الموضوع
:
أدبيات اللغة العربية
عرض مشاركة واحدة
07-01-2021
#
23
إدارة قناة اليوتوب
بيانات اضافيه [
+
]
رقم العضوية :
426
تاريخ التسجيل :
Mar 2014
أخر زيارة :
منذ 14 ساعات (08:48 PM)
المشاركات :
16,181 [
+
]
التقييم :
9330
MMS ~
لوني المفضل :
Darkturquoise
رد: أدبيات اللغة العربية
103) عهد أمير المؤمنين الإمام علي — وجهه ورضي عنه — للأشْتَر النَّخَعي
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا ما أَمَر به عبد الله عليٌّ أمير المؤمنين مالكَ بن الحارث الأشْتَر في عهده حين ولاه مصر جِباية خَرَاجها وجهاد عدوِّها، وإصلاح أهلها، وعمارة بلادها. أمره بتقوى الله، وإيثار طاعته، واتِّباع ما أمر به في كتابه من فرائضه وسننه التي لا يَسْعَد إلا باتِّباعها، ولا يشقى إلا مع جحودها وإضاعتها،
وأن ينصر الله — سبحانه — بيده وقلبه ولسانه، فإنه — جل اسمه — قد تكفَّل بنصر من نصره، وإعزاز من أعزَّه. وأمره أن يكسر من نفسه عند الشهوات، ويَزَعَها عند الجَمَحَات؛
فإنَّ النفس أمَّارةٌ بالسوء إلا ما رحم الله. ثم اعلم يا مالك أني قد وجهتك إلى بلاد قد جرت عليها دولٌ قبلك من عدلٍ وجورٍ، وأنَّ الناس ينظرون من أمورك في مثل ما كنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك، ويقولون فيك كما كنت تقول فيهم، وإنما يُستدلُّ على الصالحين بما يُجْري الله لهم على ألسنة عباده، فليكن أحب الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح، فاملك هواك، وشُحَّ بنفسك عما لا يحلُّ لك؛ فإن الشحَّ بالنفس الإنصاف منها فيما أحبَّتْ أو كرهتْ. وأشْعِرْ قلبَك الرحمة للرعية، والمحبة لهم، واللطف بهم، ولا تكوننَّ عليهم سَبُعًا ضاريًا تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان: إما أخٌ لك في الدين، وإما نظيرٌ لك في الخَلْق، يَفْرُط منهم الزَّلل، وتَعْرض لهم العلل، ويُؤْتَى على أيديهم في العمد والخطأ، فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب وترضى أن يعطيك الله من عفوه وصفحه، فإنك فوقهم ووالي الأمر عليك فوقك، والله فوق من ولَّاك، وقد اسْتكفاك أمرهم وابتلاك بهم.
ولا تنْصبنَّ نفسك لحرب الله، فإنه لا يَدَيْ لك بنقمته، ولا غنًى بك عن عفوه ورحمته، ولا تندمنَّ على عفو، ولا تَبجَّحنَّ بعقوبة، ولا تُسرعنَّ إلى بادرة وجدت عنها مندوحة، ولا تقولنَّ: إني مُؤَمَّرٌ آمُرُ فأُطاع، فإن ذلك إدْغال في القلب، ومَنْهَكة للدين، وتقرُّبٌ من الغير. وإذا أحدث لك ما أنت فيه من سلطانك أُبَّهةً أو مَخِيلةً، فانظر إلى عظم مُلْك الله فوقك، وقدرته منك على ما لا تقدر عليه من نفسك، فإن ذلك يُطَامن إليك من طِماحك، ويكف عنك من غَرْبك، ويفيء إليك بما عَزَب عنك من عقلك.
وإياك ومُساماة الله في عظمته والتشبه به في جبروته، فإن الله يُذِلُّ كل جبار، ويهين كل محتال. أنصف الله وأنصف الناس من نفسك ومن خاصَّة أهلك، ومن لك فيه هوًى من رعيتك، فإنك إن لا تفعل تظلم، ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده، ومن خاصمه الله أدحض حجَّته، وكان لله حربًا حتى ينزع ويتوب، وليس شيء أدعى إلى تغيير نعمة الله وتعجيل نقمته من إقامة على ظلم، فإن الله سميعٌ دعوةَ المظلومين، وهو للظالمين بالمرصاد. وليكن أحبُّ الأمور إليك أوسطها في الحقِّ، وأعمَّها في العدل، وأجمعها لرضا الرعية، فإن سُخط العامَّة يُجْحف برضا الخاصَّة، وإنَّ سُخط الخاصة يُغْتفر مع رضا العامة، وليس أحدٌ من الرعيَّة أثقل على الوالي مؤونةً في الرخاء، وأقل مَعُونة في البلاء، وأكْره للإنْصاف، وأسْأل بالإلحاف، وأقل شُكرًا عند الإعطاء، وأبطأ عذرًا عند المنع، وأخف صبرًا عند مُلِمَّات الدهر من أهل الخاصة. وإنما عِمَاد الدين وجِماع المسلمين والعُدَّة للأعداء، العامةُ من الأمة، فليكن صفوُك لهم، وميلُك معهم.
