المثل التاسع والعشرون
29- وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً
حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ
وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ
(النور-الآية39)
التفســـــير
من عادة القرآن الكريم في بلاغه أن يردف ذكر البشارة بالنذارة،
والرحمة بالعذاب، والرغبة بالرهبة، والعزيمة بالرخصة،
والحديث عن الحق وأهله بالحديث عن الباطل وأتباعه،
وما شابه ذلك من الثنائيات المتقابلة.
ومن هذا القبيل، ما ذكره سبحانه في سورة النور من صفات
للمؤمنين من أنهم رجال قلوبهم معلقة في المساجد،
يذكرون الله فيها بالغدو والآصال، وأنهم
{رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة
وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار}
(النور:37)،
ثم أتبع ذلك بالحديث عن أعمال الكافرين،
فوصفها سبحانه بأنها
{كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا
ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب
} فهذه الآية تضمنت مثلاً يتعلق بأعمال الكفار؛
وبيان أن تلك الأعمال لا قيمة لها عند الله،
ولا وزن لها يوم الحساب، بل هي أعمال خاسرة؛
لأنها لم تؤسس على تقوى من الله ورضوان،
ولم تأت على وفق ما شرع الله.
فشبه سبحانه في هذا المثل أعمال الكافرين بالسراب الذي يبدو
للظمآن من بعيد في الصحراء الجرداء القاحلة، حيث يحسب
الظمآن ذلك الشراب ماء، فيلهث إليه مسرعاً؛ أملاً في الوصول إليه،
لينال منه بغيته، ويطفئ به ظمأ جوفه، بيد أنه لا يلبث أن يتحقق بعد
ذلك الجري الحثيث، واللهاث الشديد، أن ما ظنه ماء لم يكن في
الحقيقة سوى سراب، لا يروي جوفاً، ولا يطفئ ظمأ،
فخاب ظنه، وضاع سعيه، وأخذته الحسرة من كل جانب.
وهكذا أعمال الكفار، يحسب أصحابها أنها نافعة لهم،
مغنية عنهم شيئاً، حتى إذا كان يوم الجزاء والحساب خانتهم
تلك الأعمال، وهم أحوج ما يكونون إليها؛
لأنها في الحقيقة أعمال خاسرة بائرة، لا تنفع أصحابها في شيء؛
فهي إما أنها فاقدة لعنصر الإخلاص لله،
وإما أنها فاقدة لعنصر الصواب،
وهما شرطا صحة قبول الأعمال عند الله سبحانه.
وهكذا حال كل صاحب باطل، فإنه يخونه باطله أحوج ما يكون إليه،
فإن الباطل لا حقيقة له، وهو كاسمه باطل، لا يعني شيئاً،
ولا يساوي شيئاً، ولا يغني من الحق شيئاً.
وهذا التمثيل في الآية شبيه بقوله تعالى:
{وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا}
(الفرقان:23).
وقد جاء في "الصحيحين" في حديث طويل، وفيه:
(...إذا كان يوم القيامة أذن مؤذن: تتبع كل أمة ما كانت تعبد،
فلا يبقى من كان يعبد غير الله من الأصنام والأنصاب إلا يتساقطون
في النار، حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله بر أو فاجر وغبرات
أهل الكتاب، فيدعى اليهود، فيقال لهم: ما كنتم تعبدون؟ قالوا: كنا
نعبد عزيراً بن الله، فيقال لهم: كذبتم، ما اتخذ الله من صاحبة ولا
ولد، فماذا تبغون؟ فقالوا؟ عطشنا ربنا فاسقنا، فيشار، ألا تردون،
فيحشرون إلى النار كأنها سراب يحطم بعضها بعضاً، فيتساقطون
في النار. ثم يدعى النصارى، فيقال لهم: من كنتم تعبدون؟ قالوا:
كنا نعبد المسيح بن الله، فيقال لهم: كذبتم، ما اتخذ الله من صاحبة
ولا ولد، فيقال لهم: ماذا تبغون، فكذلك مثل الأول...) الحديث.