَّهَ به لأبيه تجنُّبًا لكلمة إحباطٍ تَهُزُّ مشاعِرَه، وتُصَيِّرُ حُلمَه سَرابًا
جاءت الامتحانات فلم تكنْ نتائِجُه قدرَ طموحِه، فاتَه النَّجاحُ، وكان نصيبُه الرُّسوبَ، فحَرَّكَ ذلك في آماله آلامًا، لكن ثَمَّتَ ما هو أَصعَبُ من ذلك كلِّه؛ وهو اطِّلاعُ والدِه على هذه النَّتائجِ
قال الأبُ للابن: لا يأتي منك خير لقد فشلت كعادتك، أنت بليد، انظر إلى زميلِك فلان لقد نجح ولم يُخَيِّبْ آمالَ أبيه، سيكون أَسْعَدَ الآباءِ أمامَ النَّاس
لقد ساق هذا الوالدُ الجَهولُ مكاييلَ من الكلام اللاَّذِع والتَّوبيخ الجارح كانت أشدَّ وَقْعًا على نَفسِ وَلدِه من الفأْسِ على الرَّأس، ما جعله يَصرِفُ ذِهنَه عن فكرَةِ النَّجاحِ والتَّفوُّقِ ويَنصَرِفُ إلى أشياءَ أخرى تتماشى والبلادةَ الَّتي رماه بها والدُه
ثمَّ إنْ لم يَفقِدْ مُحمَّدٌ ثقتَه في نفسِه؛ فإنَّه سَيفقِدُها على الأقلِّ في وَالِدِه الَّذي ليس له همٌّ ولا أَرَبٌ إلاَّ أن يتفاخَرَ أمامَ النَّاسِ بنجاح ابنِه، ولا يَهمُّه أن يُدخِلَ السُّرورَ على قَلبِ وَلدِه، أو يَزْرَعَ فيه مشاعِرَ الحُبِّ والوُدِّ، وأن يُعيدَ إليه ثِقتَه بنفسِه أَحْوَجَ ما يكونُ إليها
وصورةٌ أخرى لزميل مُحمَّد مع أبٍ آخر، لا مشؤوم ولا لئيم في الموقف نفسِه
الأب للابن: أراكَ مُغتَمًّا وحزينًا، لا بدَّ أنَّ ذلك بسبَبِ نتائجِ الامتحانات، وأنَّ مثلَ هذا ـ يُضيفُ الوَالِدُ ـ لا يَستدعِي انهِزامًا، لقد تَفوَّقْتَ في امتحاناتٍ كثيرةٍ قبل هذا، ثمَّ إنَّ الامتحانَ هو امتحانُ الحياةِ وتَغلُّبُكَ على المصاعبِ الَّتي تُواجِهُكَ بنفسٍ قَويَّةٍ راضيةٍ بقَدَرِ الله
جميلٌ أن تجتازَ عقبةَ الامتحان، لكنَّ الأهمَّ هو أنَّك بَذَلْتَ جُهدًا يَستحِقُّ الثَّناءَ، وأنَّك مُستَعِدٌّ لبَذلِ المَزيدِ، فالهزيمةُ كثيرًا ما تكون مِفتاحَ نَجَاحٍ، والمرءُ يَتعلَّمُ من أخطائِه
وهنا تضاءلت فكرةُ الرُّسوبِ في ذهنِ زميلِ مُحمَّد، وبعدما كانت تَهُدُّ من شَخصِه وإرادتِه صارتْ مَصدَرَ قُوَّةٍ واعتبارٍ بإيحاءٍ من الوالِد، فذكره به في وقت حاجتِه إليه
وهكذا يُقدِّمُ الثَّناءُ ومراعاةُ الشُّعور ثروةً أخرى هي الشَّجاعةُ والثَّباتُ وإيقادُ العزائم لمواجَهَةِ صعاب المُستقبَلِ
فعلى المُربِّين أن يُضِيفُوا إلى رصيدِ التَّأديبِ والتَّربيةِ هذه الجوانبَ المُشرِقَةَ الهادئةَ في الفعل، الهادفةَ في القول، المراعية للإحساس، الرَّامية إلى كسبِ انتباه الطِّفل لإصلاحِ أخطائِه وتقويمِ سُلوكاتِه؛ لأنَّه من الخطإ الفادح اعتقادُ أنَّ التَّأديبَ يعني اللُّجوءَ إلى العقاب لأوَّلِ وهلَةٍ، وجعلَ الزَّجرِ والتَّهديد لغةَ التَّخاطبِ والحوارِ لتعديل السُّلوك لدى الطِّفل أو إخضاعه لتنفيذ الأوامر؛ فإنَّ التَّأديبَ أَوْسَعُ من ذلك بكثيرٍ، فهو تعليمٌ وتهذيبٌ، وترغيبٌ وترهيبٌ، وتشجيعٌ وتحفيزٌ وتفسيرٌ وتسويغٌ، بل هو عمليَّةٌ مقصودةٌ لإدماج الطِّفلِ في مُواصَفَاتِ شخصِيَّةٍ تتَّسِمُ بالاتِّزانِ والهدوء .
(1) «الثمر الداني شرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني» (ص8)
(2) «تحفة المودود» (ص352).
(3) نفس المرجع (ص351).
(4) أخرجه عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم كما في «الدُّر المنثور» (9 /266).
(5) مسلم (3009)، وأبو داود (1532).
(6) البخاري (6355).
(7) وفي كل ذلك وردت أحاديث عن النَّبيِّ ﷺ فلتُنْظَرْ في مظانِّها.
(8) «تاريخ ابن عساكر» (31 /352).
(9) ذكره أبو حامد الغزالي في «الإحياء» (2 /217).
(10) أفادت بعض الدِّراسات الحديثة أنَّ الطِّفلَ ابتداءً من الشَّهر (16) يبدأ بفهم حوالي 200 كلمة ويستعمل تقريبًا 110 كلمة، وأنَّ تطوُّر اللُّغة واكتساب كلماتٍ جديدةٍ يكون سريعًا جدًّا، وبين الشَّهر (20 و24) يستعمل ما بين 250 على 300 كلمة، ويُركِّب جُملاً تتألَّفُ من 3 كلمات.
انظر كتاب «كيف نجعل أطفالَنا أشدَّ انتباهًا وتركيزًا» لفرنسوا شارمان (ص34).
(11) «العيال» لابن أبي الدُّنيا، انظر «موسوعة ابن أبي الدُّنيا» (4 /324).
(12) «العيال» لابن أبي الدُّنيا، انظر «موسوعة ابن أبي الدُّنيا» (4 /324).
(13) «العيال» لابن أبي الدُّنيا، انظر «موسوعة ابن أبي الدُّنيا» (4 /326).
(14) البخاري (1419)، مسلم (1069).
(15) «شرح النَّووي على مسلم» (7 /175).
(16) مأخوذ من كتاب «كيف تُغيِّر سلوك طفلك» لمحمد ديماس (ص51) بتصرُّف.
* منقول من مجلة الإصلاح «العدد 10»
اللهم اصلح أحوالنا ووفقنا إلى أفضل الطرق في تربية أبنائنا . موضوع اعجبني فأحببت ان اهديه لكن به .