المبحث الثالث في ذكر اختيارات الآجرومي مما لم يوافق فيه أحد البلدين الاختيار الأول :
قال المصنف رحمه الله تعالى في باب البدل :
« وهو ـ أي البدل ـ على أربعة أقسام : بدل الشيء من الشيء .... وبدل الغلط » .
قال أبو بكر عفا الله عنه :
أثبت المصنف رحمه الله تعالى بدل الغلط وفاقا لسيبويه وبعضهم ، وأنكره المبرد ـ على سعة إطلاعه ـ وجماعة ، قال السيوطي : « قال أبو العباس المبرد رحمه الله تعالى : بدل الغلط لا يكون مثله في كلام الله ولا في شعر ولا في كلام مستقيم ، وقال خطاب ـ هو ابن يوسف أبو بكر الماردي ـ لا يوجد في كلام العرب ، لا نثرها ولا نظمها ، وقد عُنيت بطلب ذلك في الكلام والشعر فلم أجده ، وطلبتُ غيري به فلم يعرفه » اهـ ، ثم ذكر ـ أي السيوطي ـ أن أبا محمد بن السيد ـ أي البَطَلْيُوْسِي ـ وجده في شعرٍ لذي الرمة ، ورُدَّت دعواه والله تعالى أعلم (184) .
الاختيار الثاني :
قال المصنف رحمه الله تعالى في باب الحال :
« ولا تكون ـ أي الحال ـ إلا بعد تمام الكلام » .
قال أبو بكر عفا الله عنه :
ظاهر عبارة المصنف رحمه الله تعالى المنفية بـ لا يكون المستثناة بـ إلا يلزم منه مسألتان والله تعالى أعلم :
المسألة الأولى : اشتراط عدم تقدم الحال على صاحبها .
المسألة الثانية : اشتراط عدم تقدمها على عاملها .
أما الأولى فلا أعلمها عن نحوي قط فيما إذا كان صاحبها مرفوعا أو منصوبا أو مجرورا بحرف جر زائد ، واختلف فيما إذا كان مجرورا بحرف جر أصلي ، أو مضافا إليه على مذهبين ، الأول المنع ، وحكي عن الجمهور ، وعليه عامة أهل البصرة ، والثاني الجواز ، وعليه جماعة من أرباب الصناعة كأبي علي الفارسي وابن كيسان وابن بَرْهان ، واختاره ابن مالك رحمه الله تعالى حيثُ قال :
وسبقَ حال ما بحرف جُرَّ قَدْ ********** أَبَوْا ولا أمنعُه فقد وَرَدْ
وأما الثانية فالجمهور على الجواز مطلقا ، إلا في بعض المواضع التي يجب فيها التقديم أو التأخير ، وأطلق القول بالمنع أبو عمر الجرمي رحمه الله تعالى ، ووافقه المصنف إن حملنا كلامه على ظاهره والله تعالى أعلم (185) .
ولا يعكر على هذا أن بعض الأجلاء ذكروا ذلك ـ أي كون الحال بعد تمام الكلام ـ في كلامهم ، فإنهم ما ذكروه إلا باعتبار الأصل ، وهو كونه فضلة ، والأصل في الفضلات أن تكون بعد تمام الكلام كما لا يخفى ، وإنما لم أحمل كلام المصنف على ما حملتُ عليه كلام بعض الأجلاء ؛ للنفي والاستثناء الواردين في كلامه رحمه الله تعالى المشعرين بأنه لا يتقدم ألبتة ، والله تعالى أعلم .
الاختيار الثالث :
قال المصنف رحمه الله تعالى في باب التمييز :
« ولا يكون ـ أي التمييز ـ إلا بعد تمام الكلام » .
قال أبو بكر عفا الله عنه :
كذلك ظاهر عبارة المصنف رحمه الله تعالى المنفية بـ لا يكون المستثناة بـ إلا يلزم منه مسألتان والله تعالى أعلم :
المسألة الأولى : منعه توسط التمييز بين العامل ومعموله ، إذ لم يتمَّ الكلام بعد .
المسألة الثانية : منعه تقديمه على العامل والمعمول معا ، بطريق الأَولى .
أما الأولى فلا يعلم فيها خلاف عن أحد من النحاة كما ذكر ذلك الشيخ أبو حيان والسيوطي ، فإنهم لم يختلفوا في جواز طاب نفسا زيد ، وحَسُنَ وجها عمروٌ والله تعالى أعلم .
