الموضوع
:
أدبيات اللغة العربية
عرض مشاركة واحدة
07-01-2021
#
29
إدارة قناة اليوتوب
بيانات اضافيه [
+
]
رقم العضوية :
426
تاريخ التسجيل :
Mar 2014
أخر زيارة :
منذ 10 ساعات (08:48 PM)
المشاركات :
16,181 [
+
]
التقييم :
9330
MMS ~
لوني المفضل :
Darkturquoise
رد: أدبيات اللغة العربية
(١١٢) مُشاورة المهدي لأهل بيته في حرب خُراسان
قال ابن عبد ربه في «العِقد الفريد»:
هذا ما تراجع فيه المهدي ووزراؤه، وما دار بينهم من تدبير الرأي في حرب خراسان أيامَ تَحَامَلَت عليهم العمال وأَعْنَفت، فحملتهم الدالَّة وما تقدم لهم من المكانة على أن نكثوا بيعتهم، ونقضوا مَوْثِقَهم، وطردوا العمال، والْتَوَوْا بما عليهم من الخراج. وحمل المهدي ما يحب من مصلحتهم ويكره من عَنَتِهم على أن أقال عثرتهم، واغتفر زلتهم، واحتمل دالَّتَهم؛ تطوُّلًا بالفضل، واتساعًا بالعفو، وأخذًا بالحجة، ورفقًا بالسياسة، ولذلك لم يزل مُذْ حمَّله الله أعباء الخلافة وقلده أمور الرعية رفيقًا بمَدار سلطانه، بصيرًا بأهل زمانه، باسِطًا للْمَعْدَلة في رعيته، تسكن إلى كنفه، وتأنس بعفوه، وتثق بحلمه، فإذا وقعت الأقضية اللازمة والحقوق الواجبة، فليس عنده هوادة ولا إغضاء ولا مداهنة؛ أَثَرَةً للحق، وقيامًا بالعدل، وأخذًا بالحزم.
فدعا أهلَ خُراسان الاغترارُ بحلمه والثقة بعفوه أن كسَّروا الخراج، وطردوا العمال،
وسألوا ما ليس لهم من الحق، ثم خلطوا احتجاجًا باعتذار، وخصومةً بإقرار، وتنصُّلًا باعتلال، فلما انتهى ذلك إلى المهدي خرج إلى مجلس خلائه، وبعث إلى نفرٍ من لُحْمته ووزرائه،
فأعلمهم الحال، واستفهم للرعية، ثم أمر المَوَالِي بالابتداء، وقال للعباس بن محمد: أي عم، تَعَقَّبْ قولنا، وكن حَكَمًا بيننا.
وأرسل إلى ولديه موسى وهارون فأحضرهما الأمر، وشاركهما في الرأي، وأمر محمد بن الليث بحفظ مراجعتهم وإثبات مقالتهم في كتاب.
فقال «سلَّام» صاحب المَظَالم: أيها المهدي، إن في كل أمر غاية، ولكل قوم صناعة استفرغت رأيهم، واستغرقت أشغالهم، واستنفدت أعمارهم، وذهبوا بها وذهبت بهم، وعُرِفوا بها وعُرِفت بهم، ولهذه الأمور التي جعلْتنا فيها غاية وطلبتْ معونتنا عليها أقوام من أبناء الحرب، وساسة الأمور، وقادة الجنود، وفرسان الهَزَاهِز، وإخوان التَّجارب، وأبطال الوقائع، الذين رشَّحتْهم سجالُها، وفيَّأتْهم ظلالُها، وعضَّتهم شدائدها، وقَرَمَتْهم نواجذُها، فلو عَجَمْت ما قِبلهم، وكشفت ما عندهم، لوجدت نظائر تؤيد أمرك، وتجارب توافق نظرك، وأحاديث تقوِّي قلبك. فأما نحن معاشرَ عمالك وأصحاب دواوينك فحسنٌ بنا وكثيرٌ منا أن نقوم بثِقْل ما حمَّلتنا من عملك، واستودعتنا من أمانتك، وشغلتنا به من إمضاء عدلك وإنفاذ حكمك، وإظهار حقك.
فأجابه المهدي:
إن في كل قومٍ حكمة، ولكلِّ زمانٍ سياسة، وفي كل حال تدبيرًا يبطل الآخِرُ الأوَّل، ونحن أعلم بزماننا وتدبير سلطاننا.
قال: نعم، أيها المهدي، أنت مُتَّبع الرأي، وثيق العُقدة، قوي المُنَّة، بليغ الفطنة، معصوم النية، محضور الرَّويَّة، مؤيَّد البديهة، موفَّق العزيمة، مُعَان بالظَّفَر، مهديٌّ إلى الخير، إنْ هممتَ ففي عزمك مواقع الظن، وإنِ اجتمعتَ صَدَع فعلُك مُلْتبسَ الشك، فاعزم يهدِ الله إلى الصواب قلبك، وقل يُنْطِق الله بالحق لسانك، فإن جنودك جمة، وخزائنك عامرة، ونفسك سخية، وأمرك نافذ.
فأجابه المهدي:
إن المشاورة والمناظرة بابا رحمة ومِفتاحَا بركة، لا يَهْلك عليهما رأيٌ، ولا يَتَغَيَّل معهما حزم، فأشيروا برأيكم، وقولوا بما يَحْضُرُكم، فإني من ورائكم، وتوفيق الله من وراء ذلك.
