تيسير رب العباد إلى شرح لمعة الاعتقاد (14) الشيخ عبدالله بن حمود الفريح قال المصنِّف - رحمه الله -: حتَّى يَشْفَعَ فيهم نبيُّنَا محمدٌ - صلى الله عليه وسلم. الشرح ثامنًا: الشَّفاعة: والشفاعة ذَكَرَها المصنِّف في هذا الفصْل مَرَّتَين، فذكر أولاً الشفاعة العُظمى، وهي شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - في أهل الموقف، وذَكَرَها مرة أخرى، وذكر بعدها شفاعة الأنبياء والمؤمنين والملائكة، وسنذكر هذه الشفاعات جميعًا في هذا الموْضِع. معنى الشفاعة: الشفاعة لغة: من الشفع ضد الوتْر، وهو ضَمُّ الشيء إلى مَثِيله. واصطلاحًا: التَّوَسُّط للغير بِجَلْب منفعة، أو دفْع مضَرَّةٍ. الشفاعة نوعان: 1- شفاعة شرعية (شفاعة مثبتة): وهي الشفاعة المقبولة، ويدخل تحتها أنواع سيأتي بيانُها، وهذه الشفاعة لا بُدُّ فيها مِن توفُّر شرطَيْن: الأول: الإذن للشافع أن يشْفع. والثاني: الرضا عن المشفوع له. ويدل عليهما: قوله - تعالى -: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى}[42]، وقوله - تعالى -: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ}[43]. 2- شفاعة شِرْكية (شفاعة منفية): وهي الشفاعة للكافرين، فهؤلاء لا تنفعهم شفاعة، كما قال المصنِّف: "ولا تنفع الكافر شفاعة الشافعين". ويدل على ذلك: قوله - تعالى -: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ}[44]. أنواع الشفاعة الشرعيَّة: 1- الشفاعة العُظمى:وهي أوَّل شفاعة ذَكَرَها المصنِّف بعدما ذكر البعث، والحشر، ووقوف الناس في موقف القيامة، حتى يشفع فيهم نبيُّنا محمد - صلى الله عليه وسلم - وهي شفاعة خاصة بالنبي - صلى الله عليه وسلم. ويدل عليها: حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - المتفق عليه، وهو حديث طويل، قال أبو هريرة - رضي الله عنه -: "أُُتِيَ رسولُ الله يومًا بلحم، فَرُفع إليه الذراع - وكانت تُعْجِبُه - فَنَهَسَ منها نَهْسَةً، فقال: ((أنا سَيِّدُ الناس يوم القيامة، وهل تدرون بِمَ ذاك؟ يجمع الله يوم القيامة الأولين والآخرين في صعيد واحد، فيُسْمِعُهم الدَّاعي، وينفذهم البصر، وتدنو الشمسُ فيبلغ الناس من الغمِّ والكرب ما لا يطيقون، وما لا يَحْتَمِلُون، فيقول بعض الناس لبعض: ألا تَرَوْنَ ما أنتم فيه؟ ألا تَرَوْنَ ما قد بلغكم؟ ألا تنظرون مَن يشفع لكم إلى ربِّكم؟ فيقول بعضُ الناس لبعض: ائتوا آدم...)) الحديث، وفيه يأتون آدم، ثم نوحًا، ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى، وكل واحد منهم يقول: إنَّ ربي قد غضِبَ اليوم غضبًا لَمْ يغضبْ قبله مثله، ولَم يغضب بعده مثله، نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، وآخرهم عيسى - عليه السلام -فيقول: "اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - فيأتوني فيقولون: يا محمد، أنت رسول الله وخاتم الأنبياء، وغفر الله لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر، اشْفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟! ألا ترى ما قد بلغنا؟! فأنطَلِق فآتِي تحت العرش فأَقَعُ ساجدًا لربِّي، ثم يفتح الله عليَّ، ويلهمني من مَحَامِده وحُسْنِ الثناء عليه شيئًا لَم يفتحه لأحدٍ قبلي، ثم يُقَال: يا محمد، ارفع رأسك، سَلْ تُعْطَه، اشفع تُشَفَّع، فأرفع رأسي، فأقول: ((يا رب، أمتي أمتي)) الحديث، فيشفع - صلى الله عليه وسلم – لأمته، وهذه تسمى الشفاعة العظمى. 2- شفاعته - صلى الله عليه وسلم - بدخول أهل الجنةِ الجنةَ: دلَّ عليها حديث أنس - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أنا أوَّل الناس يشفع في الجنة، وأنا أكثرُ الأنبياء تبعًا))، وفي روايةٍ: ((فأستفتح، فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: محمد، فيقول: بك أُمِرْتُ لا أفتح لأحد قبلك))[45]. 