وأما الثانية ففيها خلاف منتشر بين النحاة ، فمنعه بإطلاق سيبويه والفراء رحمهما الله تعالى ، وعليه الأكثرون من البصريين والكوفيين والمغاربة ، وهو قضية كلام المصنف رحمه الله تعالى ، وذهب بعض الفحول وعلى رأسهم الكسائي إمام أهل الكوفة ، والجرمي والمازني وتلميذهما أبو العباس المبرد ، وكذا ابن خروف الإشبيلي ، ذهبوا جميعا إلى جواز تقدمه على العامل إذا كان فعلا متصرفا ، واحتجوا بالسماع والقياس ـ ورُدَّ السماع بأنه ضرورة ، ودفع القياس بمثله ـ ، فأجازوا نحو (( نفساً طابَ زيدٌ )) ، ومنعوا نحو (( عندي زيتاً رطلٌ )) (186) .
واختاره من المتأخرين ابن مالك رحمه الله تعالى ، فأطلق القول فيه في شرح عمدة الحافظ ، واختاره على قلة في الخلاصة حيثُ قال :
وعاملَ التمييز قدِّم مطلقا ********** والفعلُ ذو التصريف نَزْرا سُبِقا (187) .
وهو اختيار شيخنا الدرة عافاه الله والله تعالى أعلم (188) .
الاختيار الرابع :
قال المصنف رحمه الله تعالى في باب البدل :
« وهو ـ أي البدل ـ أربعة أقسام : بدل الشيء من الشيء ... وبدل الغلط .... » .
قال أبو بكر عفا الله عنه :
الجمهور يقولون بدل الكل من الكل ، وعدل المصنف عنه إلى ما هو أحسن منه ، وهو قوله : بدل الشيء من الشيء ، وحسنه أنه يدخل فيه ما لا يطلق عليه كل من كل ، وذلك نحو قوله تعالى : صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ، اللهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ (189) .
قال الشيخ في الارتشاف : بدل موافق من موافق ، وهو الذي يسمونه بدل كل من كل ، وبعض أصحابنا اصطلح عليه ببدل الشيء من الشيء والله تعالى أعلم (190) .
الاختيار الخامس :
قال المصنف رحمه الله تعالى في باب مخفوضات الأسماء :
« المخفوضات ثلاثة أقسام : .... ومخفوض بالإضافة ...... وأما ما يخفض بالإضافة فنحو قولك .... » .
قال أبو بكر عفا الله عنه :
اختلف في العامل في المضاف إليه على ثلاثة مذاهب ، هذا بيانها بإيجاز والله الموفق :
الأول : أن العامل فيه المضاف ، وهو مذهب سيبويه رحمه الله تعالى .
الثاني : أن العامل فيه حرف محذوف ، يقدر جارا ، وهو مذهب الزجاج وابن الحاجب رحمهما الله تعالى .
الثالث : أن العامل فيه نفس الإضافة ، وهو مذهب الأخفش رحمه الله تعالى ، واختاره المصنف كما يدل عليه ظاهر كلامه والله تعالى أعلم (191) .
الاختيار السادس :
قال المصنف رحمه الله تعالى في باب التوكيد :
« التوكيد تابع للمؤكد في رفعه ونصبه وخفضه وتعريفه ، ويكون بألفاظ معلومة وهي : النفس والعين وكل وأجمع وتوابع أجمع وهي أكتع وأبتع وأبصع ، تقول .... مررت بالقوم أجمعين » .
قال أبو بكر عفا الله عنه :
عطف المصنف رحمه الله تعالى أجمع على كل ، ثم قال : وتوابع أجمع وعدها مرتبة ، ولم يقل بعد كل وتابع كل وهو أجمع ، فالظاهر من جملة كلامه رحمه الله جواز التأكيد بأجمع دون كل ، وقد نصَّ على ذلك تمثيلا بقوله : مررت بالقوم أجمعين ، وما ذهب إليه المصنف هنا خلاف مذهب الجمهور كما زعمه السيوطي في الهمع ، واختار التأكيد بأجمع دون كل جمع من النحاة منهم ابن مالك رحمه الله تعالى حيثُ قال في الخلاصة :
ودون كل قد يجيء أجمعُ ********** جمعاءُ أجمعونَ ثم جُمَعُ
قال ابن عقيل رحمه الله تعالى : وزعم المصنف أن ذلك قليل ، ثم ذكر ـ أي ابن عقيل ـ له شاهدا من كلام العرب . قلتُ : فإما أنه أراد بزعم معنى قال كما استخدمه سيبويه رحمه الله تعالى في كتابه ، وإما أنه أراد تخطئته وإبطال قوله ـ وهو الأقرب عند العبد الفقير غفر الله له ـ ، وكأنه ـ أي ابن عقيل ـ فهم القلة من قوله (( قد يجيء )) باعتبار قد قبل المضارع والله تعالى أعلم (192) .