قال الربيع:
أيها المهدي، إن تصاريف وجوه الرأي كثيرة،
وإن الإشارة ببعض معاريض القول يسيرة، ولكن خراسان أرضٌ بعيدة المسافة، متراخية الشُّقَّة، متفاوتة السبيل، فإذا ارتأيتَ من محكم التدبير، ومُبْرَم التقدير، ولباب الصواب رأيًا قد أحكمه نظرك، وقلَّبه تدبيرك، فليس وراءه مذهب طاعن، ولا دونه مَعْلَقٌ لخصومة عائب، ثم أجبْتَ البُرُد به، وانطوت الرسل عليه؛ كان بالْحَرَى ألَّا يصل إليهم مُحْكَمُه إلَّا وقد حدث منهم
ما ينقضه، فما أيسر أن ترجع إليك الرسل وتَرِد عليك الكتب بحقائق أخبارهم، وشوارد
آثارهم، ومصادر أمورهم، فتُحدث رأيًا غيره، وتبتدع تدبيرًا سواه. وقد انفرجت الحِلَق
وتحلَّلت العقد، واسترخى الحِقَاب وامتد الزمان، ثم لعلَّما موقع الآخرة كمصدر الأولى، ولكن الرأي لك أيها المهدي — وفقك الله — أن تصرف إجالة النظر وتقليب الفِكَر فيما جمعتنا له واستشرتنا فيه من التدبير لحربهم والحِيَل في أمرهم، إلى الطلب لرجلٍ ذي دين فاضل، وعقل كامل، وورع واسع، ليس موصوفًا بهوًى في سواك، ولا متَّهمًا في أَثَرَة عليك، ولا ظَنِينًا على دُخْلةٍ مكروهة، ولا منسوبًا إلى بدعة محذورة، فيقدح في مُلكك، ويُريض الأمور لغيرك. ثم تُسْند إليه أمورهم، وتفوِّض إليه حربهم، وتأمره في عهدك ووصيتك إياه بلزوم أمرك ما لَزِمه الحزم، وخلاف نهيك إذا خالفه الرأي عند استحالة الأمور واشتداد الأحوال، التي يَنْقضُّ أمر الغائب عنها، ويثبُت رأي الشاهد لها. فإنه إذا فعل ذلك فواثَب أمرهم من قريب، وسقط عنه ما يأتي من بعيد، تمت الحيلة، وقويَت المكيدة، ونَفَذ العمل، وأُحِدَّ النظر إن شاء الله.
قال الفضل بن العباس:
أيها المهدي، إن وليَّ الأمور،
وسائس الحروب، ربما نحَّى جنوده، وفرَّق أمواله في غير ما ضِيق أمر حَزَبَه، ولا ضَغْطة
حالٍ اضطرته، فيقعد عند الحاجة إليها وبعد التفرقة لها عديمًا منها، فاقدًا لها، لا يثق بقوة،
ولا يصول بعُدَّة، ولا يفزع إلى ثقة. فالرأي لك أيها المهدي — وفقك الله — أن تُعْفي خزائنك من الإنفاق للأموال، وجنودك من مكابدة الأسفار، ومقارعة الأخطار، وتغرير القتال،
ولا تسرع للقوم في الإجابة إلى ما يطلبون والعطاء لما يسألون، فيفسُد عليك أدبُهم، وتجرِّئ
من رعيتك غيرهم، ولكن اغْزُهم بالحيلة، وقاتلهم بالمكيدة، وصارِعْهم باللِّين، وخاتِلْهم بالرفق، وأبرق لهم بالقول، وأرْعِد نحوهم بالفعل، وابعث البعوث، وجنِّد الجنود، وكَتِّب الكتائب، واعقد الألوية، وانصِب الرايات، وأَظْهِر أنك موجِّه إليهم الجيوش مع أحنق قوَّادك عليهم، وأسوئهم أثرًا فيهم، ثم ادسُس الرسل، وابثُث الكتب، وضَعْ بعضهم على طمع من وعدك، وبعضًا على خوف من وعيدك، وأوْقد بذلك وأشباهه نيران التحاسد فيهم، واغرس أشجار التنافس بينهم، حتى تملأ القلوب من الوحشة، وتنطوي الصدور على البِغْضة، ويدخل كلًّا من كلٍّ الحذر والهيبة، فإن مرام الظَّفَر بالغِيلة، والقتال بالحيلة، والمُناصبة بالكتب، والمُكايدة بالرُّسل، والمُقارعة بالكلام اللطيف المُدْخَل في القلوب، القويِّ الموقع من النفوس، المعقود بالحجج، الموصول بالحيل، المبني على اللين، الذي يستميل القلوب، ويسترقُّ العقول والآراء، ويستميل الأهواء، ويستدعي المُواتاة؛ أنفذُ من القتال بظُبَات السيوف وأسنَّة الرماح. كما أن الوالي الذي يستنزل طاعة رعيته بالحيل، ويُفرِّق كلمة عدوه بالمكايدة، أحكمُ عملًا وألطف منظرًا وأحسن سياسةً من الذي لا ينال ذلك إلا بالقتال، والإتلاف للأموال، والتغرير والخِطَار. وليعلم المهدي أنه إن وجَّه لقتالهم رجلًا، لم يسِرْ لقتالهم إلا بجنود كثيفة تخرج عن حال شديدة، وتُقدم على أسفارٍ ضيقة، وأموالٍ متفرقة، وقواد غَشَشَة، إنِ ائْتمنهم استنفدوا ماله، وإنِ استنصحهم كانوا عليه لا له.
