..........................................
المشهد الثاني:
.......................................
بدأ ت تنتشر قصة إمرأت العزيز ..و خرج القصة من القصر إلى قصور الطبقة الراقية ووجدت فيه نساء هذه الطبقة مادة شهية للحديث.
وزاد حديث المدينة (وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ)
وانتقل الخبر من فم إلى فم.. ومن بيت إلى بيت.. حتى وصل لامرأة العزيز.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
...........................
المشهد الثالث:
............................
(فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَـذَا بَشَرًا إِنْ هَـذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (31)
قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ (32) (يوسف(
عندما سمعت امرأة العزيز بما تتناقله نساء الطبقة العليا عنها، فقررت أن تعد مأدبة كبيرة في القصر. وأعدت الوسائد حتى يتكئ عليها المدعوات. واختارت ألوان الطعام والشراب
وأمرت أن توضع السكاكين الحادة إلى جوار الطعام المقدم.
ووجهت الدعوة لكل من تحدثت عنها. وبينما هن منشغلات بتقطيع ماقدم لهن ، فاجأتهن بيوسف ( وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا( (فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ)
أي بهتن لطلعته، ودهشن.
(وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ) وجرحن أيديهن بالسكاكين للدهشة المفاجئة. (وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ) وهي كلمة تنزيه تقال في هذا الموضع تعبيرا
عن الدهشة بصنع الله.. (مَا هَـذَا بَشَرًا إِنْ هَـذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ) يتضح من هذه التعبيرات أن شيئا من ديانات التوحيد
تسربت لأهل ذلك الزمان.
هنا انتصرت امرأة العزيز على نساء طبقتها، وأنهن لقين من طلعة يوسف الدهش والإعجاب والذهول.
فقالت قول المرأة المنتصرة، التي لا تستحي أمام النساء من بنات جنسها وطبقتها، والتي تفتخر عليهن بأن هذا متناول يدها؛ وإن كان قد استعصم في المرة الأولى فهي ستحاول المرة تلو الأخرى إلى أن يلين:
انظرن ماذا لقيتن منه من البهر والدهش والإعجاب! لقد بهرني مثلكن فراودته عن نفسه لكنه استعصم، وإن لم يطعني سآمر بسجنه لأذلّه.
إنها لم ترى بأسا من الجهر بنزواتها الأنثوية أما نساء طبقتها.
فقالتها بكل إصرار وتبجح، قالتها مبيّنة أن الإغراء الجديد تحت التهديد.
واندفع النسوة كلهم إليه يراودنه عن نفسه.. كل منهن أرادته لنفسها.. ويدلنا على ذلك أمران. الدليل الأول هو قول يوسف عليه السلام (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ)
فلم يقل (ما تدعوني إليه)..
والأمر الآخر هو سؤال الملك لهم فيما بعد (قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ).
أمام هذه الدعوات -سواء كانت بالقول أم بالحركات واللفتات- استنجد يوسف بربه ليصرف عنه محاولاتهن لإيقاعه في حبائلهن، خيفة أن يضعف في لحظة أمام الإغراء الدائم، فيقع فيما يخشاه على نفسه.
ف دعى يوسف الله دعاء الإنسان العارف ببشريته، الذي لا يغتر بعصمته؛ فيريد مزيدا من عناية الله وحياطته، ويعاونه على ا يعترضه من فتنة وكيد وإغراء.
(قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ)
واستجاب له الله.. وصرف عنه كيد النسوة.
وهذا الصرف قد يكون بإدخال اليأس في نفوسهن من استجابته لهن، بعد هذه التجربة؛ أو بزيادة انصرافه عن الإغراء حتى ما يحس في نفسه أثرا منه. أو بهما جميعا.
وهكذا اجتاز يوسف المحنة الثانية بلطف الله ورعايته، فهو الذي سمع الكيد ويسمع الدعاء، ويعلم ما وراء الكيد وما وراء الدعاء.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــ
ما انتهت المحنة الثانية إلا لتبدأ الثالثة.. لكن هذه الثالثة هي آخر محن الشدة.
يسجن يوسف عليه السلام والفصل الثالث من حياته:
ربما كان دخوله للسجن بسبب انتشار قصته مع امرأة العزيز
ونساء طبقتها، فلم يجد أصحاب هذه البيوت طريقة لإسكات هذه الألسنة سوى سجن هذا الفتى الذي دلت كل الآيات
على برائته، لتنسى القصة. قال تعالى في سورة (يوسف)
(ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35) (يوسف(
وهكذا ترسم الآية الموجزة جو هذا العصر بأكمله..
جو الفساد الداخلي في القصور، جو الأوساط الأرستقراطية..
وجو الحكم المطلق. إن حلول المشكلات في الحكم المطلق هي السجن.. وليس هذا بغريب على من يعبد آلهة متعددة.