وكذا اختاره الشيخ أبو حيان وابن هشام والسيوطي رحمهم الله تعالى أجمعين ( 193) .
واختار ابن معط رحمه الله تعالى في درته ـ يسر الله بيان ما فيها من اليواقيت والدرر ، وأن قول ابن مالك (( فائقةً )) ليس على إطلاقه ـ عدم الجواز حيثُ قال :
أجمعُ أكتعُ يليه أبصـعُ ********** أبتعُ والكلُّ لـ كلٍّ يتبعُ
كمثلِ ما ورد في القرآن ********** والنفس والعين مقدمانِ (194) .
الاختيار السابع :
قال المصنف رحمه الله تعالى في باب العطف :
« وحروف العطف عشرة ، وهي ..... وعدَّ منها لكنْ .... » .
قال أبو بكر عفا الله عنه :
اختار المصنف رحمه الله تعالى العطف بـ لكنْ ، وفاقا لما قرره جمع من النحاة كسيبويه والأخفش وأبي علي الفارسي وابن كيسان وابن عصفور ، وذهب يونس بن حبيب إلى أنها ليست عاطفة ، بل هي حرف استدراك ، والواو قبلها عاطفة لما بعدها عطف مفرد على مفرد ، ووافقه ابن مالك في التسهيل على أنها غير عاطفة ، وخالفه في أن الواو قبلها عاطفة جملة على جملة ، واستدل من منع العطف بها بلزوم اقترانها بالواو قبل المفرد ، وهذا نحو ما تمسك به من منع العطف بـ إما ، وجرى عليه ابن مالك وتبعه بعضهم ، قال المرادي : « قال ابن مالك : وما يوجد في كتب النحويين من نحو (( ما قام سعد لكن سعيد )) فمن كلامهم لا من كلام العرب . ولذلك لم يُمَثِّل سيبويه في أمثلة العطف إلا بـ (( ولكنْ )) ، وهذا من شواهد أمانته وكمال عدالته ، لأنه يجيز العطف بها غيرَ مسبوقة بواو ، وترك التمثيل به لئلا يُعتقد أنه مما استعملته العرب . قلتُ ـ أي المرادي ـ : وفي قوله : إن سيبويه يجيز العطف بها غيرَ مسبوقة بواو نظر ، قال ابن عصفور رحمه الله تعالى : وينبغي أن يحمل كلام سيبويه والأخفش ـ من أنها عاطفة مع تمثيلهم للعطف بها مع الواو ـ على أنها ـ أي الواو ـ زائدة » اهـ والله تعالى أعلم .
ومجموع مذاهب أهل العلم في العطف بـ لكنْ أربعة مذاهب ، هذا بيانها على وجه الاختصار من غير إخلال إن شاء الله تعالى :
المذهب الأول : أنها عاطفة إذا لم تدخل عليها الواو ، وهو مذهب أبي علي الفارسي ، قال ابن هشام وأكثرِ النحويين ، وعبر المرادي عن قضية قول ابن هشام بـ قيل والله تعالى أعلم .
المذهب الثاني : أنها عاطفة ، ولا تستعمل إلا بالواو ، فهي زائدة لازمة ، وصححه ابن عصفور ، وقال : وعليه ينبغي أن يحمل كلام سيبويه والأخفش .
المذهب الثالث : أنها عاطفة ، وتستعمل بالواو وبدونها ، فهي زائدة غيرُ لازمة ، وهو مذهب ابن كيسان رحمه الله تعالى .
المذهب الرابع : أنها غير عاطفة ، بل هي حرف استدراك ، وهو مذهب يونس بن حبيب ، ووافقه عليه ابن مالك رحمه الله تعالى (195) .
الاختيار الثامن :
قال المصنف رحمه الله تعالى في باب العوامل الداخلة على المبتدأ :
« ... وهي ـ أي ظننت وأخواتها ـ : .....وسمعتُ ... » .
