وظيفة الجالس في المسجد: إن المساجد موضع العبادة وحضور الملائكة ونزول الرحمة. فما بنيت إلا لذكر الله تعالى والصلاة. فلها من الحرمة ما ليس لغيرها. وقد اختصت المساجد بآداب ينبغي للجالس فيها أن يتحلى بها، وتكون طبيعة له وسجية بلا تكلف ولا مشقة. وقد نوه الله تعالى بذكر المساجد، وأثنى على المتعبدين فيها؛ قال تعالى: ]في بيوت أذن الله ترفع ويذكر فيه اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتآء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار[. وجمهور المفسرين على أن المراد بالبيوت: المساجد. وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم المساجد بأنها أحب البقاع إلى الله تعالى، ففي حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أحب البلاد إلى الله تعالى مساجدها، وأبغض البلاد إلى الله أسواقها". وكما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن المساجد بأنها أفضل البقاع، فقد أخبر عن وظيفتها ومهمة الجالس فيها؛ ففي حديث أنس – رضي الله عنه – في قصة الأعرابي الذي بال في المسجد جاء قوله صلى الله عليه وسلم: "إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر؛ إنما هي لذكر الله عز وجل والصلاة وقراءة القرآن". فليحرص من وفقه الله تعالى للتقدم إلى المسجد قبل الإقامة على التحلي بالآداب الشرعية بعد أن يصلي تحية المسجد أو السنة الراتبة، ومن ذلك ما يلي: 1) قراءة القرآن: لا مكان أفضل من المسجد لقراءة القرآن. يقول النووي رحمه الله: (ويستحب أن تكون القراءة في مكان نظيف مختار، ولهذا استحب جماعة من العلماء القراءة في المسجد؛ لكونه جامعاً للنظافة وشرف البقعة). وقراءة القرآن في المسجد أفضل من الذكر سواء كانت القراءة حفظاً أو غيباً عن ظهر قلب، وليحرص القارئ على التأدب بآداب التلاوة، من الإخلاص والترتيل وتحسين الصوت والخشوع والسؤال عند آية الرحمة والتعوذ عند آية العذاب والسجود في مواضعه، وألا يرفع صوته بالقراءة، وألا يقطعها لمحادثة أحد، إلا لرد السلام وإجابة المؤذن؛ لعموم الأدلة على وجوب رد السلام ومشروعية إجابة المؤذن، كما يجوز قطعها لكلام لا بد منه كتنبيه غافل أو إرشاد أعمى، ونحو ذلك. ومن الناس من يتساهل في ذلك فيتحدث مع جاره أثناء التلاوة، بل ويقطعها لأدنى كلام، ولا يتحرج من تكرار ذلك. ومن كان لا يحسن القراءة فليكثر من ذكر الله تعالى ومن التسبيح والتحميد والتهليل، ففي ذلك ثواب عظيم وخير كثير، دلت عليه الأحاديث الصحيحة، ولا سيما إذا كان ذلك في المساجد. 2) الحذر من الكلام الباطل وما لا فائدة فيه: لا مكان في المسجد للكلام الباطل من الغيبة والكذب ونحو ذلك، وإذا كانت هذه الأمور محرمة فهي في المسجد أشد تحريماً، وكلّ كلام لا فائدة فيه فإن المسجد ينـزه عنه، فإن المساجد لم تبن لذلك. ومن الناس لا يفتأ يتحدث مع جاره في كلام لا خير فيه أو فيه مضرة، وأكثر هؤلاء ممن يتقدمون إلى المسجد، ويحرمون أنفسهم من فضائل الأعمال التي لا كلفة فيها من الذكر والتسبيح، فهي حفظ للوقت، واحترام للبقعة، وخير يدخره أحوج ما يكون إليه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: (وأما الكلام الذي يحبه الله ورسوله في المسجد فحسن، وأما المحرم فهو في المسجد أشد تحريماً، وكذلك المكروه، ويكره فيه فضول المباح). 