الموضوع
:
أدبيات اللغة العربية
عرض مشاركة واحدة
07-01-2021
#
5
إدارة قناة اليوتوب
بيانات اضافيه [
+
]
رقم العضوية :
426
تاريخ التسجيل :
Mar 2014
أخر زيارة :
منذ 3 ساعات (06:37 PM)
المشاركات :
16,215 [
+
]
التقييم :
9330
MMS ~
لوني المفضل :
Darkturquoise
رد: أدبيات اللغة العربية
(٩) الخط العربي
في عصر العباسيين توجهت العناية إلى تجويد الخط وتحسينه، وخالفت أوضاعه في بغداد أوضاعه في الكوفة في الميل إلى إجادة الرسوم وجمال الشكل. واختُرعت الأقلام المختلفة، فظهر قلم الثلث والثلثين والنصف نظرًا لاستقامة ثلث الحروف أو ثلثيها أو نصفها، وغير ذلك من الأقلام الأخرى. واستمر الخط آخذًا في الارتقاء والجودة حتى ظهر ببغداد الوزير الكاتب أبو علي محمد بن علي بن مقلة، المتوفى سنة ٣٢٨، واخترع نوعًا من الخط سُمي بالخط البديع، وقد اشتُهر بين الكُتاب أن هذا الخط البديع هو خط النسخ الشائع اليوم، نقله ابن مقلة على الخط الكوفي، ونفى ذلك بعض الباحثين مستدلين بوجود خط النسخ قبل زمن ابن مقلة، كما شاهدوا ذلك في بعض الصحف والرسائل التي كُتبت قبل ابن مقلة. والظاهر أن ابن مقلة
لم يخترع خط النسخ اختراعًا، ولكنه تصرف فيه تصرفًا بديعًا، ونقله إلى صورة امتاز بها عن أصله في الجودة والحسن، وهذا مقام لا يزال محتاجًا إلى البحث والتحقيق. وكان ابن مقلة يُضرب به المثل في حسن الخط، وتلاه في ذلك أبو الحسن علي بن هلال الكاتب الشهير المتوفى سنة ٤٢٣، وقد أقرَّ له أهل زمنه بالسابقة وعدم المشاركة في حسن الخط، وهو
الذي هذَّب الخط العربي ونقَّحه بعد ابن مقلة.
ثم إن الخط الكوفي أُهمل بتوالي الأيام وحل محله خط النسخ. وقد تفنن التُّرك في تحسين الخط وتنويعه، فاخترعوا خط التعليق، والرقعة، وأوصلوا النسخ والثلث إلى أقصى درجات الحسن والإتقان كما هو مشاهد الآن.
والخط العربي منتشر في البلاد الإسلامية كلها، تُكتب به العربية، والتركية، والفارسية، والأفغانية، ولسان أُردو بالهند، ولسان الملايو بجزيرة جاوة وما حولها.
العلوم والمعارف
قد اعتنى الخلفاء والعلماء في عصر الدولة العباسية بتدوين العلوم الإسلامية، فوضعوا أصول الفقه، وصنفوا في فروعه واستنبطوا أحكامه، ودوَّنوا الأحاديث النبوية، وتفسير القرآن الكريم، وعلوم العربية، واستُخرجت علوم البلاغة، ووُضعت لها القوانين والشواهد، ووُضع العَروض، وحُصرت أوزان الشعر العربية في دوائرها الخمس. وألَّفوا وترجموا كتبًا في الطب والهيئة والهندسة وسائر العلوم الرياضية والطبيعية والفلسفية وتقويم البلدان والتاريخ العام وتاريخ الأشخاص.
واعتنوا باللغة وضبطها، وتصرفوا فيما ترجموه فنقَّحوا وهذَّبوا وزادوا واستنبطوا وأصلحوا كثيرًا من أغلاطه. وقد وسعت اللغة العربية كل العلوم التي أُلِّفت بها أو نُقلت إليها، ولم يدخل من الألفاظ الأعجمية إلا شيء يسير، وأكثر ما وقع ذلك في الكتب التي عرَّبها بعض من لا يحسنون العربية. وتفصيل الكلام على هذه العلوم واشتغال المسلمين بها وعنايتهم بتهذيب ما ترجموه منها وجعله صالحًا لأن يُنتفع به؛ كل ذلك يحتاج إلى تأليف الأسفار الكبار ليُوفَّى حقه من البحث والشرح.