قال المهدي:
هذا رأيٌ قد أسفر نوره، وأبرق ضَوْءُه، وتمثَّل صوابه للعيون، ومَجُد حقُّه في القلوب، ولكن فوق كل ذي علم عليم. ثم نظر إلى ابنه علي فقال: ما تقول؟
قال علي:
أيها المهدي، إن أهل خراسان لم يخلعوا عن طاعتك، ولم يَنْصِبوا من دونك أحدًا يقدح في تغيير ملكك، ويُريض الأمور لفساد دولتك، ولو فعلوا لكان الخطب أيسر، والشأن أصغر، والحال أدلَّ؛ لأن الله مع حقه الذي لا يَخْذُله، وعند موعده الذي لا يُخْلفه، ولكنهم قوم من رعيتك، وطائفة من شيعتك، الذين جعلك الله عليهم واليًا، وجعل العدل بينك وبينهم حاكمًا، طلبوا حقًّا، وسألوا إنصافًا، فإن أَجبت إلى دعوتهم، ونفَّست عنهم قبل أن يتلاحم منهم حال، أو يحدث من عندهم فَتْق، أطعت أمر الرب، وأطفأت ثائرة الحرب، ووفَّرت خزائن المال، وطرحت تغرير القتال، وحَمَل الناس محمل ذلك على طبيعة جودك وسجية حلمك، وإسْجَاح خليقتك، ومَعْدَلة نظرك، فأَمِنْت أن تُنْسَب إلى ضُعْف، وأن يكون ذلك فيما بقي دُرْبَةً. وإنْ منعتهم ما طلبوا، ولم تجبهم إلى ما سألوا، اعتدلتْ بك وبهم الحال، وساويتهم في ميدان الخطاب. فما أرَبُ المهدي أن يَعْمِد إلى طائفةٍ من رعيته، مقرِّين بمَمْلكته، مذعنين بطاعته، لا يُخرجون أنفسهم عن قدرته، ولا يُبَرِّئونها من عبوديته، فيُمَلِّكهم أنفسهم، ويخلع نفسه عنهم، ويقف على الحيل معهم، ثم يجازيهم السوء في حدِّ المنازعة، ومضمار المخاطرة؟ أيريد المهدي — وفقه الله — الأموال؟ فلعمري لا ينالها ولا يظفر بها إلا بإنفاق أكثر منها مما يطلُب منهم، وأضعاف ما يدَّعي قِبلهم، ولو نالها فحُملت إليه، أو وُضِعت بخرائطها بين يديه، ثم تجافى لهم عنها، وطال عليهم بها؛ لكان مما إليه يُنسَب وبه يُعرف من الجود الذي طبعه الله عليه، وجعل قرَّة عينه ونَهْمَة نفسه فيه.
فإن قال المهدي:
هذا رأيٌ مستقيم سديد في أهل الخراج الذين شَكَوْا ظلم عُمَّالنا وتحامُل وُلاتنا، فأما الجنود الذين نقضوا مواثيق العهود، وأنطقوا لسان الإرجاف، وفتحوا باب المعصية، وكسَّروا قيد الفتنة، فقد ينبغي لهم أن أجعلهم نكالًا لغيرهم، وعظةً لسواهم؛ فيعلم المهدي أنه لو أُتِى بهم مَغْلولين في الحديد، مُقرَّنين في الأصفاد، ثم اتَّسع لحقن دمائهم عفوُه، ولإقالة عثرتهم صفحُه، واستبقاهم لما هم فيه من حزْبه، أو لمن بإزائهم من عدوِّه، لمَا كان بِدْعًا من رأيه، ولا مُسْتَنْكرًا من نظره. لقد علمت العرب أنه أعظم الخلفاء والملوك عفوًا، وأشدُّها وقعًا، وأصدقها صولة، وأنه لا يتعاظمه عفو ولا يَتَكَاءَدُه صفح، وإنْ عظم الذنب وجلَّ الخطب؛ فالرأي للمهدي — وفقه الله تعالى — أن يَحُلَّ عقدة الغيظ بالرجاء لِحُسن ثواب الله في العفو عنهم، وأن يذكر أُولَى حالاتهم وضَيْعَة عِيالاتهم، بِرًّا بهم، وتَوَسُّعًا لهم، فإنَّهم إخوان دولته، وأركان دعوته، وأساس حقه، الذين بعزتهم يصول، وبحجتهم يقول. وإنما مَثَلُهم فيما دخلوا فيه من مساخِطِه، وتعرَّضوا له من معاصيه، وانْطَوَوْا فيه عن إجابته، ومَثَلُه في قلَّة ما غيَّر ذلك من رأيه فيهم، أو نُقِل من حاله لهم، أو تغيَّر من نعمته بهم؛ كمَثَل رجلين أخوين متناصرين متوازرين، أصاب أحدهما خَبْلٌ عارض، ولهوٌ حادث، فنهض إلى أخيه بالأذى، وتحامل عليه بالمكروه، فلم يزْدد أخوه إلا رِقَّةً له، ولُطْفًا به، واحتيالًا لمداواة مرضه، ومراجعة حاله، عطفًا عليه، وبِرًّا به، ومَرْحَمة له.
فقال المهدي:
أمَّا عليٌّ فقد كَوَى سمت اللَّبَان، وفض القلوب في أهل خراسان، ولكل نبأ مستقر. فقال: ما ترى يا أبا محمد؟ يعني موسى ابنه.
فقال موسى:
أيها المهدي، لا تسكُنْ إلى حلاوة ما يجري من القول على ألسنتهم، وأنت ترى الدماء تسيل من خَلَل فعلهم. الحال من القوم يُنادي بمَضْمَرة شر، وخفِيَّة حقد، قد جعلوا المعاذير عليها سترًا، واتخذوا العلل من دونها حجابًا؛ رجاء أن يُدَافعوا الأيام بالتَّأخير، والأمور بالتطويل، فيكسِروا حيل المهدي فيهم، ويُفنُوا جنوده عنهم حتى يتلاحم أمرهم، وتتلاحق مادَّتهم، وتَسْتَفحل حربهم، وتستمر الأمور بهم، والمهديُّ من قولهم في حال غِرَّة، ولباس أَمَنَة، قد فَتَرَ لها، وأَنِس بها، وسكن إليها. ولولا ما اجتمعتْ به قلوبهم، وبَرَدَت عليه جلودهم من المُنَاصبة بالقتال، والإضمار للْقِراع عن داعية ضلال أو شيطان فساد؛ لَرَهِبوا عواقب أخبار الوُلَاة، وغِبَّ سكون الأمور، فلْيَشدُدِ المهدي — وفقه الله — أزْرَه لهم، ويُكتِّب كتائبه نحوهم، وليضع الأمر على أشد ما يحضره فيهم، وليوقن أنه لا يعطيهم خطةً يريد بها صلاحهم إلا كانت دُربة إلى فسادهم، وقوةً على معصيتهم، وداعيةً إلى عودتهم، وسببًا لفساد من بحضرته من الجنود، ومن ببابه من الوفود الذين أقرَّهم وتلك العادة، وأجراهم على ذلك الأَرَب، ولم يَبْرح في فتق حادث، وخلاف حاضر، لا يصلُح عليه دين، ولا تستقيم به دنيا. وإن طلب تغييره بعد استحكام العادة، واستمرار الدُّرْبَة، لم يصل إلى ذلك إلَّا بالعقوبة المُفْرطة، والمُؤْنة الشديدة. والرأي للمهدي — وفقه الله — أن لا يُقيل عثرتهم، ولا يقبل معذرتهم، حتى تطأهم الجيوش، وتأخذهم السيوف، ويَسْتَحِرَّ بهم القتل، ويُحْدِق بهم الموت، ويحيط بهم البلاء، ويُطْبِق عليهم الذل، فإن فعل المهدي بهم ذلك كان مَقْطَعَةً لكل عادة سوء فيهم، وهزيمةً لكل بادرة شرٍّ فيهم، واحتمال المهدي في مؤونة غزوتهم هذه تضع عنه غزواتٍ كثيرة ونفقات عظيمة.
