02-19-2014
|
#10 |
بيانات اضافيه [
+
] | رقم العضوية : 10 | تاريخ التسجيل : May 2013 | العمر : 43 | أخر زيارة : منذ 6 يوم (03:36 AM) | المشاركات : 5,058 [
+
] | التقييم : 333960 | الدولهـ | SMS ~ | | لوني المفضل : Cadetblue | | جملة سورة الأنعام أنكر الله تعالى على المشركين شركهم: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذرأ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ} قال بعد ذلك: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آَلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (143)} ثم قال: {وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آَلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا}.
وغالب سور القرآن متضمنة لنوعي التوحيد، بل كل سورة في القرآن متضمنة، فإن القرآن إما خبر عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله وهذا هو التوحيد العلمي الخبري، وإما دعوة إلى توحيده، ونهي عن الشرك وعبادة غيره، وهذا هو التوحيد الإرادي الطلبي، وإما أمر ونهي وإلزام بطاعته وذلك من حقوق التوحيد ومكملاته.
وإما خبر عن أهل التوحيد وما حصل لهم في الدنيا من النصر والعز، وما يكرمهم به في الآخرة من الثواب فهذا جزاء من حقق التوحيد، وإما خبر عن أهل الشرك وما أصابهم في الدنيا من النكسة والهزيمة، وما يكون في الآخرة وما تكون عاقبتهم وما يحصل لهم في الآخرة من العذاب والنكال، وهذا جزاء من خرج عن التوحيد، فالقرآن كله في التوحيد وحقوقه وجزائه وجزاء أهله، وفي شأن الشرك وأهله وجزائهم.
والفاتحة (سورة الفاتحة) كذلك كلها توحيد: {الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)} توحيد {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} توحيد {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)} توحيد {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} توحيد {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (devil) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} توحيد متضمن للهداية لطريق المنعم عليهم وهم أهل التوحيد {غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)} هم الذين فارقوا التوحيد، فهذا التوحيد.
فالقرآن كله من أوله إلى آخره على هذا بهذا التفصيل كله في التوحيد وحقوقه وجزاء أهله، وفي شأن الشرك وأهله وجزائه، والتوحيد توحيد الربوبية نفاة الصفات أدخلوا فيه أدخلوا في هذا التوحيد نفي الصفات، المعطلة للجميع وغيرهم وقالوا: إن معنى التوحيد نفي الصفات، وقالوا: إن إثبات الصفات يستلزم تعدد الواجب، والواجب عندهم يسمون الله الواجب، ويسمون المخلوق الممكن. قالوا: إن إثبات الصفات يستلزم تعدد الواجب.
ففرارا من ذلك قالوا: نفي الصفات حتى لا يكون واجب إلا واحد، إنما له سمع وبصر وعلم وقدرة صار الواجب متعددا، وهذا من أبطل الباطل، هذا من الفساد؛ فإن إثبات ذات مجردة عن جميع الصفات والأسماء لا توجد في الخارج، لا يوجد شيء في الخارج إلا له اسم وصفة، فإذا نفيت الأسماء والصفات عن شخص فلا يمكن أن يوجد.
فإذا قلت: هناك شيء موجود لكن ليس له طول ولا عرض ولا عمق وليس فوق ولا تحت ولا خلف ولا يمين ولا شمال لا وجود له إلا في الذهن، وهؤلاء سلبوا الأسماء والصفات عن الرب، معنى ذلك أنهم لم يثبتوا ربا ولا خالقا إنما كل شيء في الذهن والعياذ بالله، وقد أفضى هذا التوحيد ببعضهم إلى أن وصلوا إلى الحلول والاتحاد -نعوذ بالله- حتى قالوا: إن الوجود واحد، وقالوا بالحلول والاتحاد، ووقعوا في شر من مذهب النصارى؛ فإن النصارى خصوا حلول الرب بالمسيح عيسى ابن مريم، وهؤلاء الجهمية الغلاة قالوا: إن الله حال في كل مكان تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
فلما وصلوا إلى القول بالحلول والاتحاد، وقالوا: إن الوجود واحد تفرع عن هذا التوحيد -اللي يسمونه توحيدا وهو من أعظم الشرك- تفرع عن ذلك القول بأن الوجود واحد، وقالوا: وتفرع عن هذا القول بأن فرعون على الصواب وأنه مصيب حينما قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24)} وقالوا: إن عُبّاد الأصنام على الحق والصواب، وأنهم إنما عبدوا الله ولم يعبدوا غيره، وقالوا: لا فرق في التحريم بين الأم والأخت والأجنبية، ولا بين الزنا والخمر، ولا بين الماء والخمر، ولا بين الزنا والنكاح.