قال أبو بكر عفا الله عنه :
عدَّ المصنف رحمه الله تعالى سمعتُ فيما ينصب مفعولين ، وهي مما ألحقه الأخفش بـ علم إذا علقت بعين المخبر بعدها بفعل دال على صوت ، نحو سمعت زيدا يتكلم ، بخلاف المعلقة بمسموع نحو سمعت كلاما وسمعت خطبة ، ووافقه على ذلك أبو علي الفارسي وابن بابشاذ وابن عصفور وابن الصائغ وابن أبي الربيع وابن مالك ، واحتجوا بأنها لما دخلت على غير مسموع أُتِيَ لها بمفعول ثان يدل على المسموع ، كما أن ظن لما دخلت على غير مظنون أُتِيَ بعد ذلك بمفعول ثان يدل على المظنون ، وأنكر الجمهور كونها تنصب مفعولين ، قالوا فإن كان مما يسمع فهو المفعول ، وإن كان عينا فهو المفعول والفعل بعده في موضع نصب على الحال ، وهو على حذف مضاف ، أي سمعت صوت زيد في حال أنه يتكلم ، واحتج أبو محمد بن السيد البطليوسي للجمهور بأنها ـ أي سمعت ـ من أفعال الحواس ، قال : وأفعال الحواس كلها تتعدى إلى واحد ، وإنها لو تعدت إلى اثنين لكانت إما من باب أعطى أو من باب ظن ، ويبطل الأول ـ أي كونها من باب أعطى ـ كون الثاني ـ أي المفعول الثاني ـ فعلا ، والفعل لا يكون في موضع الثاني ـ أي المفعول الثاني ـ من باب أعطى ، ويبطل الثاني ـ أي كونها من باب ظن ـ أنها لا يجوز إلغاؤها ، وباب ظن يجوز فيه الإلغاء والله تعالى أعلم (196) .
الاختيار التاسع :
قال المصنف رحمه الله تعالى في باب جوازم المضارع :
« والجوازم ثمانية عشر وهي : ...... وأيان ... » .
قال أبو بكر عفا الله عنه :
قال السيوطي رحمه الله تعالى : « وأيان ظرف زمان ، وسليم تكسر همزته ، وأنكر قوم الجزم بها لقلته ، وكثرة ورودها استفهاما ، نحو قوله تعالى : أَيَّانَ مُرْسَاهَا ، وقوله تعالى : أَيَّانَ يُبْعَثُونَ . قال الشيخ أبو حيان : وممن لم يحفظ الجزم بها سيبويه ، لكن حفظه أصحابه » اهـ والله تعالى أعلم (197) .
الاختيار العاشر :
قال المصنف رحمه الله تعالى في باب علامات الاسم :
« فالاسم يعرف بالخفض والتنوين ودخول الألف واللام وحروف الخفض ثم عدها .... » .
وقال في باب النعت :
« والمعرفة خمسة أشياء .... وعد منها الاسم الذي فيه الألف واللام » .
قال أبو بكر عفا الله عنه :
عبر المصنف عن أداة التعريف بالألف واللام ، وهو في موضعين من مقدمته كما بينته ، ولعل صنيعه هذا يدل على أن له اختيارا وترجيحا في المُعَرِّف ، والمسألة فيها ثلاثة مذاهب كما حكاه غير واحد ، وأنا ذاكرها هنا بشيء من الاختصار وبالله التوفيق :
المذهب الأول : أن حرف التعريف ثنائي ، وهمزته همزة وصل زائدة معتد بها في الوضع ، كالاعتداد بهمزة الوصل في (( استمع )) ونحوه ، بحيث لا يعد رباعيا ، وهذا هو مذهب سيبويه رحمه الله تعالى ، قال المرادي : « وهو أقرب المذاهب إلى الصواب وقوفا مع ظاهر اللفظ » اهـ . قلتُ : ومن رأى هذا المذهب عبر بالأمرين معا ـ أعني أل أو الألف واللام ـ ، قال المرادي : « وقد وقع في كتاب سيبويه التعبير بالأمرين ، ولكن الأول ـ أي أل ـ أقيس والله تعالى أعلم » اهـ .
المذهب الثاني : أن حرف التعريف ثنائي ، وهمزته همزة قطع أصلية ، إلا أنها حذفت في الوصل تخففا لكثرة الاستعمال ، وهذا هو مذهب الخليل رحمه الله تعالى ، ونصره ابن مالك في شرح التسهيل ، واستدل على صحته بوجوه أطال في ذكرها وتقريرها ، ونازعه في ذلك الشيخ أبو حيان ، وردها جميعا وأنكر أن يكون ما ذكره ابن مالك عن الخليل مذهبا له وقال : ليس في كلام الخليل ما يدل على أن الهمزة أصلية مقطوعة في الوصل كهمزة أم وأن . قلتُ : ومن رأى هذا المذهب عبر بـ أل ، قال المرادي : « ولا يحسن أن يقول الألف واللام ، كما لا يقال في قد القاف والدال . وكذلك ذُكر عن الخليل ، قال ابن جني رحمه الله تعالى : كان يقول أل ، ولا يقول الألف واللام والله تعالى أعلم » اهـ .