قال المهدي: قد قال القوم، فاحكم يا أبا الفضل.
فقال العباس بن محمد:
أيها المهدي، أما «المَوَالِي» فأخذوا بفروع الرأي، وسلكوا جنبات الصواب، وتعدَّوْا أمورًا قصَّر بنظرهم عنها أنه لم تأت تجاربهم عليها. وأما «الفضل» فأشار بالأموال ألَّا تُنفق، والجنود ألَّا تفرَّق، وبأن لا يعطى القوم ما طلبوا، ولا يُبْذل لهم ما سألوا، وجاء بأمرٍ بين ذلك، استصغارًا لأمرهم واستهانةً بحربهم، وإنما يَهِيج جَسيمات الأمور صغارُها. وأما «عليٌّ» فأشار باللين وإفراط الرفق. وإذا جرَّد الوالي لمن غَمِط أمره وسفِه حقَّه اللِّين بحتًا والخير محضًا، لم يخلطهما بشدة تعطف القلوب عن لينه، ولا بشَرٍّ يحبسهم إلى خيره؛ فقد ملَّكهم الخلع لعذرهم ووسَّع لهم الفُرجة لثَنْى أعناقهم. فإن أجابوا دعوته وقبلوا لينه من غير خوف اضطرهم ولا شدة، فَنَزْوَةٌ في رءوسهم، يستدعون بها البلاء إلى أنفسهم، ويستصرخون بها رأي المهدي فيهم. وإن لم يقبلوا دعوته ويسرعوا لإجابته باللِّين المحض والخير الصُّراح، فذلك ما عليه الظن بهم والرأي فيهم وما قد يشبه أن يكون من مِثْلهم؛ لأن الله — تعالى — خلق الجنة وجعل فيها من النعيم المقيم والمُلْك الكبير ما لا يخطر على قلب بشر، ولا تدركه الفِكَر، ولا تعلمه نفس، ثم دعا الناس إليها ورغَّبهم فيها، فلولا أنه خلق نارًا جعلها لهم رحمةً يسوقهم بها إلى الجنة، لمَا أجابوا ولا قبِلوا.
وأما «موسى» فأشار بأن يُعْصَبوا بشدةٍ لا لين فيها، وأن يُرْمَوْا بشرٍّ لا خير معه. وإذا أضمر الوالي لمن فارق طاعته وخالف جماعته الخوفَ مفردًا والشر مجردًا ليس معهما طمع ولا لين يثنيهم، اشتدت الأمور بهم، وانقطعت الحال منهم إلى أحد أمرين: إما أن تدخلهم الحميَّة من الشدة، والأَنَفَة من الذِّلَّة، والامتعاض من القهر، فيدعوهم ذلك إلى التمادي في الخلاف، والاستبسال في القتال، والاستسلام للموت، وإما أن ينقادوا بالكُره، ويُذعنوا بالقهر، على بِغْضةٍ لازمة، وعداوة باقية، تورث النفاق، وتُعْقِب الشقاق، فإذا أمكنتهم فرصة، أو ثَابَتْ لهم قدرة، أو قَوِيت لهم حالٌ، عاد أمرهم إلى أصعب وأغلظ وأشد مما كان.
وقال في قول الفضل: أيها المهدي، أكْفَى دليل، وأوضح برهان، وأبين خبر بَانَ، قد أجمع رأيه، وحَزُم نظره على الإرشاد ببعثة الجيوش إليهم، وتوجيه البعوث نحوهم، مع إعطائهم ما سألوا من الحق، وإجابتهم إلى ما سألوه من العدل.
قال المهدي: ذلك رأيٌ.
قال هارون: ما خُلطت الشدة — أيها المهدي — باللِّين فصارت الشدة أمرَّ فِطامٍ لمَا تكره، وعاد اللين أهدى قائد إلى ما تحب، ولكن أرى غير ذلك.
قال المهدي: لقد قلت قولًا بديعًا، وخالفت فيه أهل بيتك جميعًا، والمرء مؤتمَن بما قال وظَنِين بما ادَّعى، حتى يأتي ببينة عادلة، وحجة ظاهرة، فاخرُج عما قلت.