وقالوا: الكل من عين واحد، بل هو العين الواحد، ومن فروع الاتحادية قالوا: إن الأنبياء ضيقوا على الناس، وبعّدوا عليهم المقصود، والأمر وراء ذلك كله، فهذا -والعياذ بالله- سببه أن هؤلاء أعرضوا عن كتاب الله وسنة رسوله، وتركوا كتاب الله وراءهم ظهريا فتولتهم الشياطين، فقالوا هذه المقالات التي سودوا بها الأوراق، وأضلوا بها الناس، وتكلموا بالكفر الصراح -نسأل الله السلامة والعافية-.
اعْلَمْ أَنَّ التَّوْحِيدَ أَوَّلُ دَعْوَةِ الرُّسُلِ، وَأَوَّلُ مَنَازِلِ الطَّرِيقِ، وَأَوَّلُ مَقَامٍ يَقُومُ فِيهِ السَّالِكُ إِلَى اللَّهِ. قَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}(1)، وَقَالَ هُودٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِقَوْمِهِ: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}(2)، وَقَالَ صَالِحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِقَوْمِهِ: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}(3)، وَقَالَ شُعَيْبٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِقَوْمِهِ: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}(4)، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}(5)، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ}
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ». وَلِهَذَا كَانَ الصَّحِيحُ أَنَّ أَوَّلَ وَاجِبٍ يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، لَا النَّظَرُ، وَلَا الْقَصْدُ إِلَى النَّظَرِ، وَلَا الشَّكُّ، كَمَا هِيَ أَقْوَالٌ لِأَرْبَابِ الْكَلَامِ الْمَذْمُومِ. بَلْ أَئِمَّةُ السَّلَفِ كُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ أَوَّلَ مَا يُؤْمَرُ بِهِ الْعَبْدُ الشَّهَادَتَانِ، وَمُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ قَبْلَ الْبُلُوغِ لَمْ يُؤْمَرْ بِتَجْدِيدِ ذَلِكَ عَقِيبَ بُلُوغِهِ، بَلْ يُؤْمَرُ بِالطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ إِذَا بَلَغَ أَوْ مَيَّزَ عِنْدَ مَنْ يَرَى ذَلِكَ، وَلَمْ يُوجِبْ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى وَلِيِّهِ أَنْ يُخَاطِبَهُ حِينَئِذٍ بِتَجْدِيدِ الشَّهَادَتَيْنِ، وَإِنْ كَانَ الْإِقْرَارُ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَاجِبًا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَوُجُوبُهُ يَسْبِقُ وُجُوبَ الصَّلَاةِ، لَكِنْ هُوَ أَدَّى هَذَا الْوَاجِبَ قَبْلَ ذَلِكَ.
وَهُنَا مَسَائِلُ تَكَلَّمَ فِيهَا الْفُقَهَاءُ؛ كَمَنْ صَلَّى وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِالشَّهَادَتَيْنِ، أَوْ أَتَى بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِ الْإِسْلَامِ، وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِهَا - هَلْ يَصِيرُ مُسْلِمًا أَمْ لَا ؟ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَصِيرُ مُسْلِمًا بِكُلِّ مَا هُوَ مِنْ خَصَائِصِ الْإِسْلَامِ. فَالتَّوْحِيدُ أَوَّلُ مَا يُدْخِلُ فِي الْإِسْلَامِ، وَآخِرُ مَا يُخْرَجُ بِهِ مِنَ الدُّنْيَا، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ». وَهُوَ أَوَّلُ وَاجِبٍ وَآخِرُ وَاجِبٍ.
