الموضوع
:
أدبيات اللغة العربية
عرض مشاركة واحدة
07-01-2021
#
17
إدارة قناة اليوتوب
بيانات اضافيه [
+
]
رقم العضوية :
426
تاريخ التسجيل :
Mar 2014
أخر زيارة :
منذ 7 ساعات (08:48 PM)
المشاركات :
16,181 [
+
]
التقييم :
9330
MMS ~
لوني المفضل :
Darkturquoise
رد: أدبيات اللغة العربية
(٦٦) ألَا مَنْ يَشْتَرِي سَهَرًا بِنَوْم؟
قالوا: إن أوَّل مَنْ قال ذلك ذو رُعَيْن الحِمْيَرِي، وذلك أنَّ حِمْيَر تفرَّقت على مَلِكها حسَّان وخَالَفت أمره لسوء سيرته فيهم، ومالوا إلى أخيه عمرو، وحَمَلُوه على قَتْل أخيه حَسَّان وأشاروا عليه بذلك ورغَّبوه في المُلْك، ووَعَدوه حُسْنَ الطاعة والمؤازرة، فنهاه ذو رُعَيْن من بين حِمْير عن قتل أخيه، وعلم أنه إن قتل أخاه نَدِم ونَفَر عنه النوم وانْتَقَضت عليه أموره، وأنه سيُعاقِبُ الذي أشار عليه بذلك ويعرف غشَّهم له. فلمَّا رأى ذو رُعَيْن أنَّه لا يَقْبَل ذلك منه وخشي العواقبَ، قال هذين البيتين الآتِيَين وكتبهما في صحيفة وختم عليها بخاتم عمرٍو، وقال: هذه وديعة لي عندك إلى أن أطلبها منك، فأخذها عمرو فدَفَعها إلى خازنه وأمَرَه برَفْعها إلى الخِزانة والاحتِفاظ بها إلى أن يَسْأل عنها.
فلمَّا قَتَلَ أخاه وجلس مكانه في المُلك مُنِعَ منه النومُ، وسُلِّط عليه السهر، فلمَّا اشتد ذلك عليه لم يَدَعْ باليمن طبيبًا ولا كاهنًا ولا منجِّمًا ولا عرَّافًا ولا عائفًا إلَّا جمعهم، ثم أخبرهم بقصته، وشكا إليهم ما به، فقالوا له: ما قَتَلَ رجلٌ أخاه أو ذا رَحِم منه على نحو ما قتلت أخاك إلَّا أصابه السهر ومُنِع منه النوم، فلما قالوا له ذلك أقبل على مَنْ كان أشار عليه بقتل أخيه وساعده عليه من أقْيَال حِمْير فقتلهم حتى أفناهم، فلما وصل إلى ذي رُعَين قال له: أيها الملك، إنَّ لي عندك بَرَاءة مما تريد أن تصنع بي، قال: وما براءتك وأمانك؟ قال: مُرْ خازنك أن يخرج الصحيفة التي استودعْتُكها يوم كذا وكذا، فأمر خازِنه فأخرجها فنظر إلى خاتمه عليها ثم فَضَّها فإذا فيها:
ألَا مَنْ يَشْتَري سَهَرًا بِنَوْم
سَعِيدٌ مَنْ يَبِيتُ قَرِيرَ عَيْنِ
فأمَّا حِمْيَرٌ غَدَرَتْ وخَانَتْ
فَمَعْذِرَةُ الإلَه لِذِي رُعَيْنِ
ثم قال: أيها الملك، قد نَهيتك عن قتل أخيك، وعلمتُ أنَّك إن فعلتَ ذلك أصابك الذي قد أصابك، فكتبت هذين البيتين بَرَاءةً لي عندك مما علمت أنَّك تصنع بمن أشار عليك بقتل أخيك، فقَبِل ذلك منه، وعفا عنه، وأحسن جائزته.
