تيسير رب العباد إلى شرح لمعة الاعتقاد (12) الشيخ عبدالله بن حمود الفريح المبحث الرابع: من أسباب زيادة الإيمان ونقصانه: الإيمان يزيد بأمور وبضدها ينقص الإيمان، فمما يزيد الإيمان عشرة أسباب، أسوقها لك مع أدلَّتِها: أولًا: معرفة الله - جلَّ وعلا - بأسمائه الحُسْنى وصفاته العلى: ومما يدلُّ على ذلك: قول الله - عز وجل -: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}[12]، وَوَجْه ذلك أنَّ العلماء أعرفُ الناس بأسماء الله - تعالى - وصفاته، فاستحضروها في دعائهم وفي جميع شؤون حياتهم، حتى كانوا أخْشى الناس، والخشية أثر لقوة الإيمان في قلوبهم، وإلا فالعلْمُ الذي لا يورث هذه الخشية علم مدخولٌ - نسأل الله السلامة والعافية. قال ابن رجب: "العلم النافعُ يدل على أمرَيْن: أحدهما: على معرفة الله، وما يستحقه من الأسماء الحسنى والصفات العُلَى والأفعال الباهرة، وذلك يستلزم إجلاله وإعظامه، وخشْيته ومهابته، ومحبته ورجاءه، والتوَكُّل عليه، والرضا بقضائِه، والصبْر على بلائه. والأمر الثاني: المعرفة بما يُحبه ويرضاه، وما يكرهه وما يسخطه منَ الاعتقادات والأعمال الظاهرة والباطنة والأقوال، فيوجب ذلك لِمن علمه المسارَعة إلى ما فيه محبة الله ورضاه، والتباعُد عما يكرهه ويسخطه، فإذا أثْمر العلْم لصاحبه هذا فهو علمٌ نافعٌ، فمتى كان العلم نافعًا ووَقَر في القلْب؛ فقد خشع القلب لله وانْكَسر له، وذلَّ هيبةً، وإجلالاً، وخشيةً، ومحبةً، وتعظيمًا"[13]. وقال أيضًا: "فالعلم النافع ما عرَّف العبدَ بربِّه، ودلَّه عليه حتى عرفه ووحَّده، وأَنِسَ به واستحى من قربه، وعَبَده كأنه يراه"[14]. اهـ. وإذا وصل العبد إلى عبادة ربه كأنه يراه، لا شك أنَّه وصل إلى مرتبةٍ عظيمةٍ من الإيمان؛ لأنه وصل إلى أعظم المراتب، وهي الإحسان. ثانيًا: طلب العلْم الشَّرْعي: ويدل عليه ما تقَدَّم: قول الله - عز وجل -: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}[15]، فالعلمُ طريق للخشْية التي هي علامةٌ لِمَا وقَرَ في القلْب من إيمان، وذلك يأتي بالعلم النافع - كما تقدَّم - ولذا يقول الإمام أحمد: "أصل العلم الخشية". وأيضًا لما تكَلَّم أحد الناس عن الإمام الزاهد العابد معروف الكرخي - رحمه الله - في مجلس الإمام أحمد وقال عنه: إنه قصير العلم، نهره الإمام أحمد، وقال: "أمْسِك - عافاك الله - وهل يراد من العلم إلا ما وصل إليه معروف"؛ ولذا جعله النبي - صلى الله عليه وسلم - طريقًا إلى الجنة فقال: ((مَن سَلَكَ طريقًا يلتمس فيه علمًا، سهَّل الله له به طريقًا إلى الجنة))[16]. ثالثًا: التأمُّل في آيات الله الكونية ومخلوقاته - جل وعلا -: ويدل على ذلك: قول الله - تعالى -: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ}[17]، وقوله - تعالى -: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ}[18]، وقوله: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ}[19]، فإن العبدَ إذا تفكَّر في آيات الله - تعالى - في هذا الكون، عرف عظمة الله - تعالى - فازْداد إيمانُه، قال عامر بن عبدقيس: "سمعتُ غير واحد ولا اثنين ولا ثلاثة من أصحاب محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - يقولون: إنَّ ضياء الإيمان - أو نور الإيمان - التفَكُّر"[20]. رابعًا: قراءة القرآن وتدبُّره: ففي قراءته وتلاوته يزْداد الإيمان، ويدل على ذلك: قول الله - عز وجل - في وصف المؤمنين