الموضوع
:
أدبيات اللغة العربية
عرض مشاركة واحدة
07-01-2021
#
36
إدارة قناة اليوتوب
بيانات اضافيه [
+
]
رقم العضوية :
426
تاريخ التسجيل :
Mar 2014
أخر زيارة :
منذ 7 دقيقة (11:40 AM)
المشاركات :
16,212 [
+
]
التقييم :
9330
MMS ~
لوني المفضل :
Darkturquoise
رد: أدبيات اللغة العربية
(١٢٩) آداب الصداقة لابن مسكويه
يجب عليك متى حصل لك صديقٌ أن تكثر مراعاته، وتبالغ في تفقده، ولا تستهين باليسير من حقه عند مهم يعرض له أو حادث يحدث به. فأما في أوقات الرخاء، فينبغي أن تلقاه بالوجه الطَّلْق، والخلُق الرحب، وأن تُظهر له في عينك وحركاتك وفي هشاشتك وارتياحك عند مشاهدته إياك ما يزداد به في كل يوم وكل حالٍ ثقةً بمودتك وسكونًا إليك، ويرى السرور في جميع أعضائك التي يظهر السرور فيها إذا لقيك. فإن التَّحفِّي الشديد عند طلعة الصديق لا يخفى، وسرور الشكل بالشكل أمرٌ غير مُشْكل. ثم ينبغي أن تفعل مثل ذلك بمن تعلم أنه يؤْثِره ويحبه من صديق أو ولد أو تابع أو حاشية، وتُثْنى عليهم من غير إسراف يخرج بك إلى المَلَق الذي يمقتك عليه ويظهر لك منك تكلُّف فيه، وإنما يتم لك ذلك إذا تَواخيْت الصدق في كل ما تُثْني به عليه. والزم هذه الطريقة حتى لا يقع منك توانٍ فيها بوجهٍ من الوجوه وفي حال من الأحوال، فإن ذلك يجلب المحبة الخالصة ويُكسب الثقة التامة ويهديك محبَّة الغرباء ومن لا معرفة لك به. وكما أن الحَمام إذا ألِف بيوتنا وآنس لمجالسنا وطاف بها يجلُب لنا أشكاله وأمثاله، فكذلك حال الإنسان إذا عرفَنا واختلط بنا اختلاط الراغب فينا الآنس بنا، بل يزيد على الحيوان الغير الناطق بحسن الوصف وجميل الثناء ونشر المحاسن. واعلم أن مشاركة الصديق في السَّرَّاء إذا كنت فيها وإن كانت واجبةً عليك حتى لا تستأثرها ولا تختص بشيء منها، فإن مشاركته في الضَّرَّاء أوجب وموقعها عنده أعظم. وانظر عند ذلك إن أصابته نكبة أو لحقته مصيبة أو عثر به الدهر كيف تكون مواساتك له بنفسك ومالك، وكيف يظهر له تفقُّدُك ومراعاتك، ولا تنتظرنَّ به أن يسألك تصريحًا أو تعريضًا، بل اطَّلعْ على قلبه واسبِق إلى ما في نفسه وشاركه في مَضَض ما لحقه ليخفَّ عنه. وإن بلغت مرتبةً من السلطان والغنى فاغمس إخوانك فيها من غير امتنان ولا تطاول. وإن رأيت من بعضهم نُبُوًّا عنك أو نقصانًا مما عهدته فداخِلْه زيادة مُداخلة واختلط به واجتذبه إليك، فإنك إن أنِفْت من ذلك أو تَدَاخَلك شيء من الكبر والصلف عليهم انتقض حبل المودة وانتكثت قوته، ومع ذلك فلست تأمن أن يزولوا عنك فتستحي منهم وتضطر إلى قطيعتهم حتى لا تنظر إليهم. ثم حافظ على هذه الشروط بالمداومة عليها لتبقى المودة على حال واحدة. وليس هذا الشرط خاصًّا بالمودة بل هو مُطَّرد في كل ما يَخُصَّك، أعني أن مركوبك وملبوسك ومنزلك متى لم تراعها مراعاةً متصلةً فَسَدَت وانتقضت. فإذا كانت صورة حائطك وسطوحك كذلك ومتى غفلت أو توانيت لم تأمن تقوُّضَه وتهدُّمه، فكيف ترى أن تجفو من ترجوه لكل خير وتنتظر مشاركته في السراء والضراء؟ ومع ذلك فإن ضرر تلك يختص بك بمنفعةٍ واحدةٍ، وأما صديقك فوجوه الضرر التي تدخل عليك بجفائه وانتقاض مودته كثيرةٌ عظيمة، ذلك أنه ينقلب عدوًّا وتتحول منافعه مضارًّا، فلا تأمن غوائله وعداوته مع عدمك الرغائب والمنافع به، وينقطع رجاؤك فيما لا تجد له خلفًا ولا تستفيد عنه عوضًا ولا يسد مسده شيء، وإذا راعيت شروطه وحافظت عليها بالمداومة أمِنْت جميع ذلك.
