بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى:
الحمد لله نحمده ، ونستعين به ونسترشده ، ونعوذ به من شرور أنفسنـا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته وإرغامـاً لمن جحد به وكفر ، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله سيد الخلق والبشر ، ما اتصلت عين بنظر أو سمعت أذن بخبر ، اللهم صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وعلى ذريته ومن والاه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحــق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممــــن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين. تراجع أحوال سير المسلم إلى الله :
أيها الأخوة الكرام ؛ معظم خطب الجمعة توجه إلى مجموع المسلمين ، ولكن هذه الخطبة ليست موجهة إلى مجموع المسلمين ، ولا إلى رواد المساجد حصراً ، بل إلى السالكين إلى الله ، هؤلاء السالكون إلى الله معظمهم يشكو أن أحواله تراجعت ولم تكن كالتي كانت في أول سيره إلى الله عز وجل .
أخطر ما في الموضوع أن يقصر الإنسان ، وأن يقنع نفسه أن تقصيره له سبب وعذر مقبول عند الله عز وجل ، هنا المشكلة ، فالإنسان يبتغي التوازن ، فإذا اختل توازنه يعلل هذا التوازن بحجة ، هل أنت متأكد أن هذه الحجة التي تطرحها مقبولة عند الله عز وجل ؟ قد يكون الأمر على خلاف ذلك ، فمن هذه الحجج التي يطرحها الإنسان حينما تفتر همته ، أن يقول : كبرت سني ، ولي في العمل الصالح باع طويل ، ألم يدرك أن الله سبحانه وتعالى يقول:
﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ﴾
[ سورة الحجر : 99]
واليقين هو الموت ، لأن الإنسان باليقين يتيقن من أحقية الموت ، ومن أحقية ما بعد الموت .
من استقرت حياته على طاعة الله فقد أفلح و فاز :
أيها الأخوة الكرام ؛ في موضوع هذه الخطبة حديث أساسي هو أن النبي عليه الصلاة والسلام فيما رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
((لكل عمل شرةٌ ))
[أحمد عن عبد الله بن عمر]
أي فورة ، والذي يتوب حديثاً يشعر بمعنى ما أقول ، لكل عمل شرة أي فورة ، يعيش بأحوال لا تصدق ، يشعر بسعادة لا توصف ، يشعر بإقبال على الله عز وجل فلا يتراجع، بعد حين يشكو ضعف هذه الأحوال ، يقول عليه الصلاة والسلام :
((لكل عمل شرة ولكل شرة فترة ))
[أحمد عن عبد الله بن عمر]
بعدئذٍ هذه الفورة تفتر .
((فمن كانت فترته إلى سنتي فقد أفلح))
[أحمد عن عبد الله بن عمر]
أي استقرت حياته على طاعة الله ، استقرت طاعته على أداء العبادات ، استقرت حياته على الالتزام بمنهج الله عز وجل ، قال :
((ومن كانت فترته إلى سنتي فقد أفلح ومن كانت إلى غير ذلك فقد هلك ))
[أحمد عن عبد الله بن عمر]
بعد هذه الفورة ، إن أعقب هذه الفورة فترة إلى مخالفات ، إلى بدع ، إلى مصالح، إلى لذائذ ، إلى شهوات فقد هلك ، ولم تنفعه تلك الفورة ، وتلك الشرة ، الحديث مرة ثانية :
((لكل عمل شرةٌ ))
[أحمد عن عبد الله بن عمر]
فورة ـ تماماً ولو كنت في جو شديد البرودة ثم دخلت إلى غرفة دافئة ، في الدقائق الأولى تشعر بقيمة الدفء لكن بعد حين يصبح الدفء شيئاً اعتيادياً وتتفاعل معه ، وتقبله ، وكأنه ليس هناك من نعمة الدفء ، أو قد تكون في جو حار تدخل إلى مكان مكيف ، في البدايات تشعر بقيمة هذه النعمة ، استمرار هذه النعمة تضعف تأثيرها ، هذا هو المعنى السليم للشرة والفورة والفترة ، ولكن إذا نقلت الشرة صاحبها إلى فترة متلبسة بالمعاصي فهنا الطامة الكبرى .
العمل الصالح علة وجود الإنسان على وجه الأرض بعد معرفة الله :
أيها الأخوة الكرام ؛ يقول الحسن البصري : " لم يجعل الله للعبد أجلاً في العمل الصالح دون الموت ".
من أجل أن تبقى الهمة عالية ، قد تفتر الأحوال ولكن لابد من همة عالية للعمل الصالح ، لأن العمل الصالح بعد أن تعرف الله عز وجل هو علة وجودك على وجه الأرض، بدليل أن الإنسان حينما يأتيه ملك الموت لا يتمنى إلا شيئاً واحداً :
﴿ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ﴾
[ سورة المؤمنون : 99-100]
في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن ورقة بن نوفل قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : " وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً " مع كبر سنه وذهاب بصره تمنى أن يكون قوياً فيكون نفعه أكبر وأثره أكثر .
وفي قول الله عز وجل :
﴿ انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا ﴾
[ سورة التوبة : 41]
أي وأنت شاب في ريعان الشباب ، وأنت متقدم في السن ، تخطو خطوات بطيئات:
﴿ انْفِرُوا خِفَافًا ﴾
[ سورة التوبة : 41]
أي شباباً :
﴿ وَثِقَالًا ﴾
[ سورة التوبة : 41]
شيوخاً .
يروى أيها الأخوة أن أبا طلحة الأنصاري رضي الله عنه قرأ في سورة براءة هذه الآية
﴿ انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا ﴾
[ سورة التوبة : 41]
فقال : أرى ربنا عز وجل يستنفرنا شيوخاً وشباباً جهزوني أي بني ، فقال بنوه : قد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما فنحن نغزو ؟ فقال: جهزوني فركب البحر فمات ، فلم يجدوا له جزيرة إلا بعد سبعة أيام فقبر بها ولم يتغير :
﴿ انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا ﴾
[ سورة التوبة : 41]
﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ﴾
[ سورة الحجر : 99]
الإمام الشافعي رحمه الله تعالى قال : " طلب الراحة في الدنيا لا يصلح لأهل المروءات ، فإن أحدهم لم يزل تعباناً في كل زمان ". ألم تقل السيدة خديجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن جاءه الوحي خذ قسطاً من الراحة ، فماذا قال لها ؟ قال لها : " انقضى عهد النوم يا خديجة " :
﴿ انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا ﴾
سئل بعض الزهاد عن سبيل المسلم ليكون في صفوة الله عز وجل ، فقال : إذا خلع الراحة وأعطى المجهود في الطاعة . وقيل للإمام أحمد متى يجد العبد طعم الراحة ؟ قال : " عند أول قدم يضعها في الجنة " أي لا راحة لمؤمن إلا بلقاء وجه ربه ، لأن الدنيا دار عمل ، لأن الدنيا دار ابتلاء ، لأن الدنيا دار تكليف ، والآخرة دار تشريف ، والآخرة دار جزاء ، والآخرة دار راحة .
أيها الأخوة الكرام ؛ سئل حذيفة رضي الله تعالى عنه عن ميت الأحياء فقال : " الذي لا ينكر المنكر بيده ، ولا بلسانه ، ولا بقلبه " أي تقاعد عن العمل الصالح ، هذا عذر أيها الأخوة ؟ التقدم في السن وله باع طويل في الدعوة والعمل الصالح يميل إلى الراحة وإلى ترك الأعمال الصالحة لأنه قدم منها الشيء الكثير ؟ هذه حجة ليست مقبولة عند الله عز وجل للسالكين إليه .