غير أنَّا ذاكرون مختصرًا وجيزًا مناسبًا للمقام مقتَطفًا مما كتبه كبار مؤرخي المسلمين ومحققو المؤرخين من الإفرنج المنصفين وأفاضل الكُتاب المعاصرين؛ في مآثر العرب وعلومهم ومعارفهم وما لهم من الفضل على العالم كله في ذلك كله، مازجين أحيانًا كلامهم بعضه ببعض أو مصرِّحين بنسبة القول إلى قائله حسب اقتضاء المقام ذلك، فنقول:
أوَّل من اعتنى بالعلوم وتدوينها من الخلفاء العباسيين أبو جعفر المنصور، وقد أخذ في إنشاء المدارس للطب وللشريعة، وكان مع براعته في الفقه وفرط شغفه به قد جعل جزءًا من زمنه خاصًّا بتعلم العلوم الفلكية، وتُرجم في زمنه كتاب أُوقْلِيدس في الهندسة والهيئة والحساب.
وأكمل حفيده الرشيد ما شرع فيه، وأمر بأن يُلحق بكل مسجد مدرسة لتعليم العلوم وأنواعها، وكان باذلًا جهده في إحياء العلوم والآداب ونشرها، وكُتب في أيامه مصنفات كثيرة في العلوم الإسلامية وغيرها مما تُرجم عن اليونانية، ومن ذلك كتاب «المَجَسْطِي» الذي ألفه بَطْلِيموس في الرياضة السماوية، وقيل: إن هذا الكتاب تُرْجم في زمن المأمون بأمره.
وكان المترجمون قومًا من السُّرْيَان غير مسلمين، وقد أحسن الخلفاء صِلَتهم، وأفاضوا عليهم النِّعَم، وكان أكثرهم غير متمكن من العلوم التي نقلوها إلى العربية فوقع فيها الغلط الكثير، فصحَّحه بعد ذلك الراسخون في العلم من العرب في عصر المأمون وما بعده، كما صححوا كثيرًا من غلط اليونانيين أنفسهم.
وكان اشتغال العرب بالعلم للعمل به، فتناولوا الكتب التي ترجموها من قومٍ كان حظهم منها حفظها على أنها من نفائس الذخائر ومآثر الجيل الغابر، وقد ظهر أثر العمل في عصر الرشيد، ومن ذلك الساعة الدَّقَّاقة المتحركة بالماء التي أرسلها إلى شارلمان ملك فرنسا وعظيم أوروبا لعهده، ففزع الأوروبيون منها لذلك العهد وتوهموا أنها آلة سحرية قد كمنت فيها الشياطين، وأن ملك العرب ما أرسلها إليهم إلَّا لتغتالهم وتوقع بهم شر إيقاع. وقد اجتمع في حضرة الرشيد كثير من أكابر العلماء، وكان يأتي بهم ويرفع منزلتهم، وكلما سافر لحج بيت الله الحرام استصحب معه مئة من العلماء.
ولما أفضت الخلافة إلى المأمون وجَّه عنايته إلى العلوم والآداب وشُغِف بالعلم كلَّ حياته، ولم يكن يجالس إلا العلماء، وقد جمع وترجم كثيرًا من كتب الفرس واليونان في الهيئة والطبيعيات وتخطيط الأراضي والموسيقى، وغرس للعلم والأدب جِنانًا ناضرة، فزكا نَبْتها، وتفتَّح نَوْرُها، وطاب ثمرها، ووصلت به دولة العلم إلى أوْج قوَّتها، ونالت به أكبر ثروتها، وكانت بغداد في عهده مدرسة علمية كما كانت دار خلافة، وكان من شروط صلحه مع ميشل الثالث أن يعطيه مكتبة من مكاتب الآستانة، وقد فعل. وقد ألف علماء العرب في زمنه أرصادًا وأزياجًا فلكية، وحسبوا الكسوف والخسوف وذوات الأذناب وغيرها، ورصدوا الاعتدال الربيعي والخريفي، وقدَّروا ميل منطقة فلك البروج، وقاسوا الدرجة الأرضية، وأصلحوا بأمره غلط بعض الكتب التي تُرجمت قبل زمنه.