كانوا على عبادة غير الله.. ولقد رأينا من قبل كيف تضيع حريات الناس حين ينصرفون عن
عبادة الله إلى عبادة غيره. وها نحن أولا نرى في قصة يوسف شاهدا حيا يصيب حتى الأنبياء.
فقد أصدر بإدخله السجن. بلا قضية ولا محاكمة، ببساطة ويسر..
لا يصعب في مجتمع تحكمه آلهة متعددة أن يسجن بريء
. بل لعل الصعوبة تكمن في محاولة شيء غير ذلك.
دخل يوسف السجن وبذلك نجا من إلحاح زوجة العزيز ورفيقاتها، كان السجن بالنسبة إليه مكانا هادئا يخلو فيه ويفكر في ربه.
ويبين لنا القرآن الكريم المشهد الأول من هذا الفصل:
يختصر السياق القرآني ما كان من أمر يوسف في السجن...
لكن الواضح أن يوسف -عليه السلام- انتهز فرصة وجوده في السجن، ليقوم بالدعوة إلى الله
. مما جعل السجناء يتوسمون فيه الطيبة والصلاح وإحسان العبادة والذكر والسلوك.
انتهز يوسف -عليه السلام- هذه الفرصة ليحدث الناس عن رحمة الخالق وعظمته وحبه لمخلوقاته، كان يسأل الناس:
أيهما أفضل.. أن ينهزم العقل ويعبد أربابا متفرقين..
أم ينتصر العقل ويعبد رب الكون العظيم؟
وكان يقيم عليهم الحجة بتساؤلاته الهادئة وحواره الذكي وصفاء ذهنه، ونقاء دعوته.
وفي يوم قَدِمَ له سجينان يسألانه تفسير أحلامهما، بعد أن توسما في وجهه الخير.
إن أول ما قام به يوسف -عليه السلام- هو طمأنتهما أنه سيؤول لهم الرؤى، لأن ربه علمه علما خاصا،
جزاء على تجرده هو وآباؤه من قبله لعبادته وحده، وتخلصه من عبادة الشركاء...
ثم بدأ بدعوتهما إلى التوحيد، وتبيان ما هم عليه من الضلال.
ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّىظ° حِينٍ 35 وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ غ– قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا غ– وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ غ– نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ غ– إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ 36
قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا غڑ ذَظ°لِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي غڑ إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ 37
وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ غڑ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ غڑ ذَظ°لِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَظ°كِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ 38
يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ 39 مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ غڑ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ غڑ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ غڑ ذَظ°لِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَظ°كِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ 40
بعد ذلك فسر لهما الرؤى. و بيّن لهما أن أحدها سيصلب، والآخر سينجو، وسيعمل في قصر الملك. لكنه لم يحدد من هو صاحب البشرى ومن هو صاحب المصير السيئ تلطفا
وتحرجا من المواجهة بالشر والسوء.
يَظ°صَظ°حِبَيِ ظ±لسِّجغ،نِ أَمَّاظ“ أَحَدُكُمَا فَيَسغ،قِي رَبَّهُغ¥ خَمغ،رظ—اغ– وَأَمَّا ظ±لغ،أظ“خَرُ فَيُصغ،لَبُ فَتَأغ،كُلُ ظ±لطَّيغ،رُ مِن رَّأغ،سِهِغ¦غڑ قُضِيَ ظ±لغ،أَمغ،رُ ظ±لَّذِي فِيهِ تَسغ،تَفغ،تِيَانِ (41)
وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُغ¥ نَاجظ– مِّنغ،هُمَا ظ±ذغ،كُرغ،نِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَىظ°هُ ظ±لشَّيغ،طَظ°نُ ذِكغ،رَ رَبِّهِغ¦ فَلَبِثَ فِي ظ±لسِّجغ،نِ بِضغ،عَ سِنِينَ (42)
وتروي بعض التفاسير أن هؤلاء الرجلين كانا يعملان في القصر، أحدهما طباخا، والآخر يسقي الناس،
وقد اتهما بمحاولة تسميم الملك.
أوصى يوسف من سينجو منهما أن يذكر حاله عن الملك.
لكن الرجل لم ينفذ الوصية ؛ لأن حياة القصر المزدحمة أنسته أمر يوسف عليه السلام . فلبث في السجن بضع سنين.
وقد يكون هذا الأمر زيادة في كرم الله عليه واصطفاءه له، فلم يجعل قضاء حاجته على يد عبد ولا سبب يرتبط بعبد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المشهد الثاني:
................................
في هذا المشهد تبدأ نقطة التحول.. التحول من محن الشدة إلى محن الرخاء.. من محنة العبودية والرق لمحنة السلطة والملك.
.................................................. ....................
