الموضوع
:
أدبيات اللغة العربية
عرض مشاركة واحدة
07-01-2021
#
31
إدارة قناة اليوتوب
بيانات اضافيه [
+
]
رقم العضوية :
426
تاريخ التسجيل :
Mar 2014
أخر زيارة :
منذ 4 يوم (11:14 PM)
المشاركات :
16,207 [
+
]
التقييم :
9330
MMS ~
لوني المفضل :
Darkturquoise
رد: أدبيات اللغة العربية
(١١٥) رسالة سهل بن هارون في البخل
بسم الله الرحمن الرحيم
أصلح الله أمركم، وجمع شملكم، وعلمكم الخير وجعلكم من أهله، قال الأحنف بن قيس:
يا معشر بني تميم، لا تُسْرعوا إلى الفتنة، فإن أسرع الناس إلى القتال أقلُّهم حياء من الفِرار، وقد كانوا يقولون: إذا أردت أن ترى العيوب جَمَّةً فتأمل عَيَّابًا، فإنه إنما يعيب الناسَ بفضل ما فيه من العيب، ومن أعيب العيب أن تعيب ما ليس بعيب، وقبيحٌ أن تَنْهَى مرشدًا وأن تُغْرِي بمُشْفِق.
وما أردنا بما قلنا إلا هدايتكم وتقويمكم وإصلاح فاسدكم وإبقاء النعمة عليكم، وما أخطأنا
سبيل حسن النية فيما بيننا وبينكم، وقد تعلمون أنَّا ما أوصيناكم إلا بما اخترناه لكم ولأنفسنا قبلكم وشُهِرنا به في الآفاق دونكم، ثم نقول في ذلك ما قال العبد الصالح لقومه: وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ، فما كان أحقَّنا منكم في حُرْمتنا بكم أن تَرْعَوْا حق قصدنا بذلك إليكم على ما رعيناه من واجب حقكم، فلا العذرَ المبسوط بلغتم ولا بواجب الحُرْمة قمتم، ولو كان ذكر العيوب يُراد به فخرٌ لرأينا في أنفسنا من ذلك شُغْلًا. عِبْتُموني بقولي لخادمي: أجيدي العجين فهو أطيب لطُعْمِه، وأزْيَد في رَيْعِه، وقد قال عمر بن الخطاب — رضي الله عنه: أَمْلِكوا العجين فإنه أحد الرَّيْعين. وعبتموني حين ختمت على ما فيه شيء ثمين من فاكهةٍ رطبة نقيَّة ومن رطبة غريبة، على عبدٍ نَهِم، وصبي جَشِع، وأَمَةٍ لَكْعَاء، وزوجةٍ مُضِيعة، وعبتموني بالختْم وقد ختم بعض الأئمة على مِزْوَد سويقٍ وعلى كيسٍ فارغ وقال: طينةٌ خيرٌ من طيَّةٍ، فأمسكتم عمَّن ختم على لا شيء وعبتم من ختم على شيء. وعبتموني أن قلت للغلام: إذا زدت في المَرَق فزد في الإنضاج ليجتمع مع التأدُّم باللَّحم طيب المرق.
وعبتموني بخصف النعل، وبتَصْدير القميص، وحين زعمت أن المخصوفة من النعل أبقى
وأقوى وأشبه بالشَّدِّ، وأن الترقيع من الحزم والتَّفْريط من التضييع، وقد كان رسول الله ﷺ يَخْصِف نعله ويُرَقِّع ثوبه ويقول: «لو أُهْدِي إلَيَّ ذراعٌ لقبِلتُ، ولو دُعيت إلى كُرَاع لأجبت»، وقالت الحكماء: لا جديدَ لمن لم يلْبس الخَلَق. وبعث زياد رجلًا يرتاد له محدِّثًا، واشترط عليه
أن يكون عاقلًا، فأتاه به موافقًا، فقال له: أكنت به ذا معرفة؟ قال: لا، ولكني رأيته في يوم قائظ يلبس خَلَقًا ويلبس الناس جديًدا، فتفرَّست فيه العقل والأدب، وقد علمت أن الخَلَق في موضعه مثل الجديد في موضعه. وقد جعل الله لكل شيء قدرًا، وسما به موضعًا، كما جعل لكل زمان رجالًا، ولكل مقام مقالًا، وقد أحيا الله بالسُّمِّ، وأمات بالدواء، وأغَصَّ بالماء. وقد زعموا أن الإصلاح أحد الكاسبَين، كما زعموا أن قلة العيال أحد اليَسَارَيْن. وقد جَبَر الأحنف بن قيس يد عَنْزٍ، وأمر مالك بن أنس بفَرْك النعل، وقال عمر بن الخطاب: من أكل بيضةً فقد أكل دجاجة، ولبس سالم بن عبد الله جِلْدَ أضحية. وقال رجل لبعض الحكماء: أريد أن أُهْدِي إليك دجاجة، فقال: إن كان لا بُدَّ فاجعلها بَيُوضًا.
