المطلب الأول فيما وافق فيه المصنف أهل الكوفة وأنا ذاكر في هذا المطلب ـ إن شاء الله تعالى ـ ما وقفت عليه من مسائل في هذه المقدمة ، بشرط موافقتها لأقوال الكوفيين فيما انفردوا فيه من المسائل ، فأقول راجيا من الله التوفيق والسداد :
الموافقة الأولى :
قال المصنف رحمه الله تعالى في باب الأفعال :
« والأمر مجزوم أبدا » .
قال أبو بكر عفا الله عنه :
إطلاق المصنف عبارة الجزم ـ وهو من ألقاب الإعراب ـ فيه موافقة لأهل الكوفة القائلين بأنه ـ أي فعل الأمر ـ معرب مجزوم بلام أمر مقدرة ، خلافا لأهل البصرة القائلين بأنه مبني على السكون .
والخلاف في هذه المسألة مبني على الخلاف في الإعراب ، فالذي ذهب إليه البصريون أن الإعراب أصل في الأسماء فرع في الأفعال ، ورتبوا على مقالتهم أنه مبني على الأصل ولا مقتضي لإعرابه ، والذي ذهب إليه الكوفيون أن الإعراب أصل في الأسماء وفي الأفعال ، ورتبوا على مقالتهم أنه معرب إذ لا مقتضي لبنائه ، هذا وفي المسألة كلام أطول لا تسعه هذه العُجالة (145) .
الموافقة الثانية :
قال المصنف رحمه الله تعالى عند كلامه عن المضارع في باب الأفعال :
« فالنواصب عشرة وهي : أن ولن وإذن وكي ولام كي ولام الجحود وحتى ، والجواب بالفاء والواوِ وأو » .
قال أبو بكر عفا الله عنه :
أجمل المصنف رحمه الله تعالى القول في هذه النواصب ، فلم يبين فيها شيئا ، والحاصل أن منها ما ينصب بنفسه ، ومنها ما ينصب بإضمارٍ بعده ، ومنها ما ينصب بالخلاف ـ أي مخالفة ما قبلها لما بعدها ـ ، وصنيعه هذا متردد بين أمرين ، إما أنه يختار أنها تنصب بنفسها ، وإما أنه نسب النصب إليها اختصارا وتقريبا لأذهان الطلبة المبتدئين ، ورجح الثاني بعضُ شراح مقدمته ، ولا يأباه الذوق ، والأول قريب فلا بأس أن نبني عليه ، فنذكر مذاهب أهل العلم في بعض هذه العشرة بطريق الاختصار ، فأقول وبالله التوفيق :
أما إذن :
فمذهب الجمهور أنها حرف ، وذهب بعض الكوفيين إلى أنها اسم وأصلها (( إذا )) ، ثم اختلف القائلون بحرفيتها ، فقال الأكثرون إنها بسيطة ، وذهب الخليل في أحد أقواله إلى أنها مركبة من (( إذ )) و (( أن )) ، واختلف القائلون بأنها بسيطة ، فذهب الأكثرون إلى أنها ناصبة بنفسها ، وذهب الخليل فيما روى عنه أبو عبيدة إلى أنها ليست ناصبة بنفسها ، وأن (( أن )) بعدها مقدرة ، وإليه ذهب الزجاج والفارسي ، قال المرادي : « والصحيح إنها ناصبة بنفسها » اهـ (146) .
وأما كي :
فمذهب سيبويه أنها تنصب بنفسها ، وعليه عامة أهل البصرة والمتأخرون ، وذهب الخليل والأخفش إلى أن (( أن )) مضمرة بعدها والله تعالى أعلم (147) .
وأما لامها :
وهي المسماة لام التعليل ، فمذهب أهل البصرة أنها تنصب بأن مضمرة بعدها ، وذهب أهل الكوفة إلى أنها ناصبة للفعل بنفسها ، وذهب السيرافي وابن كيسان إلى أنها تنصب بإضمار (( أن )) أو (( كي )) المصدرية ، وذهب ثعلب إلى أن الفعل بعدها انتصب بها لقيامها مقام (( أن )) والله تعالى أعلم (148) .