فَالتَّوْحِيدُ أَوَّلُ الْأَمْرِ وَآخِرُهُ، أَعْنِي تَوْحِيدَ الْإِلَهِيَّةِ.
فإن التَّوْحِيدَ يَتَضَمَّنُ ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ:
أَحَدُهَا: الْكَلَامُ فِي الصِّفَاتِ. وَالثَّانِي: تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ، وَبَيَانُ أَنَّ اللَّهَ وَحْدَهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ. وَالثَّالِثُ: تَوْحِيدُ الْإِلَهِيَّةِ، وَهُوَ اسْتِحْقَاقُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنْ يُعْبَدَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.
أَمَّا الْأَوَّلُ: فَإِنَّ نُفَاةَ الصِّفَاتِ أَدْخَلُوا نَفْيَ الصِّفَاتِ فِي مُسَمَّى التَّوْحِيدِ، كَالْجَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ وَمَنْ وَافَقَهُ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: إِثْبَاتُ الصِّفَاتِ يَسْتَلْزِمُ تَعَدُّدَ الْوَاجِبِ ! وَهَذَا الْقَوْلُ مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالضَّرُورَةِ، فَإِنَّ إِثْبَاتَ ذَاتٍ مُجَرَّدَةٍ عَنْ جَمِيعِ الصِّفَاتِ لَا يُتَصَوَّرُ لَهَا وُجُودٌ فِي الْخَارِجِ، وَإِنَّمَا الذِّهْنُ قَدْ يَفْرِضُ الْمُحَالَ وَيَتَخَيَّلُهُ، وَهَذَا غَايَةُ التَّعْطِيلِ. وَهَذَا الْقَوْلُ قَدْ أَفْضَى بِقَوْمٍ إِلَى الْقَوْلِ بِالْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ، وَهُوَ أَقْبَحُ مِنْ كُفْرِ النَّصَارَى، فَإِنَّ النَّصَارَى خَصُّوهُ بِالْمَسِيحِ، وَهَؤُلَاءِ عَمُّوا جَمِيعَ الْمَخْلُوقَاتِ.
وَمِنْ فُرُوعِ هَذَا التَّوْحِيدِ: أَنَّ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ كَامِلُو الْإِيمَانِ، عَارِفُونَ بِاللَّهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ !
__________
(1) سورة الْأَعْرَافِ ، آية: 59.
(2) سورة الْأَعْرَافِ آية: 65.
(3) سورة الْأَعْرَافِ ، آية: 73.
(4) سورة الْأَعْرَافِ ، آية: 85.
(5) سورة النَّحْلِ ، آية: 36.
سورة الْأَنْبِيَاءِ ، آية: 25.
وَمِنْ فُرُوعِهِ: أَنَّ عُبَّادَ الْأَصْنَامِ عَلَى الْحَقِّ وَالصَّوَابِ، وَأَنَّهُمْ إِنَّمَا عَبَدُوا اللَّهَ لَا غَيْرَهُ ! وَمِنْ فُرُوعِهِ: أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ بَيْنَ الْأُمِّ وَالْأُخْتِ وَالْأَجْنَبِيَّةِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَاءِ وَالْخَمْرِ وَالزِّنَى وَالنِّكَاحِ، الْكُلُّ مِنْ عَيْنٍ وَاحِدَةٍ، لَا بَلْ هُوَ الْعَيْنُ الْوَاحِدَةُ.
وَمِنْ فُرُوعِهِ: أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ ضَيَّقُوا عَلَى النَّاسِ.
تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا.