وليكن أبعد رعيتك منك وأشنأهم عندك أطلبهم لمعايب الناس، فإنَّ في الناس عيوبًا الوالي أحق من سَتَرها، فلا تكشفنَّ عما غاب عنك منها، فإنما عليك تطهير ما ظَهَرَ لك، والله يحكم على ما غاب عنك، فاستر العورة ما استطعت يستر الله منك ما تحب ستره من رعيتك. أطلق عن الناس عقدة كلِّ حقدٍ، واقطع عنك سبب كلِّ وَتْر، وتَغَابَ عن كلِّ ما لا يصح لك، ولا تعجلنَّ إلى تصديق ساعٍ، فإن الساعي غاشٌّ وإنْ تشبَّه بالناصحين. ولا تُدخلنَّ في مشورتك بخيلًا يعدل بك عن الفضل ويعدك الفقر، ولا جبانًا يضعفك عن الأمور، ولا حريصًا يزيِّن لك الشَّرَه بالجور؛ فإن البخل والجبن والحرص غرائز شتَّى يجمعها سوء الظنِّ بالله.
إنَّ شرَّ وزرائك من كان قبلك للأشرار وزيرًا، ومن شَرِكهم في الآثام، فلا يكوننَّ لك بطانة فإنهم أعوان الأَثَمة وإخوان الظَّلَمة، وأنت واجدٌ منهم خير الخلف ممن له مثل آرائهم ونفاذهم، وليس عليه مثل آصارهم وأوزارهم، ممن لا يعاون ظالمًا على ظلمه، ولا آثمًا على إثمه، أولئك أخفُّ عليك مؤونةً، وأحسن لك معونةً، وأحنى عليك عطفًا، وأقل لغيرك إلْفًا، فاتَّخذ أولئك خاصةً لخَلَوَاتك وحفلاتك، ثم ليكن آثرهم عندك أقوَلهم لك بمُرِّ الحقِّ، وأقلُّهم مساعدة فيما يكون منك مما كره الله لأوليائه واقعًا ذلك من هواك حيث وقع. والْصَقْ بأهل الورع والصدق ثم رُضْهُم على أن لا يُطْرُوك، ولا يُبجِّحوك بباطل لم تفعله، فان كثرة الإطراء تحدِث الزهو وتدْني من العِزَّة.
ولا يكوننَّ المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء، فإن في ذلك تزهيدًا لأهل الإحسان في الإحسان، وتدريبًا لأهل الإساءة على الإساءة، وألْزِم كُلًّا منهم ما ألزم نفسه، واعلم أنه ليس شيء بأدعى إلى حسن ظنِّ والٍ برعيته من إحسانه إليهم وتخفيفه المؤونات عليهم، وترك استكراهه إياهم على ما ليس له قِبَلهم، فليكن منك في ذلك أمر يجمع لك حُسْن الظنِّ برعيتك، فإن حسن الظنِّ يقطع عنك نَصَبًا طويلًا، وإنَّ أحقَّ مَنْ حَسُنَ ظنُّك به لَمن حسن بلاؤك عنده، وإنَّ أحقَّ من ساء ظنك به لَمن ساء بلاؤك عنده. ولا تَنْقُضْ سُنَّةً صالحةً عَمِل بها صدور هذه الأمة، واجتمعت بها الألفة، وصلحت عليها الرعية، ولا تُحدِثنَّ سُنَّةً تضرُّ بشيء مما مضى من تلك السنن، فيكون الأجر لمن سنَّها، والوزر عليك بما نقضت منها.