(٦٧) إنَّ العَصَا مِنَ العُصَيَّة
قال أبو عبيد: هكذا قال الأصمعيُّ، وأنا أَحْسَبُه العُصَيَّة من العَصَا، إلَّا أن يُرَاد أنَّ الشيء الجليل يكون في بَدْء أمره صغيرًا، كما قالوا: إنَّ القَرْم من الأفِيل، فيجوز حينئذٍ على هذا المعنى أن يقال: العَصَا من العُصَيَّة. قال المفَضَّل: أوَّل من قال ذلك الأفْعَى الجُرْهُميُّ، وذلك أن نِزَارًا لمَّا حَضَرَتْه الوفاة جَمَعَ بنيه مُضرَ وإيادًا وربيعةَ وأنمارًا، فقال: يا بَنِيَّ، هذه القُبَّة الحمراء — وكانت من أَدَم — لمضرَ، وهذا الفرس الأدهم والخِبَاء الأسود لربيعة، وهذه الخادم — و
كانت شَمْطَاء — لإيادٍ، وهذه البَدْرَة والمجلس لأنمار يجلس فيه، فإن أُشْكل عليكم كيف تقتسمون فَأْتُوا الأفعى الجرهمي ومنزلُه بنَجْران. فتشاجروا في ميراثه، فتوجهوا إلى الأفعى الجرهمي، فبينما هم في مسيرهم إليه إذ رأى مُضَر أثَرَ كلأٍ قد رُعِيَ فقال: إنَّ البعير الذي رَعَى هذا لَأعْوَر، قال ربيعة: إنه لأزْوَرُ، قال إياد: إنه لأبْتَرُ، قال أنْمارٌ: إنه لَشَرُودٌ، فساروا قليلًا فإذا هم برجل يُنْشِد جَمَله فسألهم عن البعير، فقال مضر: أهو أعْور؟ قال: نعم، قال ربيعة: أهو أزْوَر؟ قال: نعم، قال إياد: أهو أَبْتر؟ قال: نعم، قال أنمار: أهو شَرُودٌ؟ قال: نعم، وهذه والله صفة بعيري، فدُلُّوني عليه، قالوا: والله ما رأيناه، قال: هذا والله الكذبُ، وتَعَلَّق بهم وقال: كيف أصَدِّقكم وأنتم تَصِفون بعيري بصفته؟ فساروا حتى قَدِموا نَجْرانَ، فلما نزلوا نادى صاحبُ البعير: هؤلاء أَخَذوا جَمَلي ووصَفوا لي صفته، ثم قالوا: لم نَرَهُ، فاختصموا إلى الأفْعَى، وهو حَكَم العرب، فقال الأفعى: كيف وصفتموه ولم تَرَوْه؟ قال مضر: رأيته رَعَى جانبًا وتَرَك جانبًا فعلمتُ أنه أعور، وقال ربيعة: رأيت إحدى يديه ثابتة الأثَر والأخرى فاسدته؛ فعلمت أنه أَزْوَر؛ لأنه أفسَده لشدةِ وَطْئه لازْوِرَاره، وقال إيادٌ: عرفت أنه أبتر باجتماع بَعْره، ولو كان ذَيَّالًا لَمَصَع به، وقال أنمار: عرفت أنه شَرُود لأنه كان يرعى في المكان الملتَفِّ نَبْتُه ثم يَجُوزُه إلى مكانٍ أرقَّ منه وأخبث نَبْتًا؛ فعلمت أنه شَرُود. فقال للرجل: ليسوا بأصحاب بعيرك فاطلبه.
ثم سألهم: مَنْ أنتم؟ فأخبروه، فرحَّب بهم، ثم أخبروه بما جاء بهم، فقال: أتحتاجون إليَّ وأنتم كما أرى؟ ثم أنزلهم فَذَبَحَ لهم شاةً وأتاهم بخَمْرٍ، وجلس لهم الأفعى حيث لا يُرَى وهو يسمع كلامهم، فقال ربيعة: لم أَرَ كاليوم لحمًا أطيبَ منه لولا أنَّ شاته غُذِيَت بلبن كلبة، فقال مضر: لم أرَ كاليوم خمرًا أطيَبَ منه لولا أنَّ حُبْلَتَها نبتتْ على قَبر، فقال إيادٌ: لم أرَ كاليوم رجلًا أسْرَى منه لولا أنه ليس لأبيه الذي يُدْعَى له، فقال أنمار: لم أرَ كاليوم كلامًا أَنْفَعَ في حاجتنا من كلامنا، وكان كلامُهم بأُذُنِهِ فقال: ما هؤلاء إلا شياطين، ثم دعا القَهْرَمَان فقال: ما هذه الخمر؟ وما أمرها؟ قال: هي من حُبْلَةٍ غرستُها على قبر أبيك لم يكن عندنا شرابٌ أطيبُ من شرابها، وقال للرَّاعي: ما أمر هذه الشاة؟ قال: هي عَنَاقٌ أرضَعْتُها بلبن كلبة، وذلك أنَّ أمها كانت قد ماتت ولم يكن في الغنم شاةٌ ولدتْ غيرها، ثم أتى أمه فسألها عن أبيه، فأخبرته أنها كانت تحت ملكٍ كثير المال، وكان لا يُولد له، قالت: فخفتُ أن يموت ولا ولد له فيذهب المُلك، فأمكنتُ من نفسي ابنَ عم له كان نازلًا عليه.