وَأَمَّا الثَّانِي: وَهُوَ تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ، كَالْإِقْرَارِ بِأَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَنَّهُ لَيْسَ لِلْعَالَمِ صَانِعَانِ مُتَكَافِئَانِ فِي الصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ، وَهَذَا التَّوْحِيدُ حَقٌّ لَا رَيْبَ فِيهِ، وَهُوَ الْغَايَةُ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ وَالْكَلَامِ وَطَائِفَةٍ مِنَ الصُّوفِيَّةِ. وَهَذَا التَّوْحِيدُ لَمْ يَذْهَبْ إِلَى نَقِيضِهِ طَائِفَةٌ مَعْرُوفَةٌ مِنْ بَنِي آدَمَ، بَلِ الْقُلُوبُ مَفْطُورَةٌ عَلَى الْإِقْرَارِ بِهِ أَعْظَمَ مِنْ كَوْنِهَا مَفْطُورَةً عَلَى الْإِقْرَارِ بِغَيْرِهِ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ، كَمَا قَالَتِ الرُّسُلُ فِيمَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ: {قَالَتْ
{قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}(1).
وَأَشْهَرُ مَنْ عُرِفَ تَجَاهُلُهُ وَتَظَاهُرُهُ بِإِنْكَارِ الصَّانِعِ: فِرْعَوْنُ، وَقَدْ كَانَ مُسْتَيْقِنًا بِهِ فِي الْبَاطِنِ، كَمَا قَالَ مُوسَى: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ}(2).
وَقَالَ تَعَالَى عَنْهُ وَعَنْ قَوْمِهِ: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا}(3). وَلِهَذَا [ لما ] قَالَ: وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ؟ عَلَى وَجْهِ الْإِنْكَارِ لَهُ تَجَاهُلَ الْعَارِفِ - قَالَ لَهُ مُوسَى: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ}{قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ}{قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ}{قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ}{قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ}(4).
وَقَدْ زَعَمَ طَائِفَةٌ أَنَّ فِرْعَوْنَ سَأَلَ مُوسَى مُسْتَفْهِمًا عَنِ الْمَاهِيَّةِ، وَأَنَّ الْمَسْئولَ عَنْهُ لَمَّا لَمْ يكُنْ لَهُ مَاهِيَّةٌ، عَجَزَ مُوسَى عَنِ الْجَوَابِ ! وَهَذَا غَلَطٌ. وَإِنَّمَا هَذَا اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ وَجَحْدٍ، كَمَا دَلَّ سَائِرُ آيَاتِ الْقُرْآنِ عَلَى أَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ جَاحِدًا لِلَّهِ، نَافِيًا لَهُ، لَمْ يَكُنْ مُثْبِتًا لَهُ طَالِبًا لِلْعِلْمِ بِمَاهِيَّتِهِ. فَلِهَذَا بَيَّنَ لَهُمْ مُوسَى أَنَّهُ مَعْرُوفٌ، وَأَنَّ آيَاتِهِ وَدَلَائِلَ رُبُوبِيَّتِهِ أَظْهَرُ وَأَشْهَرُ مِنْ أَنْ يُسْأَلَ عَنْهُ بِمَا هُوَ ؟ بَلْ [ إنه ] أَعْرَفُ وَأَظْهَرُ وَأَبْيَنُ مِنْ أَنْ يُجْهَلَ، بَلْ مَعْرِفَتُهُ مُسْتَقِرَّةٌ فِي الْفِطَرِ أَعْظَمَ مِنْ مَعْرِفَةِ كُلِّ مَعْرُوفٍ.
وَلَمْ يُعْرَفْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الطَّوَائِفِ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ الْعَالَمَ لَهُ صَانِعَانِ مُتَمَاثِلَانِ فِي الصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ.
فَإِنَّ الثَّنَوِيَّةَ مِنَ الْمَجُوسِ، وَالْمَانَوِيَّةَ الْقَائِلِينَ بِالْأَصْلَيْنِ النُّورِ وَالظُّلْمَةِ، وَأَنَّ الْعَالَمَ صَدَرَ عَنْهُمَا -: مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ النُّورَ خَيْرٌ مِنَ الظُّلْمَةِ، وَهُوَ الْإِلَهُ الْمَحْمُودُ، وَأَنَّ الظُّلْمَةَ شِرِّيرَةٌ مَذْمُومَةٌ، وَهُمْ مُتَنَازِعُونَ فِي الظُّلْمَةِ، هَلْ هِيَ قَدِيمَةٌ أَوْ مُحْدَثَةٌ ؟ فَلَمْ يُثْبِتُوا رَبَّيْنِ مُتَمَاثِلَيْنِ.