ثم احذر المِراء معه خاصة وإن كان واجبًا أن تحذره مع كل أحد، فإن مُماراة الصديق تقتلع المودة من أصلها؛ لأنها سبب الاختلاف، والاختلاف سبب التباين الذي هربنا منه إلى ضده وقبَّحْنا أثره واخترنا عليه الألفة التي طلبناها وأثنَيْنا عليها، وقلنا إن الله — عز وجل — دعا إليها بالشريعة القويمة. وإني لأعرف من يؤْثِر المراء ويزعم أنه يقدح خاطره ويشحذ ذهنه ويثير شكوكه، فهو يتعمَّد في المحافِل التي تجمع رؤساء أهل النظر ومُتعاطي العلوم مماراة صديقه ويخرج في كلامه معه إلى ألفاظ الجهَّال من العامة وسُقَّاطِهم؛ ليزيد في خجل صديقه، وليُظهر تَبَلُّجَه. وليس يفعل ذلك عند خلوته به ومذاكرته له، وإنما يفعله حين يظن به أنه أدق نظرًا أو أحضر حجة وأغزر علمًا وأحدُّ قريحة. فما كنت أشبِّهه إلا بأهل البغي وجبابرة أصحاب الأموال والمشبَّهين بهم من أهل البدع، فإن هؤلاء يستحقر بعضُهم بعضًا، ولا يزال يُصغِّر بصاحبه ويزدري على مروءته ويتطلَّب عيوبه ويتتَبَّع عثراته، ويبالغ كلُّ واحدٍ فيما يقدر عليه من إساءة صاحبه، حتى يؤدي بهم الحال إلى العداوة التامة التي يكون معها السِّعاية وإزالة النعم، وتُجاوز ذلك إلى سفك الدم وأنواع الشرور. فكيف يثبُت مع المراء محبةٌ ويُرجَى به ألفة؟ ثم احذر في صديقك إن كنت متحققًا بعلم أو متحليًا بأدب أن تبخل عليه بذلك الفن أو يرى فيك أنك تُحب الاستبداد دونه والاستئثار عليه، فإن أهل العلم لا يرى بعضهم في بعض ما يراه أهل الدنيا بينهم، ذلك أن متاع الدنيا قليل، فإذا تزاحم عليه قومٌ ثَلَم بعضهم حال بعض ونَقَص حظ كل واحدٍ من حظ الآخر. وأما العلم فإنه بالضد، وليس أحد ينقص منه ما يأخذه غيره، بل يزكو على النفقة، ويربو مع الصداقة، ويزيد على الإنفاق وكثرة الخَرْج، فإذا بخل صاحب علم بعلمه فإنما ذلك لأحوالٍ فيه كلها قبيحة، وهي أنه إما أن يكون قليل البضاعة منه، فهو يخاف أن يفْنَى ما عنده أو يرِد عليه ما لا يعرفه فيزول تَشَرُّفه عند الجُهَّال، وإما أن يكون مكتسِبًا به فهو يخشى أن يضيق مكسبُه به وينقص حظه منه، وإما أن يكون حسودًا، والحسود بعيدٌ من كل فضيلة، لا يَوَدُّه أحدٌ. وإني لأعرف من لا يرضى بأن يبخل بعلم نفسه حتى يبخل بعلم غيره، ويكثر عتْبَه وسخطه على من لا يُفيد غيره من التلاميذ المستحقين لفائدة العلم.