وجاء الواثق بعد المأمون، وحذا حذوه في الاشتغال بالعلوم، واقتدى بالخلفاء الوزراءُ والأمراء في زمنهم وبعده، وأخذوا جميعًا بناصر العلماء، وشدُّوا أزرهم، ورفعوا منزلتهم.
فأخذ العلماء في الاشتغال بكل علم
وكل فنٍّ أمكن الاشتغال به في ذلك العصر، وبنوا علومهم على التجربة والمشاهدة. قال أحد فلاسفة الأوروبيين: «إن القاعدة عند العرب هي: جرِّبْ، وشاهدْ، ولاحظْ تكن عارفًا، وعند الأوروبي إلى ما بعد القرن العاشر من التاريخ المسيحي: اقرأْ في الكتب، وكرِّرْ ما يقول الأساتذة تكن عالمًا.» ا.ﻫ. فانظر الفرق وقارنه بما تجده الآن من فرط عنايتهم بالبحث وما ينجم عنه من إصلاحهم الخطأ فيما لا يُحصى مما كانوا أثبتوه، حتى إنَّ فطاحل منصفيهم لم يجدوا بدًّا من الاعتراف بإمكان أن يثبت لهم غدًا ضد ما أثبتوه اليوم كما ثبت لهم اليوم ضد ما أثبتوه أمس، ولا من الإقرار بعدم الوقوف على كُنْه الكثير من ظواهر الكون التي ينتفعون بخواصها.
ومن العلوم التي كان للعرب فيها اليد البيضاء:
علم الهيئة، والهندسة، وسائر العلوم الرياضية، فإن ما زادوه عليها من مخترعاتهم وما أصلحوه
من أغلاط اليونانيين قبلهم جعل لهم الحظ الأوفر في هذه العلوم. قال دِيلَامْبِرْ في «تاريخ علم الهيئة»:«إذا عددت في اليونانيين اثنين أو ثلاثة من الراصدين، أمكنك أن تعدَّ من العرب عددًا كبيرًا غير محصور»، وعن العرب أخذ الإفرنج الأرقام الحسابية وعلم الجبر والمقابلة الذي
هو من وضع العرب، أخذوه باسمه ومسماه. وقال بعض المؤرخين إنَّ ديوفنتوس الإسكندري من أهل القرن الرابع للميلاد هو أول من ألف في الجبر، وكتبه لا تزال موجودة إلى الآن. والحق أن هذه الكتب ليس فيها إلا قواعد استخراج القوى وحل بعض المسائل، وليس فيها أصول الفنِّ وقواعده الأساسية التي امتاز بها وصار فنًّا مستقلًّا. ونظير ذلك علوم البلاغة، قالوا إن مؤسسها وواضعها هو الإمام عبد القاهر الجرجاني، مع أن العلماء قد سبقوه إلى الكلام في بعض مسائلها، ولكنهم لم يبلغوا بذلك أن جعلوها علمًا ذا أصول وقواعد كما جعلها.
وقد اكتشف العرب قوانين لثقل الأجسام، مائعها وجامدها، ووضعوا لها جداول في غاية الدقة والصحة، واخترعوا البندول للساعة، اخترعه ابن يونس المصري، والبوصلة البحرية، واخترعوا بيت الإبرة أيضًا، وهم أوَّل من استعمل الساعات الدقاقة للدلالة على أقسام الزمن، وأوَّل من أتقن استعمال الساعات الزوالية لهذا الغرض.
ومن علومهم التي وضعوها ولم يُسْبَقوا إليها علم الكيميا الحقيقية، فهي من اكتشاف العرب دون سواهم، وعنهم أخذها الأوروبيون، وإنك لا تستطيع أن تعدَّ مجرِّبًا واحدًا عند اليونانيين، ولكنك تعدُّ من المجرِّبين مئين عند العرب.