وأكثر مُدَارسة العلماء ومناقشة الحكماء في تثبيت ما صلح عليه أمر بلادك، وإقامة ما
استقام به الناس قبلك. واعلم أن الرعية طبقات لا يصلح بعضها إلا ببعض، ولا غنًى ببعضها
عن بعض، فمنها جنود الله، ومنها كتَّاب العامة والخاصة، ومنها قضاة العدل، ومنها عمَّال الإنصاف والرفق، ومنها أهل الجزية والخراج من أهل الذمة ومُسْلِمة الناس، ومنها التجار وأهل الصناعات، ومنها الطبقة السفلى من ذوي الحاجة والمسكنة، وكُلًّا قد سمَّى الله سهمه، ووضع على حدِّه فريضةً في كتابه أو سنة نبيه — صل الله عليه وآله — عهدًا منه عندنا محفوظًا. فالجنود بإذن الله حصون الرعية وزَيْن الولاة وعز الدين وسبل الأمن، وليس تقوم الرعية إلا بهم، ثم لا قِوام للجنود إلا بما يخرج الله — تعالى — لهم من الخراج الذي يَقْوُون
به في جهاد عدوهم، ويعتمدون عليه فيما يصلحهم، ويكون من وراء حاجتهم، ثم لا قوام لهذين الصنفين إلا بالصنف الثالث من القضاة والعمال والكتاب؛ لمَا يُحْكمون من المعاقد، ويجمعون من المنافع، ويُؤْتَمنون عليه من خواصِّ الأمور وعوامِّها، ولا قوام لهم جميعًا إلا بالتجار وذوي الصناعات فيما يجتمعون عليه من مرافقهم ويقيمونه من أسواقهم ويَكْفُونهم بالترفق بأيديهم مما لا يبلغ رفق غيرهم، ثم الطبقة السفلى من أهل الحاجة والمسكنة الذين يحقُّ رِفْدهم ومعونتهم، وفي الله لكلٍّ سَعَة، ولكلٍّ على الوالي حقٌّ بقدر ما يُصلحه، وليس يخرج الوالي من حقيقة ما ألزمه الله من ذلك إلا بالاهتمام والاستعانة بالله وتوطين نفسه على لزومه الحق والصبر عليه فيما خف عليه أو ثقل، فولِّ من جنودك أنصحهم في نفسك لله ولرسوله ولإمامك وأطهرَهم جيبًا، وأفضلهم حلمًا، ممن يبطئ عن الغضب، ويستريح إلى العذر، ويرأف بالضعفاء، وينبو على الأقوياء، ممن لا يثيره العنف، ولا يقعد به الضعف.
ثم الْصقْ بذوي المروءات والأحساب وأهل البيوتات الصالحة والسوابق الحسنة، ثم أهل النجدة والشجاعة والسخاء والسماحة، فإنهم جِماعٌ من الكرم وشُعَب من العُرْف، ثم تفقَّد من أمورهم ما يتفقَّده الوالدان من ولدهما، ولا يَتَفاقَمنَّ في نفسك شيء قوَّيتهم به، ولا تَحْقِرنَّ لطفًا تتعاهدهم به وإن قل، فإنه داعيةٌ إلى بذل النصيحة لك، وحسن الظنِّ بك. ولا تدع تفقُّد لطيف أمورهم اتِّكالًا على جسيمها، فإن لليسير من لطفك موضعًا ينتفعون به، وللجسيم موقعًا لا يستغنون عنه. وليكن آثر رءوس جندك عندك من واساهم في معونته، وأفْضلَ عليهم من جِدَته بما يسعهم ويسع من وراءهم من خُلُوف أهلهم، حتى يكون همهم همًّا واحدًا في جهاد العدوِّ، فإن عطفك عليهم يعطف قلوبهم عليك.
