المبحث الرابع في المآخذ على مقدمته بعد عرض مادة الكتاب في المبحث الأول ، وبيان وفاق المصنف رحمه الله تعالى للكوفيين وخلافه لهم في المبحث الثاني ، وذكر اختياراته التي لم يوافق أهل البلدين فيها في المبحث الثالث ، نستعين الله الواحد الأحد ، الفرد الصمد ، المنزه عن الند والشريك والولد ، فنذكر في هذا المبحث جملة مما يؤخذ على الإمام المصنف رحمه الله تعالى وبالله التوفيق :
المأخذ الأول :
قال المصنف رحمه الله تعالى في باب منصوبات الأسماء :
« المنصوبات خمسة عشر وهي : ثم عدها ...... » .
قال أبو بكر عفا الله عنه :
ولم يعدَّ منها إلا أربعة عشر كما يظهر للناظر في مقدمته والله تعالى أعلم .
المأخذ الثاني :
قال المصنف رحمه الله تعالى في باب التمييز :
« التمييز : هو الاسم المنصوب المفسِّر لما انبهم من الذوات » .
قال أبو بكر عفا الله عنه :
يؤخذ على المصنف رحمه الله أنه يأتي مفسِّرا لإبهام النِّسَب ، ومنه قوله تعالى حكاية على لسان زكريا عليه الصلاة والسلام : وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا ، ويَرِدُ على العلامة ابن هشام رحمه الله تعالى مثل ما وَرَدَ على المصنف حيثُ قال في القطر : والتمييز هو اسم فضلة نكرة جامد مفسِّر لما انبهم من الذوات ، إلا أن ابن هشام قال بعدُ : ويكون التمييز مفسِّرا للنسبة ... ، وعبر في الشذور بقوله : ..... يرفع إبهام اسم أو إجمال نسبة ، فارتفع عنه الاعتراض ، وكذا يجاب للمصنف رحمه الله تعالى ، فإنه لم يهمله ألبتة كما يظهر ذلك للناظر في أمثلته ، حيثُ ذكر بعدُ أمثلة لتمييز النسبة نحو قوله : تصبب زيد عرقا ، وتفقأ بكر شحما وغير ذلك والله تعالى أعلم (213) .
المأخذ الثالث :
قال المصنف رحمه الله تعالى بعد تعريف الكلام وتقسيمه :
« فالاسم يعرف بالخفض والتنوين ، ودخول الألف واللام عليه ، وحروفِ الخفض وهي: .....ثم عدها » .
قال أبو بكر عفا الله عنه :
ذكر حروف الخفض هنا استطرادا ، ثم ذكرها مرة أخرى على وجه الأصالة في باب مخفوضات الأسماء ، وعدها بزيادة ثلاثة ، ولا يليق صنيعه هذا بهذا المختصر ، فإذا علمتَ أنه ترك أشياء أخل تركها بالمعنى لأنه رام الاختصار تأكد لديك وجه الاعتراض عليه والله تعالى أعلم .
المأخذ الرابع :
لم يذكر المصنف رحمه الله تعالى في أدوات الاستثناء ليس ولا يكون ، ولا أعلم فيهما خلافا ، والظن به وفاق الجماهير ، ولو ذكرهما لكان أليق ، ولا يخفى أن ذكرهما لا يتعارض مع طريقة هذا المختصر كما بيناه قبلُ والله تعالى أعلم .
المأخذ الخامس :
قال المصنف رحمه الله تعالى في باب المبتدأ والخبر :
« والخبر قسمان : مفرد وغير مفرد ..... وغير المفرد أربعة أشياء : الجار والمجرور والظرف والفعل مع فاعله والمبتدأ مع خبره ... » .
قال أبو بكر عفا الله عنه :
ظاهر كلام المصنف رحمه الله تعالى يدل أن الجار والمجرور والظرف هما عين الخبر عنده ، وفي المسألة ثلاثة مذاهب مشتهرة :
المذهب الأول : أن الإخبار بهما من قبيل الإخبار بالمفرد ، وهو مذهب الأخفش المشهور عنه ، وعُزِيَ إلى سيبويه وفيه نظر .