وأما لام الجحود :
فذهب أهل البصرة إلى أن الناصب في لام الجحود هو (( أن )) المضمرة بعدها ، وذهب أهل الكوفة إلى أن الناصب هو نفس اللام ، وذهب ثعلب إلى أن اللام هي الناصبة لقيامها مقام (( أن )) والله تعالى أعلم (149) .
وأما حتى :
فذهب البصريون إلى أنها تنصب بأن مضمرة بعدها ، وخالفهم أهل الكوفة فقال الفراء والكسائي وعامتهم إنها تنصب بنفسها والله تعالى أعلم (150) .
وأما الفاء الجوابية :
فهي الفاء الناصبة للفعل في جواب الأمر والنهي والدعاء والاستفهام والتحضيض والعرض والتمني والنفي والترجي ، ومذهب البصريين أن هذه الفاء هي العاطفة ، والفعل بعدها منصوب بأن مضمرة ، وخالفهم الكوفيون على فريقين ، فذهب بعضهم إلى أنها ناصبة للفعل بنفسها ، وذهب آخرون إلى أنها نصبت بالخلاف ، لأنه لما لم يصحَّ عطف ما بعدها على ما قبلها لمخالفته له في المعنى نُصِب والله تعالى أعلم (151) .
وأما الواو الجوابية :
فيقال فيها ما قلناه في الفاء إجمالا وتفصيلا والله تعالى أعلم (152) .
وأما أو الجوابية :
فالبصريون ينصبون بأن مضمرة بعدها ، وخالفهم الكوفيون فمنهم من قال تنصب بنفسها ، وهو مذهب الكسائي وأصحابه وأبي عمر الجرمي ، ومنهم من قال تنصب بالخلاف ـ أي مخالفة ما قبلها لما بعدها ـ وهو مذهب الفراء والله تعالى أعلم (153) .
هذا إيجاز ما تقدم ، فإن أجرينا مقالته على الظاهر في أنها ـ أي النواصب الستة ـ تنصب بنفسها ، فيكون اختار مقالة الكوفيين من حيثُ الجملة ، وسار على سيرهم ـ كما تقدم نقل مذهبهم في لام كي ولام الجحود وحتى ، والفاء والواو وأو الجوابيات ـ ، وإلا بأن قلنا إنه أراد الاختصار وتقريب المسألة للمبتدئين فلا كلام معه من هذا الوجه ، إلا أنا نخالفه فيه والله تعالى أعلم .
الموافقة الثالثة :
لما قسم المؤلف رحمه الله تعالى الكلام إلى اسم وفعل وحرف جاء لمعنى عَرَّفَ كل نوع بخاصته فقال :
« والفعل يعرف بقد والسين وسوف وتاء التأنيث الساكنة » .
قال أبو بكر عفا الله عنه :
ذكر المصنف رحمه الله هنا أربع علامات للفعل يتميز بها عن الاسم والحرف ، وليس في هذه العلامات الأربع ما يصح أن يكون للأمر ، مما يؤكد أنه جرى على طريقة أهل الكوفة والأخفش في تقسيم الفعل إلى ماض ومضارع ، وأن الأمر داخل في المضارع لأنه مقتطع منه ، وهذا يؤيد ما ظهر لنا من كلامه فيما سبق حيثُ قال « والأمر مجزوم أبدا » والله تعالى أعلم .
الموافقة الرابعة :
قال المصنف رحمه الله تعالى في باب مخفوضات الأسماء :
« المخفوضات ثلاثة أقسام..... فأما المخفوض بالحرف ، فهو ما يخفض بمن ، وإلى ، وعن ، وعلى ، وفي ، وربَّ ، والباء ، والكاف ، واللام ، وبحروف القسم ، وهي : الواو ، والباء ، والتاء ، وبواو ربَّ ، وبمُذ ، ومنذ » .