وكثيرًا ما يتوصل البعض إلى أخذ الكتب من أصحابها ثم منعِهم منها، وهذا خلق لا تبقى معه مودة بل يجلب إلى صاحبه عداوات لا يحسبها ويقطع أطماع أصدقائه من صداقته. ثم احذر أن تنبسط بأصحابك ومن يخلو بك من أتباعك وتحمل أحدًا منهم على ذكر شيء في نفسه، ولا تُرخِّص في عيب شيء يتصل به فضلًا عن عيبه، ولا يطمعنَّ أحدٌ في ذلك من أولِي أنسابك والمتصلين بك، لا جِدًّا ولا هَزْلًا، وكيف تحتمل ذلك فيه وأنت عينه وقلبه وخليفته على الناس كلهم بل أنت هو، فإنه إن بلغه شيء مما حذرتك منه لم يَشُك أن ذلك كان عن رأيك وهواك، فينقلب عدوًّا وينفر عنك نفور الضد. فإن عرفت منه أنت عيبًا فوافقه عليه موافقةً لطيفة ليس فيها غلظة، فإن الطبيب الرفيق ربما بلغ بالدواء اللطيف ما يبلغه غيره بالشق والقطع والكي، بل ربما توصَّل بالغذاء إلى الشفاء واكتفى به عن المعالجة بالدواء. ولست أحب أن تُغضي عما تعرفه في صديقك وأن تترك موافقته عليه بهذا الضرب من الموافقة، فإن ذلك خيانة منك ومسامحة فيما يعود ضرره عليه. ثم احذر النميمة وسماعها، وذلك أن الأشرار يدخلون بين الأخيار في صورة النصحاء، فيوهمونهم النصيحة، وينقلون إليهم في عُرْض الأحاديث اللذيذة أخبار أصدقائهم محرَّفة مموَّهة حتى إذا تجاسروا عليهم بالحديث المُخْتَلَق يُصَرِّحون لهم بما يفسد موداتهم ويشوه وجوه أصدقائهم إلى أن يُبغِض بعضهم بعضًا. وللقدماء في هذه المعنى كتبٌ مؤلفة يحذِّرون فيها من النميمة، ويشبهون صورة النمام بمن يحك بأظافيره أصول البنيان القوية حتى يؤثر فيها ثم لا يزال يزيد ويُمعن حتى يُدْخل فيها المِعْول فيقلَعه من أصله، ويضربون له الأمثال الكثيرة المشبَّهة بحديث الثور مع الأسد في كتاب كليلة ودمنة. ونحن نكتفي بهذا القدر من الإيماء لئلا نخرج عما بنينا عليه مذهبنا من الإيجاز في الشرح، ولست أترك مع الإيجاز والاختصار تعظيم هذا الباب وتكريره عليك، لتعلم أن القدماء إنما ألَّفوا فيه الكتب وضربوا له الأمثال وأكثروا فيه من الوصايا؛ لما وراءَه من النفع العظيم عند السامعين من الأخيار، ولما خافوه من الضَّرر الكثير على من يستهين به من الأغْمار، وليُعلم المثل المضروب في السِّباع القوية إذا دخل عليها الثعلب الرَّوَّاغ على ضعفه أهلكها ودمرها، وفي الملوك الحُصَفاء يدخل بينهم أهل النميمة في صورة الناصحين حتى يفسدوا نيتهم على وزرائهم المبالغين في نصيحتهم المجتهدين في تثبيت ملكهم إلى أن يغضبوا عليهم، ويصرفوا بها عيونهم عنهم، ويصيروا من محبَّتهم وإيثارهم على آبائهم وأولادهم إلى أن لا يملئوا عيونهم منهم، وإلى أن يبطشوا بهم قتلًا وتعذيبًا وهم غير مذْنِبين ولا مُجْترمين ولا مستحقين إلا الكرامة والإحسان، فإذا بلغ بهم من الإفساد والإضرار ما بلغوه من هؤلاء، فبالأحرى أن يبلغوه منا إذا لم يجدوه في أصدقائنا الذين اخترناهم على الأيام، وادخرناهم للشدائد، وأحللناهم محل أرواحنا، وزدناهم تفضلًا وإكرامًا.
