05-29-2021
|
|
القدس عبر التاريخ
حظيت مدينة القدس، وما تزال، بمكانة عظيمة في التاريخ الإنساني، وتميزت بخصوصية الزمان والمكان. فهي في الزمان ضاربة جذورها منذ الحضارة العربية الكنعانية، أما بالنسبة لخصوصيتها المكانية، فقد شملت الموقع والموضع، فكانت ملتقى الاتصال والتواصل بين قارات العالم القديم، تعاقبت عليها الحضارات، وأَمّتها الجماعات البشرية المختلفة، مخلفة وراءها آثارها ومخطوطاتها الأثرية، التي جسدت الملاحم والحضارة والتاريخ، دلالة على عظم وقدسية المكان. ولابد أن يكون لمثل هذه الظاهرة الحضارية الفذة أسباب ومبررات، هي سر خلودها واستمرارها آلاف السنين، رغم كل ما حل بها من نكبات حروب أدت إلى هدم المدينة، وإعادة بنائها ثماني عشرة مرة عبر التاريخ، وفي كل مرة كانت تخرج أعظم وأصلب وأكثر رسوخا من سابقتها، دليلا على إصرار المدينة المقدسة على البقاء، فمنذ أن قامت (القدس الأولى) الكنعانية قبل نحو 6000 سنة، وهي محط أنظار البشرية، منذ نشأت الحضارات الأولى في (فلسطين ووادي النيل والرافدين)، مروراً بالحضارة العربية الإسلامية، وحتى يومنا هذا. يقدر علماء الآثار أن تاريخ مدينة القدس يرجع إلى حوالي ستة آلاف سنة، كما أكدت الحفريات التي قامت عليها المدرستان: الفرنسية، والبريطانية، برئاسة الأب "ديفو" وبانضمام "رويال أنتوريا" برئاسة الدكتور "توستينج هام"، ومشاركة جامعة "تورنتو" في كندا عام 1962، حيث اعتبرت هذه البعثة، أن ما تم التوصل إليه خلال موسم الحفريات من نتائج عن تاريخ مدينة القدس، لا تعدو كونها معلومات مزيفة، تعيد صياغة تاريخ القدس وفقاً لما ورد في التوراة، التي تقصر تاريخ المدينة المقدسة على ثلاثة آلاف عام. العموريون والكنعانيون وفقا للتقديرات التاريخية، فان الهجرة العمورية-الكنعانية من الجزيرة العربية، قد حدثت خلال الألف السابع قبل الميلاد، وتم التوصل إلى ذلك من خلال تتبع الآثار في مدنهم القديمة، ولعل أقدمها مدينة أريحا الباقية حتى اليوم، والتي تعتبر أقدم مدينة في العالم، وإن تأرجحت تقديرات البداية الزمنية لوجود الكنعانيين. فإنه لا جدال على أنهم كانوا أول من سكن المنطقة من الشعوب المعروفة تاريخيا، وأول من بنى على أرض فلسطين حضارة. حيث ورد في الكتابات العبرية، أن الكنعانيين هم سكان البلاد الأصليين، كما ذكر في التوراة أنه الشعب الأموري. والكنعانيون هم أنفسهم العموريون، أو ينحدرون منهم، وكذلك الفينيقيون، فقد كان الكنعانيون والفينيقيون في الأساس شعباً واحداً، تجمعهما روابط الدين واللغة والحضارة، ولكن لم تكن تجمعهما روابط سياسية، إلا في حالات درء الخطر الخارجي القادم من الشمال أو الجنوب. ووفقاً للتوراة، فإن أرض كنعان كانت تمتد من أوغاريت (رأس شمرا) حتى غزة، وقد تم العثور على قطعة نقود أثرية كتب عليها "اللاذقية في كنعان"، وفي تلك الفترة توصل الكنعانيون إلى بناء الصهاريج فوق السطوح، وحفر الأنفاق الطولية تحت الأرض؛ لإيصال المياه إلى القلاع، ومن أهم هذه الأنفاق نفق مدينة "جازر" التي كانت تقع على بعد 35كم من القدس. وكذلك نفق يبوس (القدس)، حفره اليبوسيون، وجاءوا بالمياه إلى حصن يبوس من نبع "جيحون". اليبوسيون بناة القدس الأولون: اليبوسيون هم بطن من بطون العرب الأوائل، نشأوا في قلب الجزيرة العربية. ثم نزحوا عنها مع من نزح من القبائل الكنعانية التي ينتمون إليها، وهم أول من سكن القدس، وأول من بنى فيها لبنة. رحل الكنعانيون عن الجزيرة العربية، جماعات منفصلة، حطت في أماكن مختلفة من فلسطين،فسميت(أرض كنعان)، سكن بعضهم الجبال، بينما سكن البعض الأخر السهول والأودية ، وقد عاشوا في بداية الأمر متفرقين في أنحاء مختلفة، حتى المدن التي أنشأوها ومنها (يبوس، وشكيم، وبيت شان، ومجدو، وبيت إيل، وجيزر، وأشقلون، وتعنك، وغزة)، وغيرها من المدن التي لا تزال حتى يومنا هذا، بقيت كل مدينة من هذه المدن تعيش مستقلة عن الأخرى، هكذا كان الكنعانيون في بداية الأمر، ولكن ما لبثوا أن اتحدوا بحكم الطبيعة وغريزة الدفاع