وقد اشتغلوا بالطب والصيدلة، ولهم في ذلك المؤلفات العديدة النافعة، ومُرَكَّبات الأدوية الصالحة. وهم أوَّل من استحضر المياه والزيوت بالتقطير والتصعيد، وأوَّل من استعمل السكر في الأدوية، وكان غيرهم يستعمل العسل. وكان حكام الأندلس يعتنون بإدارة الصيدليات فيفحصون أدويتها إزالةً للغش، ويُسَعِّرونها رفْقًا بالفقير، وفَضْلُهم في الطب على أوروبا لا يُنكر، وقد برعوا في الجراحة، وكان النساء بالأندلس يباشرن كثيرًا من العمليات الجراحية بغيرهنَّ من الإناث، وذلك ما يَحُثُّ عليه أهل أوروبا وأمريكا اليوم. ولهم في هذه الفنون مؤلفون، يعدُّون في الطبقة الأولى من علماء العالم في العلوم التي اشتغلوا بها، ولا تزال مؤلفات كثير منهم باقية إلى اليوم، كقانون ابن سينا، ومفردات ابن البيطار. وإذا رجَّحت القول بأن يونان أخو قحطان غاضَبه فرحل من اليمن، ونزل ما بين الإفرنجة والروم فاختلط نَسَبُه بهم؛ كانت تلك الكتب اليونانية إنما هي بضاعة العرب رُدَّت إليهم.
ولم يكن اشتغالهم بالجغرافية والتاريخ العام وتاريخ الأشخاص أقل من اشتغالهم بالعلوم السابقة، فلهم السياحات العديدة حول أفريقية وآسية وجانب من أوروبا، وقد رسموا ما اكتشفوه رسمًا حسنًا، ولهم في تقويم البلدان مؤلفات عديدة بعضها مطبوع وبعضها غير مطبوع؛ فمن الأول «تقويم البلدان» لأبي الفداء، و«معجم ياقوت»، طُبِعَا في أوروبا. ومن الثاني «نزهة المشتاق» للشريف الإدريسي محمد بن محمد الصقلي، كان في القرن السادس الهجري، وهو الذي صنع لرجار الفرنجي ملك صقلية سنة ١١٥٣ أوَّل كرة أرضية عُرفت في التاريخ، زنتها من الفضة ١٤٤ أُقَّة، رسم فيها جميع أنحاء الأرض في زمانه رسمًا غائرًا مشروحًا بالاستيفاء، وصنف له أيضًا كتاب «نزهة المشتاق في اختراق الآفاق» مرتبًا على الأقاليم السبعة، وصف فيه البلاد والممالك مستوفاة مع ذكر المسافات بالميل والفرسخ. ومؤلفاتهم في التاريخ تفوق الحصر. والفضل الأوَّل في الاشتغال بهذه العلوم يرجع إلى مدرسة بغداد التي كانت ينبوعًا أصليًّا استمدَّت منه سائر المدارس الإسلامية. قال بعض مؤرِّخي الإفرنج: إن العرب استقاموا عدَّة قرون على الطريقة التي وضعها علماء مدرسة بغداد، واتبعوا قواعدهم، وهي الانتقال من النظر في المسببات إلى اجتلاء الأسباب، لا يعوِّلون إلا على ما اتضحت صحته وعُرفت حقيقته.
وقد أُنشئت المدارس العديدة تباعًا، وجُمعت إليها العلماء، ولم يخلُ منها قطر من الأقطار الإسلامية، وازدانت بهذه المدارس بغداد والبصرة والكوفة وبُخَارى وسَمَرْقَنْد وبَلْخ وأصفهان ودمشق وحلب في قارَّة آسية، والإسكندرية والقاهرة ومراكش وفاس وسبتة والقيروان في قارَّة أفريقيا، وأشبيلية وقرطبة وغَرْناطة وغيرها من مدن الأندلس العديدة في قارة أوروبا. وكان بالقاهرة وحدها عشرون مدرسة في القرن الرابع، وفي قرطبة وحدها من بلاد الأندلس ثمانون مدرسة في مدَّة الحَكَم بن عبد الرحمن الناصر المتوفى سنة ٣٦٦.
