السورة بكل آيات 176 آية كل هذه الآيات تحدثنا عن العدالة، عدالة في
المشاعر، عدالة في القول، عدالة في الظن، عدالة في العمل والسلوك، عدالة مع
النساء، عدالة مع الصغار، عدالة مع الكبار، عدالة مع الأقوياء، عدالة مع
الضعفاء، عدالة أول ما تبدأ تبدأ في النفس ولذلك أعظم أنواع العدل أن يتقي
الإنسان ربه. صورة العدالة تتجسد في النفس الإنسانية على قدر ما يحمل
الإنسان من التقوى ترجمة حقيقية لمعاني العدالة في النفس. الإنسان إذا لم
يتقي ربه كيف يمكن أن يكون عادلًا مع الآخرين سواء كان في الأسرة أو في
المجتمع؟! كيف يمكن أن يكون منصفًا وهو لم يحقق معاني العدالة مع خالقه
سبحانه وتعالى؟!
فالنفس البشرية لكي يكون لها رصيد حقيقي من العدالة لا بد أن تحمل رصيدًا من التقوى ولذلك بدأت السورة بالحديث عن التقوى أول وصية،
أعظم وصية لكل البشر: تصحيح العلاقة مع الربّ.
سورة النساء تكلمت عن العدالة بكل صورها كما سنأتي عليها: عدالة في الحكم،
عدالة في السياسة، عدالة في الاقتصاد، عدالة في المال والاقتصاد، عدالة في
المجتمع، عدالة في الأسرة، عدالة في النفس، كل شيء.
ولكن العدالة لو أردنا أن نرسم لها مثلثًا كما جاءت في سورة النساء سنجد أن
معها أطرافًا أخرى في المثلث، على رأسه العدالة ثم على الجانب الآخر
الرحمة ثم على الجانب الثالث الأمانة. بمعنى آخر لو رسمنا مثلث العدالة كما
جاء في سورة النساء لوجدنا على رأسه العدالة ثم الرحمة ومعها بنفس المستوى
الأمانة، وكل واحد من هذه القيم العظيمة القرآنية يؤدي إلى القيمة الثانية
وبدون أن تتكامل الثلاثة قيم هذه لا يمكن أن تتحقق العدالة وفي القلب وفي
المحور والمركز تمامًا هناك مكان التقوى، هذه العدالة التي تصنعها سورة
النساء.
الكثير من المفسرين يتكلمون عن سورة النساء وفي كلامهم عن العدالة يقولون
بأن سورة النساء قد بدأت بالكلام عن العدالة مع النساء ومع اليتامى ومع
الضعفاء لأن السورة تتكلم عن العدالة مع الضعفاء، وهذه الفئات من النساء
واليتامى فئات ضعيفة في المجتمع والإنسان حين يكون في موطن ضعف فإنه مما لا
شك فيه أن يمكن أن يكون محلًا لوقوع الظلم عليه فجاء الكلام في هذه السورة
عن العدالة لحماية هؤلاء الضعفاء ولكن حين قرأت في الآية الأولى من سورة
النساء لم أجد مكانًا للحديث عن الضعف، وجدت حين تدبرت في الآية أن الله
سبحانه وتعالى يعلّمنا أن ننظر إلى خلقه جميعًا رجالًا ونساء، صغارًا
وكبارًا، أغنياء وافقراء، يتامى حُرموا من الأب أو اشخاص لديهم أُسر
ومكتفين بهم، يتحدث عن الجميع في آية واحدة وكلمة واحدة فيقول
(خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ)
وهذه الكلمة لها مقصد ولها معنى، المعنى والله أعلم معنى المساواة، بمعنى
آخر أن قيمة العدالة التي تتحدث عنها سورة النساء فيها محور آخر قائم على
المساواة بين الخلق، المساواة في القيمة الإنسانية (مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ)
التي جاءت بها سورة النساء. ولذلك لا أجد فيها كلامًا عن الضعف، بالعكس
هناك كلام عن العدالة مع القوة لأن العدالة لا بد لكي تتحقق فعلًا أن تقوم
على الشعور بأن الخلق متساوون فيما بينهم، متساوون في أصل خلقتهم، متساوون
في أن الذي خلقهم سبحانه واحد وهذا معنى عظيم نحتاج أن نستحضره ونحن نتدبر
في آيات سورة النساء.
يتبع