3) الحذر من رفع الصوت: لقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن رفع الصوت بالقراءة؛ لئلا يشوش القارئ على غيره من المصلين والتالين – كما تقدم -، وإذا كان القارئ منهياً عن رفع صوته بالقراءة وهي عبادة إذا تأذى به أحد، فكيف يكون الحكم فيمن يرفع صوته في غير ذلك كحديث الدنيا، وكيف يكون الحكم إذا كان يرفع صوته ومن بجواره يقرأ القرآن؟! قال ابن عبد البر: (وإذا نهي المسلم عن أذى المسلم في عمل البر وتلاوة القرآن فإيذاؤه في غير ذلك أشد تحريماً). وعن السائب بن يزيد – رضي الله عنه – قال: كنت قائماً في المسجد فحصبني رجل، فنظرت فإذا عمر بن الخطاب – رضي الله عنه -، فقال: اذهب فائتني بهذين، فجئته بهما، فقال: من أنتما؟ أو: من أين أنتما؟ قالا: من أهل الطائف، قال: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما، ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!. وقد نص أهل العلم على كراهة رفع الصوت في المسجد، إلا فيما لابد منه من العلم ونحوه، والله أعلم. 4) الحذر من البيع والشراء في المسجد: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد، فقولوا: لا أربح الله تجارتك. وإذا رأيتم من ينشد ضالة فقولوا: لا رد الله عليك". وروى مالك: أن عطاء بن يسار كان إذا مر عليه بعض من يبيع في المساجد دعاه فسأله: ما معك، وماذا تريد؟ فإن أخبره أنه يريد أن يبيعه قال: عليك بسوق الدنيا، وإنما هذه أسواق الآخرة. وإنما نهي عن البيع والشراء في المسجد؛ لما يصاحب ذلك من اللغط ورفع الصوت وتلويث المسجد بمخلفات البيع ونحو ذلك مما يفقد المساجد حرمتها ومكانتها؛ فإن المساجد لم تبن لهذا، وإنما بنيت لذكر الله تعالى والصلاة والعلم، والبيع والشراء ونشد الضالة إخراج لها عن وظيفتها التي قررها الشرع، ويلحق بالبيع ما في معناه من الإجارة والرهن والقرض ونحوها من العقود. 5) الحذر من استدعاء النوم بالنعاس: ينبغي للجالس في المسجد ألا يكون للنوم أو النعاس عليه سبيل، ولا سيما مع طول المكث كيوم الجمعة، ولا ريب أن النعاس قد يكون من الأمور القهرية إلا أنه يمكن تفادي ذلك براحة تامة قبل الحضور إلى المسجد، ولا سيما يوم الجمعة، ولا يليق بمسلم أن يجعل اليقظة وقوة الانتباه في الأسواق، ويجعل حظ المسجد النوم والنعاس. كما ينبغي استدعاء النعاس بسبب من الأسباب كالاستناد إلى جدار، أو خفض الرأس، بل يشتغل الجالس بما تقدم، ولا سيما تلاوة القرآن. ومن الناس من لا يبالي بذلك ولو كان في مجلس من المجالس ما كان للنعاس عليه من سبيل، فليحرص المسلم على اغتنام الأوقات لا سيما في أفضل البقاع وهي المساجد، وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم من ينعس إلى علاج ميسور؛ فقد ورد عن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا نعس أحدكم وهو في المسجد فيتحول من مجلسه ذلك على غيره". قال الشوكاني: (والحكمة في الأمر بالتحول: أن الحركة تذهب النعاس، ويحتمل أن الحكمة فيه انتقاله من المكان أصابته فيه الغفلة بنومه وإن كان النائم لا حرج عليه، فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم في قصة نومهم عن صلاة الصبح في الوادي بالانتقال منه، وأيضاً من جلس ينتظر الصلاة فهو في صلاة، والنعاس في الصلاة من الشيطان، فربما كان الأمر بالتحول لإذهاب ما هو منسوب إلى الشيطان من حيث غفلة الجالس عن الذكر أو سماع الخطبة أو ما فيه منفعة). يتبــــــع |