وأصبحت الأندلس بعد ذلك في أواخر القرن الخامس غاصَّة بالمكاتب والمدارس الجامعة، ولم تَخْل مدينة من مدنها من مدارس متعدِّدة. قال جيون في كلامه على حماية المسلمين للعلم في الشرق والغرب: «إن ولاة الأقاليم والوزراء كانوا ينافسون الخلفاء في إعلاء مقام العلم والعلماء، وبسط اليد في الإنفاق على إقامة بيوت العلم ومساعدة الفقراء على طلبه. وكان عن ذلك أن ذَوْق العلم ووِجْدان اللذة في تحصيله انتشرا في نفوس الناس من سَمَرْقَنْد وبُخَارَى إلى فاس وقرطبة. أنفق وزيرٌ واحدٌ لأحد السلاطين (هو نظام الملك) مئتي ألف دينار على بناء مدرسة في بغداد، وجعل لها خمسة عشر ألف دينار تصرف في شئونها كل سنة، وكان الذين يُغَذَّوْن بالمعارف فيها ستة آلاف تلميذ، فيهم ابن أعظم العظماء في المملكة وابن أفقر الصناع فيها، غير أن الفقير يُنفَق عليه من الرِّيع المخصَّص للمدرسة وابن الغني يكتفي بمال أبيه، والمعلمون كانوا يُنْقَدون أجورًا وافرة.» ا.ﻫ.
وجميع المدارس الطبية في البلاد الإسلامية أخذت نظام امتحانها عن مدرسة الطب في القاهرة، وكان من أشدِّ النظامات وأدقها، ولم يكن لطبيب أن يمارس صناعته إلا على شريطة أن تكون بعد شهادةٍ بأنه فاز في الامتحان، على شدَّته. وأوَّل مدرسة طِبِّية أُنشئت في قارَّة أوروبا على هذا النظام المحكم هي التي أنشأها العرب في ساليرت من بلاد إيطاليا. وأوَّل مرصد فلكي أقيم في أوروبا هو الذي أقامه العرب في إشبيلية من بلاد الأندلس.
وقد تعدَّدت المراصد الفلكية في البلاد الإسلامية شرقًا وغربًا، ومن أشهرها مرصد بغداد المُنْشأ على قنطرتها، وقد رُصدت به عدَّة أرصاد وصُحِّحت جملة أزياج، ومرصد المراغة الذي أنشأه نصير الدين الطوسي بأمر هولاكو خان، ولما أتم كوپلاى خان أخو هولاكو فَتْحَ الصين نَقَل مؤلفات علماء بغداد إليها، ومرصد سَمَرْقَنْد الذي أنشأه تيمور لنك، ومرصد دمشق الذي أنشأه أُلوغ بك مرزا محمد حفيد تيمور لنك، وكان من أعلم علماء الفلك، وله زيج مشهور معتبر إلى هذا العصر، وكان بمصر مرصد جبل المقطم، أنشأه ابن يونس الفلكي الشهير صاحب الزيج الحاكمي.
وأما دور الكتب فلم تكن عناية الدول الإسلامية بها أقل من عنايتهم بالمدارس، فقد كان في القاهرة في أوائل القرن الرابع مكتبة تحتوي على مئة ألف مجلد منها ستة آلاف في الطب والفَلَك لا غير. ومكتبة الخلفاء في الأندلس بلغ ما فيها ستمئة ألف مجلد، وكان فهرسها أربعة وأربعين مجلدًا. وقد حققوا أنه كان ببلاد الأندلس وحدها سبعون مكتبة عمومية، وكان في هذه المكاتب مواضع خاصة للمطالعة والنَّسْخ والترجمة، وبعض الخاصة كانوا يولعون بالكتب ويجعلون ديارهم معاهد دراسة لما تحتوي عليه.
وأما ضخامة تآليفهم فما لا يحصره العَدُّ، وحسبك في المشرق كتاب «قَيْد الأوابد» للإمام البَنْجَذِيهي المتوفى سنة ٥٥٩ من قرى خراسان في ٤٠٠ مجلد، وفي الأندلس لأحمد بن أبان كتاب «العالَم» نحو ١٠٠ سفر، بدأ فيه بالفَلَك وختم بالذَّرَّة، والأعجب الأغرب كتاب «فلك الأدب» الذي تعاقب على تأليفه من جهابذة الأندلسيين ٦ في ١١٥ سنة آخرها سنة ٦٤٥ﻫ.