المذهب الثالث : أن حرف التعريف اللام وحدها ، وهي طريقة المتأخرين ، قالوا : سكنت اللام فعسر النطق بها فتقدمتها همزة وصل مفتوحة ليتوصل بها إلى النطق بالساكن ، قلتُ : استعمله الزمخشري والرضي والله تعالى أعلم (198) .
وعبارة المصنف رحمه الله تعالى ظاهرة في المذهب الأول ، ومحتملة في الثالث فالثاني والله تعالى أعلم .
الاختيار الحادي عشر :
قال المصنف رحمه الله تعالى في باب الإعراب :
« الإعراب تغيير أواخر الكلم ..... » .
قال أبو بكر عفا الله عنه :
الذي يظهر من عبارة المصنف رحمه الله أن له اختيارا في ماهية الإعراب ، هل هو معنوي أو لفظي ، أشعر به تعبيره بِـ تغيير ، وفي المسألة ـ كما لا يخفى ـ مذهبان :
المذهب الأول : أنه معنوي والحركات دلائل عليه ، واختاره الأعلم وابن يعيش وكثيرون ، وهو ظاهر مذهب سيبويه رحمه الله تعالى.
المذهب الثاني : أنه لفظي ، واختاره ابن درستويه وجماعة من المتأخرين ، وجرى عليه ابن مالك رحمه الله تعالى ونسبه إلى المحققين ، وعرَّفه في التسهيل بقوله : ما جيء به لبيان مقتضى العامل من حركة أو حرف أو سكون أو حذف .
قال ابن يعيش رحمه الله تعالى : « واعلم أنهم قد اختلفوا في الإعراب ما هو ، فذهب جماعة من المحققين إلى أنه معنى ، قالوا وذلك اختلاف أواخر الكلم لاختلاف العوامل في أولها ، نحو هذا زيد ورأيت زيدا ومررت بزيد ، والاختلاف معنى لا محالة ، وذهب قوم من المتأخرين إلى أنه نفس الحركات ، فالإعراب عندهم لفظي لا معنوي ، فهو عبارة عن كل حركة أو سكون يطرأ على آخر الكلمة في اللفظ ، يحدث بعامل ويبطل ببطلانه ، قال رحمه الله : والأظهر المذهب الأول ـ أي أنه معنوي ـ لاتفاقهم على أنهم قالوا حركات الإعراب ، ولو كان الإعراب نفس الحركات لكان من إضافة الشيء إلى نفسه وذلك ممتنع والله تعالى أعلم » اهـ (199) .
قال أبو بكر عفا الله عنه :
وفي منعه إضافة الشيء إلى نفسه بحث ، قال أبو الفضل بن منظور رحمه الله تعالى في اللسان :
والمسجد الجامع : الذي يَجمع أَهله ، نعت له لأَنه علامة للاجتماع ، وقد يضاف ، وأَنكره بعضهم ، وإِن شئت قلتَ : مسجد الجامع بالإضافة ، كقولك الحقُّ اليقين ، وحقُّ اليقين ، بمعنى مسجد اليوم الجامع ، وحقِّ الشيء اليقينِ ، لأَن إضافة الشيء إلى نفسه لا تجوز إِلا على هذا التقدير ، قال : وكان الفراء يقول : العرب تضيف الشيء إلى نفسه لاختلاف اللفظين ، كما قال الشاعر :
فقلت : انْجُوَا عنها نَجا الجِلْدِ إنه ********** سَيُرْضِيكما منها سَنامٌ وغارِبُهْ
فأَضاف النجا ـ وهو الجِلْد ـ إلى الجلد لما اختلف اللفظان ، وروى الأَزهري عن الليث قال : ولا يقال مسجدُ الجامع ، ثم قال الأَزهري : النحويون أَجازوا جميعا ما أَنكره الليث ، والعرب تضيف الشيء إلى نفسه وإلى نَعْتِه إذا اختلف اللفظان ، كما قال تعالى : وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ؛ ومعنى الدين الملة كأَنه قال وذلك دين الملة القيِّمة ، وكما قال تعالى : وَعْدَ الصِّدْقِ ، ووعدَ الحقِّ ، قال : وما علمت أَحدا من النحويين أَبى إجازته غير الليث ، قال : وإنما هو الوعدُ الصِّدقُ ، والمسجدُ الجامعُ ، والصلاةُ الأُولى ، والله تعالى أعلم اهـ (200) .