__________
(1) سورة إِبْرَاهِيمَ آية: 10.
(2) سورة الْإِسْرَاءِ آية: 102.
(3) سورة النمل آية: 14.
(4) سورة الشُّعَرَاءِ الآيات: 24-28.
وَأَمَّا النَّصَارَى الْقَائِلُونَ بِالتَّثْلِيثِ، فَإِنِّهَمْ لَمْ يُثْبِتُوا لِلْعَالَمِ ثَلَاثَةَ أَرْبَابٍ يَنْفَصِلُ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، بَلْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ صَانِعَ الْعَالَمِ وَاحِدٌ، وَيَقُولُونَ: بِاسْمِ الْأَبِ وَالِابْنِ وَرُوحِ الْقُدُسِ إِلَهٌ وَاحِدٌ. وَقَوْلُهُمْ فِي التَّثْلِيثِ مُتَنَاقِضٌ فِي نَفْسِهِ، وَقَوْلُهُمْ فِي الْحُلُولِ أَفْسَدُ مِنْهُ. وَلِهَذَا كَانُوا مُضْطَرِبِينَ فِي فَهْمِهِ، وَفِي التَّعْبِيرِ عَنْهُ، لَا يَكَادُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ يُعَبِّرُ عَنْهُ بِمَعْنًى مَعْقُولٍ، وَلَا يَكَادُ اثْنَانِ يَتَّفِقَانِ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: هُوَ وَاحِدٌ بِالذَّاتِ، ثَلَاثَةٌ بِالْأُقْنُومِ ! وَالْأَقَانِيمُ يُفَسِّرُونَهَا تَارَةً بِالْخَوَاصِّ، وَتَارَةً بِالصِّفَاتِ، وَتَارَةً بِالْأَشْخَاصِ. وَقَدْ فَطَرَ اللَّهُ الْعِبَادَ عَلَى فَسَادِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ بَعْدَ التَّصَوُّرِ التَّامِّ. وَبالْجُمْلَةِ فَهُمْ لَا يَقُولُونَ بِإِثْبَاتِ خَالِقَيْنِ مُتَمَاثِلَيْنِ.
وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّهُ لَيْسَ فِي الطَّوَائِفِ مَنْ يُثْبِتُ لِلْعَالَمِ صَانِعَيْنِ مُتَمَاثِلَيْنِ، مَعَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالنَّظَرِ وَالْفَلْسَفَةِ تَعِبُوا فِي إِثْبَاتِ هَذَا الْمَطْلُوبِ وَتَقْرِيرِهِ، وَمِنْهُمْ مَنِ اعْتَرَفَ بِالْعَجْزِ عَنْ تَقْرِيرِ هَذَا بِالْعَقْلِ، وَزَعَمَ أَنَّهُ يُتَلَقَّى(1) مِنَ السَّمْعِ.
وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ أَهْلِ النَّظَرِ إِثْبَاتُهُ بِدَلِيلِ التَّمَانُعِ، وَهُوَ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ لِلْعَالَمِ صَانِعَانِ فَعِنْدَ اخْتِلَافِهِمَا مِثْلَ أَنْ يُرِيدَ أَحَدُهُمَا تَحْرِيكَ جِسْمٍ وَآخَرُ تَسْكِينَهُ، أَوْ يُرِيدَ أَحَدُهُمَا إِحْيَاءَهُ وَالْآخَرُ إِمَاتَتَهُ: فَإِمَّا أَنْ يَحْصُلَ مُرَادُهُمَا، أَوْ مُرَادُ أَحَدِهِمَا، أَوْ لَا يَحْصُلُ مُرَادُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَالْأَوَّلُ مُمْتَنَعٌ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ الْجَمْعَ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ، وَالثَّالِثُ مُمْتَنَعٌ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ خُلُوُّ الْجِسْمِ عَنِ الْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ، وَهُوَ مُمْتَنَعٌ، وَيَسْتَلْزِمُ أَيْضًا عَجْزَ كُلٍّ مِنْهُمَا، وَالْعَاجِزُ لَا يَكُونُ إِلَهًا، وَإِذَا حَصَلَ مُرَادُ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، كَانَ هَذَا هُوَ الْإِلَهَ الْقَادِرَ، وَالْآخَرُ عَاجِزًا لَا يَصْلُحُ لِلْإِلَهِيَّةِ، وَتَمَامُ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ مَعْرُوفٌ فِي مَوْضِعِهِ.
وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ يَزْعُمُونَ أَنَّ دَلِيلَ التَّمَانُعِ هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا}(2)؛ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ تَوْحِيدَ الرُّبُوبِيَّةِ الَّذِي قَرَّرُوهُ هُوَ تَوْحِيدُ الْإِلَهِيَّةِ الَّذِي بَيَّنَهُ الْقُرْآنُ، وَدَعَتْ إِلَيْهِ الرُّسُلُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، بَلِ التَّوْحِيدُ الَّذِي دَعَتْ إِلَيْهِ الرُّسُلُ، وَنَزَلَتْ بِهِ الْكُتُبُ، هُوَ تَوْحِيدُ الْإِلَهِيَّةِ الْمُتَضَمِّنُ تَوْحِيدَ الرُّبُوبِيَّةِ، وَهُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْعَرَبِ كَانُوا يُقِرُّونَ بِتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَأَنَّ خَالِقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاحِدٌ، كَمَا أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ}(3). {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}{سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ}(4).
__________
(1) في المطبوعة « يلتقي ».
(2) سورة الْأَنْبِيَاءِ آية: 22.
(3) سورة لُقْمَانَ آية: 25.
(4) سورة الْمُؤْمِنُونَ الآيتان: 84-85.
وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ، وَلَمْ يَكُونُوا يَعْتَقِدُونَ فِي الْأَصْنَامِ أَنَّهَا مُشَارِكَةٌ لِلَّهِ فِي خَلْقِ الْعَالَمِ، بَلْ كَانَ حَالُهُمْ فِيهَا كَحَالِ أَمْثَالِهِمْ مِنْ مُشْرِكِي الْأُمَمِ مِنَ الْهِنْدِ وَالتُّرْكِ وَالْبَرْبَرِ وَغَيْرِهِمْ، تَارَةً يَعْتَقِدُونَ أَنَّ هَذِهِ تَمَاثِيلُ قَوْمٍ صَالِحِينَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَيَتَّخِذُونَهُمْ شُفَعَاءَ، وَيَتَوَسَّلُونَ بِهِمْ إِلَى اللَّهِ، وَهَذَا كَانَ أَصْلَ شِرْكِ الْعَرَبِ، قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ قَوْمِ نُوحٍ: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا}(1). وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، وَكُتُبِ التَّفْسِيرِ، وَقَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهَا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَغَيْرِهِ مِنَ السَّلَفِ، أَنَّ هَذِهِ أَسْمَاءُ قَوْمٍ صَالِحِينَ فِي قَوْمِ نُوحٍ، فَلَمَّا مَاتُوا عَكَفُوا عَلَى قُبُورِهِمْ، ثُمَّ صَوَّرُوا تَمَاثِيلَهُمْ، ثُمَّ طَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَعَبَدُوهُمْ، وَأَنَّ هَذِهِ الْأَصْنَامَ بِعَيْنِهَا صَارَتْ إِلَى قَبَائِلِ الْعَرَبِ، ذَكَرَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَبِيلَةً قَبِيلَةً. وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي الْهَيَّاجِ الْأَسَدِيِّ، قَالَ: قَالَ لِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَلَا أَبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ «أَمَرَنِي أَنْ لَا أَدَعَ قَبْرًا مُشْرِفًا إِلَّا سَوَّيْتُهُ، وَلَا تِمْثَالًا إِلَّا طَمَسْتُهُ». وَفِي"الصَّحِيحَيْنِ"عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ: «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ»، يُحَذِّرُ مَا فَعَلُوا، قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأُبْرِزَ قَبْرُهُ، وَلَكِنْ كُرِهَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا، وَفِي"الصَّحِيحَيْنِ"أَنَّهُ ذُكِرَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ كَنِيسَةٌ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ، وَذُكِرَ لَهُ مِنْ حُسْنِهَا وَتَصَاوِيرَ فِيهَا، فَقَالَ: «إِنَّ أُولَئِكَ إِذَا مَاتَ فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ التَّصَاوِيرَ، أُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». وَفِي"صَحِيحِ مُسْلِمٍ"عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسٍ: «إِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ مَسَاجِدَ، أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ، فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ».