الصادقين: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا}[21]، وكذلك تدبُّره؛ ففيه أعظم النفع لزيادة الإيمان. وأما القلوب الغافلة فلا تتدبَّره؛ ويدل على ذلك قول الله - تعالى -: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}[22]، قال ابن القيِّم - رحمه الله -: "قراءة آية بتَفَكُّرٍ وتفهُّمٍ خيرٌ من قراءة ختْمة بغير تدبُّر وتفَهُّم، وأنفع للقلب، وأدعى في حصول الإيمان، وذوق حلاوة القرآن"، وقال أيضًا: "فليس شيءٌ أنفع للعبد في معاشِه ومعاده، وأقرب إلى نجاته - من تدبُّر القرآن، وإطالة التأمُّل، وجمع الفكر على معاني آياته؛ فإنها تطلع العبد على معالِم الخير والشر بحذافيرها، وتُثَبِّت قواعد الإيمان في قلبه، وتُشَيِّد بُنيانه، وتُوَطِّد أركانه"[23]. فإذا تدبَّر العبدُ آيات الله - تعالى - وما فيها من وعدٍ ووعيد، وجنَّة ونار، والأعمال التي تسوق إليهما - زاد إيمانه ويقينه بوَعْد ربِّه ووعيده. خامسًا: الإكثار من ذِكْر الله - تعالى -: ويدل على ذلك: قول الله - تعالى -: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}[24]، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث أبي موسى: ((مَثَلُ الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت))[25]، فذِكْر الله - عزَّ وجَلَّ - فيه حياةٌ للقلْب؛ فيزداد إيمان العبْد كلما أَكْثَرَ من ذكر ربِّه، ويموت القلب وينقص إيمانُ العبد كلما كان بعيدًا عن ذِكْر ربه، وفي هذا علامة على الغفْلة؛ قال - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}[26]، وقال في وصْف المنافقين الذين مُلِئَت قلوبُهم كفرًا وبُعدًا عن الله - تعالى -: {وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً}[27]، قال أبو الدرداء - رضي الله عنه -: "لكل شيء جلاءٌ، وإن جلاء القلوب ذكْر الله - عز وجل"[28]. قال عمير بن حبيب: "الإيمان يزيد وينقص"، فقيل: فما زيادته وما نقصانه؟ قال: إذا ذكرنا ربَّنا وخشيناه فذلك زيادته، وإذا غفلنا ونسيناه وضيَّعنا فذلك نقصانه"[29]. وقال شيخُ الإسلام ابن تيميَّة: "الذكْر للقلب مثل الماء للسمك، فكيف يكون حال السمك إذا فارق الماء"[30]. سادسًا: تقديم ما يُحبه الله ورسوله على هوى النفس: ويدل على ذلك: حديث أنس قال - صلى الله عليه وسلم -: ((ثلاثٌ مَن كنَّ فيه وجد بهنَّ حلاوة الإيمان: أن يكونَ الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرءَ لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يُقْذَفَ في النار))[31]، قال ابنُ حجَر: "قال البَيْضاوي: وإنما جعل هذه الأمور الثلاثة عنوانًا لكَمال الإيمان؛ لأنَّ المرء إذا تأمَّلَ أنَّ المنعم بالذات هو الله - تعالى - وأن لا مانح ولا مانع في الحقيقة سواه، وأن ما عداه وسائط، وأنَّ الرسول هو الذي يُبَيِّن مُراد ربه - اقتضى ذلك أن يَتَوَجَّه بكُليَّته نحوه؛ فلا يحب إلا ما يحب، ولا يحب مَن يحب إلا من أجله..."[32]. ومِن أعظم علامات محبَّة الله ورسوله: تقديمُ ما يُحبُّه الله ورسوله على هوى نفسه؛ قال - تعالى -: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[33]، وكذا مما يزيد الإيمان الحب في الله، وكراهة الوقوع في الكفر؛ فيبتعد عن كلِّ ما يهوي به إلى ذلك. سابعًا: حضور مجالس الذكر، والحرص عليها: ويدل على ذلك حديث حنظلة الأُسيدي قال: "قلت: نَافَقَ حنظلةُ يا رسول الله، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((وما ذاك؟)) قلت: يا رسول