تيسير رب العباد إلى شرح لمعة الاعتقاد (14) الشيخ عبدالله بن حمود الفريح ل المصنِّف - رحمه الله -: "والبَعْثُ بعْدَ الموْتِ حقٌّ، وذلك حين يَنْفُخُ إسرافيلُ - عليه السلام - في الصُّور: {فَإِذَا هُمْ مِنْ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ}[1]. الشرح خامسًا: النفْخُ في الصُّور: الصور لغةً: القرن. وشرعًا: قرن عظيم التَقَمَه إسرافيل، وينتظر الأمرَ بالنفخ فيه. النفخ في الصور ثابتٌ بالكتاب والسُّنَّة والإجْماع: فمنَ الكتاب: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُون}[2]، وقوله - تعالى -: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا}[3]، والآيات في هذا كثيرةٌ. ومن السُّنَّة: حديث عبدالله بن عمرو - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ثم ينفخ في الصُّور، فلا يسمعه أحد إلا أصغى لِيتًا، ورفع لِيتًا، ثم لا يبقى أحد إلا صُعِقَ))[4]. واللِّيت: بكسر اللام وهي صفحة العنق، وأصغى؛ أي: أمال. وأجمع السلَف على إثبات النفخ في الصور، وأن إسرافيل - وهو أحد الملائكة - هو الموكَّل بالنفخ فيه. عدد النفخات: اختلفَ أهل العلم في عدد النفخات على قولين: القول الأول: إنها نفختان: نفخة يصعق فيها الناس، ونفخة يبعثون من قبورهم، نفخة الصعق ونفخة البعث؛ واستدلوا: 1- بقول الله - تعالى -: {مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ * فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ}[5]. ووجه الدلالة: أنَّ في الآية نفختين فقط: الأولى: وهي نفخة الصعق في قوله: {مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ}[6]. والثانية: في قوله: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ}[7]، وهذه نفخة البَعْث. 2- حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما بين النفختين أربعون))، قالوا: يا أبا هريرة أربعين يومًا؟ قال: أبيت، قالوا: أربعين شهرًا؟ قال:أبيت، قالوا: أربعين سنة؟ قال: أبيت[8]. وموطن الشاهد: ((ما بين النفختين))، وهذا يدل على أنهما نفْختان فقط. والقول الثاني: إنهما ثلاث نفخات: نفخة الفزَع، ونفخة الصعق، ونفخة البعث. واستدلوا: بقوله - تعالى -: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ}[9]، فقالوا: هذه نفْخة الفزَع، وقوله - تعالى -: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ}[10]، ففي هذه الآية نفختان: نفخة الصعق، ونفخة البعث، ومجموع النفخات الثلاث، والله أعلم بالراجح. صاحب الصور التَقَمَ القرن مُسْتَعِدٌّ للنفخ: ويدل على ذلك: حديث أبي سعيد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((كيف أََنْعَم، وقد التقم صاحب القرنِ القرنَ، وحنى جبهته، وأصغى سمعه ينتظر أن يُؤمَرَ أن ينفُخَ فينْفُخَ؟!))[11]. • • • قال المصنف - رحمه الله -: "والبَعْثُ بعْدَ الموت حقٌّ، وذلك حين يَنْفُخُ إسرافيلُ - عليه السلام - في الصُّور: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ}[12]". الشرح سادسًا: البعث: تعريفه: البعْث لغةً: الإرسال، والنشر. وشرعًا: إحياء الأموات يوم القيامة. البعث دلَّ عليه الكتاب والسنة والإجماع: فمن الكتاب: قوله - تعالى -: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}[13]. ومن السنَّة: حديث جابر عند مسلم، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يبعث كل عبد على ما مات عليه)). وأجمع السلَف على إثبات البعْث ليوم القيامة. لعظم أمر البعث؛ جاء