وَمِنْ أَسْبَابِ الشِّرْكِ عِبَادَةُ الْكَوَاكِبِ، وَاتِّخَاذُ الْأَصْنَامِ بِحَسَبِ مَا يُظَنُّ أَنَّهُ مُنَاسِبٌ لِلْكَوَاكِبِ مِنْ طِبَاعِهَا.
وَشِرْكُ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ - فِيمَا يُقَالُ - مِنْ هَذَا الْبَابِ. وَكَذَلِكَ الشِّرْكُ بِالْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ، وَاتِّخَاذُ الْأَصْنَامِ لَهُمْ.
وَهَؤُلَاءِ كَانُوا مُقِرِّينَ بِالصَّانِعِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ لِلْعَالَمِ صَانِعَانِ، وَلَكِنِ اتَّخَذُوا هَؤُلَاءِ شُفَعَاءَ، كَمَا أَخْبَرَ عَنْهُمْ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}(2). {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ}{مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}(3). وَكَذَلِكَ كَانَ حَالُ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَذَّبُوا الرُّسُلَ. كَمَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عنهم فِي قِصَّةِ صَالِحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ التِّسْعَةِ الرَّهْطِ الَّذِينَ تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ، أَيْ: تَحَالَفُوا بِاللَّهِ، لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ. فَهَؤُلَاءِ الْمُفْسِدُونَ الْمُشْرِكُونَ تَحَالَفُوا بِاللَّهِ على قَتْلِ نَبِيِّهِمْ وَأَهْلِهِ، وَهَذَا بَيّن أَنَّهُمْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ
إِيمَانَ الْمُشْرِكِينَ.
__________
(1) سورة نُوح آية: 23.
(2) سورة الزُّمَرِ آية: 3.
(3) سورة يُونُسَ آية: 18.
فَعُلِمَ أَنَّ التَّوْحِيدَ الْمَطْلُوبَ هُوَ تَوْحِيدُ الْإِلَهِيَّةِ، الَّذِي يَتَضَمَّنُ تَوْحِيدَ الرُّبُوبِيَّةِ. قَالَ تَعَالَى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}(1..
[08:55:27 م] ام عماد المعتصمة: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}{مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}{وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ}{لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}{أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ}{وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ}(2). وَقَالَ تَعَالَى: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}(3). وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ» وَلَا يُقَالُ: إِنَّ مَعْنَاهُ يُولَدُ سَاذِجًا لَا يَعْرِفُ تَوْحِيدًا وَلَا شِرْكًا، كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ لما تلونا، وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ: «خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ، فَاجْتَالَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ» الْحَدِيثَ. وَفِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، حَيْثُ قَالَ: «يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ» وَلَمْ يَقُلْ: وَيُسْلِمَانِهِ. وَفِي رِوَايَةٍ:"يُولَدُ عَلَى الْمِلَّةِ"وَفِي أُخْرَى:"عَلَى هَذِهِ الْمِلَّةِ".
