احترام المقصر للشخصيات المتقاعسة و جعلها مثله الأعلى :
شيء آخر أيها الأخوة هو أن المقصر أحياناً يبرز ويجل ويحترم شخصية متقاعسة، وكأن هذه الشخصية مثله الأعلى ، وهذا خطأ آخر ، ينبغي أن تجعل مثلك الأعلى الشخصيات المتفوقة ، المقربة إلى الله عز وجل ، أما هذا المتقاعس فلا ينبغي أن يكون قدوة لك ، لذلك حينما تثني على هؤلاء المتقاعسين وتصفهم بالتعقل الشديد ، وبالمرونة ، وبالموضوعية ، وأنهم يفهمون ماذا يفعلون وهم في الحقيقة متقاعسون ، إنك بهذا تخدر نفسك عن أن تكون في طريق الأبطال سائراً . يقول الله عز وجل :
﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ﴾
[ سورة غافر : 52]
هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم بالتقصير كل هذه الأعذار لا تنفعهم يوم القيامة . يقول أحد أصحاب الإمام أحمد : صحبته عشرين سنة صيفاً وشتاء ، وحراً وبرداً ، وليلاً ونهاراً ، فما لقيته في يوم إلا وهو زائد عليه بالأمس . من لم يكن في زيادة فهو في نقصان .
من كمال شخصية المؤمن أنه يصغي إلى النقد :
شيء آخر أيها الأخوة : هناك نمط عنده حساسية مرهفة للنقد ، فإذا انتقد بأي شيء ترك العمل الصالح ، لو أن إنساناً دخل كلية الطب ، وعلق الآمال الكبيرة على أن يكون في المستقبل طبيباً ، لو أن واحداً من الطلاب انتقده هل يرد عليه بترك الكلية ؟ مستحيل ، فهذا الذي لملاحظة من أخ ترك المسجد ، ولتعليق قد لا يعجبه من آخر ترك العمل الصالح ، ولأنه دعا إلى الله فاتهم أنه يحب أن يجمع الناس حوله ، فلغى الدعوة إلى الله ، هذا أيضاً نموذج مريض ، أنت حينما يكون هدفك واضحاً لا تعبأ بقول أحد ، فمن عرف نفسه ما ضرته مقالة الناس به .
سيدنا عمر يقول : " رحم الله امرأ أهدى إلينا عيوبنا " من كمال شخصية المؤمن أنه يصغي إلى النقد . سيدنا عمر بن عبد العزيز جاء لمولاه مزاحم ، قال له : يا مزاحم إن الولاة جعلوا العيون على العوام ، وأنا أجعلك عيني على نفسي ، فإن رأيتني ضللت أو سمعت مني كلمة تربأ بي عنها ، أو فعلاً لا تحبه، فأمسكني من تلابيبي وهزني هزاً عنيفاً وقل لي : اتقِ الله يا عمر فإنك ستموت . يجب أن تقبل النقد ولو كان جارحاً ، لأن الذي ينتقد يرفعك ، بينما الذي يمدحك تقرباً إليك يجعلك في مكان لا ترقى به .
بلال قال لصاحبه : بلغني أن المؤمن مرآة أخيه هل تستريب من أمري شيئاً بربك انصحني ؟
عالم آخر يقول : قولوا لي ما أكره في وجهي ، لأن الرجل لا ينصح أخاه حتى يقول له في وجهه ما يكره ، بينك وبينه قل : هذا العمل مخالف للسنة ، هذا العمل لا يرضي الله .
ويقول بعض السلف : من حق العاقل أن يضيف إلى رأيه آراء العلماء ، وأن يجمع إلى عقله عقول الحكماء ، فالرأي الفذ ربما زلّ ، والعقل الفرد ربما ضلّ ، هذه :
﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾
[ سورة آل عمران : 159 ]
﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ﴾
[ سورة الشورى : 38 ]
أيها الأخوة : وهناك أشخاص إذا لم تمدحهم ، ولم تعلِ قدرهم ، ولم تضعهم في الصف الأول ، ولم تبجلهم ، ولم تخاطبهم بألقاب عالية ، ينصرفون عن العمل الصالح ، وكأنهم يعبدون ذواتهم من دون الله ، هذه كلها أمراض يقع بها أحياناً طلاب العلم ، وقد قلت في مطلع الخطبة : أنا لا أوجه هذه الخطبة لعامة الناس ، ولا لرواد المساجد غير الملتزمين ، ولكن أوجهها إلى السالكين إلى الله عز وجل .
أيها الأخوة الكرام ؛ يقول بعض العلماء : فقه اللسان بلا عمل القلب لا يخطيك إلى الحق خطوة ، والسير سير القلب .
﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُوراً ﴾
[ سورة الإنسان : 9]
أيها الأخوة الكرام ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا ، وسيتخطى غيرنا إلينا ، فلنتخذ حذرنا، الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها ، وتمنى على الله الأماني .
* * *
الخطبة الثانية :
أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صاحب الخلق العظيم، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
السير إلى الله هو سير القلب :
أيها الأخوة الكرام ؛ لسيدنا عمر بن الخطاب كلمة رائعة يقول : " تعاهد قلبك " لأن السير إلى الله هو سير القلب ، ولأن الله عز وجل يقول :
﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾
[ سورة الشعراء :88-89]
والقلب السليم الذي ينفعك وحده يوم القيامة هو القلب الذي سلم من شهوة لا ترضي الله ، وسلم من تصديق خبر يتناقض مع وحي الله ، وسلم من عبادة غير الله ، وسلم من تحكيم غير شرع الله .
أيها الأخوة الكرام ؛ لا يخافن العبد إلا ذنبه ولا يرجون إلا ربه ، والله سبحانه وتعالى موجود وواحد وكامل وسميع ومجيب .
الدعاء :
اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولَّنا فيمن توليت ، وبارك اللهم لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شرَّ ما قضيت ، فإنك تقضي ولا يُقضى عليك ، إنه لا يذل من واليت ، ولا يعزُّ من عاديت ، تباركت ربنا وتعاليت ، ولك الحمد على ما قضيت . اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، و،صلح لنا دُنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردُّنا ، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير ، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر ، مولانا رب العالمين . اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك. اللهم لا تؤمنا مكرك ، ولا تهتك عنا سترك ، ولا تُنسنا ذكرك يا رب العلمين . اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا ، وآمنا في أوطاننا ، واجعل هذا البلد سخياً رخيّاً وسائر بلاد المسلمين . اللهم نعوذ بك من الفقر إلا إليك ، ومن الخوف إلا منك ، ومن الذل إلا لك ، نعوذ بك من عُضال الداء ، ومن شماتة الأعداء ، ومن السلب بعد العطاء ، مولانا رب العالمين . اللهمَّ بفضلك ورحمتك أَعل كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعزَّ المسلمين ، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنك على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .
والحمد لله رب العالمين