بسم الله الرحمن الرحيم
مع الجزء السادس و العشرون
(5)
وبعض أيات من سورة الفتح
الحديبية فتح وفضل الله على رسوله والمؤمنين
إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً – 1 لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ
وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً – 2 وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً – 3
لقد أري رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] في منامه أنه يدخل الكعبة
هو والمسلمون محلقين رؤوسهم ومقصرين .
وكان المشركون قد منعوهم منذ الهجرة من دخول مكة , حتى في
الأشهر الحرم التي يعظمها العرب كلهم في الجاهلية , ويضعون السلاح فيها ;
ويستعظمون القتال في أيامها , والصد عن المسجد الحرام . حتى أصحاب
الثارات كانوا يتجمعون في ظلال هذه الحرمة , ويلقى الرجل قاتل أبيه
أو أخيه فلا يرفع في وجهه سيفا , ولا يصده عن البيت المحرم .
ولكنهم خالفوا عن تقاليدهم الراسخة في هذا الشأن ; وصدوا رسول الله
[ صلى الله عليه وسلم ] والمسلمين معه طوال السنوات الست التي تلت الهجرة .
حتى كان العام السادس الذي أري فيه رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ]
هذه الرؤيا . وحدث بها أصحابه - رضوان الله عليهم - فاستبشروا بها وفرحوا..
ورواية ابن هشام لوقائع الحديبية هي أوفى مصدر نستند إليه في تصورها .
وهي في جملتها تتفق مع رواية البخاري ورواية الإمام أحمد .
قال ابن إسحاق:ثم أقام رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بالمدينة شهر رمضان
وشوالا "بعد غزوة بني المصطلق وما جاء في أعقابها من حديث الإفك"
وخرج في ذي القعدة معتمرا لا يريد حربا . واستنفر العرب ومن حوله من أهل
البوادي من الأعراب ليخرجوا معه ;
وخرج رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بمن معه من المهاجرين والأنصار ,
ومن لحق به من العرب - وكان أصحاب الحديبية أربع عشرة مائة. ;
وساق معه الهدي , وأحرم بالعمرة , ليأمن الناس من حربه , وليعلم الناس
أنه إنما خرج زائرا لهذا البيت ومعظما له..
وخرج رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] حتى إذا كان بعسفان لقيه
بشر بن سفيان الكعبي . فقال : يا رسول الله ...هذه قريش قد سمعت بمسيركَ ,
قد لبسوا جلود النمور , وقد نزلوا بذي طوى , يعاهدون الله لا تدخلها عليهم أبدا .
فقال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " يا ويح قريش ... لقد أكلتهم الحرب .
ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر العرب ? فإن هم أصابوني كان ذلك الذي
أرادوا , وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وافرين ,
وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة .
فما تظن قريش ? فوالله لا أزال أجاهد على الذي بعثني الله به
حتى يظهره الله , أو تنفرد هذه السالفة " .
ثم قال: " من رجل يخرج بنا على طريق غير طريقهم التي هم بها ؟
فقال رجلا من أسلم : أنا يا رسول الله . فسلك بهم طريقا وعرا أجرل بين شعاب .
فلما خرجوا منه - وقد شق ذلك على المسلمين - وأفضوا إلى أرض سهلة
عند منقطع الوادي , قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] للناس : "
قولوا نستغفر الله ونتوب إليه " . فقالوا ذلك . فقال:" والله إنها للحطة التي
عرضت على بني إسرائيل , فلم يقولوها.. "
فأمر رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] الناس فقال :" اسلكوا ذات اليمين "
مهبط الحديبية من أسفل مكة.
فسلك الجيش ذلك الطريق . فلما رأت جنود قريش ذلك ,
رجعوا راكضين إلى قريش .
وخرج رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] حتى إذا سلك في ثنية المرار بركت ناقته .
فقال الناس : خلأت الناقة . فقال : " ما خلأت . وما هو لها بخلق .
ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة . لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألونني
فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها ".
ثم قال للناس:" انزلوا " قيل له : يا رسول الله , ما بالوادي ماء ينزل عليه .
فأخرج سهما من كنانته فأعطاه رجلا من أصحابه . فنزل في قليب من تلك القلب ,
فغرزه في جوفه , فجاش بالرواء...