قال هارون:
أيها المهدي، إن الحرب خُدعة، والأعاجم قومٌ مَكَرة، وربما اعتدلت الحال بهم، واتفقت الأهواء منهم، فكان باطن ما يُسِرُّون على ظاهر ما يعلنون، وربما افترقت الحالان، وخالف القلبَ اللسان، فانطوى القلب على محجوبة تُبْطن، واستسرَّ بمدْخولة لا تُعلن، والطبيب الرفيق بطبِّه، البصير بأمره، العالم بمُقَدَّم يده، وموضع مِيسمه، لا يتعجل بالدواء حتى يقع على معرفة الداء. فالرأي للمهدي — وفقه الله — أن يَفِرَّ باطن أمرهم فَرَّ المُسِنَّة، ويَمْخَض ظاهر حالهم مَخْض السِّقاء، بمتابعة الكتب، ومظاهرة الرسل، وموالاة العيون، حتى تُهتك حُجُب عيونهم، وتُكشف أغطية أمورهم. فإن انفرجت الحال وأفضت الأمور به إلى تغيير حال أو داعية ضلال، اشتملت الأهواء عليه وانقاد الرجال إليه، وامتدَّت الأعناق نحوه بدين يعتقدونه وإثم يستحلُّونه؛ عَصَبَهم بشدةٍ لا لين فيها، ورماهم بعقوبة لا عفو معها، وإنِ انفرجت العيون، واهتُصرت السُّتور، ورُفعت الحُجُب، والحال فيهم مَرِيعة، والأمور بهم معتدلة في أرزاق يطلبونها، وأعمال ينكرونها، وظُلَامات يَدَّعُونها، وحقوقٍ يسألونها بماتَّة سابقتهم ودالَّة مُناصحتهم؛ فالرأي للمهدي — وفقه الله — أن يتسع لهم بما طلبوا، ويتجافى لهم عما كرهوا، ويَشْعَب من أمرهم ما صدعوا، ويَرْتُق من فتقهم ما قطعوا، ويُولِّي عليهم من أحبُّوا، ويداوي بذلك مرض قلوبهم، وفساد أمورهم، فإنما المهدي وأمته وسواد أهل مملكته بمنزلة الطبيب الرفيق، والوالد الشفيق، والراعي المُجرِّب الذي يحتال لمرابض غنمه، وضوالِّ رعيته، حتى يُبرئ المريضة من داء علتها، ويرد الصحيحة إلى أُنْس جماعتها.
ثم إن خراسان بخاصة الدين لهم دالَّة محمولة، وماتَّة مقبولة، ووسيلة معروفة، وحقوق واجبة؛ لأنهم أيدي دولته، وسيوف دعوته، وأنصار حقه، وأعوان عدله، فليس من شأن المهدي الاضطِغان عليهم، ولا المؤاخذة لهم، ولا التَّوْغِير بهم، ولا المكافأة بإساءتهم؛ لأن مبادرة حسم الأمور ضعيفة قبل أن تقوى ومحاولة قطع الأصول ضئيلة قبل أن تغلُظ، أحزمُ في الرأي وأصح في التدبير من التأخير لها والتهاون بها حتى يلتئم قليلها بكثيرها وتجتمع أطرافها إلى جمهورها.
قال المهدي:
ما زال هارون يقع وقع الحيا حتى خرج خروج القِدْح من الماء، وانسلَّ انسلال السيف فيما ادَّعى، فدَعُوا ما سبق موسى فيه أنه هو الرأي، وثنَّى بعده هارون، ولكن من لأعنَّة الخيل وسياسة الحرب وقادة الناس، إن أمعن بهم اللَّجَاج وأفرطت بهم الدالَّة؟
قال صالح: لسنا نبلغ — أيها المهدي — بدوام البحث وطول الفكر أدنى فراسة رأيك وبعض لحظات نظرك، وليس ينفضُّ عنك من بيوتات العرب ورجال العجم ذو دين فاضل ورأي كامل، وتدبير قوي، تقلِّده حربك، وتستودعه جندك، ممن يحتمل الأمانة العظيمة، ويضطلع بالأعباء الثقيلة. وأنت — بحمد الله — ميمون النقيبة، مبارك العزيمة، مَخْبور التجارب، محمود العواقب، معصوم العزم، فليس يقع اختيارك ولا يقف نظرك على أحد تولِّيه أمرك وتُسند إليه ثغرك إلا أراك الله ما تحب وجمع لك منه ما تريد.
قال المهدي: إني لأرجو ذلك؛ لقديم عادة الله فيه، وحسن معونته عليه، ولكن أحب الموافقة على الرأي، والاعتبار للمشاورة في الأمر المهم.
قال محمد بن الليث: أهل خراسان — أيها المهدي — قومٌ ذَوُو عزة ومنعة، وشياطين خَدَعة، زُروع الحمية فيهم نابتة، وملابس الأَنَفَة عليهم ظاهرة، فالرَّوِيَّة عنهم عازبة، والعَجَلَة عنهم حاضرة، تسبق سيولُهم مطرَهم، وسيوفُهم عَذَلَهم؛ لأنهم بين سِفْلَة لا يعدو مبلغ عقولهم منظر عيونهم، وبين رؤساء لا يُلْجَمون إلَّا بشدة ولا يُفْطمون إلَّا بالمُرِّ، وإنْ ولَّى المهدي عليهم وضيعًا لم تَنْقَدْ له العظماء، وإنْ ولَّى أمرهم شريفًا تحامل على الضعفاء، وإنْ أخَّر المهديُّ أمرهم ودافع حربهم حتى يصيب لنفسه من حشمه ومواليه أو بني عمه أو بني أبيه، ناصحًا يتفق عليه أمرهم، وثقةً تجتمع له أَمْلَاؤهم، بلا أنفة تلزمهم، ولا حمية تَدْخُلهم، ولا مصيبة تُنفِّرهم؛ تنفَّست الأيام بهم، وتراخت الحال بأمرهم، فدخل بذلك من الفساد الكبير والضياع العظيم ما لا يتلافاه صاحبُ هذه الصفة وإن جَدَّ، ولا يستصلحه وإن جَهَد، إلا بعد دهر طويل، وشر كبير.