قال الأشموني : وهو ـ أي المذهب الثاني ـ أقرب إلى الصواب والله تعالى أعلم اهـ (201) .
الاختيار الثاني عشر :
قال المصنف رحمه الله تعالى في باب العطف :
« وحروف العطف عشرة وهي : الواو ، والفاء ، وثمّ ، وأو ، وأم ، وإما ، وبل ، ولا ، ولكن ، وحتى في بعض المواضع » .
قال أبو بكر عفا الله عنه :
في عدِّ (( إما )) ـ أي الثانية من نحو قولك جاء إما زيد وإما عمرو ـ في حروف العطف خلاف منتشر ، واختار المصنف رحمه الله تعالى كونها عاطفة ، والذي عليه يونس بن حبيب وأبو علي الفارسي وابن كيسان وابن عصفور وأبو الحسن الرماني أنها غير عاطفة ، وادعى ابن عصفور الإجماع على ذلك ، قال : وإنما أوردوها في حروف العطف لمصاحبتها لها . قال المرادي : عدَّ سيبويه إما من حروف العطف ، فحمل بعضهم كلامه على ظاهره ، وقال : الواو رابطة بين إما الأولى وإما الثانية ، وتأول بعضهم كلام سيبويه بأن إما لما كانت صاحبة المعنى ومخرجةَ الواو عن الجمع ، والتابعُ يليها ، سماها عاطفة مجازا والله تعالى أعلم .
ورجح ابن مالك من المتأخرين أنها غير عاطفة تخلصا من دخول عاطف على عاطف ، وتبعه على ذلك ابن عقيل ، ورجح ابن هشام رحمه الله تعالى أنها عاطفة (202) .
واختار شيخنا الدرة حفظه الله تعالى أنها عاطفة ، وذكر معانيها الخمسة ثم قال : وهي لا تنفك عن التفصيل في كل معانيها والله تعالى أعلم (203) .
الاختيار الثالث عشر :
قال المصنف رحمه الله تعالى :
« فصل : المعربات قسمان : قسم يعرب بالحركات ، وقسم يعرب بالحروف » .
ثم فصّل القول فيهما وذكر مما يعرب بالحروف الأسماء الخمسة .
قال أبو بكر عفا الله عنه :
اختلف في إعراب الأسماء الخمسة على نحو من عشرة أقوال أو يزيد ، وأنا ذاكر في هذا الموضع أشهرها إن شاء الله تعالى بطريق الإيجاز والاختصار ، فأقول وبالله تعالى التوفيق :
المذهب الأول : أن الأسماء الخمسة معربة بالحروف نيابة عن الحركات ، وعليه قطرب وأبي إسحاق الزيادي والزجاجي من البصريين وهشام من الكوفيين في أحد القولين عنه ، وجرى عليه ابن مالك في الخلاصة ، وقال في التسهيل : إنه أسهل المذاهب وأبعدها عن التكلف ، وجرى عليه ابن هشام في الشذور والقطر والله تعالى أعلم .
المذهب الثاني : أنها معربة بحركات مقدرة في الحروف ، وأنها أُتبع فيها ما قبل الآخر للآخر ، وعليه سيبويه وأبو علي الفارسي وجمهور البصريين ، وصححه ابن مالك وأبو حيان وابن هشام وغيرهم من المتأخرين .
المذهب الثالث : أنها معربة من مكانين بالحركات والحروف معا ، وعليه الكسائي والفراء وعامة أهل الكوفة والله تعالى أعلم .
المذهب الرابع : أنها معربة بالحركات التي قبل الحروف ، وأن الحروف ناشئة عن إشباع الحركات ، وعليه المازني والزجاج .
المذهب الخامس : أنها معربة بالحركات التي قبل الحروف ، وهي منقولة من الحروف ، وعليه علي بن عيسى الربعي .
المذهب السادس : أنها معربة بالحركات التي قبل الحروف ، وهي ليست منقولة ، بل هي الحركات التي كانت فيها قبل أن تضاف ، وعليه الأعلم وابن أبي العافية (204) .