فخرج الأفعى إليهم، فقصَّ القومُ عليه قصَّتهم وأخبروه بما أوصى به أبوهم، فقال: ما أشْبَهَ القبة الحمراء من مال فهو لمضر، فذهب بالدنانير والإبل الحمر، فسُمِّي مضر الحمراء لذلك، وقال: وأما صاحب الفرس الأدهم والخِباء الأسود فله كل شيء أسود، فصارت لربيعة الخيل الدُّهْم، فقيل ربيعة الفَرَس، وما أشبه الخادمَ الشَّمْطاء فهو لإيادٍ، فصار له الماشية البُلْق من الحَبَلَّق والنَّقَد فسُمِّي إياد الشَّمْطَاء، وقضى لأنمار بالدراهم وبما فَضَل فسُمِّي أنمار الفضل. فصَدَروا من عنده على ذلك، فقال الأفعى: إن العصا من العُصَيَّة، وإن خُشَيْنًا من أخْشَن، ومُسَاعدة الخاطل تُعدُّ من الباطل، فأرسلهنَّ مُثُلًا، وخُشَيْن وأخشن جَبَلاَن أحدهما أصغر من الآخر، والخاطل الجاهل، والخَطَل في الكلام اضطرابه، والعُصَيَّة تصغير تكبيرٍ مثل: أنا عُذَيْقُها المُرَجَّبُ وجُذَيْلُها المُحَكَّكُ، والمراد أنهم يُشْبهون أباهم في جَوْدة الرأي، وقيل: إنَّ العصا اسم فرس، والعُصَيَّة اسم أمه، يراد أنه يَحْكِي الأم في كَرَم العِرْق وشرف العِتْق.
(٦٨) خَطْبٌ يَسِيرٌ في خَطْبٍ كَبِير
قاله قَصِير بن سَعْد اللَّخْمي لِجَذِيمة بن مالك بن نَصْر الذي يقال له جَذِيمة الأَبْرَش وجَذِيمة الوَضَّاح، والعرب تقول للذي به البَرَصُ: به وَضَح؛ تفاديًا من ذكر البَرَص.
وكان جذيمة مَلِكَ ما على شاطئ الفرات، وكانت الزَّبَّاء ملكةَ الجزيرة، وكانت من أهل بَاجَرْما وتتكلم بالعربية، وكان جَذِيمة قد وتَرها بقتل أبيها، فلما استجمع أمرُها، وانتظم شملُ ملكها، أحَبَّتْ أن تغزو جَذيمة، ثم رأت أن تكتب إليه أنها لم تجد مُلْكَ النساء إلَّا قبيحًا في السَّمَاع وضَعْفًا في السُّلطان، وأنها لم تجد لمُلكها موضعًا ولا لنفسها كُفُوًا غيرك، فأقْبِلْ إليَّ لأجْمَعَ مُلْكي إلى مُلكك، وأصِلَ بلادي ببلادك، وتُقَلَّد أمري مع أمرك. تريد بذلك الغَدْر. فلما أتى كتابُها جذيمةَ وقدم عليه رسُلُها، استخفَّه ما دَعَتْه إليه، ورَغِبَ فيما أطمعته فيه، فجمع أهل الحِجا والرأي من ثِقَاته، وهو يومئذٍ ببَقَّةَ من شاطئ الفُرات، فعرض عليهم ما دعته إليه، وعرضته عليه، فاجتمع رأيهم على أن يسير إليها فيستولي على مُلكها، وكان فيهم قَصير وكان أرِيبًا حازمًا أثيرًا عند جَذيمة، فخالفهم فيما أشاروا به، وقال: رأيٌ فاترٌ وغَدْرٌ حاضرٌ، فذهبت كلمته مثلًا، ثم قال لجذيمة: الرأيُ أن تكتب إليها، فإن كانت صادقةً في قولها فَلْتُقْبِلْ إليك، وإلَّا لم تمكِّنْها من نفسك ولم تَقَعْ في حِبَالتها وقد وَتَرْتَها وقتلتَ أباها، فلم يوافق جذيمة ما أشار به، فقال قَصير:
