المطلب الثاني فيما خالف فيه المصنف أهل الكوفة المخالفة الأولى :
قال المصنف رحمه الله تعالى في باب العطف :
« وحروف العطف عشرة وهي : الواو ، والفاء ، وثمّ ، وأو ، وأم ، وإما ، وبل ، ولا ، ولكن ، وحتى في بعض المواضع » .
قال أبو بكر عفا الله عنه :
عدَّ المصنف رحمه الله حتى في حروف العطف موافقا قول سيبويه وعامة أهل البصرة ، الذين يجيزون العطف بها على قلة في ذلك ، أما الكوفيون فينكرون العطف بها جملة ، ويُخَرِّجون ما بعدها على إضمار عامل وأنها ابتدائية (163) .
واختار شيخنا الدرّة حفظه الله تعالى أنها عاطفة على قلة في استعمالها (164) .
وللعطف بها ـ عند القائلين به ـ ثلاثة شروط :
أحدها : كون المعطوف اسما ظاهرا ، فلا يجوز رجع القوم حتى أنا .
وثانيها : كونه بعضا من المعطوف عليه ، إما بالتحقيق أو بالتأويل ، أو شبيها بالبعض .
فمن الأول : أكلت السمكة حتى رأسها .
ومن الثاني : قول أبي مروان النحوي :
ألقى الصحيفة كي يخفف رَحْلَه ********** والزادَ حتى نعلَه ألقاها
هذا في من نصب (( نعله )) ، و (( نعله )) يجوز فيها النصب والرفع ، أما الأول فمن وجهين ، أحدهما بإضمار عامل كأنه قال (( حتى ألقى نعله ألقاها )) ، والثاني عطفا على الصحيفة وتكون حتى بمعنى الواو ، وأما الثاني فعلى الابتداء وتكون جملة ألقاها خبرا .
ومن الثالث أعجبتني الجارية حتى كلامُها ، ويمتنع (( حتى ولدُها )) .
وثالثها : كونه غاية في زيادة حسية أو معنوية ، أو غاية في نقص حسي أو معنوي .
فمن الأول : فلان يهب الأعداد الكثيرة حتى الألوفَ .
ومن الثاني : مات الناس حتى الأنبياءُ .
ومن الثالث : المؤمن يجزى بالحسنات حتى مثقالِ الذرة .
ومن الرابع : غلبك الناس حتى الصبيانُ والنساء (165) .
المخالفة الثانية :
قال المصنف رحمه الله تعالى في باب مخفوضات الأسماء :
« المخفوضات ثلاثة أقسام ..... فأما المخفوض بالحرف ، فهو ما يخفض بـ ...... وبواو ربَّ ....... » .
قال أبو بكر عفا الله عنه :
ظاهر كلام المصنف رحمه الله تعالى وفاق مع الكوفيين وأبي العباس المبرد القائلين بأنها ـ أي الواو ـ حرف جر لنيابتها عن رب ، وأن الجر بها لا بـ رب المحذوفة ، قال المرادي رحمه الله تعالى : « والصحيح أن الجر بـ رب المحذوفة لا بالواو ، لأن الواو أسوة الفاء وبل ، قال ابن مالك : ولم يختلفوا في أن الجر بعدهما بـ رب المحذوفة » ، قلتُ : نقل المرادي الخلاف في الفاء ولم يذكر من قال به ، فلينظر هل قاله تخريجا أو نقلا ، وكذا نقل الخلاف في بل ، ووهَّم من قال به والله تعالى أعلم (166) .
والذي عند العبد الفقير أن المصنف رحمه الله تعالى يرى الجر بـ رب المحذوفة خلافا للكوفية ، يؤيده تركه ذكر الفاء وبل وهما أسوة الواو كما تقدم ، فلو أنه يرى الجر بالواو فلماذا تركهما وهما بمنزلتها ، والقول فيهما كالقول فيها ، فليتأمل هذا الموضع ، ولقائل أن يقول ترك الفاء وبل لأن إعمال رب بعدهما قليل ، ويجاب أنا نسلم القلة بعد بل أما الفاء فلا ، قال ابن هشام رحمه الله تعالى : « وإعمالها ـ أي رب ـ محذوفةً بعد الفاء كثير ، وبعد الواو أكثر ، وبعد بل قليل ، وبدونهن أقل » اهـ والله تعالى أعلم (167) .
