تيسير رب العباد إلى شرح لمعة الاعتقاد (11) الشيخ عبدالله بن حمود الفريح فصل في القضاء والقدر 43- قال المصنِّف - رحمه الله -: "ومِنْ صِفاتِ اللهِ - تعالى - أنَّهُ الفَعَّالُ لِمَا يُريدُ، لا يَكُونُ شَيءٌ إلَّا بِإرادَتِه، وَلا يَخْرُجُ شَيءٌ عَنْ مَشِيئَتِه، وَلَيْسَ في العالَمِ شيْءٌ يَخْرُجُ عَنْ تَقْدِيرِه، ولا يَصْدُرُ إِلا عَنْ تدبِيرِه، ولا مَحِيدَ عَن القدَر المقدور، ولا يتجاوَزُ ما خُطَّ في اللَّوح المسْطور، أرَاد ما العالم فاعِلوه، وَلَوْ عَصَمَهُم لما خالَفوه، وَلَوْ شاءَ أنْ يُطِيعُوه جَمِيعًا لأَطاعُوه، خَلَقَ الخَلْقَ وأفعالَهم، وقَدَّرَ أرْزَاقَهُم وآجَالَهُم، يَهْدِي مَنْ يَشاءُ بِحِكْمَتِه؛ قال اللهُ - تعالى -: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ}[1]، وقال اللهُ - تعالى -: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}[2]، وقال - تعالى -: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا}[3]، وقال - تعالى -: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا}[4]، وقال - تعالى -: {فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا}[5]. 44- ورَوَى ابنُ عُمَرَ أنَّ جِبْرِيلَ - عليه السلامُ - قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما الإيمان؟ قال: ((أنْ تُؤْمِنَ بِالله، وَمَلائِكَتِه، وَكُتُبِهِ، وَرُسُِله، وَاليَوْمِ الآخِر، وَتُؤْمِن بِالْقَدَرِ خَيْرِه وَشَرِّه))، فقال جبريل: "صَدَقْتَ"[6]. 46- ومِنْ دُعَاءِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - الَّذي علَّمَهُ الحسَنَ بن عَلِيٍّ، يَدْعُو به في قُنُوتِ الوِتْر: ((وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ)). 47- ولا نجعلُ قضاءَ اللهِ وقدَرَه حُجَّةً لنا في تَرْكِ أوامِرِه، واجْتِناب نَوَاهِيه؛ بلْ يجبُ أنْ نُؤمِنَ ونَعْلَمَ أنَّ لله علينا الحُجَّةَ بإنزال الكتُب، وبَعْثَة الرُّسُل؛ قال اللهُ - تعالى -: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}[7]. 48- ونعلَمُ أنَّ اللهَ - سبحانه وتعالى - ما أَمَرَ ونَهى إلَّا المستطيعَ للفِعْلِ والتَّرْكِ، وأنَّه لمْ يُجْبِرْ أَحَدًا على معصيةٍ، ولا اضْطَرَّهُ إلى تَرْكِ طَاعَة، وقال اللهُ - تعالى -: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}[8]، وقال - تعالى -: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}[9]، وقال - تعالى -: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ}[10]. 49- فَدَلَّ على أنَّ للعبْدِ فِعْلاً وكَسْبًا، يُجْزَى على حَسَنِه بالثَّواب، وعلى سَيِّئِه بالعِقاب، وهو واقِعٌ بقضاء الله وقَدَرِه". الشرح وتحت هذا الفصل عدة مباحث: المبحث الأول: إثبات صفة الإرادة لله - تعالى -: ابتدأ المصنِّف - رحمه الله - هذا الفصل بإثبات صفة الإرادة لله - تعالى - وأنَّ الله فعَّال لِما يريد، وهو ابتداء مناسِب من المصنف؛ حيث ربط هذا الفصل بما ذكره قبل ذلك من الصفات، فذكر صفة الإرادة في مَعْرِضِ بيانه: أن الله على كلِّ شيء قدير، وأن كل شيء بقُدْرته وإرادته، لا يخرج شيء عن ذلك، ثم ذكَر الآيات التي تدلُّ على قدرة الله - تعالى - وأهلُ السنة والجماعة يُثبتون صفةَ الإرادة لله - تعالى - كما يَليق بجلاله، وعظيم سلطانه، مِن غير تحريف، ولا تكييف، ومن غير تعطيل ولا تمثيل، وهي صفةٌ ثابتة بالكتاب، والسنة، والإجماع: فمن الكتاب: قوله - تعالى -: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا}[11]. ومن السنة: حديث ابن عمر- رضي الله عنهما - مرفوعًا: ((إذا أراد اللهُ بقوم عذابًا، أصاب العذاب من كان فيهم، ثم بعثوا على أعمالهم))[12]. وأجمع السلَف على إثبات هذه الصِّفة. ويجب إثباتُ الإرادة بقسمَيْها: الكوني والشرعي - كما سيأتي. المبحث الثاني: للإرادة قسمان: إرادة كونية، وإرادة شرعية: القسم الأول: الإرادة الكونية: والإرادة الكونية: هي ما يلزم وُقُوعه مما أراده الله - تعالى - ولو لَم يكنْ محبوبًا إليه - سبحانه - فكلّ ما في هذا الكون؛ من خيرٍ أو شر، فإنه كان بإرادة الله - تعالى - وقدره، ومن أمثلة هذه الإرادة والدليل عليها: 1- قوله - تعالى -: {وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ}[13]. 