إثباتُه في القرآن والسنة بطُرُق كثيرة: • فتارةً بالتَّصْريح: كقوله - تعالى -: {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}[14]، وقوله: {وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ}[15]. • وتارة بتذكير الإنسان بنشأته الأولى: كقوله - تعالى -: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ* إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ}[16]. • وتارة بالاستدلال بإنبات النبات على إحياء الأموات: كقوله - تعالى -: {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[17]. • وتارة بالإشارة والتأمُّل في خلْق السموات والأرض: كقوله - تعالى -: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[18]. • وتارة بتَنْزيه الله عن العبث: إذ إنَّه لو لَم يكنْ هناك بعث، لكانتِ الأوامر والنواهي والجزاء من العبَث؛ كقوله - تعالى -: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ}[19]. • وتارة بذِكْر القصص والوقائع التي تدل على البعث: كقصة الذي مرَّ على قرية، وهي خاويةٌ على عُرُوشِها، فأماتَهُ الله مائة عام ثم بَعَثَهُ، وقصة قتيل بني إسرائيل، وقصة الذين أُخْرِجُوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت، وقصة إبراهيم والطيور الأربعة، وقصة أصحاب الكهف. لابُدَّ من الإيمان بأنَّ البَعْث جَمْع مُتَفَرِّق، لا إيجاد معدوم: فبَعْثُ الخلْق إنما يُعيد الله خَلْقَ الإنسان الذي تفرَّق، وليس إيجادًا لخَلْقٍ جديدٍ. ويدل على ذلك: قوله - تعالى -: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ}[20]، وقوله - تعالى -: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[21]. كل إنسان يُبعَثُ على ما مات عليه: ويدل على ذلك: حديث جابر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يبعث كلُّ عبدٍ على ما مات عليه))[22]. قال النوَوي: "قال العلماء: معناه: يبعث على الحالة التي مات عليها"[23]. وقال ابن القَيِّم: "الرجل يموت على ما عاش عليه، ويبعث على ما مات عليه"، ولهذا المعنى أدلَّة وشواهد؛ منها: 1- المحرم إذا مات بُعث يوم القيامة ملبِّيًا: لحديث ابن عباس في الصحيحَيْن في الرجل الذي وَقَصَتْه ناقته وهو مُحْرِمٌ مع النبي في حجة الوداع، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((اغسلوه بماء وسدر، وكفِّنوه في ثوبين، ولا تُحَنِّطُوه، ولا تُخَمِّروا رأسَه؛ فإنه يُبْعَثُ يوم القيامة مُلَبِّيًا)). 2- الشهيد يُبْعَث يوم القيامة وجُرحه يثعب دمًا: اللون لون الدم، والرِّيح ريح المسك؛ دلَّ عليه حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - المتفق عليه: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا يُكْلَم أحدٌ في سبيل الله - والله أعلم بمن يُكْلم في سبيله - إلا جاء يوم القيامة وجُرحه يَثْعَبُ دمًا، اللون لون دم، والرِّيح ريح مِسْك)). 3- الغالُّ من الغنيمة، يأتي يوم القيامة بما غلَّ: لقوله - تعالى -: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ}[24]. قال القرطبي: "{وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}؛ أي: يأتي به حاملاً له على ظهره ورقبته، معذبًا بحمْله وثقله، ومرعوبًا بصَوْته، ومُوَبخًا بإظهار خيانته على رُؤُوس الأشهاد"[25]. 