ولقد أحرق أهل إسبانيا من الكتب الإسلامية بعد جلاء المسلمين عنها ما يدهش لبيان عدده السامعُ، ويحار المتأمِّلُ، ويتوقف قلمُ الكاتب.
جاء في المجلد الثالث من «المقتطف» وجه ٧ ما نصه:
ليَقُلْ لنا أهل إسبانيا أين الثمانون ألف كتاب التي أمر كردينالهم شميتر بحرقها في ساحات غَرْناطة بُعَيد استظهارهم عليها، فأحرقوها وهم لا يعلمون ما يعملون، حتى أَفْنَوا — على ما قال مؤرخهم ربلس — ألف ألف وخمسة آلاف مجلد كلها خطها أقلام العرب؟ وليتهم يخبرون كم من كتاب لعبت به نيرانهم بعد ذلك حتى لم يُبقوا من معارف العرب ولم يذروا؟ وما يقولون عن السفن الثلاث التي ظفروا بها مشحونة بالمجلدات العربية الضخمة، وطالبة ديار سلطان مراكش، فسلبوها وألقوا كتبها في قصر الأسكوريال سنة ١٦٧١ ميلادية (الموافقة سنة ١٠٨٢ هجرية) حتى لعبت بها النيران فأكلت ثلاثة أرباعها، ولم يستخلصوا منها إلا الربع الأخير؟ حينئذٍ استفاقوا من غفلتهم، وعلموا كُبْرَ جَهَالتهم؛ ففوضوا إلى ميخائيل القصيري الطرابلسي الماروني ترتيبها وكتابة أسمائها، فكتب لهم أسماء ١٨٥١ كتابًا منها، فعلى ما في هذه الكتب وما بقي في أفريقية والمشرق قَصَر أهلُ هذه الأيام معارِفَ العَرَب، وحتى هذه لم يستوعبوا جميع ما فيها. ا.ﻫ.
وأما مكاتب بغداد فإنه لما فاجأها التتار بالهجوم بعد قتل الخليفة المستعصم آخر الخلفاء العباسيين، جعلوا دأبهم السلب والنهب، وأخذوا كتب العلم التي كانت في خزائنها، وأَلْقَوها بِدِجْلة، فَعَبرت عليها جنودهم.
فأضِف هذه النفائس إلى ما أحرقه أهلُ إسبانيا، وتَصوَّرْ مقدار ذلك كله، ثم انْسُبْ ما بقي من الكتب الإسلامية إلى ما أُتْلِف منها، وتفكَّرْ بعد ذلك في أن هذه الملايين من الكتب إنما خُطَّت بالقَلَم قبل أن تُعْرَف المطبعة، واحكمْ بعد ذلك — وأنت منصف في حكمك — بأن العرب لم تسبقهم أمَّة اعتنت بالعلم اعتناءهم واهتمت به اهتمامهم.
وتتميمًا للفائدة نذكر ما ورد في مجلة المقتطف في سنتها الثالثة في صفحة ٩١ و٩٢ تحت عنوان «فضل العرب»، وهو خاتمة مقال نُشر في تلك السنة في بيان مآثر العرب وعلومهم وبعض علمائهم، وقد اقتطفنا من هذا المقال الجامع شذرات ضمَّنَّاها مقالنا السابق، وها هو ما ذُكر تحت هذا العنوان:
في القرون الوسطى قصد أهل أوروبا مدارس الأندلسيين، وكانت على غاية الإتقان، وقرءوا العلم فيها ثم تزوَّدوه منها إلى بلادهم. ففي سنة ٨٧٣ للمسيح أمر هرتموت — رئيس دير ماري غالن — جماعةً من رهبانه بدرس اللغة العربية لتحصيل معارفها. وكان الرهبان البندكتيون يطلبون العلوم العربية بشوق لا مزيد عليه، وأشهر من تعلم العلم من العرب البابا سلڤستر الثاني، وأصله رجل فرنسي يسمى جربرت طاف على قسم كبير من أوروبا طالبًا المعارفَ حتى دبت قدمه في الأندلس، فرتع في مدارس إشبيلية وقرطبة، وصرف إلى العلوم رغبته، فلما ساغها هنيئًا عاد إلى دياره، وما زال يسمو على أقرانه حتى تنصَّب بابا فشاد للعلم مدرستين؛ الأولى في إيطاليا، والأخرى في ريمز، وأدخل إلى أوروبا معارف العرب والأرقام الهندية التي نقلها عنهم. ثم ثارت الحمية في أهل إيطاليا وفرنسا وجرمانيا وإنجلترا، فطلبوا الأندلس من كل فج عميق، وتناولوا المعارف من أهلها.