وعبتموني حين قلت: من لم يعرف مواضع السَّرَف في الموجود الرخيص لم يعرف مواضع الاقتصاد في الممتنع الغالي، ولقد أُتيتُ بماء للوضوء على مبلغ الكفاية وأشد من الكفاية، فلما صِرْتُ إلى تفريق أجزائه على الأعضاء وإلى التوفير عليها من وضيعة الماء، وجدت في الأعضاء فضلًا عن الماء، فعلمت أن لو كنتُ سلكت الاقتصاد في أوائله لخرج آخره على كفاية أوله، ولكان نصيب الأول كنصيب الآخر، فعبتموني بذاك وشَنَّعْتُم عليَّ، وقد قال الحسن وذكر السَّرَف: أما إنه ليكون في الماء والكلأ، فلم يَرْضَ بذكر الماء حتى أردفه الكلأ.
وعبتموني أن قلت: لا يَغْترَّنَّ أحدكم بطول عمره، وتقويس ظهره، ورقَّة عَظْمه، ووَهْن قوته، وأن يرى نحوه أكثر ذُرِّيَّته، فيَدْعوه ذلك إلى إخراج ماله من يده، وتحويله إلى ملك غيره، وإلى تحكيم السرف فيه، وتسليط الشهوات عليه؛ فلعله يكون مُعَمَّرًا وهو لا يدري، وممدودًا له في السِّن وهو لا يشعر، ولعله أن يُرْزَق الولد على اليأس، ويحدث عليه من آفات الدهر ما لا يخطر على بالٍ ولا يدركه عقلٌ، فيستردُّه ممن لا يردُّه، ويُظْهر الشكوى إلى من لا يرحمه، أصعبَ ما كان عليه الطلب وأقبح ما كان به أن يَطْلب، فعبتموني بذلك، وقد قال عمرو بن العاص: اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا.
وعبتموني بأن قلت بأن السَّرف والتبذير إلى مال المواريث وأموال الملوك، وأن الحفظ للمال المكتَسَب والغِنَى المُجْتَلَب وإلى ما لا يُعَرَّض فيه بذَهاب الدين واهتِضام العِرْض ونَصَب البدن واهتضام القلب؛ أسرع، ومن لم يحسُب نفقته لم يَحْسُبْ دَخْلَه، ومن لم يحسُب الدخل فقد أضاع الأصل، ومن لم يعرف للغِنى قدره فقد أذن بالفقر وطاب نفسًا بالذل.
وعبتموني بأن قلت: إن كسب الحلال يضمن الإنفاق في الحلال، وإن الخبيث ينزع إلى الخبيث، وإن الطيب يدعو إلى الطيب، وإن الإنفاق في الهوى حجابٌ من الهوى، فعبتم عليَّ هذا القول، وقد قال معاوية: لم أرَ تبذيرًا قطُّ إلَّا وإلى جنبه تضييع. وقد قال الحسن: إن أردتم أن تعرفوا من أين أصاب الرجل ماله، فانظروا في ماذا ينفقه، فإن الخبيث إنما ينفق في السرف.
