العمل المهني خسارة محققة إذا استهلك وقت الإنسان كله :
أيها الأخوة الكرام ؛ بعض الناس يتعلل بطلب الرزق ، وقد يستغرق طلب الرزق كل وقته ، وحينما يعلم أن له في الحياة الدنيا مهمة هي أن يعرف الله عز وجل ، وأن يحمل نفسه على طاعته ، وعلى التقرب إليه ، فطلب الرزق إن استغرق كل وقته كان خسارة كبيرة ، لأنه عطل الهدف الذي من أجله خلق ، وكثيراً ما أسمع أن إنساناً عمله استغرقه كله ، عمله استغرق كل وقته ، عمله لم يبقِ له ساعة يتقرب فيها إلى الله مع حفاظه على الطاعات ، مع حفاظه على حدود الله ، ولكن أمخلوق أنت للدنيا فقط ؟ لا بد من أن يكون لك ساعة تتقرب فيها إلى الله ، لابد من ساعة تأمر فيها بالمعروف وتنهى بها عن المنكر ، لا بد من ساعة تفعل عملاً صالحاً تبتغي به وجه الله تعالى ، وأقول لكم أيها الأخوة أن العمل المهني إذا استغرق كل الوقت ففيه خسارة محققة . يقول عليه الصلاة والسلام :
(( إن روح القدس نفثت في روعي أن نفساً لن تموت حتى تستوفي رزقها ، فاتقوا الله عباد الله وأجملوا في الطلب ))
[ ابن ماجه وأبو نعيم في الحلية والحاكم وابن حبان عن جابر]
أحياناً الإنسان يترك عمله في بلده وله منه رزق يكفيه أو أقل مما يكفيه ويغادر ويدع زوجته وأولاده بلا موجه ، وبلا رقيب ، من أجل مبلغ بسيط ضيع من أجله أسرته ، وضيع من أجله طلبه للعلم ، حينما يكون طلب العلم هدفاً واضحاً ، وحينما يكون التقرب إلى الله عز وجل هدفاً واضحاً يقيم موازنات صحيحة .
يقول بعض العلماء : " قبول المحل لما يوضع فيه مشروط بتفريغه من ضده" كلمة دقيقة سيشرحها ، وعاء ممتلئ ماء إن أردت أن تملأه زيتاً لابد من إفراغ الماء وصب الزيت ، هذا في الماديات ، في الذوات والأعيان ، وهذه الحقيقة تنسحب على الاعتقادات والإرادات ، فإذا كان القلب ممتلئاً بالباطل اعتقاداً ومحبة لم يبقَ فيه مكان لاعتقاد الحق ومحبته ، واللسان إذا اشتغل بالتكلم بما لا ينفع لن يتمكن صاحبه أن ينطق بلسانه بما ينفع ، والجوارح إذا اشتغلت بغير الطاعة لن تتمكن أن تشغلها بالطاعة إلا إذا فرغتها من ضدها ، كذلك القلب المشغول بمحبة غير الله وإرادته والشوق إليه والأنس به لا يمكن أن تشغله بمحبة الله وإرادته وحبه والشوق إلى لقائه إلا بتفريغه من تعلقه بذلك ، أي ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ، نفسك إن لم تشغلها بالخير شغلتك بالشر ، من أحبّ دنياه أضر بآخرته . إذاً حتى لو كان العمل مباحاً ، حتى لو كان العمل طلب رزق ، لا بد من أن يكون لك وقت لا تتساهل فيه أبداً تخلو فيه مع نفسك ، تناجي ربك ، تذكر الله عز وجل بطريقة أو بأخرى . قال بعضهم وهو الإمام مالك : بقدر ما تحزن للدنيا كذلك يخرج همّ الآخرة من قلبك ، وبقدر ما تحزن للآخرة كذلك يخرج همّ الدنيا من قلبك ، ما الذي يهمك الدنيا أم الآخرة ؟ يقول عليه الصلاة والسلام بما يروى عنه :
(( من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه ، وجمع الله عليه شمله ، وأتته الدنيا وهي راغمة ، ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه ، وفرق عليه شمله ، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له))
[ الترمذي عن أنس ]
وهذا المعنى واضح جداً في قوله تعالى :
﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ﴾
[ سورة النور : 36-37]
المؤمن متأن لا يسمح لنشاط واحد أن يصرفه عن مهمته الأساسية :
أيها الأخوة الكرام ؛ في بعض آيات القرآن الكريم ملمح رائع يقول عز وجل :
﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً﴾
[ سورة الفرقان : 63 ]
أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا سار أسرع ، وإذا سار كأنما ينحط من صبب ، وروي عن السيدة عائشة رضي الله عنها أنها قالت : " ما رأيت أزهد من عمر كان إذا سار أسرع " هنا الآية :
﴿ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً﴾
[ سورة الفرقان : 63 ]
قال بعض علماء التفسير : المؤمن متأن لا يسمح للدنيا أن تأخذه ، لا يسمح لمشكلات حياته أن تنسيه مهمته في معرفة ربه ، لا يسمح لقضية جانبية أن تستحوذ عليه ، يعطي كل ذي حق حقه ، إن لله عملاً في الليل لا يقبله في النهار ، وإن لله عملاً في النهار لا يقبله في الليل :
﴿ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً﴾
[ سورة الفرقان : 63 ]
أي يعطي لكل نشاط من نشاطاته الوقت المناسب ، لكن لا يسمح لنشاط واحد ولو كان مباحاً أن يأخذه كله ، أن يستحوذ عليه ، أن يصرفه عن مهمته الأساسية .