وإن أفضل قرَّة عين الولاة استقامة العدل في البلاد، وظهور مودة الرعية، وإنه لا تظهر مودتهم إلا بسلامة صدورهم، ولا تصح نصيحتهم إلا بحيطتهم على ولاة أمورهم وقلة استثقال دولهم، وترك استبطاء انقطاع مدتهم، فافسحْ في آمالهم وواصلْ في حسن الثناء عليهم، وتعديد ما أبلى ذوو البلاء منهم، فإن كثرة الذكر لحسن فعالهم تهُزُّ الشجاع وتحرِّض النَّاكل إن شاء الله تعالى. ثم اعْرفْ لكل امرئ منهم ما أبلى، ولا تضيفنَّ بلاء امرئ إلى غيره، ولا تقصِّرنَ به دون غاية بلائه، ولا يَدْعُونَّك شرف امرئ إلى أن تعظِّم من بلائه ما كان صغيرًا، ولا ضَعَة امرئ أن تستصغر من بلائه ما كان عظيمًا. واردُدْ إلى الله ورسوله ما يُضلعك من الخطوب، ويشتبه عليك من الأمور، فقد قال الله — سبحانه — لقوم أحبَّ إرشادهم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ، فالرَّدُّ إلى الله الأخذ بمحكم كتابه، والردُّ إلى الرسول الأخذ بسنته الجامعة غير المفرِّقة. ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك ممن لا تضيق به الأمور، ولا تُمَحِّكُه الخصوم، ولا يتمادى في الزَّلَّة، ولا يَحْصَر عن الفيء إلى الحق إذا عرفه، ولا تشرف نفسه على طمع، ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه، أَوْقَفَهم في الشبهات، وآخَذَهم بالحجج، وأقلهم تبرمًا بمراجعة الخصم، وأصبرهم على تكشيف الأمور، وأصرمهم عند اتضاح الحكم، ممن لا يزدهيه إطراء، ولا يستميله إغراء، وأولئك قليل. ثم أكثر تعاهد قضائه، وافسح له في البذل ما يزيح علته، وتقل معه حاجته إلى الناس، وأعطه من المنزلة لديك ما لا يَطمع فيه غيره من خاصتك، لتأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك، فانظر في ذلك نظرًا بليغًا، فإن هذا الدين قد كان أسيرًا في أيدي الأشرار، يُعْمل فيه بالهوى وتُطْلب به الدنيا.
ثم انظر في أمور عمالك فاستعملهم اختبارًا، ولا تولِّهِم محاباةً وأثرةً، فإنهم جِماعٌ من شُعَب الجور والخيانة، وتوخَّ منهم أهل التجربة والحياء من أهل البيوتات الصالحة والقِدَم في الإسلام، فإنهم أكرم أخلاقًا، وأصحُّ أعراضًا، وأقل في المطامع إشرافًا، وأبلغ في عواقب الأمور نظرًا، ثم أسبغ عليهم الأرزاق فإن ذلك قوةٌ لهم على استصلاح أنفسهم، وغنًى لهم عن تناول ما تحت أيديهم، وحُجَّة عليهم إن خالفوا أمرك أو خانوا أمانتك. ثم تَفَقَّدْ أعمالهم، وابعث العيون من أهل الصدق والوفاء عليهم، فإنَّ تعاهدك في السر لأمورهم حَدْوةٌ لهم على استعمال الأمانة والرفق بالرعية. وتحفَّظْ من الأعوان، فإنْ أحدٌ منهم بسط يده إلى خيانة اجتمعت بها عليه عندك أخبار عيونك اكتفيت بذلك شاهدًا، فبسطت عليه العقوبة في بدنه، وأخذته بما أصاب من عمله، ثم نصبته بمقام المذلة، ووسمته بالخيانة، وقلدته عار التهمة.
وتفقَّد أمر الخراج بما يُصْلح أهله، فإن في صلاحه وصلاحهم صلاحًا لمن سواهم، ولا صلاح لمن سواهم إلا بهم، لأن الناس كلهم عيالٌ على الخراج وأهله. وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج، لأن ذلك لا يُدرك إلا بالعمارة، ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد، ولم يستقم أمره إلا قليلًا، فإن شكوْا ثَفْلًا أو علة أو انقطاع شِرْب أو بالَّة أو إحالة أرض اغتَمَرها غرقٌ أو أجحف بها عطشٌ، خفَّفْتَ عنهم بما ترجو أن يصلح به أمرهم. ولا يثقلنَّ عليك شيءٌ خفَّفْتَ به المؤونة عنهم، فإنه ذُخْر يعودون به عليك في عمارة بلدك، وتزيين ولايتك، مع استجلابك حسن ثنائهم، وتبجُّحك باستفاضة العدل فيهم، معتمدًا فضل قوَّتهم بما ذخرت عندهم من إجمامك لهم والثقة منهم بما عودتهم من عدلك عليهم في رفقك بهم، فربما حدث من الأمور ما إذا عُوِّل فيه عليهم من بعدُ احتملوه طيبة أنفسهم