قال أبو بكر عفا الله عنه :
ذكر المصنف رحمه الله تعالى حروف الخفض في موضعين من مقدمته ، هذا أحدهما ، والثاني في باب علامات الاسم ، ولم يذكر في جملة ما عده من حروف الخفض في الموضعين (( كي )) ، وصنيعه هذا يتردد بين احتمالين ، أحدهما عندي ـ ولست ممن له عند ـ أظهر من الآخر ، أما الأول ـ وهو الأظهر ـ أنه يوافق أهل الكوفة القائلين بأن (( كي )) لا تكون إلا حرف نصب ويمتنع كونها للجر ، كما حكاه عنهم غير واحد من أهل هذا الفن ، وعمدتهم فيه القياس والله تعالى أعلم . هذا الاختمال الأول ، أما الثاني فيقال فيه لعله تركها لقلتها ، ويعكر عليه أمور كثيرة سأفرد لها مبحثا خاصا إن شاء الله تعالى (154) .
الموافقة الخامسة :
قال المصنف رحمه الله تعالى في باب الأفعال :
« والجوازم ثمانية عشر وهي : لم ، لما ، ألم ، ألما ، ولام الأمر والدعاء ، ولا في النهي والدعاء ، وإن ، وما ، ومن ، ومهما ، وإذْما ، وأيُّ ، ومتى ، وأيان ، وأين ، وأنى ، وحيثما ، وكيفما ، وإذا في الشِّعر خاصة » .
قال أبو النجا : « قوله (( كيفما )) موضوع للدلالة على الحال ثم ضُمِّنَ معنى الشرط ، والجزم بها مذهب كوفي ممنوع عند البصريين . قال بعض الشراح ولم أجد لها من كلام العرب شاهدا بعد الفحص اهـ وإنما لم تجزم عند البصريين لمخالفتها لأدوات الشرط بوجوب موافقة جوابها لشرطها ، نحو كيفما تجلس أجلس ، فلا يصح كيفما تجلس أذهب » اهـ (155) .
قال أبو بكر عفا الله عنه :
والحاصل أن الخلاف في (( كيف )) هل تجزم على ثلاثة أقوال :
القول الأول : المنع مطلقا ، وهو مذهب سيبويه وعليه عامة أهل البصرة ، وعلة المنع عندهم مخالفتها لأدوات الشرط بوجوب موافقة جوابها لشرطها كما تقدم والله تعالى أعلم .
القول الثاني : الجواز مطلقا ، وهو مذهب أهل الكوفة وقطرب من البصريين .
القول الثالث : التفصيل ، فأجيز إن اقترنت بـ (( ما )) ، ومنع إن لم تقترن ، ولم أقف على من قال به بعد شدة البحث والتحري ، والأقرب إلى النفس أنه قول لبعض الكوفيين والله تعالى أعلم (156) .
ثم وجدتُ في تاج العروس في أصل الكاف والياء والفاء : بعد أن عدَّ بعض استعمالات كيف ... قال :
« قال شيخنا : كيف إنما تستعمل شرطا عند الكوفيين ولم يذكروا لها مثالا ، واشترطوا لها مع ما ذكر المصنف أن يقترن بها ما فيقال : كيفما ، وأما مجردة فلم يقل أحد بشرطيتها ، ومن قال بشرطيتِها ـ وهم الكوفيون ـ يجزمون بها كما في مبادئ العربية ... اهـ قلتُ ـ أي الزبيدي ـ : وهذا الذي أشار له شيخنا ذكره الجوهري حيثُ قال : وإذا ضممت إليه ما صح أن يجازى به تقول : كيفما تفعل أفعل اهـ وقال ابنُ بَرِّيّ : لا يجازى بكيف ولا بكيفما عند البصريين ، ومن الكوفيين من يجازي بكيفما والله تعالى أعلم » اهـ (157) .
قال أبو بكر : وقد يقال أهل اللغة يضعفون في النحو ، وهو وإن صح إلا أنه لا يُسَلَّم فتأمل .
وقال سيبويه عليه شآبيب الرحمة والرضوان : « سألت الخليل عن قوله : كيف تصنعْ أصنع ْ ، قال هي مستكرهة ، وليست من حروف الجزاء ، ومخرجُها على الجزاء ، لأن معناها : على أي حال تكنْ أكنْ » اهـ . قال ابن خروف رحمه الله تعالى معلقا على قول الخليل : « يريد أن العرب لم تجزم بها وإن دخلها معنى الجزاء » اهـ (158) .
