اللهجات العربية واختلافها بدأت اللغة العربية على ألسنة العرب الأوَّلين وقبائلهم القديمة، من أمثال (عاد) التي كانت تعيش في جنوب الجزيرة العربية، و(ثمود) التي كانت تجاور الآراميين في شمالها، وهذا التفرُّق للقبائل دعا إلى ظهور لهجات عربية هنا وهناك إلا أن قبائل الشمال تأثرتْ لهجاتُها بالآرامية التي هي إحدى اللُّغات السامية. وكما اندثرت القبائل القديمة المتحدثة بهذه اللهجات، كانت بقايا منهم لا تزال تحمل لغةَ الآباء وتتحدث بها. وعن طريقها نقلت إلينا العربية الباقية، ونطلق على اللهجات التي تحدثت بها قُدامى القبائل العربية اسم (العربية البائدة)؛ لأنها قد جاءت مع أهلها، فإننا نُسمِّي اللغة التي وصلتنا بـــ(العربية الباقية)، وقد عاشت اللغة العربية في شمالي الجزيرة (نجد – الحجاز – تهامة)، واستطاعت في القرن السادس الميلادي أن تُسلِّط نفوذَها في الجزيرة العربية كلها، وتبعهم الزحف اللغوي فتوحَّدَتْ حينئذٍ لهجات الشمال والجنوب في لغة عامة واحدة قبل الإسلام بحوالي مائة وخمسين عامًا تقريبًا. وهذه اللغة التي بلغت غايتها من النضج والتكوين هُيِّئ لها أن تنتشر في الجزيرة العربية الواسعة حيث تختلف البيئات والعادات والتقاليد بين الشمال والجنوب، والأحوال التي يعيش فيها أبناء العرب في مواطنهم المتعددة؛ ولذا لم تلبث أن انقسمت إلى لهجات عديدة في أنحاء العالم[1]. ولم يعِش العرب منعزلين بعضهم عن بعض، وإنما كانوا يلتقون في التجارة وفي الأسواق الأدبية التي يتبارى فيها الشعراء والأدباء، ويقدمون نتاج قرائحهم، وقد أدت لقاءاتهم المتعددة وسماع كل عربي للهجات إخوانه من المناطق الأخرى إلى أن يستفيد كل منهم من صاحبه من الناحية اللغوية كما يستفيد من النواحي التجارية والثقافية وغيرها[2]. اختلاف اللهجات العربية ومظاهره: بدأ الاختلاف اللهجي واضحًا في الجزيرة العربية نتيجة اتصال أهلها ولقاء بعضهم ببعض في التجارة والأسواق التي كانت تعقد للأدب والشعر، وهم إن كانوا يلجأون في هذه الأسواق إلى الفصحى فإن لهم لهجاتهم التي كانت تتسرَّبُ إلى منطقهم في بعض الأحيان، وكانوا يتكلمون بها في شئونهم الخاصة، ولا بد أن جزيرة العرب باتساعها ورحابتها كانت مدعاةً إلى اختلاف البيئات مما هيَّأ للهجات أن تنشأ وأن تتصارع فيما بينها حتى أدَّى ذلك إلى سيادة لغة عامة بين العرب جميعًا[3]. وفي القرن الرابع بدت نظرية ابن جني في العناية باللهجات، وعدَّها حجةً إذا كانت موافقة للقياس أو مخالفة له، فما وافقه قِيس عليه، وما لم يوافقه حفظ ولم يقس عليه، وقد وضع ابن جني قواعد لقبول اللهجة أو ردِّها كالآتي: 1- يقول: "وليس لك إن تردَّ إحدى اللغتين بصاحبتها؛ لأنها ليست أحقَّ بذلك من رَسِيلتها، لكن غاية ما لك في ذلك إن تتخيَّر إحداهما، فتقويها على أختها، وتعتقد أن أقوى القياسين أقبل لها وأشد أُنْسًا بها، فأمَّا ردُّ إحداهما بالأخرى فلا، ألا ترى قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((نَزَل القرآنُ بسبعِ لُغاتٍ كلها كافٍ شافٍ))، هذا حكم اللغتين إذا كانتا في القياس والاستعمال متدانيتين متراسِلتين أو كالمتراسِلتين. 2- إذا كانت إحدى اللهجتين الأكثر استعمالًا الأقوى قياسًا، قال: "فأما أن تقِلَّ إحداهما جدًّا وتكثر إحداهما جدًّا، فإنك تأخذ بأوسعهما رواية، وأقواهما قياسًا، ألا تراك لا تقول: مررت بك، بفتح الباء، ولا المال لك، بكسر اللام، قياسًا على قول قضاعة: المال له، بكسر اللام، ومررت به، بفتح الباء، ولا تقول: أكرمتكش قياسًا على لغة من قال: مررت بكش، وعجبت منكس"[4]. 3- جواز استعمال اللهجة القليلة الاستعمال، الضعيفة في القياس في الشعر والسجع، وهو في نظر ابن جني مقبول عند الاحتياج إليه، وغير منعي عليه، فهو في ذلك جرى على لهجات العرب وسننها لم يكن مخطئًا لكلام العرب؛ لكنه يكون مخطئًا لأجود اللغتين، والناطق على قياس لغة من لغات العرب مصيب غير مخطئ[5]. وقد حدد الدكتور عبده الراجحي عدة أسباب لنشأة اللهجات، منها الأسباب الجغرافية، فأصحاب اللغة الواحدة يعيشون في بيئة جغرافية واسعة، وذلك يؤدي مع الزمن إلى وجود لهجة تختلف عن لهجة ثانية تنتمي إلى نفس اللغة [6]، والاجتماعية، فالمجتمع الإنساني بطبقاته المختلفة يؤثر في وجود اللهجات، كذلك احتكاك اللغات واختلاطها نتيجة غزو أو هجرات أو تجاور، فاللهجات العربية التي انتشرت بعد الفتح الإسلامى في البلاد العربية الإسلامية بعد الفتح دليل عليه، ولهجاتنا العامية الحالية فيها مظاهر كثيرة من آثار الاحتكاك اللغوي. وهناك أسباب فردية فنجد أن اختلاف الأفراد في النطق يؤدي مع مرور الزمن إلى تطوير اللهجة أو إلى نشأة لهجات أخرى[7]. يمكن القول بأن ما وصل إلينا من آثار هذه اللهجات يتنوَّع بين ما يتصل بالجانب الصوتي وما يتصل بالجانب الدلالي، فما يتصل بالجانب الصوتي يتجلَّى في الاختلافات التي تبدو في تغيُّر بعض الحروف والحركات من قبيلة إلى أخرى أحيانًا، أما الجانب الدلالي فيبدو في اختلاف القبائل العربية في معاني الألفاظ وتنوُّع دلالتها، وقد نشأ عن تنوُّع الدلالة ظهور المشترك والمتضاد والمترادف في ألفاظ العربية. [1] اللهجات العربية نشأة وتطورًا، د/ عبدالغفار هلال، ص