المخالفة الثالثة :
قال المصنف رحمه الله تعالى في باب الاستثناء :
« وإن كان الكلام منفيا تاما جاز فيه البدل ، والنصب على الاستثناء ...... » .
قال أبو بكر عفا الله عنه :
أما النصب على الاستثناء فمحل اتفاق بين البلدين ، وأما البدلية فهي طريقة البصريين ؛ لأنه ـ أي المستثنى بإلا ـ على نية تكرار العامل كما لا يخفى ، وخالفهم الكوفية فذهبوا إلى أنه عطف نسق ، وإلا عندهم حرف عطف في الاستثناء خاصة والله تعالى أعلم (168) .
المخالفة الرابعة :
قال المصنف رحمه الله تعالى في باب منصوبات الأسماء :
« المنصوبات خمسة عشر وهي : .... ـ وعدَّ منها ـ ظرف الزمان وظرف المكان ..... » ثم عقد بابا لهما .
قال أبو بكر عفا الله عنه :
الظرفُ الوعاءُ توضع فيه الأشياء ، وسميت الأواني ظروفا لأنها أوعية لما يجعل فيها ، ومنه قيل للأزمنة والأمكنة ظروفا باعتبار وجدان الأفعال فيها ، فصارت كأنها أوعية لها والله تعالى أعلم .
قال أبو بكر بن السراج عليه الرحمة والرضوان :
« واعلم أن الأشياء التي يسميها البصريون ظروفا يسميها الكسائي صفة ، والفراء يسميها محالا » (169) .
قال الشيخ خالد الأزهري :
« وسماه ـ أي الظرف ـ الفراء محلا ، والكسائي وأصحابه يسمون الظروف صفات ، ولا مشاحة في الاصطلاح » (170) .
قلتُ : وظاهر كلام المصنف رحمه الله وفاق البصريين ، حيثُ سماه ظرفا ، والكوفيون يخالفون فيه كما تقدم ، قالوا : الظرف الوعاء واسم الزمان والمكان ليس كذلك ، وأجيب بأنهم تجوزوا في ذلك واصطلحوا عليه ، ولا مشاحة في الاصطلاح ، وأجيب بل المشاحة في الاصطلاح إن لم يكن بينه وبين المعنى اللغوي قرب ووفاق واتفاق ، وأجيب بأن بينهما قربا ، ألا ترى أن الوعاء توضع فيه الأشياء ، وظروف الأمكنة والأزمنة جميعا انتصبت على معنى في والله تعالى أعلم .
قلتُ : والذي جرى عليه أكثر المتأخرين تسميته بالمفعول فيه ، ورأيت بعض من تقدم سماه كذلك والله تعالى أعلم .
المخالفة الخامسة :
قال المصنف رحمه الله تعالى في باب جوازم المضارع :
« والجوازم ثمانية عشر وهي : لم ولما ........ وإذا في الشعر خاصة » .
قال أبو بكر عفا الله عنه :
اختار المصنف رحمه الله تعالى جواز الجزم بـ إذا في الشعر خاصة ، وهذا خلاف مذهب الكوفيين الذين يجيزون الجزم بها مطلقا والله تعالى أعلم (171) .
المخالفة السادسة :
قال المصنف رحمه الله تعالى في باب العوامل الداخلة على المبتدأ :
« وأما ظننت وأخواتها فإنها تنصب المبتدأ والخبر على أنهما مفعولان لها ..... » .
قال أبو بكر عفا الله عنه :
ذهب المصنف رحمه الله تعالى إلى أن الخبر مفعول ثان لـ ظن ، وهي مقالة البصريين ، وذهب أهل الكوفة إلى أنه منصوب على الحال ، واستدل الفريقان كل منهما بالقياس ودفع قياس المخالف والله تعالى أعلم (172) .