قال مونتكلا في «تاريخ العلوم الرياضية»:
ولم يقم من الإفرنج عالم بالرياضيات إلا كان علمه من العرب مدَّة قرون عديدة. فمن جملة من نقل عنهم المعارف من أهل إيطاليا دوكريمونا، قرأ علم الهيئة والطب والفلسفة بطليطلة، وترجم عنهم المجسطي وكتب الرازي والشيخ الرئيس إلى اللاتينية، وليوندار البيزى نقل عنهم الحساب والجبر، وأرنولد الڤيلانوڤى نقل عنهم الهيئة والطبيعيات والطب. وممن نقل عنهم من الإنجليز راهب اسمه بلارد، وآخر اسمه مورلى، وآخر اسمه سكوت، وكذلك روجر باكون الشهير، فإن ما حصَّله من المعارف في الكيميا والفلسفة والرياضيات إنما استخلصه من كتبهم، وقد اقتبس من أقوال الحسن في البصريات، ومثله فيتليو الذي اشتُهر بالبصريات؛ فإنه أخذ كثيرًا عن الحسن. ولما عرف ملوك الإفرنج قيمة معارف العرب، أمروا بترجمة كتبهم، ومنهم نقل شارلمان وفردريك الثاني الجرماني وألفونس الثاني القسطلي.
والخلاصة
أن الإفرنج نقلوا عن العرب، مما نقله العرب عن غيرهم أو استنبطوه بأنفسهم، الفلسفة، والهيئة، والطبيعيات، والرياضيات، والبصريات، والكيمياء، والطب، والصيدلة، والجغرافية، والزراعة، والفراسة. وأخذوا عنهم عمل الورق، والبارود، والسكر، والخزف، وتركيب الأدوية، ونسج كثير من المنسوجات. وأدخلوا منهم إلى بلادهم دود القز وكثيرًا من الحبوب والأشجار كالأرز، وقصب السكر، والزعفران، والقطن، والسبانخ، والرمان، والتين. ونقلوا عنهم دبغ الأديم وتجفيفه، وقد استردَّ الإنجليز هذه الصناعة بعد فقدها من الأندلس بجلاء العرب عنها، ولا يزالون يسمون الجلود المدبوغة بها «موركو وكردوفان» نسبة إلى مراكش وقرطبة.
ولا تزال الألفاظ العربية مستعملة في أكثر مباحث الإفرنج الطبيعية كالسمت والنظير والسموت والمقنطرات وأسماء النجوم والكحول والقلى والجبر والقطن والشراب والكيمياء وغيرها. ولولا لغة العرب لبقيت لغة أهل إسبانيا قاصرة كما كانت، فأسماء أوزانهم وأقيستهم أكثرها عربي محرَّف كالقنطار والربع والشبر، وكذلك أسماء قطع الماء ونحوها كالبحيرة والبركة والجب والكهف وغيرها كثير.
فالمُوَلَّدون كانوا في زمانهم حلقة من سلسلة العلوم اتصلت بها علوم الأوَّلين بالمتأخرين، ولولاهم لفقد أكثر المعارف إن لم نقل كلها، وما أحسن قول جريدة مدرسة إدنبرج الكلية في هذا المعنى:
إنَّا لمدينون للعرب كثيرًا ولو قال غيرنا خلاف ذلك، فإنهم الحلقة التي وصلت مدنية أوروبا قديمًا بمدنيتها حديثًا، وبنجاحهم وسموِّ همتهم تحرَّك أهل أوروبا إلى إحراز المعارف واستفاقوا من نومهم العميق في الأعصار المظلمة. ونحن لهم مدينون أيضًا بترقية العلوم الطبيعية والفنون الصادقة النافعة، وكثير من المصنوعات والمخترعات التي نفعت أوروبا كثيرًا علمًا ومدنيةً. ا.ﻫ.