فلما اطمأن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] أتاه بديل بن ورقاء الخزاعي ,
في رجال من خزاعة , فكلموه , وسألوه ما الذي جاء به ? فأخبرهم أنه لم يأت
يريد حربا , وإنما جاء زائرا للبيت , ومعظما لحرمته . ثم قال لهم نحوا مما
قال لبشر بن سفيان ; فرجعوا إلى قريش فقالوا : يا معشر قريش , إنكم تعجلون
على محمد . إن محمدا لم يأت لقتال , وإنما جاء زائرا لهذا البيت . فاتهموهم
وجبهوهم , وقالوا : وإن كان جاء ولا يريد قتالا . فوالله لا يدخلها علينا
عنوة أبدا , ولا تحدث بذلك عنا العرب.
فدعا رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] عثمان ابن عفان , فبعثه إلى أبي سفيان
وأشراف قريش يخبرهم أنه لم يأت لحرب , وأنه إنما جاء زائرا لهذا البيت ومعظما لحرمته .
قال ابن إسحاق : فخرج عثمان إلى مكة , فلقيه أبان بن سعيد بن العاص ,
حين دخل مكة أو قبل أن يدخلها ; فحمله بين يديه , ثم أجاره حتى بلغ
رسالة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ]...
فانطلق عثمان حتى أتى أبا سفيان وعظماء قريش , فبلغهم عن رسول الله
[ صلى الله عليه وسلم ] ما أرسله به ; فقالوا لعثمان حين فرغ من رسالة رسول الله
[ صلى الله عليه وسلم ] إليهم:إن شئت أن تطوف بالبيت فطف . فقال :
ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] واحتبسته
قريش عندها , فبلغ رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ]
والمسلمين أن عثمان بن عفان قد قتل...
قال ابن إسحاق : فحدثني عبد الله بن أبي بكر , أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ]
قال - حين بلغه ان عثمان قد قتل -:" لا نبرح حتى نناجز القوم " . فدعا رسول الله
[ صلى الله عليه وسلم ] الناس إلى البيعة , فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة . .
قال ابن هشام: عن ابن عمر , أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ]
بايع لعثمان , فضرب بإحدى يديه على الأخرى...
قال ابن إسحاق : قال الزهري : ثم بعثت قريش سهيل بن عمرو أخا بني عامر بن لؤي
إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ]
فلما رآه رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] مقبلا قال:- " قد أراد القوم الصلح
حين بعثوا هذا الرجل " . فلما انتهى سهيل بن عمرو إلى رسول الله
[ صلى الله عليه وسلم ] تكلم فأطال الكلام . وتراجعا . ثم جرى بينهما الصلح..
فلما التأم الأمر , ولم يبق إلا الكتاب وثب عمر بن الخطاب فأتى أبا بكر , فقال :
يا أبا بكر , أليس برسول الله ? قال : بلى .. قال : أولسنا بالمسلمين ? قال : بلى ..
قال : أوليسوا بالمشركين ? قال : بلى ... قال : فعلام نعطي الدنية في ديننا ?
قال أبو بكر: يا عمر , الزم غرزه , فإني أشهد أنه رسول الله . قال عمر : وأنا أشهد انه رسول الله .
ثم أتى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فقال : يا رسول الله ,
ألست برسول الله ? قال : بلى ! قال : أولسنا بالمسلمين ? قال: بلى ! قال :
أوليسوا بالمشركين ? قال : بلى ! قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا ?
قال:" أنا عبد الله ورسوله , لن أخالف أمره , ولن يضيعني " .
فكان عمر يقول: ما زلت أتصدق وأصوم وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذ ,
مخافة كلامي الذي تكلمت به , حين رجوت أن يكون خيرا...
ثم دعا رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] علي بن أبي طالب -
رضوان الله عليه - فقال: " اكتب باسم الله الرحمن الرحيم "
فقال سهيل: لا أعرف هذا , ولكن اكتب باسمك اللهم . فقال رسول الله
[ صلى الله عليه وسلم ]" اكتب باسمك اللهم " فكتبها .
ثم قال:" اكتب:هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو " .
فقال سهيل: لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك ; ولكن اكتب اسمك واسم أبيك .
قال: فقال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " اكتب:هذا ما صالح
عليه محمد بن عبد الله . سهيل بن عمرو .
اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين , يأمن فيهن الناس , ويكف
بعضهم عن بعض , على أنه من أتى محمدا من قريش بغير إذن وليه رده عليه
, ومن جاء قريشا ممن مع محمد لم يردوه عليه.
وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه , ومن أحب أن يدخل
في عقد قريش وعهدهم دخل فيه
وأنك ترجع عنا عامك هذا فلا تدخل علينا مكة , وأنه إذا كان عام قابل خرجنا
عنك , فدخلتها بأصحابك , فأقمت بها ثلاثا , معك سلاح الراكب.