وقلت لكم: بالشفقة عليكم وحسن النظر مني لكم وأنتم في دار الآفات والجوائح غير مأمونات، فإن أحاطت بمال أحدكم آفةٌ لم يرجع إلى نفسه، فاحذروا النِّقم واختلاف الأمكنة فإن البلية لا تجري في الجميع إلا بموت الجميع، وقد قال عمر بن الخطاب — رضي الله عنه — في العبد والأمة والشاة والبعير: فرِّقوا بين المنايا. وقال ابن سيرين لبعض البَحْرِيِّين: كيف تصنعون بأموالكم؟ قالوا: نفرقها في السفن، فإن عَطِب بعضٌ سلم بعضٌ، ولولا أن السلامة أكثر ما حملنا أموالنا في البحر، قال ابن سيرين: يحسبها خرقاء وهي صَناع.
وعبتموني بأن قلت لكم عند إشفاقي عليكم: إنَّ للغِنَى لسُكْرًا، وللمال لنزوة، فمن لم يحفظ
الغنى من سكره فقد أضاعه، ومن لم يرتبط المال بخوف الفقر فقد أهمله، فعبتموني بذلك، وقد قال زيد بن جَبَلة: ليس أحد أقصر عقلًا من غنيٍّ أَمِن الفقر، وسُكْر الغِنَى أكثر من سكر الخمر. وقد قال الشاعر في يحيى بن خالد بن برمك:
وَهُوبُ تِلَاد المالِ فيما يَنوبُه
مَنُوعٌ إذَا مَا مَنْعُهُ كَان أحْزَمَا
وعبتموني حين زعمتم أني أقدِّم المال على العلم لأن المال به يُفاد العلم وبه تقوم النفس قبل
أن تعرف فضل العلم فهو أصل، والأصل أحق بالتفضيل من الفرع، فقلتم: كيف هذا؟! وقد قيل لرئيس الحكماء: الأغنياء أفضل أم العلماء؟ قال: العلماء، قيل له: فما بال العلماء يأتون أبواب الأغنياء أكثر مما يأتي الأغنياء أبواب العلماء؟ قال: ذلك لمعرفة العلماء بفضل المال وجهل الأغنياء بحق العلم. فقلت: حالهما هي القاضية بينهما، وكيف يستوي شيءٌ حاجة العامة إليه وشيءٌ يُغْنى فيه بعضهم عن بعض، وكان النبي ﷺ يأمر الأغنياء باتِّخاذ الغنم والفقراء باتخاذ الدجاج. وقال أبو بكر — رضي الله عنه: إني لأُبْغض أهل بيتٍ ينفقون نفقة الأيام في اليوم الواحد. وكان أبو الأسود الدَّؤَلي يقول لولده: إذا بسط الله لك الرزق فابسُط، وإذا قبض فاقْبِض.
وعبتموني حين قلت: فضل الغِنَى على القوت إنما هو كفضل الآلة تكون في البيت، إذا احْتيج إليها استُعْملت، وإن اسْتُغنى عنها كانت عُدَّة. وقد قال الحصين بن المنذر: ودِدت أن لي مثل أُحُدٍ ذهبًا لا أنتفع منه بشيءٍ! قيل له: فما كنت تصنع به؟ قال: لكثرة من كان يخدمني عليه؛ لأن المال مخدوم. وقد قال بعض الحكماء: عليك بطلب الغِنَى، فلو لم يكن فيه إلَّا أنه عِزٌّ في قلبك وذُلٌّ في قلب عدوِّك، لكان الحظ فيه جسيمًا، والنفع فيه عظيمًا.
ولسنا ندع سيرة الأنبياء وتعليم الخلفاء وتأديب الحكماء لأصحاب اللهو، ولستم عليَّ تردُّون،
ولا رأيي تفنِّدون، فقدِّموا النظر قبل العزم، وأدركوا مالكم قبل أن تُدْركوا مآلكم. والسلام عليكم.
فترة الأقامة :
3729 يوم
معدل التقييم :
زيارات الملف الشخصي :
506
إحصائية مشاركات »
المواضيـع
الــــــردود
[
+
]
[
+
]
بمـــعــدل :
4.35 يوميا
عطر الجنة
مشاهدة ملفه الشخصي
إرسال رسالة خاصة إلى عطر الجنة
البحث عن كل مشاركات عطر الجنة