به، فإن العمران يحتمل ما حمَّلته، وإنما يأتي خراب الأرض من إعواز أهلها، وإنما يُعْوِز أهلها لإشراف أنفس الولاة على الجمع، وسوء ظنهم بالبقاء، وقلة انتفاعهم بالعبر. ثم انظر في حال كُتَّابك فَوَلِّ على أمورك خيرهم، واخصص رسائلك التي تُدْخل فيها مكائدك وأسرارك بأجمعهم لوجوه صالح الأخلاق ممن لا تُبْطره الكرامة فيجترئ بها عليك في خلافٍ لك بحضرة ملأ، ولا تقصِّر به الغفلة عن إيراد مكاتبات عُمَّالك عليك، وإصدار جواباتها على الصواب عنك، فيما يأخذ لك ويعطى منك، ولا يُضْعف عقدًا اعتقده لك، ولا يعجز عن إطلاق ما عُقد عليك، ولا يجهل مبلغ قدر نفسه في الأمور، فإن الجاهل بقدر نفسه يكون بقدر غيره أجهل. ثم لا يكن اختيارك إياهم على فراستك واستنامتك وحسن الظن منك، فإنَّ الرجال يتعرَّفون لفراسات الولاة بتصنُّعهم وحسن خدمتهم، وليس وراء ذلك من النصيحة والأمانة شيء، ولكن اختبرهم بما وَلُوا للصالحين قبلك، فاعمد لأحسنهم في العامة أثرًا، وأعرفهم بالأمانة وجهًا، فإن ذلك دليلٌ على نصيحتك لله ولمن وليت أمره. واجعل لرأس كلٍّ من أمورك رأسًا منهم لا يقهره كبيرُها ولا يتشتت عليه صغيرُها، ومهما كان في كُتَّابك من عيب فتغابيت عنه أُلْزِمْتَه.
ثم استوص بالتجار وذوي الصناعات، وأوصِ بهم خيرًا، المقيم منهم والمضطرب بماله والمترفق ببدنه، فإنهم موادُّ المنافع، وأسباب المرافق، وجُلَّابها من المباعد والمطارح في برِّك وبحرك، وسهلك وجبلك، وحيث لا يلتئم الناس لمواضعها ولا يجترئون عليها، فإنهم سِلْمٌ لا تُخاف بائقته، وصُلْحٌ لا تُخْشَى غائلته. وتفقَّدْ أمورهم بحضرتك وفي حواشي بلادك، واعلم مع ذلك أن في كثير منهم ضيقًا فاحشًا، وشُحًّا قبيحًا، واحتكارًا للمنافع، وتحكُّمًا في البِياعات، وذلك باب مَضرَّة للعامة، وعيبٌ على الولاة، فامنع من الاحتكار، فإن رسول الله — صلى الله عليه وآله — منع منه. وليكن البيع بيعًا سمحًا بموازين عدلٍ وأسعارٍ لا تجحف بالفريقين من البائع والمُبتاع، فمن قارف حُكْرَةً بعد نهيك إياه، فنكِّلْ به وعاقب في غير إسرافٍ. ثم اللهَ اللهَ في الطبقة السُّفلى من الذين لا حيلةَ لهم والمساكين والمحتاجين وأهل البُؤْسى والزَّمْنى، فإن في هذه الطبقة قانعًا ومعتَرًّا، واحفظ الله ما استحفظك من حقه فيهم، واجعل لهم قِسْمًا من بيت مالك وقِسْمًا من غلَّات صوافي الإسلام في كل بلد، فإن للأقصى منهم مثل الذي للأدنى، وكلٌّ قد استُرْعِيت حقَّه فلا يشغلنَّك عنهم بطر، فإنك لا تُعذَر بتضييعك التافه لإحْكامك الكثير المهم، فلا تُشْخِص همك عنهم، ولا تُصعِّر خدَّك لهم، وتفقَّد أمور من لا يصل إليك منهم ممن تقتحمه العيون وتحتقره الرجال، ففرِّغ لأولئك ثقتك من أهل الخشية والتواضع، فليرفع إليك أمورهم، ثم اعمل فيهم بالإعذار إلى الله — سبحانه — يوم تلقاه، فإن هؤلاء من بين الرعية أحوج إلى الإنصاف من غيرهم، فاعْذِر إلى الله في تأدية حقه إليه. وتعهَّد أهل اليتم وذوي الرقَّة في السنِّ ممن لا حيلة له ولا يَنْصِب للمسألة نفسه، وذلك على الولاة ثقيل، والحقُّ كلُّه ثقيل، وقد يخففه الله على أقوام طلبوا العاقبة فصبَّروا أنفسهم ووثقوا بصدق موعود الله لهم. واجعل لذوي الحاجات منك قسمًا تُفرِّغ لهم فيه شخصك، وتجلس لهم مجلسًا عامًّا فتتواضع فيه لله الذي خلقك، وتُقْعِد عنهم جندك وأعوانك من أحراسك وشُرَطك حتى يكلمك متكلمهم غير مُتَتَعْتع، فإني سمعت رسول الله — صلى الله عليه وآله — يقول في غير موطن: «لن تُقَدَّس أمةٌ لا يُؤْخَذ للضعيف فيها حقُّه من القويِّ غير مُتَتَعْتع.» ثم احتمل الخُرْق منهم والعِيَّ، وسَنِّح عنك الضيق والأَنَف يبسط الله عليك بذلك أكناف رحمته، ويوجب لك ثواب طاعته، وأعطِ ما أعطيت هنيئًا، وامنع في إجمالٍ وإعذارٍ.