وَهَذَا الَّذِي أَخْبَرَ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ الَّذِي تَشْهَدُ الْأَدِلَّةُ الْعَقْلِيَّةُ بِصِدْقِهِ. مِنْهَا، أَنْ يُقَالَ: لَا رَيْبَ أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَحْصُلُ لَهُ مِنَ الِاعْتِقَادَاتِ وَالْإِرَادَاتِ مَا يَكُونُ حَقًّا، وَتَارَةً مَا يَكُونُ بَاطِلًا، وَهُوَ حَسَّاسٌ مُتَحَرِّكٌ بِالْإِرَادَات، وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُرَجِّحٍ لِأَحَدِهِمَا. وَنَعْلَمُ أَنَّهُ إِذَا عُرِضَ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ أَنْ يُصَدِّقَ وَيَنْتَفِعَ وَأَنْ يُكَذِّبَ وَيَتَضَرَّرَ، مَالَ بِفِطْرَتِهِ إِلَى أَنْ يُصَدِّقَ وَيَنْتَفِعَ، وَحِينَئِذٍ فَالِاعْتِرَافُ بِوُجُودِ الصَّانِعِ الْإِيمَانُ بِهِ هُوَ الْحَقُّ أَوْ نَقِيضُهُ، وَالثَّانِي فَاسِدٌ قَطْعًا، فَتَعَيَّنَ الْأَوَّلُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي الْفِطْرَةِ مَا يَقْتَضِي مَعْرِفَةَ الصَّانِعِ وَالْإِيمَانَ بِهِ. وَبَعْدَ ذَلِكَ: إِمَّا أَنْ يكُونَ فِي فِطْرَتِهِ مَحَبَّتُهُ أَنْفَعَ لِلْعَبْدِ أَوْ لَا. وَالثَّانِي فَاسِدٌ قَطْعًا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي فِطْرَتِهِ مَحَبَّةُ مَا يَنْفَعُهُ.
وَمِنْهَا: أَنَّهُ مَفْطُورٌ عَلَى جَلْبِ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ بِحِسِّهِ. وَحِينَئِذٍ لَمْ تَكُنْ فِطْرَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مُسْتَقِلَّةً بِتَحْصِيلِ ذَلِكَ، بَلْ يَحْتَاجُ إِلَى سَبَبٍ مُعَيَّنٍ لِلْفِطْرَةِ، كَالتَّعْلِيمِ وَنَحْوِهِ، فَإِذَا وُجِدَ الشَّرْطُ، وَانْتَفَى الْمَانِعُ، اسْتَجَابَتْ
[08:55:47 م] ام عماد المعتصمة: لِمَا فِيهَا مِنَ الْمُقْتَضِي لِذَلِكَ.
وَمِنْهَا: أَنْ يُقَالَ: مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ كُلَّ نَفْسٍ قَابِلَةٌ لِلْعِلْمِ وَإِرَادَةِ الْحَقِّ، وَمُجَرَّدُ التَّعْلِيمِ وَالتَّحْضِيضِ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ وَالْإِرَادَةَ، لَوْلَا أَنَّ فِي النَّفْسِ قُوَّةً تَقْبَلُ ذَلِكَ، وَإِلَّا فَلَوْ عُلِّمَ الْجُهَّال وَالْبَهَائِمُ وَحُضِّضَا لَمْ يَقْبَلَا. وَمَعْلُومٌ أَنَّ حُصُولَ إِقْرَارِهَا بِالصَّانِعِ مُمْكِنٌ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ مُنْفَصِلٍ مِنْ خَارِجٍ، وَتَكُونُ الذَّاتُ كَافِيَةً فِي ذَلِكَ، فَإِذَا كَانَ الْمُقْتَضِي قَائِمًا فِي النَّفْسِ وَقُدِّرَ عَدَمُ الْمَعَارِضِ، فَالْمُقْتَضِي السَّالِمُ عَنِ الْمَعَارِضِ يُوجِبُ مُقْتَضَاهُ، فَعُلِمَ أَنَّ الْفِطْرَةَ السَّلِيمَةَ إِذَا لَمْ يَحْصُلْ لَهَا مَا يُفْسِدُهَا، كَانَتْ مُقِرَّةً بِالصَّانِعِ عَابِدَةً لَهُ.
__________
(1) سورة الرُّومِ آية: 30.
(2) سورة الروم الآيات من: 31- إلى 36.
(3) سورة إِبْرَاهِيمَ آية: 10. |
| |