المذهب الثاني : أن الإخبار بهما من قبيل الإخبار بالجملة ، وهو مذهب جمهور البصريين ، وعُزِيَ إلى سيبويه رحمه الله تعالى أيضا .
المذهب الثالث : أنهما عين الخبر ، وهو مذهب أبي بكر بن السراج ، نقله عنه تلميذه أبو علي الفارسي في الشيرازيات .
والصحيح الأولان وفاقا لابن مالك رحمه الله تعالى في الخلاصة حيثُ قال :
وأخبروا بظرف أو بحرف جر ********** ناوين معنى كائن أو استقر
والثالث باطل لا محالة ، وأنكره شيخنا الدرة أيما إنكار ، وكان يُدَرَّسُ في مدارسنا فأشاع الشيخ فيه الخبر ، والدليل على بطلانه أن قولك (( زيد خلفك )) بيان للجهة لا لزيد ، ولأنه منصوب ، والخبر المفرد لا يكون منصوبا ، ونصبه يقتضي وجود ناصب ، وليس الناصب المبتدأ لأنه اسم جامد ، فدل على أن ناصبه محذوف مقدر ، وهو الخبر في الحقيقة والله تعالى أعلم (214) .
والذي عند العبد الفقير ـ غفر الله له ولوالديه ومشايخه والمسلمين ـ أن لا ينسب مثل هذا المذهب الرديء للمصنف رحمه الله ، فالأولى حمل عبارته على التجوز ، ويتأكد ذلك إذا عرفت أن هذا الإطلاق استعمله بعض النحاة ، غير أنه محمول عندهم على ما تقدم والله تعالى أعلم .
المأخذ السادس :
قال المصنف رحمه الله تعالى في باب جوازم المضارع :
« والجاوزم ثمانية عشر وهي : لم ولما وألم وألما ...... » .
قال أبو بكر عفا الله عنه :
ذِكْرُ المصنف لـ ألم وألما ليس بالجيد إن أراد أنهما حرفان آخران مغايران لـ لم ولما ، وقد ذكرت هذا لأنه عطفهما عليهما ، والعطف يقتضي المغايرة فيتوهم من لا خبرةَ له أنهما حرفان آخران ، والذي عندي ـ غفر الله ذنبي ـ أنه عطفهما عليها لاختلافهما عنهما في اللفظ ، فـ ألم وألما هما لم ولما دخلت عليهما همزة الاستفهام ، ولا أعلم خلافا في كونهما لم ولما دخلت عليهما همزة الاستفهام والله تعالى أعلم .
ويقال مثل هذا في قوله في باب الاستثناء :
« وحروف الاستثناء ثمانية وهي : ..... وسِوى وسُوى وسواء .... » .
وجميعها ترجع إلى أصل واحد كما لا يخفى والله تعالى أعلم .
المأخذ السابع :
عد المصنف رحمه الله تعالى في مخفوضات الأسماء مُذ ومنذ .
وعد في إن وأخواتها إن وأن .
وتقدم أنه عد في الجوازم ألم وألما .
وفي الاستثناء سِوى وسُوى وسَوَاء .
قال أبو بكر عفا الله عنه :
لينظر هل هذه الحروف ـ عند المصنف ـ أصول برأسها ، أو أنها متفرع بعضها عن بعض ؟ عندي ـ غفر الله ذنبي ـ تردد واحتمال ، فإن قلتَ أصول برأسها ، عكَّر عليه أن بعضها لا يعلم خلاف في فرعيته كما تقدم في المأخذ السادس ، وإن قلتَ فروع ، عكَّر عليه أنه عطف بعضها على بعض ولم يبين ، والأصل في العطف المغايرة ، ويجاب بأنه عطفها على بعضها لتغايرها في اللفظ ، وهو الأظهر من حيثُ الجملة ، وإن كان في بعضها تفصيل كما مرَّ والله تعالى أعلم .