المخالفة السابعة :
قال المصنف رحمه الله تعالى في باب العوامل الداخلة على المبتدأ :
« وأما إن وأخواتها فإنها تنصب الاسم وترفع الخبر ... » .
قال أبو بكر عفا الله عنه :
ظاهر عبارة المصنف رحمه الله تعالى يوافق مقالة البصريين ، حيثُ يرون أن رافع الخبر هو إن ، وذهب الكوفيون إلى أنه باق على الأصل ، وكذا انتشر الخلاف في رافع اسم كان على نحو ما قيل في خبر إن ، فذهب البصريون إلى ارتفاعه بها ، وذهب الكوفيون إلى أنه باق على الأصل والله تعالى أعلم (173) .
المخالفة الثامنة :
قال المصنف رحمه الله تعالى في باب معرفة علامات الإعراب :
« وأما الكسرة فتكون علامة للنصب في جمع المؤنث السالم » .
قال أبو بكر عفا الله عنه :
ذهب المصنف رحمه الله تعالى إلى أن هذا الجمع معرب منصوب بالكسرة ـ أي عوضا عن الفتحة حملا لنصبه على جره ـ كما هو مذهب البصريين ، خلافا للأخفش في أنه مبني في محل نصب ، وخلافا للكوفيين في تجويز نصبه بالفتحة مطلقا ، وخلافا لهشام في تجويز نصبه بالفتحة في المعتل خاصة كـ لغة وثُبة ، وحكى سمعتُ لغاتَهم والله تعالى أعلم (174) .
فائدة :
قوله جمع المؤنث السالم هذا هو التعبير الشائع عن هذا الجمع ، وعبَّر ابن مالك في الخلاصة بـ ما جمع بألف وتاء ، لأن من المذكر ما يجمع هذا الجمع كحمامات ، ومنه ما لم يسلم بناء واحده كـ سجَدات ، وتبعه على ذلك ابن هشام في القطر والشذور ، قال ابن هشام رحمه الله تعالى في شرح القطر : « ولذلك عدلت عن قول أكثرهم : جمع المؤنث السالم ، إلى أن قلت : الجمع بالألف والتاء ، لأعم جمع المؤنث وجمع المذكر ، وما سلم فيه المفرد وما تغير » اهـ ويجاب لمن عبَّر به بأنه صار علما في اصطلاحهم على ما جمع بألف وتاء مزيدتين والله تعالى أعلم (175) .
المخالفة التاسعة :
قال المصنف رحمه الله تعالى في باب مخفوضات الأسماء :
« المخفوضات ثلاثة أقسام ..... فأما المخفوض بالحرف ، فهو ما يخفض بمن ، وإلى ..... وربَّ ..... » .
قال أبو بكر عفا الله عنه :
ذهب المصنف رحمه الله تعالى إلى أن (( ربّ )) حرف جر ، وهو قول الأخفش وعامة أهل البصرة ، وذهب الكسائي وأهل الكوفة وأبو الحسين بن الطراوة من المغاربة إلى أنها اسم ، واستدلوا بالقياس والسماع (176) .
المخالفة العاشرة :
قال المصنف رحمه الله تعالى في باب التوكيد :
« ويكون ـ أي التوكيد ـ بألفاظ معلومة ..... وأجمع ، وتوابع أجمع وهي : أكتع وأبتع وأبصع » .
قال أبو بكر عفا الله عنه :
قال المصنف رحمه الله (( توابع أجمع )) على معنى أنها تتبعها لزيادة التأكيد بعد التأكيد بها أولا ، وهذا قول عامة أهل البصرة ، وذهب أهل الكوفة وابن كيسان إلى أنها أصول برأسها يصح التوكيد بها دون أجمع ، واستدلوا لمقالتهم بالسماع (177) .
المخالفة الحادية عشرة :
قال المصنف رحمه الله تعالى في باب المنادى :
« المنادى خمسة أنواع : ...... فأما المفرد العلم والنكرة المقصودة فيبنيان على الضم من غير تنوين ، نحو : يا زيدُ ويا رجُلُ » .