الله، نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة، حتى كأنَّا رأي عين، فإذا خرجنا من عندك عافَسْنَا الأزواج والأولادَ والضَّيْعَات، نَسِينا كثيرًا، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((والذي نفسي بيده، لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر، لصافَحَتْكم الملائكة على فُرُشِكم وفي طرُقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة))[34]. والضَّيعات: هي معاش الرجل؛ من مال، أو حرفة، أو صناعة. وقال معاذ بن جبل لأحد أصحابه يتذاكر معه: ((اجلس بنا نؤمن ساعة))[35]، وقال ابنُ حجَر في "الفتح": "وهو عنِ الأسود بن هلال قال: قال لي معاذ بن جبل: "اجلِسْ بنا نؤمن ساعة"، وفي رواية: "كان معاذ بن جبل يقول للرجُل من إخوانه: "اجلِس بنا نؤمن ساعة، فيجلسان فيذكران الله - تعالى - ويحمدانه"[36]. قال أبو الدرداء: "كان ابن رواحة يأخذ بيدي ويقول: "تَعَالَ نؤمن ساعة، إن القلب أسرعُ تَقَلُّبًا من القِدْرِ إذا استجمعت غليانها"[37]. وفي "شُعَبِ الإيمان" للبيهقي: عن عطاء بن يسار: أن عبدالله بن رواحة قال لصاحب له: "تَعَالَ حتى نؤمن ساعة"، قال: أَوَلَسْنا مؤمنين؟! قال: "بلى، ولكنا نذكر الله، فنَزداد إيمانًا". قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "الفتاوى": "كان الصحابة - رضي الله عنهم - يجتمعون أحيانًا: يأمرون أحدهم يقرأ والباقون يستمعون، وكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول: يا أبا موسى ذكِّرنا ربنا، فيقرأ وهم يستمعون". ولأنَّ العبد في مجالس الذكر يسمع ما يحُثُّه على طاعةٍ غفل عنها، وما يذكره في معصيةٍ وَقَع فيها؛ لينتهي. — ويدخل تحت هذا السبب سببٌ آخر من مقوِّيَات الإيمان، وهو مصاحبة الأخيار، وتقدم نماذج للصحابة في ذلك. ويدل عليه: قول الله - تعالى -: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا}[38]، وحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((المرءُ على دين خليله، فلينظر أحدكم مَن يُخالل))[39]. قال المباركفوري: "((على دين خليله))؛ أي: على عادة صاحبه، وطريقته، وسيرته، ((فلْيَنْظُر))؛ أي: فليتأمل وليتدبر، ((مَنْ يُخَالل))؛ من المخالَّة، وهي: المصادقة والإخاء، فمَن رضي دينه وخُلُقه، خالِلْه، ومَن لا، تَجنَّبْه، فإن الطباع سرَّاقةٌ، والصحبة مؤثرةٌ في إصلاح الحال وإفساده، قال الغزالي: مجالسة الحريص ومخالطته تحرك الحرص، ومجالسة الزاهد ومخاللته تزهد في الدنيا؛ لأنَّ الطباع مجبولة على التشبُّه والاقتداء"[40]. قال الشاعر: عَنِ الْمَرْءِ لا تَسْأَلْ وَسَلْ عَنْ قَرِينِهِ فَكُلُّ قَرِينٍ بِالْمُقَارَنِ يَقْتَدِي وقال آخر: فَصَاحِبْ تَقِيًّا عَالمًا تَنْتَفِعْ بِهِ فَصُحْبَةُ أَهْلِ الْخَيْرِ تُرْجَى وَتُطْلَبُ وَإِيَّاكَ وَالْفُسَّاقَ لا تَصْحَبَنَّهُمْ فَقُرْبُهُمُ يُعْدِي وَهَذَا مُجَرَّبُ فَإِنَّا رَأَيْنَا الْمَرْءَ يَسْرِقُ طَبْعَهُ مِنَ الْإِلْفِ ثُمَّ الشَّرُّ لِلنَّاسِ أَغْلَبُ وفي المثَل: (الصاحب ساحب)، فصاحب الإيمان يسحبه إلى ما فيه زيادة الإيمان، والعكس بالعكس. وفي الصحيحَيْن، مِن حديث أبي موسى - رضي الله عنه - عنِ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مثَل الجليس الصالح والسوء، كحامل المسْك ونافخ الكير؛ فحامل المسك: إما أن يحذيك، وإما أنْ تَبْتاع منه، وإما أن تجدَ منه ريحًا طيبة، ونافخ الكير: إما أن يَحْرِقَ ثيابَك، وإما