ويتبين لك من جميع ما قدمناه أن الصداقة وأصناف المَحبَّات، التي تتم بها سعادة الإنسان من حيث هو مدنيٌّ بالطبع، إنما اختلفت ودخل فيها ضروب الفساد وزال عنها معنى التأخِّي، وعرض لها الانتشار حتى احتجنا إلى حفظها والتعب الكثير بنظامها من أجل النقائص الكثيرة التي فينا وحاجتنا إلى إتمامها مع الحوادث التي تعرض لنا من الكون والفساد. فإن الفضائل الخِلْقية إنما وضعت لأجل المعاملات والمعاشرات التي لا يتم الوجود الإنساني إلا بها، ذلك أن العدل إنما احتِيج إليه لتصحيح المعاملات، وليزول به معنى الجور الذي هو رذيلة عند المتعاملين، وإنما وُضعت العفة فضيلة لأجل اللذات الرديئة التي تجني الخيانات الفظيعة على النفس والبدن، وكذلك الشجاعة وُضعت فضيلةً من أجل الأمور الهائلة التي يجب أن يُقدِم الإنسان عليها في بعض الأوقات ولا يهرب منها، وعلى هذا جميع الأخلاق المرضية التي وصفناها وحضَضْنا على اقتنائها. وأيضا فإن جميع هذه الفضائل تحتاج إلى أسباب خارجة من الأموال واكتسابها من وجوهها، ليمكنه أن يفعل بها فعل الأحرار، والعادل يحتاج إلى مثل ذلك ليجازي من عاشره بجميل ويكافئ من عامله بإحسانٍ، وجميعها لا تقوم إلا بالأبدان والأنفس وما هو خارجٌ عنها، على حسب تقسيمنا السعادات فيما مضى، وكلما كانت الحاجات كثيرة احتيج إلى المواد الخارجة عنَّا أكثر، فهذه حالة السعادات الإنسانية التي لا تتم لنا إلا بالأفعال البدنية والأحوال المدنية وبالأعوان الصالحين والأصدقاء المخلصين، وهي كما تراها كثيرة، والتعب بها عظيم، ومن قصَّر فيها قصَّرت به السعادة الخاصة به، ولذلك صار الكسل ومحبة الراحة من أعظم الرذائل، لأنهما يَحُولان بين المرء وبين جميع الخيرات والفضائل، ويسْلُخان الإنسان من الإنسانية، ولذلك ذممنا المتوسِّمين بالزهد إذا تفرَّدوا عن الناس، وسكنوا الجبال والمفازات، واختاروا التوحُّش الذي هو ضد المدنية؛ لأنهم ينسلخون عن جميع الفضائل الخلقية التي عددناها كلها، وكيف يعِفُّ ويعدل ويسخو ويشْجُع من فارق الناس وتفرَّد عنهم وعَدِم الفضائل الخِلْقية؟ وهل هو إلا بمنزلة الجماد والميت؟ وأما محبة الحكمة والانصراف إلى التصور العقلي واستعمال الآراء الإلهية، فإنها خاصة بالجزء الإلهي من الناس، وليس يعرض لها شيء من الآفات التي تعرض للمحبَّات الأُخَر الخِلقية وضروب الفساد، ولذلك قلنا إنها لا تقبل النميمة ولا نوعًا من أنواع الشرور لأنها الخير المحض، وسببها الخير الأول الذي لا تشوبه مادة ولا تلحقه الشرور التي في المادة، وما دام الإنسان يستعمل الأخلاق والفضائل الإنسانية فإنها تعوقه عن هذا الخير الأول وهذه السعادة الإلهية، ولكن ليس يتم له إلا بتلك، ومن أضل تلك الفضائل بنفسه ثم اشتغل عنها بالفضيلة الإلهية فقد اشتغل بذاته حقًّا ونجا من مجاهدات الطبيعة وآلامها ومن مجاهدات النفس وقُوَاها، وصار مع الأرواح الطيبة واختلط بالملائكة المقربين، فإذا انتقل من وجوده الأول إلى وجوده الثاني حصل في النعيم الأبَدي والسرور السرمدي.
فترة الأقامة :
3731 يوم
معدل التقييم :
زيارات الملف الشخصي :
506
إحصائية مشاركات »
المواضيـع
الــــــردود
[
+
]
[
+
]
بمـــعــدل :
4.34 يوميا
عطر الجنة
مشاهدة ملفه الشخصي
إرسال رسالة خاصة إلى عطر الجنة
البحث عن كل مشاركات عطر الجنة