وليس المهدي — وفقه الله — فاطمًا عاداتهم ولا قارعًا صَفَاتَهم بمثل أحد رجلين لا ثالث لهما، ولا عِدْل في ذلك بهما: أحدهما لسانٌ ناطق موصول بسمعك، ويدٌ ممثِّلة لعينك، وصخرة لا تُزَعْزع، وبُهْمَة لا تُثْنَى، وبازِلٌ لا يُفزعه صوت الجُلْجُل، نقي العِرض، نزيه النفس، جليل الخطر، قد اتَّضعت الدنيا عن قدره، وسما نحو الآخرة بهمَّته، فجعل الغرض الأقصى لعينه نُصْبًا، والغرض الأدنى لقدمه موطئًا، فليس يَقْبل عملًا ولا يتعدَّى أملًا، وهو رأس مواليك، وأنصح بني أبيك، رجل قد غُذِّي بلطيف كرامتك، ونبت في ظل دولتك، ونشأ على قوائم أدبك، فإن قَلَّدته أمرهم، وحمَّلته ثِقْلهم، وأسندت إليه ثغرهم؛ كان قُفْلًا فتحه أمرك، وبابًا أغلقه نَهْيُك، فجعل العدل عليه وعليهم أميرًا، والإنصاف بينه وبينهم حاكمًا.
وإذا حكم المَنْصَفة وسلك المَعْدَلة فأعطاهم ما لهم وأخذ منهم ما عليهم، غرس في الذي لك بين صدورهم، وأسكن لك في السُّويداء داخل قلوبهم طاعةً راسخة العروق، باسقة الفروع، متماثلةً في حواشي عَوَامِّهم، متمكنة من قلوب خواصِّهم، فلا يبقى فيهم ريبٌ إلَّا نَفَوْه، ولا يلزمهم حق إلَّا أدُّوه، وهذا أحدهما. والآخر عُودٌ من غَيْضَتك، ونَبْعَةٌ من أُرُومَتك، فتيُّ السن، كهل الحِلْم، راجح العقل، محمود الصَّرَامة، مأمون الخلاف، يجرِّد فيهم سيفه، ويبسط عليهم خيره بقدر ما يستحقون، وعلى حسب ما يستوجبون، وهو فلان أيها المهدي، فسلِّطْه — أعزك الله — عليهم، ووجِّهْه بالجيوش إليهم، ولا تمنعْك ضراعة سِنِّه وحداثة مولده؛ فإنَّ الحِلْم والثقة مع الحداثة خيرٌ من الشك والجهل مع الكهولة. وإنما أحداثكم — أهلَ البيت — فيما طبعكم الله عليه واختصَّكم به من مكارم الأخلاق، ومحامد الفعال، ومحاسن الأمور، وصواب التدبير، وصرامة الأنفس؛ كفِراخِ عِتاق الطير المحكِمة لأخذ الصيد بلا تدريب، والعارفة لوجوه النفع بلا تأديب، فالحِلْم والعلم والعزم والحزم والجود والتُّؤدة والرفق ثابتٌ في صدوركم، مزروع في قلوبكم، مُسْتحكِم لكم، متكامل عندكم، بطبائع لازمة وغرائز ثابتة.
قال معاوية بن عبد الله: فِتَاءُ أهل بيتك — أيها المهدي — في الحلم على ما ذُكر، وأهل خراسان في حال عز على ما وُصف، ولكن إن ولَّى المهديُّ عليهم رجلًا ليس بقديم الذِّكر في الجنود، ولا بنَبِيه الصوت في الحروب، ولا بطويل التجربة للأمور، ولا بمعروف السياسة للجيوش والهيبة في الأعداء؛ دخل ذلك أمران عظيمان وخطران مَهُولان: أحدهما أن الأعداء يَغْتَمزونها منه، ويحتقرونها فيه، ويجترئون بها عليه في النهوض به والمقارعة له والخلاف عليه، قبل الاختبار لأمره والتكشُّف لحاله والعلم بطباعه. والأمر الآخر أن الجنود التي يقود، والجيوش التي يسوس، إذا لم يختبروا منه البأس والنجدة ولم يعرفوه بالصِّيت والهيبة، انكسرت شجاعتهم، وماتت نجدتهم، واستأخرت طاعتهم إلى حين اختبارهم ووقوع معرفتهم، وربما وقع البوار قبل الاختبار. وبباب المهدي — وفقه الله — رجل مَهيب نَبِيه حَنيك صَيِّتٌ، له نسب زاكٍ وصوت عالٍ، قد قاد الجيوش وساس الحروب، وتألَّف أهل خراسان واجتمعوا عليه بالمِقَة ووثقوا به كل الثقة، فلو ولَّاه المهدي أمرَهم لكفاه الله شرهم.
قال المهدي: جانبت قصد الرَّميَّة، وأبيت إلَّا عصبية، إذْ رأي الحَدَث من أهل بيتنا كرأي عشرة حُلماء من غيرنا، ولكن أين تركتم ولي العهد؟
قالوا: لم يمنعنا من ذكره إلا كونه شبيه جَدِّه، ونسيج وَحْدِه، ومن الدين وأهله بحيث يقصر القول عن أدنى فضله، ولكن وجدنا الله — عز وجل — حجب عن خلقه وستر من دون عباده علم ما تختلف به الأيام، ومعرفة ما تجري عليه المقادير من حوادث الأمور، وريب المنون المُخْتَرِمة لخوالي القرون ومواضي الملوك، فكرِهنا شُسُوعه عن مَحَلَّة المُلْك ودار السلطان، ومقر الإمامة والولاية، وموضع المدائن والخزائن، ومستقر الجنود، ومعدِن الجود، ومَجْمَع الأموال، التي جعلها الله قطبًا لمدار المُلك، ومِصْيَدَة لقلوب الناس، ومثابة لإخوان الطمع، وثوَّار الفتن، ودواعي البدع، وفرسان الضلال، وأبناء الموت، وقلنا: إن وجَّه المهدي ولَّى عهده فحدث في جيوشه وجنوده ما قد حدث بجنود الرسل من قبله، لم يستطع المهدي أن يُعْقبهم بغيره، إلَّا أنْ يَنْهَدَ إليهم بنفسه، وهذا خطر عظيم وهول شديد إن تنفست الأيام بمقامه، واستدارت الحال بإمامه، حتى يقع عوض لا يُسْتَغْنى عنه، أو يحدث أمر لا بد منه، صار ما بعده مما هو أعظم هولًا وأجل خطرًا له تبعًا وبه متصلًا.