ثم أمورٌ من أمورك لا بد لك من مباشرتها، منها إجابة عمَّالك بما يَعْيَأ عنه كتَّابك، ومنها إصدار حاجات الناس عند ورودها عليك مما تَحْرَج به صدور أعوانك. وأمْض لكلِّ يوم عمله فإنَّ لكل يوم ما فيه. واجعل لنفسك فيما بينك وبين الله — تعالى — أفضل تلك المواقيت وأجزل تلك الأقسام، وإن كانت كلها لله إذا صلحت فيها النية، وسلمت منها الرعية. وليكن في خاصة ما تخلص لله به دينك إقامةُ فرائضه التي هي له خاصة، فأعط الله من بدنك في ليلك ونهارك، ووفِّ ما تقرَّبت به إلى الله — سبحانه — من ذلك كاملًا غير مَثْلوم ولا منقوص بالغًا من بدنك ما بلغ. وإذا قمت في صلاتك للناس فلا تكوننَّ منفِّرًا ولا مضيِّعًا، فإن في الناس من به العلة وله الحاجة، وقد سألتُ رسول الله — صلى الله عليه وآله — حين وجَّهني إلى اليمن: كيف أصلي بهم؟ فقال: «صلِّ بهم كصلاة أضعفهم، وكن بالمؤمنين رحيمًا.»
وأمَّا بعد، فلا تُطَوِّلنَّ احتجابك عن رعيتك، فإن احتجاب الولاة عن الرعية شُعْبة من الضيق، وقلة علم بالأمور، والاحتجاب منهم يقطع عنهم علم ما احتجبوا دونه، فيصغر عندهم الكبير، ويعظم الصغير، ويقبح الحسن، ويحسن القبيح، ويُشاب الحقُّ بالباطل، وإنما الوالي بشرٌ لا يعرف ما توارى عنه الناس به من الأمور، وليست على الحق سمات تُعرف بها ضروب الصدق من الكذب، وإنما أنت أحد رجلين: إما امرؤٌ سَخَتْ نفسك بالبذل في الحق، ففيمَ احتجابك من واجب حق تعطيه، أو فعلٍ كريم تُسْديه؟ أو مبتلًى بالمنع، فما أسرع كفَّ الناس عن مسألتك إذا أَيِسُوا من بذْلك! مع أن أكثر حاجات الناس إليك مما لا مُؤْنة فيه عليك من شَكَاة مَظْلمة أو طلب إنصاف في معاملة. ثم إن للوالي خاصةً وبطانة فيهم استئثار وتطاولٌ وقلة إنصافٍ في معاملة، فاحسم مادة أولئك بقطع أسباب تلك الأحوال، ولا تقطعنَّ لأحدٍ من حاشيتك وخاصَّتك قطيعة، ولا يَطْمَعنَّ منك في اعتقاد عقدة تضرُّ بمن يليها من الناس في شِرْبٍ أو عمل مشتركٍ يحملون مؤونته على غيرهم، فيكون مَهْنَأ ذلك لهم دونك وعيبه عليك في الدنيا والآخرة. وألْزِم الحق من لزمه من القريب والبعيد، وكن في ذلك صابرًا محتسبًا واقعًا ذلك من قرابتك وخاصتك حيث وقع، وابتغِ عاقبته بما يَثْقُل عليك منه، فإنَّ مغبَّة ذلك محمودة. وإن ظنت الرعية بك حيفًا فأَصْحِرْ لهم بعذرك، واعدلْ عنك ظنونهم بإصْحارك، فإن في ذلك رياضةً منك لنفسك ورفقًا برعيتك وإعذارًا تبلغ به حاجتك من تقويمهم على الحقِّ.