قال أبو بكر عفا الله عنه :
يؤخذ من هذا أنه لا خلاف في الجزاء بها عند الفريقين ، إنما الخلاف في الجزم بها ، وهو محل البحث والتفتيش .
والظاهر من صنيع الإمامين الجليلين ابن معط ومالك رحمهما الله تعالى أنها لا تجزم عندهما جملة وتفصيلا ، فإنهما ما ذكراها في الحوازم على شهرة الخلاف فيها والله تعالى أعلم (159) .
أما الشيخ مصطفى الغلايني رحمه الله تعالى فرجح القول بالتفصيل ، وتبعه شيخنا الدرة حفظه الله تعالى ، واستدل له بالخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم [ كيفما تكونوا يولَّ عليكم ] (160) .
قال أبو بكر : اختلفت الرواية فيه ، فقيل : [ كما تكونوا يولى عليكم ] ، فلا حجة فيه عندئذ ، وبالجملة فلا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أي اللفظين والله تعالى أعلم .
الموافقة السادسة :
قال المصنف رحمه الله تعالى في باب منصوبات الأسماء :
« المنصوبات خمسة عشر ، وهي : ....... واسم لا ...... » .
وقال أيضا في باب لا :
« اعلم أن لا تنصب النكرات ..... » .
قال أبو بكر عفا الله عنه :
ظاهر كلام المصنف رحمه الله يوافق مذهب أهل الكوفة والزجاج والمبرد ، حيثُ يرون أن اسم لا معرب منصوب ، أي فتحته ـ أو ما ناب عنها ـ فتحة إعراب ، في حين يرى أهل البصرة أنه مبني على الفتح ـ أو ما قام مَقامه ـ ومحله النصب (161) .
الموافقة السابعة :
عبر المصنف رحمه الله تعالى في غير ما موضع من مقدمته بالخفض ، خلا ثلاثة مواضع فإنه أطلق فيها الجر ، والخفض عبارة أهل الكوفة ، ودرج أهل البصرة على التعبير بالجر . وقد أشار إلى هذا الإمام السيوطي كما تقدم ، وكذا الشيخ أبو النجا في حاشيته على شرح الشيخ خالد الأزهري رحمها الله تعالى .
الموافقة الثامنة :
استخدم المصنف رحمه الله تعالى عبارة النعت في مقدمته ، وهي عبارة أهل الكوفة ، قال أبو حيان : « والتعبير به ـ أي النعت ـ اصطلاح الكوفيين وربما قاله البصريون ، والأكثر عندهم الوصف والصفة » اهـ (162) .
قال أبو بكر عفا الله عنه :
ذكرته لينظر فيه ، فهو وإن كان به ميل إلى أهل الكوفة في مواضع ، غير أنه يميل إلى البصريين في غيرها كما ستعرفه ، ولينظر إلى طبقة المصنف ، وعامة اصطلاحاته مما قد أذكره لاحقا ، فإن المتأخرين عامتهم يسلكون طريق أهل البصرة ، وإن كانوا يتخيرون في المسائل ، فليتأمل هذا الموضع وليعتنى به ، والله تعالى أعلم .
الموافقة التاسعة :
قال المصنف رحمه الله تعالى في باب مرفوعات الأسماء :
« ....... والتابع للمرفوع وهو أربعة أشياء النعت والعطف والتوكيد والبدل » .
قال أبو بكر عفا الله عنه :
ذكر المصنف رحمه الله تعالى العطفَ هنا مجملا ، ثم أفرد بابا للعطف لكنه لم يذكر فيه سوى عطف النسق ، فيَرِدُ عليه تركه عطف البيان ، ويحتمل أنه عبر بالبدل وأراد معه عطف البيان ، وقد سبقه بعضهم إلى هذا ، ويحتمل أنه تبع الكوفيين في تركه ، قال الأعلم في شرح الجمل : « هذا باب يترجم له البصريون ولا يترجم له الكوفيون » اهـ والله تعالى أعلم .
يتبع إن شاء الله .....