أما تاريخ العلوم والآداب العربية من ابتداء الدولة العباسية إلى الآن، فإنه ينقسم إلى أربع مدد كبيرة:
المدَّة الأولى:
تبتدئ بخلافة أبي جعفر المنصور وتنتهي بمنتصف القرن الرابع تقريبًا، فهي نحو ٢٠٠ سنة، وهي المدَّة التي صعدت فيها العلوم والآداب إلى ذروة مجدها وأوج عزها، وفاضت فيها ينابيع المعارف على جميع البلاد الإسلامية، فأَيْنَعَتْ جنانها، ودَنَتْ للقاطفين أفْنانها. وفيها أشرقت شموس الأئمة المجتهدين وأجلَّاء المحدِّثين وكبار علماء الدين وأئمة العربية وفحول الشعراء وأعاظم الكتَّاب ورجال الأدب، وغيرهم من أساطين العلماء.
المدَّة الثانية:
تتلاقى مع المدَّة الأولى في نهايتها، وتنتهي بسقوط الدولة العباسية سنة ٦٥٦، وفي هذه المدَّة ضَعُف أمر الخلافة العباسية باستيلاء الديْلم والسلجوقيين على السلطة، ولم يكن هؤلاء الأعاجم يعرفون من قدر العلم كما كان يعرف الخلفاء من العرب؛ فَفَتَرت الهِممُ بعضَ الفُتور، واقتصر كثير من أهل العلم على النظر في كتب مَن قَبْلهم وَوشُّوها بالحواشي. غير أنه نبغ في هذه المدَّة عدد كبير في كل علم وفن لا سيما العلوم الرياضية والفلسفية، وكان ذلك من أثر تلك الجَذْوَة التي اشتعلت في المدَّة الأولى، ولم يُخْمِدْها ضعفُ الخلفاء بل بقيت بعدهم زمنًا يقتبس منها المقتبس حتى أطفأها التتار في بغداد والبلاد التي استولوا عليها من آسية، ثم دخلوا في الإسلام فتألَّق بعض وميضها كما سبق.
المدَّة الثالثة:
تبتدئ بسقوط الدولة العباسية وتنتهي باستيلاء محمد على باشا على مصر سنة ١٢٢٠، وفي أوَّل هذه المدَّة أُعدمت المعارف العربية في بلاد فارس وما وراء النهر، وبقيت زاهية في مصر قليلًا بفضل الجامع الأزهر كل هذه المدَّة، وكذلك في بلاد المغرب في دولة السعديين والأشراف بعدهم، وفي أواخر هذه المدَّة كانت العلوم العربية في آخر رمق من حياتها، ولكن كان يلوح في أثناء ذلك الزمن بصيص من نور العلم والعرفان ثم يختفي، فقد ظهر من أكابر العلماء أبو الفداء وابن خلدون والمقريزي وابن حجر والسيوطي وابن منظور صاحب «لسان العرب» والمجد صاحب «القاموس» وابن الوردي الفقيه.
المدَّة الرابعة:
تبتدئ باستيلاء محمد علي باشا على مصر، وفي هذه المدَّة أخذت المعارف والآداب تدب فيها الحياة وتنمو في مصر والشام بفضل ما طُبع وأُلِّف من الكتب المختلفة النافعة.
فترة الأقامة :
3732 يوم
معدل التقييم :
زيارات الملف الشخصي :
506
إحصائية مشاركات »
المواضيـع
الــــــردود
[
+
]
[
+
]
بمـــعــدل :
4.35 يوميا
عطر الجنة
مشاهدة ملفه الشخصي
إرسال رسالة خاصة إلى عطر الجنة
البحث عن كل مشاركات عطر الجنة