2- وقوله - تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا}[14]. فكلُّ شيء خلقَه الله - عزَّ وجل - وقدَّره؛ من خير أو شر، فهو داخل تحت الإرادة الكونية؛ ولذلك تسمى: (إرادة كونية خلقية قدرية)، ولا شك أنَّ الله - عز وجل - لا يُقدِّر ولا يخلق إلا ما يشاء - سبحانه - فهذه الإرادة الكونية تُرادف المشيئة، وهي إرادة تَعُمُّ المؤمن والكافر. القسم الثاني: الإرادة الشرعية: والإرادة الشرعية: هي ما يلزم أن يكونَ محبوبًا لله - جلَّ وعلا - ولا يلزم وُقُوعه، فهي كلُّ ما أحبه الله - عزَّ وجَلَّ - ورَضِيَه من أحكام الشرْع في الكتاب والسنة؛ سواءٌ كان أمرًا أم نَهْيًا من أحكام الشرْع، ولكن هذه الإرادة لا يلزم وقوعها، فمِنَ الناس مَن أطاع الله - عز وجل - وامْتَثَلَ إرادته الشرعية، ومنهم من لَم يُطِع الله - جل وعلا - ولم يستجبْ، ومن أمثلة هذه الإرادة والدليل عليها: 1- قوله - تعالى -: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[15]. 2- وقوله - تعالى -: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا}[16]. فكلُّ شيء شرَعَهُ الله - عز وجل - وأمَرَ به، فهو داخلٌ تحت الإرادة الشرعية؛ ولذلك تسمَّى: (إرادة شرعية أَمْرية)، ولا شك أنَّ الله - عز وجل - لا يأمُر إلا بما يُحبه - سبحانه – ويرْضاه، وعليه فإن الإرادة الشرعية تُرادف المحبة والرضا، وهي خاصَّةٌ بالمؤمن؛ لأنَّ الكافر لا يَمْتَثِل لأوامر الله - تعالى. ومن خلال ما تقدَّم، فالفرْق بين الإرادة الكونيَّة والشرعيَّة: 1- أن الإرادة الكونية لا بُدَّ مِن وقوعها، فهي كلُّ ما خلقَه الله وقدَّره، بِخِلاف الإرادة الشرعية، فلا يلزم وقوعها. 2- أن الإرادة الكونية لا يَلْزم أن تكون محبوبة لله - تعالى - بخلاف الإرادة الشرعية، فهي ما أحبَّهُ - سبحانه - ورضيه. 3- أن الإرادة الكونية عامَّة للمؤمن والكافر، بخلاف الإرادة الشرعية فلا ينالها إلا المؤمن؛ لأنه هو الذي يَمْتَثِل لما شرَعه الله - تعالى - فتجتمع الإرادتان في حقِّ المؤمن كونًا وشرعًا، وتختلف في حق الكافر، فلا يدخُل إلا في الإرادة الكونية؛ لأنه لا يَمْتثل لما شرَعه الله - تعالى. فائدة: تبيَّن مما تقدَّم أن الإرادة الكونية تُرَادِفُ المشيئة، وبهذا يَتَبيَّن الفرقُ بين الإرادة والمشيئة، وأنَّ المشيئة لا تكون إلا كونية قدرية، بخلاف الإرادة فإنها تكون إرادة كونية، وتكون إرادة شرعية، وهذا الفرقُ هو الذي دلَّت عليه نُصُوص الكتاب والسُّنَّة، فالمتأملُ للنصوص الواردة في المشيئة يجدها كلها كونيَّة قدرية؛ ومن ذلك قوله - تعالى -: {مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[17]، وأمَّا الإرادة فقد جاءتْ في النصوص على قسمَيْن، تقدَّمَ إيرادُها مع أدلتها. قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ - رحمه الله -: "الإرادة إرادتان: كونية قدرية، وشرعية دينية، وأما المشيئةُ فلم ترد في النصوص إلا كونية قدرية، فلا تنقسم"[18]. المبحث الثالث: المخالفون لأهل السنة في هذه الصفة: خالَف أهلَ السنة من المبْتَدِعة في هذه الصفة طائفتان مشهورتان: 1- الجبرية: فلم يثبتوا إلا الإرادة الكونية فضلُّوا. 2- المعتزلة: فلم يثبتوا إلا الإرادة الشرعية فضلُّوا. ولا شك أن هاتين الطائفتين خالفتا النصوص الدالة على إثبات الإرادتين الكونية والشرعية؛ ولذا جاء مذهبُ أهل السنة وَسَطًا بين هاتَيْن الطائفتَيْن الضالَّتَيْن في هذه الصفة، وتقدَّم بيانُ الأدلة على إثبات الإرادتَيْن - والله أعلم. المبحث الرابع: الإيمان بالقدَر: الإيمان بالقدر واجبٌ، وهو أحد أركان الإيمان الستَّة، وقد استدل المصنِّف بما يدل على أنَّ الله - عز وجل - قدَّر كل شيء تقْديرًا؛ كقوله - تعالى -: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}[19]، وقوله: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان: 2]، وقوله: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا}[20]، واستدلَّ المصنِّف بما يدلُّ على أنَّ الإيمان بالقدَر - خيره وشرِّه - واجبٌ، وأنه أحد أركان الإيمان الستة، فاستدل بما رواه مسلم، من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -: أن جبريل - عليه السلام - قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ما الإيمان؟ قال: ((أن تؤمنَ بالله، وملائكته، وكُتُبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره))، فقال جبريل - عليه السلام -: صدقت، وبدعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي علَّمه الحسن بن علي؛ ليدعو به، وفيه: ((وقِني شر ما قضَيْت))[21]. Ÿ Ÿ يتبع