المثل الثالث والعشرون
23-وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً
يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ
فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ.
(الآية - 112)
التفســير
أقام سبحانه هذا الكون وفق سنن محكمة، وقوانين مطردة،
من أخذ بها نجا وسلم وأفلح، ومن غفل أو أعرض عنها،
فقد خسر خسراناً مبيناً.
ومن سنن الاجتماع التي أقام عليها سبحانه نظام هذا الكون
سُنة قيام المجتمعات والدول وزوالها، تلك السُّنَّة التي تقرر أن
أمر المجتمعات إنما يدوم ويستقر إذا أقامت شرع الله فيها،
وأن أمرها يؤول إلى زوال واضمحلال، إذا أعرضت
عن ذكر الله، وتنكبت سنن الهداية والرشاد.
وقد ضرب سبحانه مثلاً واقعياً يُجلِّي هذه السُّنَّة الاجتماعية،
ويظهرها أظهر بيان، ذلك ما نقرأه في قوله تعالى:
{وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة
يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله
فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون}
(النحل:112)،
فقد جعل سبحانه (القرية) -والمراد أهلها- التي هذه حالها
مثلاً لكل قوم أنعم الله عليهم، فأبطرتهم النعم، فكفروا بها،
وتولوا عن أمر ربهم، فأنزل الله بهم عقوبته،
وأبدلهم نقمة بعد ما كانوا فيه من نعمة.
ويذكر المفسرون أن هذا المثل، ضربه سبحانه لبيان
ما كان عليه حال أهل مكة؛ لأنهم كانوا في الأمن والطمأنينة
والخصب، ثم أنعم الله عليهم بالنعم العظيمة، وهو محمد صلى الله
عليه وسلم، فكفروا به، وبالغوا في إيذائه،
فسلط الله عليهم البلاء والوباء.
وقد قالوا هنا: عذبهم الله بـ (الجوع) سبع سنين،
حتى أكلوا الجيف، والعظام،
أما (الخوف) فهو أن النبي صلى الله عليه وسلم
كان يبعث إليهم السرايا، فيغيرون عليهم.
وهذا الذي نزل بهم إنما كان بسبب موقفهم من دعوة رسول
الله صلى الله عليه وسلم، وإعراضهم عن الهدي الذي
جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم، فكان عاقبتهم أن
أذاقهم {الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون}.
ولا يهمنا في هذا السياق تحديد (القرية) المرادة في هذا المثل،
هل هي مكة -كما ذهب لذلك أكثر المفسرين،
أو أن يُراد قرية من قرى الأولين-،
بل المهم بيان أمر هذه (القرية)، وكيف كان حالها من الرخاء،
والسعة في الرزق، والبسط في العيش،
ثم إنها تنكبت عن شرع الله، فضربها الله مثلاً لعباده؛
إنذاراً من مثل عاقبتها.
والغرض الرئيس من هذا المثل بيان أن التزام شرع الله
هو الأساس الذي تُحفظ به الدول، وتستقر به المجتمعات،
وأن الإعراض عنه يؤدي بها إلى الهلاك والزوال،
مصداق ذلك غير الآية التي معنا قوله عز وجل:
{ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات
من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون}
(الأعراف:96)،
وقوله سبحانه أيضاً:
{وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد}
(هود:102).
ولا يُغرنك في هذا الصدد ما تراه من استقرار الأمم،
وازدهار الدول التي لا تطبق شرع الله، ولا تقيم له وزناً،
فإنها في حقيقة أمرها إنما هي تمر بالمرحلة الأولى
التي ذكرها هذا المثل، وهي مرحلة الأمن والطمأنينة؛
لينظر الله ماذا عساها تعمل، وماذا عساها تصنع،
والعبرة بالخواتيم والنهايات،
وقد يُستأنس في هذا الشأن بقوله تعالى:
{بل متعنا هؤلاء وآباءهم حتى طال عليهم العمر}
(الأنبياء:44).
ومن المهم أن نلفت الانتباه إلى أن هذه السُّنَّة في الاجتماع،
وهي سُنَّة يصح أن نطلق عليها سُنَّة الصعود والهبوط،
والأمن والخوف، والسعة والضيق،
نقول: إن هذه السُّنَّة كما تنطبق على المجتمعات والدول،
فهي تنطبق كذلك على الأفراد والجماعات،
فالإنسان الذي يعيش في نعمة، ولا يرعى هذه النعمة،
ولا يقدرها قدرها، ولا يشكر واهبها،
فلا جرم أن يُحرم من تلك النعمة، وأن يسلبها الله إياها؛
لكفرانه بها، وجحده بمانحها وواهبها.