من العصبية إلى التقوى
ليس التحول القيمي التراتبي من العصبية إلى التقوى حراكًا قيميًّا فقط، لكنه في العمق تحوُّل من المحسوس إلى المجرد. هذا التحول مهم لإطلاق قوى التحضر والتطور العمراني؛ فلم تعُدِ الفضائل الدينية تُوجّه القواعد الأخلاقية الفردية والاجتماعية، بل تُهذّب تقاليد الحياة وأنماطها إلى سواء السبيل، حيث سُخر نمط حياتي بدوي كالهجرة، وهي حركية البحث عن الرزق والنسب، لتصبح بعد أن تتغيّا المثال الأعلى حركية مادية ومعنوية إلى الله ورسوله،
من الخباء إلى المدينة ومن القبيلة إلى الأمة؛ ما أدى إلى نجوم فضائل الحكم الجديد، وقيام أول نظام دستوري عربي، وأول جماعة سياسية عربية في المدينة تتحدث عن فكرة الأمة العابرة للقبلية، والمتجاوزة نسب الدم المكونة من «المسلمين من قريش ويثرب ومَن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم» والذين وصفهم النبي -صلى الله عليه وسلم- «أنهم أمة واحدة من دون الناس»16، و«إصدار الوثيقة يُمثّل تطورًا كبيرًا في مفاهيم الاجتماع السياسية، حيث انصهرت طائفتا الأوس والخزرج في جماعة الأنصار، ثم انصهر الأنصار والمهاجرون في جماعة المسلمين»17. لا تتحدث وثيقة المدينة الدستورية عن أمة قبلية دينية مغلقة، بل تتحدث عن أمة تعددية تشاركها العيش جماعات من اليهود، «وأن يهود بني عوف أمة من المؤمنين. لليهود دينهم وللمسلمين دينهم»18.
ولأن الهدف دولة أكبر من المدينة، وأمّة أعظم من الجماعة؛ وجدنا أنه بعد أن تم غلق باب منقبة الهجرة إلى يثرب بعد فتح مكة، الذي كان بابًا لتحصيل الفضائل الكبرى، فُتح بابٌ أوسع وهو «الجهاد والنية»19 لتحصيل مناقب جديدة20.
وقد كانت المكافحة والقتال من أجل العصبية والسعي إلى الرزق، فأضحى الجهاد في العهد النبوي مهمًّا لاستمرارية حركية تذويب البداوة في الجماعة، ونحو الأمة بالمعنى الاجتماعي والسياسي.
هذه المتغيرات القيمية التي قادت لتكوين جماعة عابرة للقبلية هي التي سمحت بقيام حكم عابر للقبلية في المدينة. فبعد هجرة النبي، كما يقول المقدسي، صارت الرئاسة للإسلام وأهله21، وتمثلت في حكم النبي صلى الله عليه وسلم، حيث كانت ترفض القبائل فكرة هذا النمط
من الحكم فوق القبلي، وكانت تتمسك عادةً بفكرة «منا رئيس ومنكم رئيس»، لصعوبة انقياد القبائل لرئاسة رئيس؛ لأن الانقياد لرئيس واحد معناه، في نظر رؤساء العشائر، خضوعهم لغيرهم، واستذلالهم له، وتنازلهم عن حريتهم وعن استقلالهم في إدارة شؤون عشائرهم لغيرهم، ولو كان هذا الرئيس منهم، كما يقول جواد علي22.
وسمَّى الصحابي أسعد بن زرارة رئاسة النبي القرشي على أهل المدينة، من الأوس والخزرج، بـ«المرتبة الصعبة»23،
ومن رأي الشافعي أن رئاسة النبي أو إمارته كانت حدثًا استثنائيًّا، فبحسب قوله، « كل من كان حول مكة من العرب لم يكن يعرف إمارة، وكانت تأنف أن يعطي بعضُها بعضًا طاعة الإمارة، فلما دانت لرسول الله بالطاعة، لم تكن ترى ذلك يصلح لغير رسول الله»24، وهذا ما صعب مهمة السقيفة في البداية، لكن نتيجة الاختيار التي تُوّجت باختيار الصدّيق أكّدت صِدق تلك التحولات القيمية، وتجلَّى ذلك في شرائط اختيار الرئيس التي عدّلها الإسلام، حيث جعل من العصبية والشرف، أو معاني القوة، أدواتٍ لخدمة الأمانة
(القوي الأمين).
وهنا يأتي الاجتهاد الجيد القائل إن حديث «الأئمة من قريش» مقولة نبوية تخبر عن امتياز قريش عند العرب، وليس امتياز قريش عند الله، أي إن القرشية حقيقة واقعية سابقة على الدين، وليست مفروضة منه25،
وهي مُعرّضة للزوال مع ذهاب أثرها التأثيري في العرب. أما التغير الذي أحْدَثه الإسلام
مع أداة واقعية كالقرشية فهو في تبديل دورها؛ فقد كانت قبل الإسلام تُمثّل أداةً لتمكين العصبية القرشية الأرستقراطية من الحكم والسيادة، وبعد الإسلام وفي العهد الراشدي أضحت أداةً لتمكين وخدمة النخبة الممتازة من المهاجرين المؤمنين أمثال أبي بكرٍ وعمر.
وما ينطبق على الخلافة والعصبية، ينطبق على النبوة والعصبية أيضًا؛ فالنبوات مع أصلها الغيبيّ أدخلها الإسلام، بحسب ابن خلدون، تحت سلطان الواقع والظواهر الاجتماعية، لا سيما عند الحديث عن تمكين دعوة النبي ورئاسته في مجتمعه؛ حيث لا بد أن يكون النبي المبعوث في إطار ما يسميه الحديث النبوي «في منعة من قومه»، لذلك اختير للنبوة العربية أن تتموضع وتتلبس بالقرشية لسببٍ واقعيّ عصبويّ، يسمح بقبول العرب لقيادة دينية. وكان ابن الأزرق يرى أن دعوة الأنبياء وسلطانهم يقويان «بالعصائب والعشائر ولو شاء الله تعالى لأيّدهم بالكون كله لكن أجرى الأمور على مستقرّ العادة والله عليم حكيم»26.
المختلف أيضًا، أن النبوة لم تتنزّل داخل العصائب والقبائل بمعايير العظمة السائدة عند العرب، بحسب ما نقل القرآن عن زعماء قريش الذين اندهشوا من نزول الوحي على رجلٍ ليس منهم: ﴿وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَٰذَا الْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ [الزخرف: 31].
إذًا هناك العصبية وهناك الدين؛ ويبدو أن العصبية هي التي تُمثِّل الجانب السلطوي في حال ترافُقِها مع الدين، فالعصبية هي «الحقيقة الفاعلة» بحسب
ما يسميها ابن خلدون27،
ويُقصد بها القوى الاجتماعية الحيوية التي يخرج منها شكل السلطة السياسية المرتبطة بالدين؛ أي إن الجانب السلطوي في الإسلام ليس مرتبطًا بالدين، ولكنه مرتبطٌ بقوانين الواقع التاريخي والاجتماعي الذي يحضر فيه، والاختلاف بين نمط سلطوي راشدي أو ملكي يكون طبقًا لطبيعة العلاقة بين السائد في لحظةٍ تاريخيةٍ ما؛ فالدولة هي ابنة عمرانها الذي تنوجد فيه؛
لذلك قال ابن خلدون: «الدولة والملك للعمران، بمثابة الصورة للمادة»28.