إنِّي امْرُؤٌ لا يُمِيلُ العَجْزُ تَرْوِيَتِي
إذَا أتَتْ دُونَ شَأْيي مِرَّةُ الرُّزَمِ
فقال جذيمة:
لا، ولكنك امرؤ رأيُكَ في الكِنِّ لا في الضِّحِّ، فذهبت كلمته مثلًا، ودعا جَذيمة عمرو بن عَدِيٍّ ابنَ أخته فاستشاره فشجَّعه على المسير، وقال: إنَّ قومي مع الزَّبَّاء، ولو قد رَأَوْكَ صاروا معك، فأحَبَّ جذيمةُ ما قاله، وعصى قَصِيرًا، فقال قَصِير: لا يُطَاع لقَصِيرٍ أمرٌ، فذهبت مثلًا، واستخلف جذيمةُ عمرَو بن عديٍّ على مُلْكه وسلطانه، وجعل عمرو ابن عبد الجن معه على جنوده وخيوله، وسار جذيمةُ في وُجُوه أصحابه، فأخذ على شاطئ الفُرَات من الجانب الغربي، فلما نزل دعا قصيرًا فقال: ما الرأيُ يا قصير؟ فقال قصير: ببقَّةَ خَلَّفْتُ الرأي، فذهبت مثلًا، قال: وما ظَنُّكَ بالزَّبَّاء؟ قال: القولُ رِدَاف، والحَزْم عَثَراتُه تُخَاف، فذهبت مثلًا. واستقبله رسُلُ الزباء بالهَدَايا والألطاف، فقال: يا قصير، كيف ترى؟ قال: خَطْبٌ يسير في خَطْب كبير، فذهبت مثلًا، وسَتَلْقَاكَ الخيول فإن سارت أمامك فالمرأة صادقة، وإن أخَذَتْ جَنْبَتَيك وأحاطت بك من خلفك فالقومُ غادرون بك، فارْكَبِ العصا فإنه لا يُشَقُّ غُبَارها، فذهبت مثلًا، وكانت العصا فَرَسًا لجذيمة لا تُجَارى، وإني راكبُها ومُسَايرك عليها. فلَقِيَته الخيولُ والكتائب، فحالت بينَهُ وبين العصا، فركبها قصير، ونظر إليه جذيمة على مَتْن العصا مُوَلِّيا فقال: وَيْل أمِّه! حَزْمًا على متن الْعَصَا، فذهبت مثلًا، وجرت به إلى غروب الشمس، ثم نَفَقَتْ، وقد قطعت أرضًا بعيدة، فبنى عليها بُرْجًا يقال له بُرْجُ العصا، وقالت العرب: خَيْرٌ ما جاءت به العصا، فذهبت مثلًا، وسار جَذيمة وقد أحاطت به الخيلُ حتى دخل على الزباء، فرآها على غير أُهْبة العروس، فقال: بَلَغ المَدَى، وجفَّ الثَّرَى، وأمْرَ غَدْرٍ أرى، فذهبت مثلًا. ودعت بالسيف والنِّطَع ثم قالت: إن دماء الملوك شِفَاء من الكَلَب، فأمرت بطَسْت من ذهب قد أعَدَّته له فسَقَتْه الخمرَ حتى سَكِر وأخذت الخمر منه مأخذها، فأمرت بِرَاهِشَيْه فقُطِعا، وقَدَّمت إليه الطَّسْتَ، وقد قيل لها: إنْ قَطَر من دمه شيء في غير الطَّسْت طُلِب بدمه، وكانت الملوك لا تُقْتَل بضرب الأعناق إلا في القتال تَكْرِمةً للمَلك، فلمَّا ضعفت يَدَاه سقطَتَا فقَطَر من دَمه في غير الطست، فقالت: لا تضيِّعوا دم الملك، فقال جذيمة: دَعُوا دَمًا ضيَّعه أهله، فذهبت مثلًا، فهلَكَ جَذيمة، وجعلت الزباء دمه في رَبْعَةٍ لها.