والذي يظهر أن المصنف رحمه الله تعالى يرى مقالة أصحاب القول الأول ، وعليه جمهرة من النحاة كما تقدم ، وهو خلاف ما ذهب إليه جمهور أهل البصرة والكوفة ، فذهب البصريون إلى أنها معربة بحركات مقدرة في الحروف ، وأنها أُتبع فيها ما قبل الآخر للآخر ـ كما تقدم في المذهب الثاني ـ ، وذهب أهل الكوفة ـ كما في المذهب الثالث ـ إلى أن المعرب ثلاثة أقسام ، فزادوا قسما من جِماع القسمين وجعلوه معربا بالحركات والحروف ، وخرجوا عليه إعراب الأسماء الخمسة ، فهي عندهم معربة من مكانين ، أي ترفع بالضمة والواو ، وتنصب بالفتحة والألف ، وتجر بالكسرة والياء والله تعالى أعلم .
وهذا نحو ما قالوا في إعراب امرِىء وابنِم والله سبحانه وتعالى أعلم (205) .
الاختيار الرابع عشر :
قال المصنف رحمه الله تعالى في باب الاستثناء :
« والمستثنى بخلا وعدا وحاشا يجوز نصبه وجره ..... » .
قال أبو بكر عفا الله عنه :
اختلف النحاة في هذه الثلاثة على أقوال سنعرض لها سريعا ، ونقف عند حاشا منها ، فأقول وبالله التوفيق :
أما خلا : فتكون حرف جر وفعلا متعديا ـ على الراجح إن شاء الله تعالى ـ وهي في الحالين من أدوات الاستثناء ، وقد ثبت الوجهان ـ أعني الجر والنصب بها ـ بالنقل الصحيح عن العرب كما أفاده المرادي ، ويتعين النصب بها إذا تقدمتها ما المصدرية لأنها ـ أي ما ـ لا توصل بحرف الجر ، وإنما توصل بالفعل ، وذهب جماعة إلى جواز الجر بها وإن تقدمتها ما ، باعتبارها زائدة ، منهم الكسائي والجرمي وأبو علي الفارسي وعلي بن عيسى الربعي والله تعالى أعلم (206) .
وأما عدا : فالقول فيها كالقول في خلا حرفا حرفا ، إلا أن سيبويه رحمه الله تعالى حكى فعليتها وما حكى حرفيتها عن أحد ، ولا ضيرَ في ذلك فقد حكاه غيره من الأئمة ، ومن علم حجة على من لم يعلم والله تعالى أعلم (207) .
وأما حاشا : فعلى ثلاثة أوجه :
الوجه الأول : التي بمعنى استثنى ، فهي فعل ماض ، ومضارعه أُحاشي ، وهو مسموع لا إشكال فيه والله أعلم .
الوجه الثاني : التي للتنزيه ، نحو قوله تعالى في سورة يوسف : وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ ، وحاشى هذه ليست حرفا بلا خلاف ـ كذا قاله ابن مالك رحمه الله تعالى ـ ، وفيها قولان :
الأول : أنها فعل ، وهي طريقة الكوفيين ، وبه قال أبو العباس المبرد وابن جني وغيرهما ، وحجتهم دخولها على الحرف ، والحروف لا تدخل على بعضها ، والتصرُّف فيها بالحذف ، والحذفُ من الحروف قليل .
الثاني : أنها اسم ، وهو ظاهر قول الزجاج ، وصححه ابن مالك رحمه الله تعالى حيثُ قال : الصحيح أنها اسم منتصب انتصاب المصدر الواقع بدلا من اللفظ بالفعل والله تعالى أعلم .
الوجه الثالث : التي للاستثناء ، وفيها ثلاثة مذاهب :
الأول : أنها حرف جر دال على الاستثناء كـ إلا ، وهو مذهب سيبويه ، وتبعه عليه أكثر البصريين ، ولا يجيز سيبويه النصب بها لأنه لم يبلغه .
الثاني : أنها تكون حرف جر وفعلا متعديا ، كالقول في خلا وعدا ، وهو مذهب الجرمي والمازني والمبرد والزجاج وصححه المرادي لثبوت النقل به من طريق الثقات عن العرب .
الثالث : أنها فعل لا فاعل له ، وإذا خفض الاسم بعدها فخفضه بلام مقدرة ، وهو مذهب الفراء وأكثر الكوفيين والله تعالى أعلم .
والذي عند العبد الضعيف ـ غفر الله مساويه ـ أن المصنف رحمه الله تعالى خالف البصريين في إجازته النصب بعد حاشا وهم لا يقولون به ، وخالف الكوفيين في إجازته الجر بعدها وهم لا يقولون به ، ولا تقولنَّ في نفسك : الكوفيون يجرون الاسم بعدها بلام مقدرة كما تقدم فهو لا يخالفهم ، لأن ظاهر كلام المصنف أن الاسم بعدها يجر وينتصب بها جوازا ، فتأمل والله تعالى أعلم (208) .