في قصر الحكم.. وفي مجلس الملك: يحكي الملك لحاشيته رؤياه طالبا منهم تفسيرا لها.
(وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ
يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ)
لكن المستشارين والكهنة لم يعرفوالتفسير رؤياه أو أحسوا أنها رؤيا سوء فخشوا أن يفسروها للملك،
وأرادوا أن يأتي التفسير من خارج الحاشية -التي تعودت على قول كل ما يسر الملك فقط
. وعللوا عدم التفسير بأن قالوا للملك (قالوا أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين)
أي أحلام لا حاصل لهاولا لها تأويل و هذا جزم منهم بما لا يعلمون،
__________________
المشهد الثالث:
..................................
وصل الخبر إلى الساقي -الذي نجا من السجن وذكره حلم الملك بحلمه الذي رآه في السجن،
وذكره السجن بتأويل يوسف لحلمه.
وأسرع إلى الملك وحدثه عن يوسف. قال له: إن يوسف هو الوحيد الذي يستطيع تفسير رؤياك.
وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45)
وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا أي: من الفتيين، وهو: الذي رأى أنه يعصر خمرا،
وهو الذي أوصاه يوسف أن يذكره عند ربه وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ
أي: وتذكر يوسف، وما جرى له في تعبيره لرؤياهما، وما وصاه به،
وعلم أنه كفيل بتعبير هذه الرؤيا بعد مدة من السنين فقال: أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ إلى يوسف لأسأله عنها
. وأرسل الملك ساقيه إلى السجن ليسأل يوسف. ويبين لنا الحق سبحانه كيف نقل الساقي رؤيا الملك ليوسف بتعبيرات الملك
نفسها، لأنه هنا بصدد تفسير حلم، وهو يريد أن يكون التفسير مطابقا تماما لما رءاه الملك
. وكان الساقي يسمي يوسف بالصديق، أي الصادق الكثير الصدق.. وهذا ما جربه من شأنه من قبل.
(يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ )
________________________________________
فأرسلوه، فجاء إليه، ولم يعنفه يوسف على نسيانه، بل استمع ما يسأله عنه، وأجابه عن ذلك فقال ( يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ)
أي: كثير الصدق في أقواله وأفعاله.
أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ
لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُون فإنهم متشوقون لتعبيرها وقد أهمتهم.
( قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تَأْكُلُونَ 47) سورة يوسف
جاء الوقت واحتاج الملك إلى رأي يوسف.. (وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ)
فحينما سُئِلَ يوسف عن تفسير حلم الملك.. لم يشترط خروجه من السجن مقابل تفسيره.
لم يساوم ولم يتردد ولم يقل شيئا غير تفسير الرؤيا.. هكذا ببراءة النبي حين يلجأ إليه الناس فيغيثهم..
وإن كان هؤلاء أنفسهم سجانيه وجلاديه.
لم يقم يوسف -عليه السلام- بالتفسير المباشر المجرد للرؤيا.
وإنما قدم مع التفسير النصح وطريقة مواجهة المصاعب التي ستمر بها مصر.
أفهم يوسف رسول الملك أن مصر ستمر عليها سبع سنوات مخصبة تجود فيها الأرض بالغلات.
وعليهم ألا يسرفوا في هذه السنوات السبع. لأن وراءها سبع سنوات مجدبة ستأكل ما يخزنه المصريون،
وأفضل خزن للغلال أن تترك في سنابلها كي لا تفسد أو يصيبها السوس أو يؤثر عليها الجو.
بهذا انتهى حلم الملك.. وزاد يوسف تأويله لحلم الملك بالحديث عن عام لم يحلم به الملك، عام من الرخاء.
عام يغاث فيه الناس بالزرع والماء فقال: تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا أي: متتابعات.
فَمَا حَصَدْتُمْ من تلك الزروع فَذَرُوهُ أي: اتركوه فِي سُنْبُلِهِ لأنه أبقى له وأبعد من الالتفات إليه إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ
أي: دبروا أيضا أكلكم في هذه السنين الخصبة، وليكن قليلا، ليكثر ما تدخرون ويعظم نفعه ووقعه
)ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد ) سمى السنين المجدبة شدادا لشدتها على الناس
( يأكلن ) أي : يفنين ويهلكن
( ما قدمتم لهن ) أي : يؤكل فيهن ما أعددتم لهن من الطعام ، أضاف الأكل إلى السنين على طريق التوسع
( إلا قليلا مما تحصنون ) تحرزون وتدخرون للبذر
وقوله ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ تبشير لهم بأن الخير سيأتيهم، بعد تلك السنوات الشداد،
فقد جرت سنة الله-تبارك وتعالى- أن يعقب العسر باليسر.
..كان هذا العام الذي لا يقابله رمز في حلم الملك.