3 - شفاعته - صلى الله عليه وسلم - في عمِّه أبي طالب بأن يُخَفِّفَ عنه العذاب: وذلك لأنَّ أبا طالب مات كافرًا فلا يخرج من النار، ولكن بشفاعة النبي يُخَفف عنه منَ العذاب. ويدُلُّ على ذلك: حديث أبي سعيد - رضي الله عنه -: أن رسولَ الله ذُكِرَ عنده عمُّه أبو طالب فقال: ((لعلَّه تنفعه شفاعتي يوم القيامة، فيُجْعَل في ضَحْضَاحٍ من نار يغلي منه دماغُه))، وفي رواية: ((ولولا أنا، لكان في الدَّرْكِ الأسفل من النار))[46]. وهذا الأنواع الثلاثة السابقة خاصَّة بنبِيِّنا - صلَّى الله عليه وسلم. 4- الشَّفاعة في خُرُوج الموحِّدين من النار: دلَّ عليها حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يخرج من النار مَن قال: لا إله إلا الله وفي قلبه وزْن شعيرة من خير، ويخرج من النار مَن قال: لا إله إلا الله وفي قلبه وزنُ بُرَّة من خير، ويخرج من النار مَنْ قال: لا إله إلا الله وفي قلبه وزن ذرة من خير))[47]. وحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله: ((لكلِّ نبي دعوةٌ مُستَجابةٌ، فتعجَّل كلُّ نبيٍّ دعوتَه، وإنِّي اختبأتُ دعوتي؛ شفاعةً لأمتي يوم القيامة، فهي نائلةٌ - إن شاء الله - مَنْ مات من أمتي لا يُشرك بالله شيئًا))[48]. وحديث أنس - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي))[49]، والأحاديث في هذا الباب كثيرة. والخوارج والمعتزلة يُنْكِرون هذا النوع منَ الشفاعة؛ لأنه كما تقدَّم من مذهبهم: أنَّ صاحب الكبيرة يخرج من الإيمان؛ فالسارق، والزاني، وغيرهما من أهل الكبائر عندهم خرجوا من الإيمان، فلا تنفعهم الشفاعة، وقولهم قول باطلٌ مردودٌ بالأدلة الكثيرة التي تخالف مُعتقَدهم، ومن هذه الأدلة ما تقدَّم ذكره. 5- الشفاعة فيمَن استحق النار ألا يدخلها: وهذه من أنواع الشفاعة التي يذكرها أهلُ العلم، وقد يُسْتَدَلُّ لها بحديث ابن عباس - رضي الله عنهما - قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئًا، إلاَّ شفَّعهم الله فيه))[50]. 6- الشفاعة في رَفْعِ درجات أقوام من أهْل الجنَّة: وهذه قد تكون بفَضْل ما جعله الله مِن دُعاء المؤمنين بعضهم لبعض؛ كما في حديث أم سلمة ودعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي سلمة، حين تُوفِّي؛ فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((اللهم اغفرْ لأبي سلَمة، وارْفع درجته في المهْديِّين، واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفرْ لنا وله يا رب العالَمين، وأفْسح له في قبْرِه ونوِّر له فيه))[51]. وهذه الأنواع الثلاثة ليستْ خاصَّةً بالنَّبي - صلى الله عليه وسلم - بل لسائر الأنبياء والصِّديقين والمؤمنين. 7- شفاعة النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في قومٍ من أمته يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب: كشفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - لعُكاشة بن محصن أن يجعله من السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، كما جاء في حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - في الصحيحين. • ومن أهل العلم من يزيد نوعًا ثامنًا، وهي الشفاعة فيمَن استوت حسناتهم وسيئاتهم، وهم أهل الأعراف. وكما ذكر المصنِّف وتقدَّم بيانه: أن هناك من الشفاعة مَن يشفع فيها الأنبياء والمؤمنون والشهداء والصالحون والملائكة، على قدر مراتبهم ومقاماتهم عند ربهم، فالشهيد مثلاً يُشَفَّع في سبعين من أهل بيته؛ كما ورد عند أبي داود وابن حبان. من الأعمال التي ينال بها المسلم الشفاعة ما يلي: 1- قول: "لا إله إلا الله" خالصة من القلب: لحديث أبِي هريرة - رضي الله عنه - قال: قلتُ: يا رسول الله، مَنْ أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال: ((لقد ظننتُ يا أبا هريرة ألا يسألني عن هذا الحديث أحدٌ أوَّل منك؛ لما رأيت من حرصك على الحديث، أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة مَنْ قال: "لا إله إلا الله خالصًا من قلبه))[52]. 2- قول الذكر الوارد بعد الأذان: وهو ما جاء في حديث جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن قال حين يسمع النداء: اللهُمَّ ربِّ هذه الدعوة التامَّة، والصلاة القائمة، آتِ محمدًا الوسيلة والفضيلة، وابعَثْه مقامًا محمودًا الذي وعدته - حلَّت له شفاعتي يوم القيامة))[53]. 3- الصبر على شدة المدينة ولأوَائها: لحديث أبي هريرة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا يصبر على لأْواء المدينة وشدتها أحدٌ من أمتي إلا كنتُ له شفيعًا يوم القيامة أو شهيدًا))[54]، والمقصود بـ(لَأْوَائها)؛ أي: شدتها، وضيق العيش فيها. 4- الموت في المدينة: لحديث ابن عمر - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَن استطاع أن يموتَ بالمدينة فلْيَمُتْ بها؛ فإنِّي أشفع لمن يموت بها))[55]. فائدة: هناك من الأعمال ما تمنعُ العبدَ أن يكون شفيعًا لأحدٍ يوم القيامة: ومن ذلك مَنْ يُكْثِرُ اللَّعْن؛ فقد جاء في "صحيح مسلم"، من حديث أبي الدرداء - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا يكون اللَّعَّانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة))، قال النووي: "وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنهم لا يكونون شفعاء ولا شهداء))؛ فمعناه: لا يشفعون يوم القيامة حين يشفع المؤمنون في إخوانهم الذين استوجبوا النار، ((ولا شُهداء)): فيه ثلاثة أقوال: أصحها وأشهرها: لا يكونون شهداء يوم القيامة على الأمم بتبليغ رسلهم إليهم الرسالات، والثاني: لا يكونون شهداء في الدنيا؛ أي: لا تُقبل شهادتهم لفِسْقهم، والثالث: لا يرزقون الشهادة؛ وهي: القتل في سبيل الله"[56]. الشيخ/ عبدالله بن حمود الفريح ــــــــــــــــــــــــــ [1] [يس: 51]. [2] [يس: 51]. [3] [الكهف: 99]. [4] رواه مسلم. [5] [يس: 49- 51]. [6] [يس: 49]. [7] [يس: ٥١]. [8] متفق عليه. [9] [النمل: 87]. [10] [الزمر: 68]. [11] رواه أحمد، والترمذي، وقال: "هذا حديث حسن". [12] [يس: ٥١]. [13] [التغابن: 7]. [14] [التغابن: 7]. [15] [الأنعام: 36]. [16] [الطارق: 5 - 8]. [17] [الروم : 50]. [18] [الأحقاف: 33]. [19] [المؤمنون: 115]. [20] [القيامة: 3 - 4]. [21] [الروم: 27]. [22] رواه مسلم. [23] انظر: "شرح مسلم"؛ النووي (13) كتاب الأشربة، باب الأمر بحُسْن الظَّن بالله - تعالى - عند الموت. [24] [آل عمران: 161]. [25] انظر: تفسير الآية في "تفسير القرطبي". [26] [البقرة: 275]. [27] انظر: تفسير الآية في "تفسير ابن كثير". [28] [الحشر: 2]. [29] رواه مسلم. [30] [مريم: 85 - 86]. [31] انظر: "الفتح" المجلد الحادي عشر، كتاب الرقاق، باب الحشر. [32] [الواقعة: 49 - 50]. [33] متَّفق عليه، وعفراء: هي بيضاء المائلة إلى حمرة، والنقي: هو الدقيق. [34] [التكوير: 5]. [35] [الأنعام: 38]. [36] رواه مسلم، والجلحاء: هي التي لا قرن لها. [37] انظر: "شرح النووي لمسلم"، المجلد (16)، كتاب البر والصلة، باب تحريم الظلم. [38] [غافر: 17]. [39] [الأنبياء: 104]. [40] متَّفق عليه، وحُفاة؛ أي: غير منتعلين، عُراة؛ أي: ليس عليهم أثواب كما وَلدَتْهم أمَّهاتُهم، غُرلاً؛ أي: غير مختونين. [41] انظر: "الفتح"، المُجَلَّد (11)، كتاب الرِّقاق، باب الحشر. [42] [النجم: 26]. [43] [البقرة: 255]. [44] [المدثر: 48]. [45] رواه مسلم. [46] متفق عليه. [47] متفق عليه. [48] رواه مسلم. [49] رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي. [50] رواه مسلم. [51] رواه مسلم. [52] رواه البخاري. [53] رواه البخاري. [54] رواه مسلم. [55] رواه أحمد، والتِّرمذي، وابن ماجَهْ، وصحَّحَه الألباني. [56] انظر: "شرح مسلم"؛ للنووي، المجلد (16)، كتاب البر والصلة، باب النَّهي عن لَعْن الدواب وغيرها.