المأخذ الثامن :
قال المصنف رحمه الله تعالى في باب علامات الاسم :
« فالاسم يعرف بالخفض والتنوين ودخول الألف واللام وحروف الخفض وهي : .... » .
قال أبو بكر عفا الله عنه :
ترك المصنف رحمه الله تعالى من علامات الاسم النداءَ ، قال الإمام السيوطي رحمه الله تعالى : « ومن الأسماء ما لا دليل على اسميته إلا النداء ، نحو يا مكرمان ، ويا فُلُ ؛ لأنهما يختصان بالنداء » اهـ (215) .
وكذا لم يذكر الإسناد إليه وفيه ما فيه ، قال ابن هشام رحمه الله تعالى في الشذور : « وهذه العلامة ـ أي الإسناد إليه ـ هي أنفع علامات الاسم ، وبها تعرف اسمية (( ما )) في قوله تعالى ﴿ ... قُلْ مَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ ... ﴾ [ سُورَةُ الْجُمُعَةِ : 11 ] وقوله تعالى ﴿ مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللهِ بَاقٍ .... ﴾ [ سُورَةُ النَّحْلِ : 96 ] قال رحمه الله : ألا ترى أنها قد أسند إليها الأَخْيَرِيَّةُ والنفاد والبقاء ، فلهذا حكم بأنها فيهن اسم موصول بمعنى الذي والله تعالى أعلم » اهـ (216) .
وعبر في القطر عن الإسناد إليه بقوله : والحديث عنه ، قال رحمه الله تعالى في شرح القطر : وهذه العلامة أنفع العلامات المذكورة للاسم ، وبها يستدل على اسمية التاء في (( ضربت )) ، قال : ألا ترى أنها ـ أي التاء ـ لا تقبل أل ، ولا يلحقها التنوين ولا غيرها من العلامات التي تذكر للاسم سوى الحديث عنها فقط اهـ (217) .
المأخذ التاسع :
قال المصنف رحمه الله تعالى في باب الاستثناء :
« وحروف الاستثناء ثمانية وهي : إلا ، وغير ، وسِوى ، وسُوى ، وسَوَاء ، وخلا ، وعدا ، وحاشا » .
قال أبو بكر عفا الله عنه :
يعترض على المصنف رحمه الله تعالى بقوله (( حروف الاستثناء )) ، إذ لا يخفى أن منها ما هو اسم جزما ، كـ (( غير وسِوى وسُوى وسَواء )) ، ومنها ما هو متردد بين الفعل والحرف ، كـ (( خلا وعدا وحاشا )) . وقد أجاب بعض شراح مقدمته عن هذا الإيراد بأنه قال (( حروف الاستثناء )) تغليبا . والذي عندي ـ غفر الله لي ـ أن هذا الجواب لا يقيم صلبه ، إذ قوله (( تغليبا )) يقتضي أن أكثرها حروف ، والحاصل أن أربعة من الثمانية أسماء باتفاق كما تقدم ، والباقي فيها خلاف سوى (( إلا )) فهي حرف باتفاق ، فتأمل هذا الموضع . وقد يقال قاله (( تغليبا )) بالنظر إلى أصل أدوات الاستثناء ، إذ الأصل في الاستثناء أن يكون بالحرف ، وفيه نظر لا يخفى والله تعالى أعلم .
ملاحظة :
كنت كتبت هذا الاعتراض قبل مدة ، وحصل الآن عندي تردد في معنى قول أهل العلم (( تغليبا )) ، ومحله أن يقال : هل يشترط في التغليب تغليبُ الأكثر على الأقل ملاحظة للكثرة والقلة ، أم قد يغلب الأقل على الأكثر ملاحظة للصفات والمعاني القائمة في المُغلَّب ، ترددت فيه الآن ، ولم أحفظ فيه عن مشايخي شيئا ، وما قرأته في موضع ، فيرفع إلى أهل العلم ليبصرونا به والله تعالى أعلم .
المأخذ العاشر :
قال المصنف رحمه الله تعالى في باب التوكيد :
« ويكون ـ أي التوكيد ـ بألفاظ معلومة وهي : النفس ، والعين ، وكل ، وأجمع ، وتوابع أجمع وهي : أكتع وأبتع وأبصع ... » .