4- آكل الرِّبا: يبعث يوم القيامة على حال مُعَينة استحَقَّها لأكلِه الربا، فإنه يُبعث يوم القيامة كالمجنون الذي أصابَه المسّ؛ لقوله - تعالى -: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ}[26]. قال ابن كثير: "أي: لا يقومون مِن قُبُورهم يوم القيامة، إلا كما يقوم المصْرُوع حال صرعه، وتخبُّط الشيطان له، وذلك أنه يقوم قيامًا منكرًا، وقال ابن عباس: آكلُ الرِّبا يُبْعَثُ يومَ القيامة مجنونًا يُخْنَقُ"؛ رواه ابن أبي حاتم، قال: وروي عن عوف بن مالك، وسعيد بن جبير، والسُّدِّي، والربيع بن أنس، ومقاتل بن حيان نحو ذلك"[27]. 5- الغادر: فإنه يوم القيامة تُرفَع له راية تُبَيِّن غدرته، لا سيما مَن كانتْ له ولاية عامة؛ بأن كان سُلطانًا على عامَّة الناس؛ لأنه إذا غدر فغدرته يتَعَدَّى ضرَرُها إلى خلْقٍ كبيرٍ؛ ويدل على ذلك حديث ابن عمر - المتَّفق عليه - قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة، يُرْفَعُ لكل غادر لواء، فقيل: هذه غدرة فلان ابن فلان))، وفي رواية لمسلم من حديث أبي سعيد - رضي الله عنه -: ((ألا ولا غادر أعظم غدرًا من أمير على عامَّة)). فالغالُّ وآكلُ الربا والغادر، كلُّها أعمالٌ استمرَّ عليها أصحابها حتى ماتوا؛ فيُبعَثُون يوم القيامة على حالٍ تُنَاسِبُ ما ماتوا عليه؛ لأنهم لو تابوا قبل الموت لتابَ الله عليهم، وما تقدَّم بعض الشواهد التي دلَّت عليها النصوص وتبقى عمومُ الأعمال تدخل تحت قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يُبعَث كلُّ عبدٍ على ما مات عليه))؛ ولذا ينبغي على المسلم أن يحسنَ العمَل؛ لتحسن الخاتمة، فيحسن الحال التي يبعث عليها. قال ابنُ القَيِّم: "وهذا من أعظم الفقه أن يخافَ الرجل أن تخدعه ذنوبه عند الموت، فتحول بينه وبين الخاتمة الحسنة". وقال الحافظ عبدالحق الإشبيلي: "ولسوء الخاتمة - أعاذنا الله منها - أسبابٌ، ولها طُرُق وأبواب، وأعظمها الانكباب على الدُّنيا وطلبها والحِرْص عليها، والإعراض عن الآخرة، والإقدام والجُرْأة على معاصي الله"، والكلام على الخاتمة الحسَنة والسيئة باب تَطُول معه أخبار السلَف خوفًا، وعملاً، وضربًا لأروع الأمثال - والله المستعان. • • • 60- قال المصنف - رحمه الله -: "ويُحْشَرُ النّاسُ يومَ القيامةِ حُفَاةً عُراةً غُرْلاً بُهْمًا، فيقفون في موْقفِ القيامةِ". الشرح سابعًا: الحشر: تعريفه: لغة: الجمع. وشرعًا: جَمْع الخلائق يوم القيامة؛ لحسابهم والقضاء بينهم. والحشر الوارد في النصوص أربعة أنواع: اثنان في الدنيا: أحدهما: المذكور في سورة الحشر: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ}[28]. والثاني: الحشر المذكور في أشراط الساعة، ويكون في آخر الدنيا؛ كما جاء في حديث حذيفة بن أسيد مرفوعًا: ((إنها لن تقوم الساعة حتى تروا قبلها عشر آيات))، وفي آخر الحديث: ((وآخر ذلك: نارٌ تخرج من اليمن، تَطرُد الناس إلى محشرهم))[29]، وعند البخاري من حديث أنس - رضي الله عنه - مرفوعًا: ((أما أول أشراط الساعة فنارٌ تحشر الناس من المشرق إلى المغرب))، فهي ابتداءً تخرج من اليَمَن، ثم تنتشر من المشرق إلى المغرب، وقيل في الجمع غير ذلك، وجاءت آثار تدل أنها تحشرهم إلى أرض الشام. واثنان في الآخرة: أحدهما: حشر الأموات من قبورهم بعد البعث إلى موقف الغاية، وهو مراد المصنف، وسيأتي الاستدلال عليه. والثاني: حشر الناس إلى الجنة أو النار؛ كما قال - تعالى -: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا * وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا}[30]، وقوله {وَفْدًا}؛ الوافد: من يأتي إلى الملك في أمر عظيم ينتظر منه الكرامة والنعمة والضيافة - نسأل