ولا تدفعنَّ صلحًا دعاك إليه عدوك ولله فيه رضًا، فإن في الصلح دَعَةً لجنودك، وراحةً من همومك، وأمنًا لبلادك، ولكن الحذر كل الحذر من عدوِّك بعد صلحه، فإن العدو ربما قارب ليَتَغَفَّل، فخذ بالحزم، واتَّهم في ذلك حسن الظنِّ. وإن عقدت بينك وبين عدوك عقدة أو ألبسته منك ذمَّة فحُطْ عهدك بالوفاء، وارْعَ ذمَّتك بالأمانة، واجعلْ نفسك جُنَّة دون ما أعطيت، فإنه ليس من فرائض الله شيءٌ الناسُ أشدُّ عليه اجتماعًا مع تفرُّق أهوائهم وتشتت آرائهم من تعظيم الوفاء بالعهود، وقد لزم ذلك المشركون فيما بينهم دون المسلمين؛ لما اسْتَوْبَلُوا من عواقب الغدر، فلا تَغْدِرَنَّ بذمَّتك، ولا تَخِيسَنَّ بعهدك، ولا تَخْتِلَنَّ عدوَّك، فإنه لا يجترئ على الله إلا جاهلٌ شقيٌّ. وقد جعل الله عهده وذمَّته أمنًا أفضاه بين العباد برحمته، وحريمًا يسكنون إلى مَنَعَته، ويستفيضون إلى جواره، فلا إِدْغَال ولا مدالسة ولا خداع فيه. ولا تعقد عقدًا تجوز فيه العِلَل، ولا تعوِّلنَّ على لحن قولٍ بعد التأكيد والتَّوْثِقة. ولا يَدْعُونَّك ضيقُ أمرٍ لزِمك فيه عهد الله إلى طلب انفساخه بغير الحقِّ، فإنَّ صبرك على ضيق أمرٍ ترجو انفراجه وفضلَ عاقبته خيرٌ من غدر تخاف تبعته، وأن تحيط بك فيه من الله طَلِبَةٌ، فلا تستقيل فيها دنياك ولا آخرتك.
إياك والدماء وسفكَها بغير حِلِّها، فإنه ليس شيء أدعى لنقمةٍ، ولا أعظم لتبعةٍ، ولا أحرى بزوال نعمة وانقطاع مدة من سفك الدماء بغير حقها، والله — سبحانه — يتولى الحكم بين العباد فيما تسافكوا من الدماء يوم القيامة، فلا تقوِّينَّ سلطانك بسفك دم حرام، فإن ذلك مما يضعفه ويوهنه بل يزيله وينقله، ولا عذر لك عند الله ولا عندي في قتل العمد، لأنَّ فيه قَوَد البدن، وإن ابتُليت بخطأ وأفرط عليك سوطك أو سيفك أو يدك بعقوبة، فإن في الوكزة فما فوقها مَقْتلة، فلا تطمحنَّ بك نخوة سلطانك عن أن تؤدي إلى أولياء المقتول حقَّهم.
وإياك والإعجاب بنفسك والثقة بما يعجبك منها، وحبَّ الإطراء، فإن ذلك من أوثق فرص الشيطان في نفسه ليمحق ما يكون من إحسان المحسنين. وإياك والمنَّ على رعيتك بإحسانك، أو التزيُّد فيما كان من فعلك، أو أن تعِدهم فتُتْبع موعدك بخُلْفِك، فإن المنَّ يبطل الإحسانَ، والتَّزيُّد يذهب بنور الحقِّ، والخُلْف يوجب المقت عند الله والناس، قال الله سبحانه: كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ. وإياك والعجلة بالأمور قبل أوانها، أو التسقُّط فيها عند إمكانها، أو اللَّجاجة فيها إذا تنكَّرت، أو الوَهْن عنها إذا اسْتَوْضَحت، فضعْ كل أمرٍ موضعه، وأوقعْ كل عمل موقعه. وإياك والاستئثار بما الناس فيه أسوةٌ، والتغابي عما يُعنى به مما قد وضح للعيون فإنه مأخوذٌ منك لغيرك، وعما قليلٍ تنكشف عنك أغطية الأمور، ويُنْتصف منك للمظلوم. امْلِك حميَّةَ أنفك، وسَوْرة حدِّك، وسَطْوَة يدك، وغَرْب لسانك، واحترس من كل ذلك بكفِّ البادرة وتأخير السَّطْوة حتى يسكن غضبك فتملك الاختيارَ، ولن تَحْكم ذلك من نفسك حتى تكثر همومك بذكر المعاد إلى ربك.