السيوف في القرب , لا تدخلها بغيرها...
فبينما رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يكتب الكتاب هو وسهيل بن عمرو ,
إذ جاء أبو جندل بن سهيل ابن عمرو يرسف في الحديد , قد انفلت
إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] .
فلما رأى سهيل أبا جندل قام إليه فضرب وجهه وأخذ بتلبيبه , ثم قال: يا محمد ,
قد لجت القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا . قال: " صدقت " فجعل
ينتره بتلبيبه ويجره ليرده إلى قريش وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته:
يا معشر المسلمين , أأرد إلى المشركين يفتنونني في ديني ?
فزاد الناس إلى ما بهم .
فقال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ]:" يا أبا جندل , اصبر واحتسب ,
فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا , إنا قد عقدنا
بيننا وبين القوم صلحا , وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهد الله , وإنا لا نغدر بهم " .
وجدير بالذكر هنا أن نذكر حكم النساء المهاجرات إلى الله ورسوله.
هل يدخلن في حكم المعاهدة ؟
قال تعالى في سورة الممتحنة:
يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن , الله أعلم
بإيمانهن , فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار , لا هن حل
لهم ولا هم يحلون لهن , وآتوهم ما أنفقوا , ولا جناح عليكم أن تنكحوهن
إذا آتيتموهن أجورهن ; ولا تمسكوا بعصم الكوافر , واسألوا ما أنفقتم وليسألوا
ما أنفقوا . ذلكم حكم الله يحكم بينكم , والله عليم حكيم ..
وقد ورد في سبب نزول هذه الأحكام أنه كان بعد صلح الحديبية الذي جاء فيه:"
على ألا يأتيك منا أحد وإن كان على دينك إلا رددته إلينا" . . فلما كان الرسول
[ صلى الله عليه وسلم ] والمسلمون معه بأسفل الحديبية جاءته نساء
مؤمنات يطلبن الهجرة والانضمام إلى دار الإسلام في المدينة ; وجاءت
قريش تطلب ردهن تنفيذا للمعاهدة . ويظهر أن النص لم يكن قاطعا في
موضوع النساء , فنزلت هاتات الآيتان تمنعان رد المهاجرات المؤمنات إلى الكفار
, يفتن في دينهن وهن ضعاف..
ونزلت أحكام هذه الحالة الدولية معها , تنظم التعامل فيها على أعدل قاعدة
تتحرى العدل في ذاته دون تأثر بسلوك الفريق الآخر , وما فيها من شطط وجور .
على طريقة الإسلام في كل معاملاته الداخلية والدولية .
وأول إجراء هو امتحان هؤلاء المهاجرات لتحري سبب الهجرة , فلا يكون تخلصا
من زواج مكروه , ولا طلبا لمنفعة , ولا جريا وراء حب فردي في دار الإسلام...
قال ابن عباس: كان يمتحنهن : بالله ما خرجت من بغض زوج , وبالله ما خرجت
رغبة عن أرض إلى أرض , وبالله ما خرجت التماس دنيا ,
وبالله ما خرجت إلا حبا لله ورسوله...
وهذا هو الامتحان . . وهو يعتمد على ظاهر حالهن واقرارهن مع الحلف بالله .
فأما خفايا الصدور فأمرها إلى الله , ولا سبيل للبشر إليها.
*****
روى الإمام أحمد باسناده - عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال :
كنا مع رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] في سفر . قال : فسألته عن
شيء ثلاث مرات فلم يرد علي . قال : فقلت ثكلتك أمك يابن الخطاب .
ألححت . كررت على رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ثلاث مرات , فلم يرد عليك ...
قال: فركبت راحلتي , فحركت بعيري , فتقدمت , مخافة أن يكون نزل في شيء .
قال : فإذا أنا بمناد يا عمر . قال: فرجعت وأنا أظن أنه نزل في شيء . قال:
فقال النبي [ صلى الله عليه وسلم ] :" نزل علي البارحة سورة هي أحب إلي
من الدنيا وما فيها : إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر " .
ورواه البخاري والترمذي والنسائي من طرق عن مالك رحمه الله.
*****
وبهذا يتضح أن صلح الحديبية كان فتح وفضل من الله تعالى على رسوله والمؤمنين.
قال تعالى:
لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ
آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ
مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً - 27 هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ
لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً - 28
******
وإلى بقية الجزء إن شاء الله تعالى