عن النفس، فكونوا قوة كبيرة، واستطاعوا بعدئذ أن يغزوا البلاد المجاورة لهم، فأسّسوا كياناً عظيماً بقي فترة طويلة. كانت يبوس في ذلك العهد حصينة آهلة بالسكان، تشتهر بزراعة العنب والزيتون. تعرف أنواعاً عديدة من المعادن منها النحاس والبرونز، وعرفوا أنواعاً عديدة من الخضار والحيوانات الداجنة، كما عرفوا استخدامات الخشب عن طريق الفينيقيين، فاستخدموه في صناعات السفن والقوارب، كما اشتهروا بصناعة الأسلحة والثياب والزجاج. لقد أسس الكنعانيون واليبوسيون حضارة كنعانية ذات طابع خاص، ورد ذكــرها في ألواح (تل العمارنة). وقد ظهر بينهم ملوك عظماء، بنوا القلاع وأنشؤا الحصون، وأنشؤا حولها أسواراً من طين، ومن ملوكهم الذين حفظ التاريخ أسماءهم، (ملكي صادق)، ويعتبر هو أول من بنى يبوس وأسسها، وكانت له سلطة على من جاوره من الملوك، وأطلق بنو قومه عليه لقب (كاهن الرب الأعظم). كان ليبوس في ذلك العهد أهمية تجارية عظيمة؛ لوقوعها على طرق التجارة، كما كان لها أهمية حربية كبيرة؛ لأنها مبنية على أربع تلال، ومحاطة بسورين. وحفر اليبوسيون تحت الأرض نفقاً يمكنهم من الوصول إلى "عين روجل" والتي سميت الآن "عين أم الدرج". كذلك كان فيها واد يعرف بواد الترويين، يفصل بين تل أوفل وتل مدريا- عندما خرج بنو إسرائيل من مصر، ونظروا أرض كنعان، ورأوا فيها ما رأوا من خيرات، راحوا يغيرون عليها بقصد امتلاكها… قائلين: "أنها هي الأرض التي وعدهم الله بها"، وبذلك أيقن الكنعانيون الخطر القادم، فطلبوا العون من مصر، ذلك لأن بني إسرائيل كانوا كلما احتلوا مدينة خربوها وأعملوا السيف فيها، أما المصريون فقد كانوا يكتفون بالجزية، فلا يتعرضون لسكان البلاد وعاداتهم ومعتقداتهم، ولم يتوان المصريون في مد يد العون إلى الكنعانيين، فراحوا يدفعوا الأذى مع الكنعانيين، ونجحوا في صد غارات العبرانيين. وهناك بين ألواح تل العمارنة، التي وجدت في هيكل الكرنك بصعيد مصر، لوح يستدل منه على أن (عبد حيبا)، أحد رجال السلطة المحلية في أورسالم، أرسل سنة (1550 ق.م) إلى فرعون مصر تحتمس الأول رسالة، طلب إليه أن يحميه من شر قوم دعاهم في رسالته بـ(الخبيري) أو (الحبيري). بنو إسرائيل في عهد الفرعون المصري (رعمسيس الثاني) وولده "مرن بتاح"، خرج بنو إسرائيل من مصر، وكان ذلك عام (1350 ق.م). لقد اجتازوا بقيادة زعيمهم "موسى" صحراء سيناء، وحاولوا في بادئ الأمر دخول فلسطين من ناحيتها الجنوبية، فوجدوا فيها قوما جبارين فرجعوا إلى موسى وقالوا له "اذهب أنت وربك فقاتلا، إنا هاهنا قاعدون" وبعدها حكم عليهم الرب بالتيه في صحراء سيناء أربعين عاماً. وبعدها توفي موسى عليه السلام، ودفن في واد قريب من بيت فغور، ولم يعرف إنسان قبره إلى الآن. ولقد تولى "يوشع بن نون" قيادة بني إسرائيل بعد موسى (وهو أحد الذين أرسلهم موسى لعبور فلسطين)، فعبر بهم نهر الأردن (1189 ق.م)، على رأس أربعة أسباط هي: راشيل أفرايم، منسه، بنيامين. واحتل أريحا بعد حصار دام ستة أيام، ارتكبوا أبشع المذابح، ولم ينج لا رجل ولا امرأة ولا شيخ ولا طفل ولا حتى البهائم … ثم أحرقوا المدينة بالنار مع كل ما فيها، بعد أن نهبوا البلاد، وبعدها تمكنوا من احتلال بعض المدن الكنعانية الأخرى، حيث لقيت هذه المدن أيضاً ما لقيته سابقتها. و بعد أن سمع الكنعانيون نبأ خروج بني إسرائيل من مصر. هبوا لإعداد العدة، وعقد ملك أورسالم (ملكي صادق) حلفاً مع الملوك المجاورين له، وكان عددهم واحداً وثلاثين، مكونين جيشاً مجهزاً قوياً، ولذلك لم يتمكن يوشع من إخضاع الكنعانيين، ومات دون أن يتمكن من احتلال (أورسالم)، لأنها كانت محصنة تحصيناً تاماً، وكانت تحيط بها أسوار منيعة. ولقد مات يوشع بعد أن حكم سبعاً وعشرين سنة، بعد موت موسى، وبعده تولى قيادة بني إسرائيل (يهودا) وأخوه (شمعون). وغزا بنو إسرائيل في عهدهما الكنعانيين مرة أخرى، وحاولوا إخضاعهم. ورغم أن الكنعانيين خسروا ما يقارب عشرة آلاف رجل في هذه المعركة إلا أن بني إسرائيل أرغموا على مغادرة المدينة. |