والواجب عليك أن تتذكَّر ما مضى لمن تقدَّمك من حكومةٍ عادلةٍ، أو سنَّةٍ فاضلةٍ، أو أثرٍ عن نبينا — صلى الله عليه وآله — أو فريضة في كتاب الله، فتقتدي بما شاهدت مما عملنا به فيها، وتجتهد لنفسك في اتِّباع ما عهدت إليك في عهدي هذا، واسْتَوْثَقت به من الحُجَّة لنفسي عليك، لكيلا يكون لك علة عند تَسَرُّع نفسك إلى هواها. وأنا أسأل الله بسعة رحمته، وعظيم قدرته على إعطاء كلِّ رغبة، أن يوفقني وإياك لما فيه رضاه من الإقامة على العُذر الواضح إليه وإلى خلقه، مع حسن الثناء في العباد وجميل الأثر في البلاد، وتمام النعمة وتضعيف الكرامة، وأن يختم لي ولك بالسعادة والشهادة، إنا إلى الله راغبون، والسلامُ على رسول الله صلى الله عليه وآله الطيبين الطاهرين.
ومن ظريف أخبار ابن أبي عتيق أن عثمان بن حيَّان المُرِّي لما دخل المدينة واليًا عليها اجتمع الأشراف عليه من قريش والأنصار، فقالوا له: إنك لا تعمل عملًا أجدى ولا أولى من تحريم الغناء والرثاء، ففعل وأجَّلهم ثلاثًا، فقدِم ابن أبي عتيق في الليلة الثالثة، فحطَّ رحلَه بباب سلامة الزرقاء، وقال لها: بدأتُ بك قبل أن أصير إلى منزلي، فقالت: أوَمَا تدري ما حدث؟ وأخبرتْه الخبرَ، فقال: أقيمي إلى السَّحَر حتى ألقاه، فقالت: إنَّا نخاف أن لا تُغْني شيئًا ونُنْكَظ (أي نُعْجَل)، فقال: إنه لا بأس عليك، ثم مضى إلى عثمان فأستأذن عليه فأخبره أن أحذَّ ما أقدمه عليه حُب التسليم عليه، وقال له: إن أفضل ما عَمِلت به تحريم الغناء والرثاء، فقال: إن أهلك أشاروا عليَّ بذلك، قال: فإنك قد وُفِّقتَ، ولكني رسول امرأةٍ إليك تقول: قد كانت هذه صناعتي فتبت إلى الله منها، وأنا أسألك أيها الأمير أن لا تحول بينها وبين مجاورة قبر النبي ï·؛، فقال عثمان: إذن أدعها لك، قال: إذن لا يدعها الناس، ولكن تدعو بها فتنظر إليها، فإن كانت ممن يُترك تركتها، قال: فادعُ بها، قال: فأمرها ابن أبي عتيق فتقَشَّفَتْ وأخذت سُبْحة في يدها، وصارت إليه، وحدَّثته عن مآثر آبائه، ففَكِه لها، فقال لها ابن أبي عتيق: اقرئي للأمير، ففعلَتْ، فأُعجب بذلك، فقال لها: فاحدي للأمير، فحرَّكه حُدَاؤها، ثم قال لها: غيِّري للأمير، فجعل يُعْجب بذلك عثمان، فقال له ابن أبي عتيق: فكيف لو سمعتها في صناعتها؟ فقال له: قل لها فلتقل، فأمرها فتغنَّتْ:
سَدَدْنَ خَصَاصَ الخَيْمِ لَمَّا دَخَلْنَهُ
بِكُلِّ لَبَانٍ وَاضِح وَجَبين
فنزل عثمان بن حيَّان عن سريره حتى جلس بين يديها، ثم قال: لا والله، ما مثلك يخرج عن المدينة، فقال له ابن أبي عتيق: إذن يقول الناسُ: أذن لسلامة في المُقام ومنع غيرها، فقال له عثمان: قد أذِنتُ لهم جميعًا.
فترة الأقامة :
3718 يوم
معدل التقييم :
زيارات الملف الشخصي :
506
إحصائية مشاركات »
المواضيـع
الــــــردود
[
+
]
[
+
]
بمـــعــدل :
4.35 يوميا
عطر الجنة
مشاهدة ملفه الشخصي
إرسال رسالة خاصة إلى عطر الجنة
البحث عن كل مشاركات عطر الجنة