وخرج قصير من الحي الذي هلكت العصا بين أظهُرِهم حتى قدم على عمرو بن عَدِيٍّ وهو بالحِيرَة، فقال له قصير: أثائرٌ أنت؟ قال: بل ثائر سائر، فذهبت مثلًا، ووافق قصيرٌ الناس وقد اختلفوا، فصارت طائفة مع عمرو بن عدي اللَّخْمي، وجماعة منهم مع عمرو بن عبد الجن الجَرْمِيِّ، فاختلف بينهما قصير حتى اصطلحا وانْقَاد عمرو بن عبد الجن لعمرو بن عدي، فقال قصير لعمرو بن عديٍّ: تَهَيَّأْ واستعدَّ ولا تَطُلَّنَّ دم خالك، قال: وكيف لي بها وهي أمْنَعُ من عُقَاب الجوِّ؟ فذهبت مثلًا. وكانت الزباء سألت كاهنةً لها عن هلاكها، فقالت: أرى هلاكك بسبب غلام مَهِين، غير أمينٍ، وهو عمرو بن عدي، ولن تموتي بيده، ولكنْ حَتْفُك بيدك، ومِنْ قِبَله ما يكون ذلك، فحَذِرَتْ عمرًا، واتَّخذت لها نَفَقًا من مجلسها الذي كانت تجلس فيه إلى حصن لها في داخل مدينتها، وقالت: إن فَجَأني أمرٌ دخلت النفق إلى حصني. ودعتْ رجلًا مُصَوِّرًا من أجْوَد أهل بلادهم تصويرًا وأحسنهم عملًا، فجَهَّزَتْه وأحسنت إليه، وقالت: سِرْ حتى تَقْدَم على عمرو بن عدي متنكِّرًا فتخلو بحَشَمه وتنضم إليهم وتُخَالطهم وتُعْلِمُهم ما عندك من العلم بالصُّور، ثم أثبِتْ لي عمرَو بن عدي مَعْرفةً فصَوِّرْهُ جالسًا وقائمًا وراكبًا ومتفضِّلًا ومتسلِّحًا بهيئته ولِبْسته ولونه، فإذا أحكمتَ ذلك فأَقْبِلْ إليَّ. فانطَلَقَ المصوِّر حتى قدم على عمرو بن عدي وصنع ما أمرتْه به الزباء، وبلغ من ذلك ما أوْصَتْه به، ثم رجع إلى الزباء بعمل ما وجَّهَتْه له من الصُّورة على ما وصفتْ وأرادت أنْ تعرف عمرو بن عدي، فلا تراه على حال إلَّا عرفته وحَذِرتْه وعلِمت علمَه. فقال قصير لعمرو بن عدي: اجْدَعْ أنْفِي، واضربْ ظَهْرِي، ودعْني وإيَّاها، فقال عمرو: ما أنا بفاعلٍ، وما أنت لذلك مُسْتَحِقًّا عندي، فقال قصير: خَلِّ عني إذن وخَلَاكَ ذمٌّ، فذهبت مثلًا، فقال له عمرو: فأنت أبْصَرُ، فجَدَع قصير أنفه، وأثَّر آثارًا بظهره، فقالت العرب: لِأَمْرٍ ما جَدَع قصير أنفه، وفي ذلك يقول المتلمِّس:
وفِي طَلَبِ الأوْتَارِ مَا حَزَّ أنْفَهُ
قَصِير ورَام الموتَ بالسَّيْفِ بَيْهس
ثم خرج قصير كأنه هاربٌ، وأظهر أن عَمْرًا فعل ذلك به، وأنه زعَم أنَّه مَكَر بخاله جَذيمة وغَرَّه من الزباء، فسار قصير حتى قدم على الزباء، فقيل لها: إنَّ قصيرًا بالباب، فأمرت به فأُدخل عليها، فإذا أنفُه قد جُدِعَ، وظهرُه قد ضُرب، فقالت: ما الذي أرى بك يا قصير؟ قال: زعم عمرو أني قد غَرَرْت خاله، وزَيَّنْتُ له المَصِيرَ إليك وغَشَشْتُه ومَالَأْتُكِ، ففعل بي ما تَرَيْنَ، فأقْبلتُ إليك وعرفْتُ أني لا أكون مع أحدٍ هو أثقل عليه منك. فأكْرمَتْه وأصابَتْ عنده من الحزم والرأي ما أرادت، فلمَّا عرف أنها استرْسلتْ إليه ووَثِقْت به قال: إنَّ لي بالعراق أموالًا كثيرةً وطَرَائِفَ وثيابًا وعِطْرًا، فابعثيني إلى العراق لأحْمِلَ مالي وأحملَ إليك مِن بُزُورها وطَرَائفها وثيابها وطِيبها، وتُصِيبِينَ في ذلك أرباحًا عِظامًا، وبعضَ ما لا غنًى بالملوك عنه، وكان أكثر