لا مؤاثرة في الخير :
أيها الأخوة الكرام ؛ هناك أعذار كثيرة يضعها بعض السالكين إلى الله ظناً منهم أنها عند الله مقبولة ، مثلاً لو قال أحدهم : أنا أفسح المجال لغيري يا أخي ، نقول له : لا مؤاثرة في الخير لكن الخير كله في المؤاثرة ، أن تؤثر أخاً لك على قربك إلى الله ظناً منك أن لك عند الله أعمالاً كثيرة ، وأنها مقبولة ، وأنت قد اكتفيت من العمل الصالح إذاً تفسح المجال لغيرك ، هذا كلام مرفوض قطعاً ، لا مؤاثرة في الخير ، والدليل على ذلك قول الله عز وجل :
﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ﴾
[ سورة المطففين : 26]
﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴾
[ سورة آل عمران : 133 ]
﴿أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ ﴾
[ سور المؤمنون : 61]
وكان عمر رضي الله عنه يحاور جاهداً مسابقة أبي بكر في الخير .
أيها الأخوة الكرام ؛ أن تقول : أنا سأفسح المجال لغيري ، أنا تقاعدت ، هناك شباب متوثبون إلى العمل الصالح ، سأعطيهم فرصة ، هذا كلام يخالف منطوق الآيات الثلاث، ويخالف القاعدة الأساسية أنه : لا مؤاثرة في الخير ، لو أننا قبلنا المؤاثرة في الخير لترك العمل الصالح .
الدعوة إلى الله فرض عين على كل مسلم :
أيها الأخوة الكرام ؛ حتى لو توهمت أن الدعوة إلى الله من اختصاص خطباء المساجد ، والعلماء الكبار ، والشخصيات اللماعة في الأرض ، هذا وهم أيضاً ، إن الدعوة إلى الله فرض عين على كل مسلم ، فرض عين على كل مسلم ، لأن الله عز وجل يقول :
﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾
[ سورة يوسف : 108]
فالذي لا يدعو إلى الله على بصيرة ليس متبعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، دائماً عندنا قاعدة أن المقصر لا يرى تقصيره لكنه يحمله لجهة ، والآن الجهة الوحيدة التي تحمل كل أخطاء الأمة العلماء ، هو ليس مستعداً أن يفعل شيئاً ، ولا أن يتحرك ، ولا أن يضبط نفسه ، ولا أهله ، ولا بناته ، ولا أولاده ، واللوم كله على العلماء ، إلقاء اللوم على الآخرين شيء مريح ، يعفي الإنسان من اختلال توازنه الداخلي ، ويريح نفسه من العمل لاستعادة التوازن ، أما هذا فسلوك غير مقبول أبداً ، لو أن كل الذين حولك خاطئون هل خطأهم ينجيك من حساب الله عز وجل ؟ لو أن كل الذين حولك كاذبون هل هذا يعفيك من المسئولية ؟ لذلك سلوك إلقاء اللوم على الآخرين والتنصل من المسئولية هذا سلوك لا يقبله الله عز وجل أبداً .
انشغال المقصر بأخطاء غيره و نسيان نفسه :
هناك أحياناً مسلك آخر يسلكه المقصرون ، هو ينشغل بنقد الآخرين ، أخطاؤه لا يراها أبداً ، ولا ينتبه إليها ، ولا يدقق فيها ، كل همه أن ينتقد هذا الخطيب ، وهذا العالم ، وهذا الداعية ، ويرى متعة بالغة في كشف الأخطاء ، وتوضيح العيوب ، بل يستخدم المكبر لتكبير الأخطاء الصغيرة ، ولا يرى الجذع في عينه ، يرى قشة في عين أخيه ولا يرى جذعاً في عينه ، سلوك تحميل أناس معينين كل أخطاء الأمة سلوك مضحك ، وسلوك ساذج ، ثم إن الانشغال بالنقد دون أن توجه النقد إلى ذاتك هذا أيضاً مرض ينبغي أن يتبرأ منه طلاب العلم السالكون إلى الله عز وجل . قال الأوزاعي : " المؤمن يقول قليلاً ويعمل كثيراً ، والمنافق يتكلم كثيراً ويعمل قليلاً ". من أعراض هذا المرض : المبالغة والتهويل ، فالإنسان إذا بالغ في أي شيء فقد مصداقيته ، قد يبالغ بأخطاء الآخرين وقد يبالغ في تقليل أخطائه ، وقد يكون خطؤه أكبر خطأ يرتكبه بالقياس لمن حوله .