قال أبو بكر عفا الله عنه :
اختلف في المنادى المفرد العلم معرب هو أم مبني ، فذهب عامة أهل الكوفة والرِّياشي إلى أنه معرب مرفوع بغير تنوين ، وذهب الفراء من الكوفيين إلى أنه مبني على الضم وليس بفاعل ولا مفعول ، وذهب أهل البصرة إلى أنه مبني على الضم ومحله النصب لأنه مفعول ، واستدل الجميع بالأقيسة (178) .
المخالفة الثانية عشرة :
لما قسم المؤلف رحمه الله تعالى الكلام إلى اسم وفعل وحرف جاء لمعنى عَرَّفَ كل نوع بخاصته فقال :
« والفعل يعرف بقد والسين وسوف وتاء التأنيث الساكنة » .
قال أبو بكر عفا الله عنه :
ظاهر عمل المصنف رحمه الله أنه يعتبر (( السين وسوف )) كل واحدة منهما أصل بنفسه ، والذي ذهب إليه الكوفيون أنهما أصل واحد يرجع إلى (( سوف )) ، فـ (( السين )) من نحو قولنا (( سنفعل )) أصلها (( سوف )) ، وهذا منهم جريا على قاعدتهم في أن العرب تحذف بعض الحروف من الكلمة إذا كثر استعمالها ، وحجتهم في هذا السماع والتتبع ، وذهب البصريون إلى أن كل واحدة منهما أصل بنفسها ، وهو ما درج عليه المصنف رحمه الله تعالى (179) .
ولقائل أن يقول : عطف السين على سوف لتغايرهما في اللفظ ـ كما فعل ذلك في مواضع من مقدمته يأتي بيانها في موضعه ـ لا أنه يرى أنهما أصلان برأسهما ، وهو متجه ، فعليه تحول المسألة إلى أهل الفن طلبا للترجيح والله تعالى أعلم .
المخالفة الثالثة عشرة :
أكثر المصنف رحمه الله تعالى من استعمال لفظ (( ضمير )) كما يظهر ذلك للناظر في مقدمته ، وهو اصطلاح البصريين ، والكوفيون يعبرون بالكناية والمكني .
قال الإمام السيوطي رحمه الله تعالى :
« هذا مبحث المضمر ، والتعبير به وبالضمير للبصريين ، والكوفيون يقولون الكناية والمكني » اهـ (180) .
قال أبو بكر عفا الله عنه :
هذا هو المشهور عند النحاة ، إلا أن ابن يعيش في شرح المفصل قال : « لا فرق بين المضمر والمكني عند الكوفيين ، فهما من قبيل الأسماء المترادفة ، أما البصريون فيقولون المضمرات نوع من المكنيات ، فكل مضمر مكني ولا عكس ـ أي بينهما عموم وخصوص مطلق ـ ، والكناية إقامة اسم مُقام اسم تورية وإيجازا » اهـ فلينظر الصواب في هذا ، فإني نقلته بهذا الغرض والله أعلم (181) .
وعبر اين السراج ـ وهو رأس في البصريين ـ في الأصول بـ الكناية ، قال رحمه الله تعالى :
« الكنايات على ضربين : متصل بالفعل ومنفصل منه ، فالمتصل غير مفارق للفعل والفعل غير خال منه.... » فليتفطن لهذا (182) .
المخالفة الرابعة عشرة :
قال المصنف رحمه الله تعالى : « باب البدل » .
وكذا عبر بـ البدل في مواضع من مقدمته .
قال أبو بكر عفا الله عنه :
والتعبير بالبدل اصطلاح البصريين ، قال الأخفش : والكوفيون يسمونه التبيين ، وقال ابن كيسان : التكرير ، والمسألة تحتاج سعة إطلاع ، وزيادة بحث وتنقيب ، وتحر وتفتيش ، ولستُ من أهلها فالله تعالى أعلم (183) .
يتبع إن شاء الله تعالى ........