ما يُطْرِفُها من التمر الصَّرَفَان وكان يُعْجبها، فلم يزل يُزَيِّنُ ذلك حتى أذنتْ له ودفعتْ له
أموالًا وجَهَّزتْ معه عَبيدًا، فسار قصير بما دفعتْ إليه حتى قَدِمَ العراق وأتى الحِيرَة متنكِّرًا، فدخل على عمرٍو فأخبره الخبَرَ، وقال: جهِّزْني بصنوف البَزِّ والأمتعة؛ لعل الله يُمكِن من الزباء فتصيبَ ثأرَك وتقتلَ عدوَّك، فأعطاه حاجته، فرجع بذلك إلى الزباء فأعجبها ما رأت وسَرَّها، وازدادت به ثِقَةً وجَهَّزتْه ثانيةً فسار حتى قدم على عمرٍو فجَهَّزه وعاد إليها، ثم عاد الثالثة وقال لعمرٍو: اجْمَعْ لي ثقات أصحابك، وهيِّئ الغَرَائر والمُسُوح، واحْمِلْ كل رجلين على بعير في غِرَارَتَين، فإذا دخلوا مدينة الزباء أقَمْتُكَ على باب نَفَقِها وخَرَجَتِ الرِّجال من الغَرَائر فصاحوا بأهل المدينة، فمن قاتلهم قتلوه، وإن أقبلت الزباء تُرِيدُ النفَق جَلَّلْتَها بالسيف. ففعل عمرو ذلك، وحمل الرجال في الغرائر بالسلاح، وسار يَكْمُنُ النهارَ ويسير الليلَ، فلما صار قريبًا من مدينتها تقدَّمَ قصير فبشَّرَها وأعلمها بما جاء به من المتاع والطرائف، وقال لها: آخِرُ البَزِّ على القَلُوص، فأرسلها مثلًا، وسألها أن تخْرُج فتنظر إلى ما جاء به، وقال لها: جئْتُ بما صَاءَ وصَمَت، فذهبت مثلًا، ثم خرجت الزباء فأبصرت الإبلَ تكاد قوائمُهَا تَسُوخ في الأرض من ثقل أحمالها، فقالت: يا قصير:
مَا لِلْجِمَالِ مَشْيُهَا وَئِيدَا
أَجَنْدَلًا يَحْمِلْنَ أَمْ حَدِيدَا
أَمْ صَرَفَانًا تَارِزًا شَديدَا
فقال قصير في نفسه:
بَلِ الرِّجَالَ قُبَّضًا قُعُودَا
فدخلت الإبلُ المدينةَ حتى كان آخرها بعيرًا مَرَّ على بوَّاب المدينة، وكان بيده مِنْخَسَة، فنَخَس بها الغِرَارة فأصابت خاصِرَةَ الرجل الذي فيها، فسُمِعَ منه صوتٌ، فقال البواب بالرومية ما معناه: شَرٌّ في الجُوالِق، فأرسلها مثلًا. فلما توسَّطت الإبل المدينة أُنِيخَتْ ودلَّ قصير عمرًا على باب النفق الذي كانت الزباء تدخله، وأَرَتْه إياه قَبْلَ ذلك، وخرجت الرجالُ من الغرائر فصاحوا بأهل المدينة ووضعوا فيهم السلاح،
وقام عمرو على باب النفَق، وأقبلت الزباء تريد النفق، فأبصرت عمرًا فعرفته بالصورة التي صُوِّرت لها، فمصَّتْ خاتمها وكان فيه السم، وقالت: بِيَدِي لا بِيَدِ ابنِ عَدِيٍّ، فذهبت كلمتها مثلًا، وتلقَّاها عمرو فجلَّلها بالسيف وقتلها، وأصاب ما أصاب من المدينة وأهلها، وانْكَفأ راجعًا إلى العراق.
فترة الأقامة :
3718 يوم
معدل التقييم :
زيارات الملف الشخصي :
506
إحصائية مشاركات »
المواضيـع
الــــــردود
[
+
]
[
+
]
بمـــعــدل :
4.35 يوميا
عطر الجنة
مشاهدة ملفه الشخصي
إرسال رسالة خاصة إلى عطر الجنة
البحث عن كل مشاركات عطر الجنة