الله من فضله. هذه الأربعة الأنواع هي الواردة في النصوص في الحشر، ومقصود المصنف هو الثالث، وذكر القرطبي هذه الأنواع الأربعة، ونقلها عنه ابن حجر في "الفتح"، وقال: "إنَّ الحشر الأول ليس حشرًا عامًّا، وإنما هو لفئة مخصوصة، فالحشر إنما يراد به كل من هو موجود في حينه"[31]. الحشر ثابت بالكتاب والسنة والإجماع: فمن الكتاب: قوله - تعالى -: {قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ}[32]. ومن السُّنَّة: حديث سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يُحشَر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء، كقُرْصة النقي ليس فيها علمٌ لأحد))[33]. وأَجْمَع المسلمون على ثبوت الحشر يوم القيامة. حتى البهائم تحشر يوم القيامة، دلَّ على ذلك الكتابُ والسُّنَّة: فمن الكتاب: قوله - تعالى -: {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ}[34]، وقوله - تعالى -: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ}[35]. ومن السنة: حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ الرَّسول الله - صلَّى الله عليه وسلم - قال: ((لَتُؤَدَّنَّ الحقوق إلى أهلها يوم القيامة، حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء))[36]. قال النووي: "هذا تصريحٌ بحشْر البهائم يوم القيامة وإعادتها يوم القيامة، كما يُعَادُ أهلُ التكليف من الآدميين، وكما يُعَادُ الأطفال والمجانين ومن لَم تبلغْه دعوة، وعلى هذا تظاهرتْ دلائل القرآن والسنة، قال العلماء: وليس من شرط الحشر والإعادة في القيامة المجازاة والعقاب والثواب، وأما القِصَاصُ من القرناء للجلحاء فليس هو من قِصَاص التكليف؛ إذ لا تكليف عليها بل هو قصاص مقابلة"[37]. وأيضًا هو قصاصٌ يُبَيِّن مدى العدْل التامِّ في ذلك اليوم، حتى بين البهائم، وأنه كما قال الله - تعالى -: {لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ}[38]. يحشر الناس عراة حفاة غرلاً: لحديث عائشة قالتْ: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يُحْشَرُ الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلاً))، قالتْ: يا رسول الله، الرِّجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال: ((يا عائشة، الأمرُ أشدُّ مِنْ أنْ ينظُرَ بعضهم إلى بعض)). وعن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إنكم تُحْشَرُون حفاة عراة غرلاً، ثم قرأ: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ}[39]، وأول من يُكْسَى إبراهيم))[40]. ودلَّ حديث ابن عباس: أن الناس يُحشرون عراة، وأنَّ أول مَن يُكسَى إبراهيم - عليه السلام. واختُلفَ في الحكمة مِن ذلك؛ قال ابن حجَر: "قيل: الحكمة في كون إبراهيم أول من يُكسى: أنَّه جُرِّد حين أُلقِيَ في النار، وقيل: لأنه أول مَن استنَّ التَّسَتُّر بالسراويل، وقيل: إنه لَم يكنْ في الأرض أخوف لله منه، فجُعلَتْ له الكسوة؛ أمانًا له ليَطمئن قلبُه، وهذا اختيار الحليسي، والأول اختيار القرطبي"[41]. وإذا حُشِرَ الناس كان في ذلك الجمع هَمٌّ وغَمٌّ وكَرْبٌ ودُنُوُّ للشمس من الناس مقدار ميل؛ كما ثبَتَ في "صحيح مسلم"، من حديث سليم بن عامر، عن المقداد مرفوعًا: ((تُدنى الشمسُ يوم القيامة منَ الخلق، حتى تكون منهم مقدارَ ميل))، قال سليم بن عامر: فوالله ما أدري ما يعني بالميل: أمسافة الأرض، أم الميل الذي تُكحل به العين؟ وماذا يفعل الناس في ذلك الموقف؟ سيأتي بيان ذلك في حديث الشفاعة قريبًا. يتبع