قال المهدي: الخطب أيسر مما تذهبون إليه، وعلى غير ما تصفون الأمر عليه، نحن أهل البيت نجري من أسباب القضايا ومواقع الأمور على سابقٍ من العلم ومحتوم من الأمر، قد أنْبأت به الكتب، ونبَّأَت عليه الرسل، وقد تناهى ذلك بأجمعه إلينا، وتكامل بحذافيره عندنا، فبه نُدبِّر، وعلى الله نتوكل. إنه لا بد لوليِّ عهدي، ووليِّ عهد عَقِبي بعدي، أن يقود إلى خراسان البعوث، ويتوجَّه نحوها بالجنود. أما الأول فإنه يُقدم إليهم رسله، ويُعمل فيهم حيله، ثم يخرج نَشِطًا إليهم حَنِقًا عليهم، يريد ألَّا يدع أحدًا من إخوان الفتن ودواعي البدع وفرسان الضلال، إلَّا تَوَطَّأه بحَرِّ القتل، وألبسه قناع القهر، وقلَّده طوق الذل، ولا أحدًا من الذين عملوا في قصِّ جناح الفتنة وإخماد نار البدعة ونصرة ولاة الحق، إلَّا أجْرَى عليهم دِيَم فضله، وجداول نَهْلِه، فإذا خرج مُزْمِعًا به مُجْمِعًا عليه لم يسِرْ إلا قليلًا حتى تأتيه أنْ قد عَمِلت حِيَلُه، وكَدَحت كتبه، ونَفَذت مكايده، فهدأت نافرة القلوب، ووقعت طائرة الأهواء، واجتمع عليه المختلفون بالرضا، فيميل نظرًا لهم، وبرًّا بهم، وتعطُّفًا عليهم، إلى عدوٍّ قد أخاف سبيلهم، وقطع طريقهم، ومنع حُجَّاجهم بيتَ الله الحرام، وسلب تُجَّارهم رزق الله الحلال.
وأما الآخر فإنه يوجِّه إليهم، ثم تُعْتقد له الحجة عليهم بإعطاء ما يطلبون، وبذل ما يسألون، فإذا سمحت الفِرَق بقَرَاباتها له، وجنح أهل النواحي بأعناقهم نحوه، فأصغت إليه الأفئدة، واجتمعت له الكلمة، وقدِمت عليه الوفود؛ قصد لأول ناحية نجعَت بطاعتها، وألقت بأَزِمَّتها، فألبسها جَنَاح نعمته، وأنزلها ظل كرامته، وخصَّها بعظيم حِبائه، ثم عم الجماعة بالمَعْدَلة، وتعطَّف عليهم بالرحمة، فلا تبقى فيهم ناحيةٌ دانية ولا فرقة قاصية إلا دخلت عليها بركته، ووصلت إليها منفعته، فأغنى فقيرها، وجبر كسيرها، ورفع وضيعها، وزاد رفيعها، ما خلا ناحيتين: ناحية يغلب عليها الشقاء وتَسْتَمِيلهم الأهواء، فتستخف بدعوته، وتبطئ عن إجابته، وتتثاقل عن حقه، فتكون آخر من يبعث، وأبطأ من يوجِّه، فيصطلي عليها مَوْجودَه، ويبتغي لها علة، لا يلبث أن يَجِدَّ بحق يلزمهم، وأمرٍ يجب عليهم، فتَسْتَلْحِمهم الجيوش، وتأكلهم السيوف، ويستحِرُّ بهم القتل، ويحيط بهم الأسر، ويفنيهم التتبُّع، حتى يخرِّب البلاد، ويُوتِم الأولاد. وناحية لا يبسط لهم أمانًا، ولا يقبل لهم عهدًا، ولا يجعل لهم ذمة؛ لأنهم أول من فتح باب الفُرقة، وتَدَرَّع جلبابَ الفتنة، ورَبَض في شَقِّ العصا، ولكنه يقتل أعلامهم، ويأسر قُوَّادهم، ويطلب هُرَّابهم في لُجَج البحار، وقُلَل الجبال، وحَميل الأودية، وبطون الأرض، تقتيلًا وتغليلًا وتنكيلًا، حتى يدع الديار خرابًا، والنساء أَيَامَى. وهذا أمرٌ لا نعرف له في كتبنا وقتًا، ولا نصحح منه غير ما قلنا تفسيرًا.
وأما موسى وليُّ عهدي فهذا أوان توجُّهه إلى خراسان، وحُلُوله بجُرْجان، وما قضى الله له من الشُّخوص إليها والمُقام فيها خيرٌ للمسلمين مغبَّةً له بإذن الله عاقبةً من المقام، بحيث يغمر في لجج بحورنا ومدافع سيولنا ومجامع أمواجنا، فيتصاغر عظيم فضله، ويتدأَّب مشرق نوره، ويتقلل كثير ما هو كائن منه، فمن يصحبه من الوزراء ويُختار له من الناس؟
قال محمد بن الليث: أيها المهدي، إن وليَّ عهدك أصبح لأُمَّتك وأهل ملتك علَمًا قد تثنَّت نحوه أعناقها، ومدَّتْ سمْتَه أبصارَها، وقد كان لقرب داره منك ومحل جواره لك، عُطْل الحال، غُفْل الأمر، واسع العذر، فأما إذا انفرد بنفسه، وخلا بنظره، وصار إلى تدبيره، فإن من شأن العامة أن تتفقَّد مخارج رأيه، وتَسْتَنصت لمواقع آثاره، وتسأل عن حوادث أحواله: في برِّه ومرحمته، وإقساطه ومعدلته، وتدبيره وسياسته، ووزرائه وأصحابه، ثم يكون ما سبق إليهم أغلب الأشياء عليهم، وأملك الأمور بهم، وألزمها لقلوبهم، وأشدَّها استمالةً لرأيهم وعطفًا لأهوائهم. فلا يفتأ المهدي — وفقه الله — ناظرًا له فيما يقوي عمد مملكته، ويسدد أركان ولايته، ويستجمع رضاء أمته بأمر هو أَزْيَن لحاله، وأظهر لجماله، وأفضل مغَبَّة لأمره، وأجلُّ موقعًا في قلوب رعيته، وأحمد حالًا في نفوس أهل ملته. ولا أدفع مع ذلك باستجماع الأهواء له، وأبلغ في استعطاف القلوب عليه من مرحمة تظهر من فعله، ومعدلة تنتشر عن أثره، ومحبة للخير وأهله، وأن يختار المهدي — وفقه الله — من خيار أهل كل بلدة وفقهاء أهل كل مصر أقوامًا تسكن العامة إليهم إذا ذكروا، وتأنس الرعية بهم إذا وصفوا، ثم تسهل لهم عمارة سبل الإحسان، وفتح باب المعروف كما قد كان فُتح له وسُهِّل عليه.