الاختيار الخامس عشر :
قال المصنف رحمه الله تعالى في باب العوامل الداخلة على المبتدأ :
« وأما إن وأخواتها فإنها تنصب الاسم وترفع الخبر ، وهي : إن وأن وكأن ولكن وليت ولعل » .
قال أبو بكر عفا الله عنه :
ظاهر كلام المصنف رحمه الله تعالى أن (( إن )) و (( أن )) أصلان بذاتهما ، وأن المفتوحة ليست فرع المكسورة ، وكونها فرع المكسورة هو مذهب الجماهير ، وعليه سيبويه والمبرد في المقتضب وأبو بكر بن السراج في الأصول والفراء وابن مالك في التسهيل والسيوطي في الهمع ، ولذلك عدوها مع أخواتها في كتبهم خمسة لا ستة ، والأقرب إلى النفس أن من المصنفين من يعدها ستة ـ كالإمام الآجرومي هنا ـ ولا يكون مذهبه فرعية أن ، بل يعدونها ستة لمجرد اختلاف اللفظ ، وقد ذكرت هذا في هذا الموضع ليتنبه إليه ، أو ليُبَيَّنَ لنا فيه وجه آخر والله تعالى أعلم (209) .
الاختيار السادس عشر :
قال المصنف رحمه الله تعالى في باب الحال :
« ولا يكون صاحبها إلا معرفة » .
قال أبو بكر عفا الله عنه :
إن أراد المصنف ظاهر عبارته المنفية بـ لا يكون ، المستثناة بـ إلا ، ففيه إشكال ظاهر لا يليق بمثله ، والظن أنه لم يرده ـ وقد ذكرته هنا لينظر فيه كسابقه ـ ، ولا أعلم خلافا في جواز مجيء الحال من النكرة التي ساغ الابتداء بها ، بل اختار الشيخ أبو حيان أن مجيئها من النكرة بلا مسوغ كثير مقيس ، ونقله عن إمام العربية البارع المتقن أبي بشر سيبويه رحمه الله تعالى ، ويستدل له بما رواه إمام الدنيا وجبل العلم أبو عبد الله البخاري رضي الله عنه عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت (( صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته وهو شاكٍ جالسا ،
وصلى وراءه قوم قياما ، فأشار إليهم أن اجلسوا . فلما انصرف قال : إنما جعل الإمام ليؤتم به ، فإذا ركع فاركعوا ، وإذا رفع فارفعوا )) ، ورَدَّ قوم الاستدلال بالحديث ، واستدلوا بشعر من لم يبلغ شِسْعَ نعل رجاله ، فيا لله العجب من مقالات تقشعر منها الجلود ، ويتصدع من سماعها كل جلمود ، وبالجملة فإن قائل هذا الكلام لم يأت بما ينبغي الاشتغال به ، بل حكاية قوله تغني عن الرد عليه إن شاء الله تعالى .
واختاره ـ أي مجيء الحال من النكرة بلا مسوِّغ ـ ابن مالك رحمه الله في الخلاصة ـ على قلة فيه ـ حيثُ قال :
ولم يُنَكَّر غالبا ذو الحال إنْ ********** لم يتأخر أو يخصص أو يَبِنْ
وكذا اختاره ابن هشام رحمه الله تعالى ـ على قلة أيضا ـ (210) .
الاختيار السابع عشر :
أطلق المصنف رحمه الله تعالى عبارة (( الأسماء الخمسة )) في غير ما موضع من مقدمته ، وهذا مصير منه إلى عدم اعتبار (( هن )) منها كما يدل على ذلك ظاهر كلامه ، وفي هذا خلاف مشهور بين النحاة ، وقد درج على عدم اعتبارها الفرّاء وأبو القاسم الزجاجي ، وهما محجوجان بنقل سيبويه ذلك عن العرب ، قال ابن هشام رحمه الله تعالى :
« .....ولقلتها لم يطلع عليها الفراء وأبو القاسم الزجاجي ، فادعيا أن الأسماء المعربة بالحروف خمسة لا ستة » اهـ . ويحتمل أنه تركها باعتبار أن الأفصح في استعمال هن النقص ، وهي لغة مشهورة عند العرب ، وهذا الأخير هو اللائق بمثله والله أعلم (211) .
يتبع إن شاء الله تعالى .......