تَجِد ريحًا خبيثة))، و((يحذيك))؛ أي: يعطيك. والأدلة وأقوال السلف كثيرةٌ في أثر الصُّحْبة الصالحة في زيادة الإيمان. ثامنًا: البُعد عن المعاصي: لا شك أنَّ اقتراف المعاصي سببٌ في نقصان الإيمان، والبُعد عنها ومدافعتها سبب زيادته، فمِنْ عقيدة أهْل السنَّة والجماعة: أنَّ الإيمان يَزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، وأنَّ من طاعة الله - تعالى - أن يبتعدَ الإنسان عن المعاصي والفتن، فأيُّ عبدٍ أراد أن يعيشَ قلبُه سليمًا من الأمراض لا تضرُّه الفتن ما دامت السموات والأرض؛ فليبتعدْ عنها ولينكرها. ويدل عليه: حديثُ حذيفة - رضي الله عنه - قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((تُعْرَض الفتَن على القلوب كالحصير عُودًا عُودًا، فأيُّ قلبٍ أشربها، نُكِتَ فيه نكتةٌ سوداء، وأيُّ قلبٍ أنكرها نُكِتَ فيه نكتةٌ بيضاء؛ حتى تصير القلوب على قلبين؛ على أبيض مثل الصفا، فلا تَضُرُّه فتنةٌ ما دامت السموات والأرض، والآخر أسودُ مرْبَادًّا، كالكوز مُجَخِّيًا، لا يعرف معروفًا ولا يُنكر منكرًا، إلا ما أُشْرِبَ من هواه))[41]، و(مُرْبَادًّا)؛ أي: مخلوطًا حمرة بسواد، (كالكوز مُجَخِّيًا)؛ أي: كالكأس المنكوس المقلوب الذي إذا انصبَّ فيه شيءٌ لا يدخل فيه. قال القاضي عياض: "ليس تشبيهه بالصفا بيانًا لبياضه، لكن صفة أخرى لشدَّته على عقد الإيمان وسلامته من الخلَل، وأن الفتن لم تلصق به، ولم تؤثِّر فيه، كالصفا: وهو الحجر الأملس"[42]. وهكذا المؤمن كُلَّما كان من الفتن والمعاصي أبعد، كان حفاظه على سلامة قلبه وازدياد إيمانه أكثر، وكلَّما تهاوَن بالذنوب وتَعَرَّض للفتن، كلما نقص إيمانه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "غَضُّ البصر يُورِث ثلاثَ فوائد: حلاوة الإيمان ولذته، ونور القلب، والفراسة، وقوة القلب وثباته وشجاعته"[43]. قال ابن المبارك: رَأَيْتُ الذُّنُوبَ تُمِيتُ الْقُلُوبَ وَقَدْ يُورِثُ الذُّلَّ إِدْمَانُهَا وَتَرْكُ الذُّنُوبِ حَيَاةُ الْقُلُوبِ وَخَيْرٌ لِنَفْسِكَ عِصْيَانُهَا تاسعًا: الإكثار من النوافل والطاعات: فكُلَّما أكثر العبدُ مِنَ النوافل، نال ثمراتٍ كثيرةً؛ منها: محبة الله له ومَعِيته؛ فلا يصدر مِن جوارحه إلا ما يرضي الله - جل وعلا - وأيضًا يكون مُجَابَ الدَّعوة، وإذا نال العبدُ هذه الثمرات، زاد إيمانُه؛ لأنه نال محبَّة الله ورضاه عنه، مع ما في النوافل مِن ثمرات. ويدل عليه: حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عند البخاري، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قال الله - عز وجل -: ((وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبَّه، فإذا أحببتُه، كنتُ سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينَّه، ولئن استعاذَني لأُعيذنه))، فلْيَجْتَهد العبد ويُكثر من النوافل في الصيام، والصلاة، والذكر، وسائر أعمال البر. عاشرًا: سؤال الله - تعالى - زيادة الإيمان وتجديده: ويدل عليه: حديث عبدالله بن عمرٍو - رضي الله عنه - وعبدالله بن عُمر - رضي الله عنه - قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الإيمان لَيَخْلَقُ في جَوْف أحدكم كما يَخْلَقُ الثَّوب، فاسألوا الله - تعالى - أن يُجَدِّد الإيمان في قلوبكم))[44]، وقوله: ((إن الإيمان ليخلق))؛ أي: إنه ليبْلى، فالمؤمن إذا أَحَسَّ بقسْوة في قلْبِه وفتور ونقص في الإيمان، سأل الله - تعالى - أن يُجَدِّدَ الإيمان ويزيده في قلبه، فقد كان السلفُ يحرصون على هذا الجانب، فيسألون الله - عز وجل - زيادة الإيمان، فهذا عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - يقول: "اللهم زِدْنا إيمانًا، ويقينًا، وفقهًا"[45]، وتقدَّم قولُ معاذ لبعض أصحابه: "اجلس بنا نؤمن ساعة"، وكذلك قول ابن رواحة لأبي الدرداء: "تَعالَ نؤمن ساعة"، وكان أبو الدرداء يقول: "مِنْ فِقْهِ العبد أن يعلم أمُزْدَادٌ هو أو مُنتَقص - أي: من الإيمان - وإن من فقه العبد أن يعلم نزغات الشيطان أنَّى تأتيه". ما تقدَّم من الأسباب العشرة هي من أهم أسباب زيادة الإيمان، وهناك أسباب أخرى؛ كالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وزيارة القبور. وتأمَّل سيرة النبي - صلَّى الله عليه وسلم - والقراءة في سِيَر السلَف، والاهتمام بأعمال القلوب؛ كالخوف والرجاء، والمحبة والتوكُّل، وغيرها، والدعوة إلى الله - تعالى - والتَّقَلُّل من الدنيا ومن المباحات، والفضول في الطعام والكلام والنظر، وتنويع العبادة، وتَذَكُّر منازل الآخرة، ومناجاة الله - تعالى - والانكسار بين يديه، وتعظيم حُرُماته، والولاء والبَراء. وبِضِدِّ أسباب زيادة الإيمان نعرف أسباب نقصانه، أسأل الله أن يزيدنا إيمانًا، ويُجَدده في قُلُوبنا. الشيخ/ عبدالله بن حمود الفريح ـــــــــــــــــــــــــــ [1] [البينة: 5]. [2] [التوبة: 124]. [3] [الفتح: 4]. [4] وانظر: "فتح الباري 1/ 61. [5] الحديث رواه البخاري أيضًا عن أبي هريرة - رضي الله عنه. [6] [البينة: 5]. [7] [التوبة: 124]. [8] [الفتح: 4]. [9] [البينة: 5]. [10] [النمل: 14]. [11] وللازدياد في هذا الباب انظر: "كتاب الإيمان"؛ لابن تيميَّة، وهو مطبوع في كتاب مستقلٍّ، وأيضًا موجود في "الفتاوى" المجلد السابع. [12] [فاطر: 28]. [13] انظر: "فضْل عِلْم السلَف على علم الخلَف" ص (64 - 65). [14] انظر: "فضْل عِلْم السلَف على علْم الخلَف" ص (67). [15] [فاطر: 28]. [16] رواه مسلم. [17] [آل عمران: 190]. [18] [الذاريات: 21]. [19] [يونس: 101]. [20] انظر: "الدُّرُّ المنثور" (2/ 409). [21] [الأنفال: 2]. [22] [محمد: 24]. [23] انظر: "مدارج السالكين" 1/ 485. [24] [الرعد: 28]. [25] رواه البخاري. [26] [الجمعة: 9]. [27] [النساء: 142]. [28] انظر: "شُعَب الإيمان" (1/ 396)، و"الوابل الصَّيِّب" (60). [29] انظر: "الإيمان"؛ لابن أبي شيبة (7). [30] انظر: "الوابل الصيب" (63). [31] متفق عليه. [32] انظر: "الفتح" المجلد الأول، كتاب الإيمان، باب حلاوة الإيمان. [33] [آل عمران: 31]. [34] رواه مسلم. [35] رواه البخاري في "صحيحه" معلَّقًا. [36] انظر: "الفتح" المجلد الأول، كتاب الإيمان، باب: "بني الإسلام على الخمس". [37] انظر: "الزهد و الرقائق"؛ لابن المبارك، وانظر: "الإبانة الكبرى"؛ لابن بطة. [38] [الكهف: 28]. [39] رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، والحديث صحَّحه الحاكم، وصحَّحَ إسناده النووي. [40] انظر: "تحفه الأحوذي"، كتاب الزهد. [41] رواه مسلم. [42] انظر: "شرح مسلم"؛ للنووي، المجلد الأول، كتاب الإيمان. [43] انظر: "الفتاوى" (10/ 252). [44] رواه الطبَراني عن ابن عمر، وقال الهيثمي: "إسنادُه حسَن"، ورواه الحاكم عن ابن عمرو، وقال: "رواتُه ثقات"، وأقرَّهُ الذهَبي، وحسَّنه الألباني في "الصحيحة" (1585). [45] قال الحافظ في "الفتح" (1/ 48): "رواه أحمد في "الإيمان" وإسناده صحيح".