قال المهدي: صدقت ونصحت. ثم بعث في ابنه موسى، فقال: أي بني، إنك قد أصبحت لسَمْت وجوه العامة نُصْبًا، ولمَثْنَى أعطاف الرعية غايةً، فحسَنتك شاملة، وإساءتك نائية، وأمرك ظاهر، فعليك بتقوى الله وطاعته، فاحتمل سُخط الناس فيهما، ولا تطلب رضاهم بخلافهما، فإن الله — عز وجل — كافيك مَن أسخطه عليك إيثارُك رضاه، وليس بكافيك من يُسخطه عليك إيثارُك رضا من سواه. ثم اعلم أن لله — تعالى — في كل زمان فترةً من رسله، وبقايا من صفوة خلقه، وخبايا لنصرة حقه، يجدِّد حبل الإسلام بدعواهم ويشيد أركان الدين بنصرتهم، ويتخذ لأولياء دينه أنصارًا، وعلى إقامة عدله أعوانًا، يسدون الخلل، ويقيمون المَيَل، ويدفعون عن الأرض الفساد، وأن أهل خراسان أصبحوا أيدي دولتنا، وسيوف دعوتنا، الذين نستدفع المكاره بطاعتهم، ونستصرف نزول العظائم بمُناصَحَتهم، وندافع ريب الزمان بعزائمهم، ونزاحم ركن الدهر ببصائرهم، فهم عماد الأرض إذا أرجفت لُفَفُها، وخوف الأعداء إذا برزت صفحتها، وحصون الرعية إذا تضايقت الحال بها، قد مضت لهم وقائع صادقات، ومواطن صالحات أخمدت نيران الفتن، وقسمت دواعي البدع، وأذلَّت رقاب الجبارين، ولم ينفكُّوا كذلك ما جروْا مع ريح دولتنا، وأقاموا في ظل دعوتنا، واعتصموا بحبل طاعتنا التي أعز الله بها ذاتهم، ورفع بها ضعتهم، وجعلهم بها أربابًا في أقطار الأرض، وملوكًا على رقاب العالمين، بعد لباس الذل، وقناع الخوف، وإطباق البَلَا، ومُحالفة الأسى، وجَهْد البأس والضُّرِّ. فظاهر عليهم لباس كرامتك، وأنزلهم في حدائق نعمتك، ثم اعرف لهم حق طاعتهم، ووسيلة دالَّتهم، وماتَّة سابقتهم، وحُرمة مُناصَحتهم، بالإحسان إليهم، والتوسعة عليهم، والإثابة لمُحسنهم، والإقالة لمُسيئهم.
أي بُنيَّ، ثم عليك العامة، فاستدع رضاها بالعدل عليها، واستجلب مودتها بالإنصاف لها، وتحسَّن بذلك لربك، وتوثَّق به في عين رعيتك، واجعل عمَّال العُذر ووُلاة الحجج مقدمةً بين عملك، ونَصَفَةً منك لرعيتك، وذلك أن تأمر قاضي كل بلد وخيار أهل كل مصر أن يختاروا لأنفسهم رجلًا تولِّيه أمرهم وتجعل العدل حاكمًا بينه وبينهم، فإن أحسن حُمدت، وإن أساء عُذرت. هؤلاء عمال العذر، وولاة الحجج، فلا يسقطنَّ عليك ما في ذلك إذا انتشر في الآفاق وسبق إلى الأسماع، من انعقاد ألسنة المرجفين، وكبت قلوب الحاسدين، وإطفاء نيران الحروب، وسلامة عواقب الأمور. ولا ينفكنَّ في ظل كرامتك نازلًا وبِعُرى حبلك متعلقًا رجلان: أحدهما كريمة من كرائم رجالات العرب وأعلام بُيُوتات الشرف، له أدب فاضل، وحلم راجح، ودين صحيح، والآخر له دين غير مغموز، وموضع غير مَدْخول، بصيرٌ بتقليب الكلام، وتصريف الرأي، وأنحاء العرب، ووضع الكتب، عالم بحالات الحروب وتصاريف الخطوب، يضع آدابًا نافعة وآثارًا باقية من محاسنك، وتحسين أمرك، وتحلية ذكرك، فتستشيره في حربك، وتُدْخله في أمرك، فرجلٌ أصبته كذلك فهو يأوى إلى مَحَلَّتي، ويرعى في خضرة جناني، ولا تدع أن تختار لك من فقهاء البلدان وخيار الأمصار أقوامًا يكونون جيرانك وسمَّارك، وأهل مشاورتك فيما تُورد وأصحاب مناظرتك فيما تُصدِر. فسر على بركة الله، أَصْحَبك الله من عونه وتوفيقه دليلًا يهدي إلى الصواب قلبك، وهاديًا يُنْطق بالخير لسانك.
وكتب في شهر ربيع الآخِر سنة سبعين ومئة ببغداد.
فترة الأقامة :
3718 يوم
معدل التقييم :
زيارات الملف الشخصي :
506
إحصائية مشاركات »
المواضيـع
الــــــردود
[
+
]
[
+
]
بمـــعــدل :
4.35 يوميا
عطر الجنة
مشاهدة ملفه الشخصي
إرسال رسالة خاصة إلى عطر الجنة
البحث عن كل مشاركات عطر الجنة