قال أبو بكر عفا الله عنه :
يَرِدُ على المصنف ههنا إيرادان ، أما الأول فإسقاط التأكيد اللفظي النوع الثاني من التأكيد ، وهو إما سهو وإما اختصار ، فإن كان الأول فمن ذا الذي ينفك عنه ، وإن كان الثاني فلا يحسن به هذا ، وأما الثاني من الإيرادين فإنه لم يذكر من التأكيدات المعنوية كلا وكلتا وجميع وعامة ، وأنكر المبرد عامة وقال هي بمعنى أكثر ، قال السيوطي : « ولم يذكر أكثر النحاة جميعا ، قال ابن مالك سهوا أو جهلا » اهـ (218) .
قلتُ ـ غفر الله ذنوبي ـ : وتعليله عليل ، فكيف يجهل ويسهو الأكثر من حملة هذا العلم الشريف ، وعندي ـ غفر الله ذنبي ـ في هذا جواب أذكره ـ إن شاء الله تعالى ـ إن رأيت من قال به والله تعالى أعلم .
المأخذ الحادي عشر :
قال المصنف رحمه الله تعالى في باب العوامل الداخلة على المبتدأ والخبر :
« وهي ثلاثة أشياء : كان وأخواتها ، وإن وأخواتها ، وظننت وأخواتها » .
ثم عدها بالتفصيل .
قال أبو بكر عفا الله عنه :
ويرد عليه رحمه الله تعالى قسم رابع ، وهو كاد وأخواتها ، ولا أدري لمَ تركها فالله تعالى أعلم .
ويرد عليه كذلك في مرفوعات الأسماء تركُ ذكر اسم كاد وأخواتها ، واسم الحروف العاملة عمل ليس ، وخبر لا النافية للجنس ، حيثُ أدخل الأوليين في اسم كان وأخواتها ، والأخير في خبر إن وأخواتها والله تعالى أعلم .
وكذلك يرد عليه في منصوبات الأسماء ترك ذكر خبر كاد وأخواتها ، وخبر ما عَمِل عَمَل ليس ، حيثُ أدخلهما في خبر كان وأخواتها ، والله الموفق للصواب .
المأخذ الثاني عشر :
يذكر ما قلَّ ويترك ما اشتهر ، وعلى سبيل المثال لا الحصر أقول : ذكر في باب ظن وأخواتها (( سمعتُ )) ، وقد قدمنا الكلام فيها بما أغنى عن ذكره في هذا الموضع ، وترك ما هو أشهر منها وأقيس كـ درى وخال وزعم .... والله تعالى أعلم .
المأخذ الثالث عشر :
لم يلتزم رحمه الله تعالى في حد الأبواب شرائط الحد ، فعرف بالأعم تارة وبالأخص أخرى ،
فمن الأول قوله في المفعول الذي لم يسم فاعله : « هو الاسم المرفوع الذي لم يذكر معه فاعله » .
ومن الثاني قوله « المصدر هو الاسم المنصوب الذي يجيء ثالثا في تصريف الفعل » والله تعالى أعلم .
المأخذ الرابع عشر :
إن الناظر نظرة فحص وتحر وتدقيق في مقدمة المصنف وعباراتها ، لم يشكَّ في أنه لم يلتزم فيها خطة مدروسة مرتبة في ذهنه ، فتراه يعمد إلى ما يحتاج التطويل والإسهاب فيه ـ نسبيا ـ فيختصر حتى تراه يخل بالمعاني ، بل ويحذف من الأبواب والفصول ما لا يسعك أن تكون راضيا عنه ، وكذلك يفعل فيما يحتاج الاختصار ، فتراه يسهب بذكر الأمثلة ، ويطول في توضيح الواضحات وتبيين الجليات ، وقد مر في مواضعَ بيانُ ما أجملناه في هذا الموضع والله تعالى أعلم .
يتبع إن شاء الله تعالى ........