علما خاصا أوتيه يوسف. فبشر به الساقي ليببشر به الملك والناس.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المشهد الرابع:
.............................
عاد الساقي إلى الملك. أخبره بما قال يوسف، دهش الملك دهشة شديدة. ما هذا السجين..؟ إنه يتنبأ لهم بما سيقع، ويوجههم لعلاجه.. دون أن ينتظر أجرا أو جزاء. أو يشترط خروجا أو مكافأة. فأصدر الملك أمره بإخراج يوسف من السجن وإحضاره فورا إليه.
{ وَقَالَ الْمَلِكُ } لمن عنده { ائْتُونِي بِهِ }
أي: بيوسف عليه السلام، بأن يخرجوه من السجن ويحضروه إليه، فلما جاء يوسف الرسول وأمره بالحضور عند الملك،
امتنع عن الخروج، حتى تتبين براءته التامة، وهذا من صبره وعقله ورأيه التام.
ذهب رسول الملك إلى السجن. ولا نعرف إن كان هو الساقي الذي جاءه أول مرة. أم أنه شخصية رفيعة مكلفة بهذه الشؤون.
ذهب إليه في سجنه ليخرج للقاء الملك . رفض يوسف عليه السلام أن يخرج من السجن إلا إذا ثبتت براءته.
فقد رباه ربه وأدبه. ولقد سكبت هذه التربية وهذا الأدب في قلبه السكينة والثقة والطمأنينة. ويظهر أثر التربية واضحا
في الفارق بين الموقفين :
الموقف الذي يقول يوسف فيه للفتى: اذكرني عند ربك،
والموقف الذي يقول فيه: ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة الاتي قطعن أيدهن، الفارق بين الموقفين كبير.
فـ قَالَ : يوسف عليه السلام للرسول: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ ) يعني به الملك. (فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ)
أي: اسأله ما شأنهن وقصتهن، فإن أمرهن ظاهر متضح
) إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ(
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المشهد الخامس:
......................................
تجاوز السياق القرآني عما حدث بين الملك ورسوله، وردة فعل الملك. ليقف بنا أمام المحاكة.
(قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ * قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ * قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ)
وسؤال الملك للنسوة عما فعلنه مع يوسف . و يبدوا أن الملك سأل عن القصة ليكون على بينة من الظروف قبل أن يبدأ التحقيق، لذلك جاء سؤاله دقيقا للنساء.
فاعترف النساء بالحقيقة التي يصعب إنكارها
(قُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ).
وهنا تتقدم المرأة المحبة ليوسف، التي يئست منه، ولكنها لا تستطيع أن تخلص من تعلقها به.. تتقدم لتقول كل شيء بصراحة
. يصور السياق القرآني لنا اعتراف امرأة العزيز، بألفاظ موحية،
تشي بما وراءها من انفعالات ومشاعر عميقة
(أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ)
شهادة كاملة بإثمها هي، وبراءته ونظافته وصدقه هو.
شهادة لا يدفع إليها خوف أو خشية أو أي اعتبار آخر..
فالسياق القرآني أعمق من هذا كله. نجد امرأة العزيز حرصها على أن يحترمها الرجل الذي أهان كبرياءها الأنثوية،
ولم يعبأ بفتنتها الجسدية. ومحاولة يائسة لتصحيح صورتها في ذهنه. لا تريده أن يستمر على تعاليه واحتقاره لها كخاطئة.
تريد أن تصحح فكرته عنها فقالت :
(ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ). أنها يلست بهذا السوء الذي يتصوره فيني
. ثم تمضي في هذه المحاولة والعودة إلى الفضيلة التي يحبها يوسف ويقدرها (وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ).
وتمضي خطوة أخرى في هذه المشاعر الطيبة
(وَمَا أُبَرِّىءُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ).
إن تأمل الآيات يوحي بأن امرأة العزيز قد تحولت إلى دين يوسف. تحولت إلى التوحيد. إن سجن يوسف كان نقلة هائلة في حياتها. آمنت بربه واعتنقت ديانته.
ويصدر الأمر الملكي بالإفراج عنه وإحضاره.
يهمل السياق القرآني بعد ذلك قصة امرأة العزيز تماما ، يسقطها من المشاهد، فلا نعرف ماذا كان من أمرها بعد شهادتها الجريئة التي أعلنت فيها ضمنا إيمانها بدين يوسف عليه السلام
وقد لعبت أساطير إسرائلية دورها في قصة إمرأة العزيز مع يوسف عليه السلام ..
غير أن السياق القرآني تجاوز تماما نهاية المرأة.
أغفلها من سياق القصة، بعد أن شهدت ليوسف.. وهذا يخدم الغرض الديني في القصة،
فالقصة أساسا قصة يوسف وليست قصة المرأة..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