الموضوع
:
كتاب المنتظم في تاريخ الملوك والأمم (رائع)
عرض مشاركة واحدة
12-25-2015
#
14
بيانات اضافيه [
+
]
رقم العضوية :
1
تاريخ التسجيل :
May 2006
العمر :
52
أخر زيارة :
03-12-2024 (09:02 PM)
المشاركات :
14,442 [
+
]
التقييم :
59465
الدولهـ
MMS ~
SMS ~
يرحل الجميع ويبقى شعاع المحبة
لوني المفضل :
Crimson
رد: كتاب المنتظم في تاريخ الملوك والأمم (رائع)
ذكر قصة أرمياء
وهوأرمياء الألف مضمومة كذلك قرأته على شيخنا أبي منصور اللغوي.
أنبأنا يحيى بن ثابت بن بندار قال: أخبرنا أبي قال: أخبرنا أبو
علي بن دوما قال: أخبرنا مخلد بن جعفر قال: أخبرنا الحسن بن علي القطان قال:
أخبرنا إسماعيل بن عيسى العطار قال: حدثنا أبو حذيفة إسحاق بن بشر القرشي قال:
حدثنا إدريس عن وهب: ان أرمياء كان غلامًا من أبناء الملوك وكان زاهدًا ولم يكن
لأبيه ابن غيره وكان أبوه يعرض النكاح وكان يأبى مخافة أن يشغله عن عبادة ربه فألح
عليه أبوه وزوجه في أهل بيت من عظماء أهل مملكته فلما دخلت عليه امرأته قال لها:
يا هذه إني مسر إليك أمرًا فإن كتمتِه علي وسترته سترك الله في الدنيا والآخرة وإن
أنت أفشيته قصمك الله في الدنيا والاخرة.
قالت: فإني سأكتمه عليك قال: فإني لا أريد النساء.
فأقامت معه سنة ثم إن أباه أنكر ذلك فسأله فقال: يا أبه ما طال
ذلك بعد فدعى امرأته فسألها فقالت مثل ذلك ففرق بينهما وزوجه امرأة في بيت أشرافهم
فأدخلت عليه فاستكتمها أمره فلما مضت سنة سأله أبوه مثل ما سأل فقال: ما طال ذلك
فسأل المرأة فقالت: كيف تحمل امرأة من غير زوج ما مسني فغضب أبوه فهرب منه.
فبعثه الله نبيًا مع ناشية و ناشية ملك.
وذلك حين عظمت الأحداث في بني إسرائيل وعملوا بالمعاصي وقتلوا
الأنبياء وأوحي إليه: إني مهلك بني إسرائيل ومنتقم منهم فقم على صخرة بيت المقدس
يأتيك أمري فقام وجعل الرماد على رأسه وخرَّ ساجدًا وقال: يا رب وددت أن أمي لم
تلدني حين جعلتني آخر أنبياء بني إسرائيل فيكون خراب بيت المقدس وبوار بنىِ إسرائيل
من أجلي فقيل له: إرفع رأسك فرفع رأسه وبكى ثم قال: يا رب من تسلط عليهم قال:
عبدة النيران لا يخافون عذابي ولا يرجون ثوابي قم يا أرميا فاستمع حتى أخبرك خبرك
وخبر بني إسرائيل: من قبل أن أصورك قد نبيتك من قبل أن أخرجك من بطن أمك طهرتك
ومن أقبل أن تبلغ الأشد اخترتك ولأمر عظيم اجتبيتك فقم مع الملك ناشية فسدده وأرشده
فكان معه يرشده ويأتيه الوحي حتى عظمت الأحداث ونسوا أنجاة الله إياهم من عدوهم
سنحاريث فأوحى الله إلى أرميا: قم فقص عليهم ما أمرتك به وذكرهم نعمتي عليهم
وعرفهم أحداثهم.
فقال أرميا: يا رب إني ضعيف إن لم تقوني عاجز إن لم تبلغني مخطىء
إن لم تسددني مخذول إن لم تنصرني ذليل إن لم تعزني.
فقال الله تعالى له: أو لم تعلم أن الأمور كلها تصدر عن مشيئتي
وأن الخلق والأمر كله لي وأن القلوب والألسنة كلها بيدي أقلبها كيف شئت فتطيعني
وأنا الله الذي ليس شيء مثلي قامت السموات والأرض وما فيهن بكلمتي ولم تتم المقدرة
إلا لي ولم يعلم ما عندي غيري وأنا الذي كلمت البحار ففهمت قولي وأمرتها فعقلت أمري
وحدّدْت عليها حدودا فلا تعدو حدي وإني معك ولن يصل إليك شيء معي وإني بعثتك إلى
خلق عظيم من خلقي لتبلغهم رسالاتي مستوجبًا بذلك أجر من اتبعك منهم ولا ينقص من
أجورهم شيء إنطلق إلى قومك فقم فيهم وقل لهم إن اللّه تبارك وتعالى ذكركم بصلاح
آبائكم فلذلك استقاكم يا معشر أبناء الأنبياء ونسلهمِ كيف وجد أباؤهم مغبة طاعتي
وكيف وجدوا هم مغبة معصيتي وهل وجدوا أحدًا عصاني فسعد بمعصيتي وهل علموا أحدًا
طاعني فشقي بطاعتي إن الدواب إذا ذكرت أوطانها الصالحة نزعت إليها وإن هؤلاء القوم
رتعوا في مروج الهلكة وتركوا الأمر الذي به أكرمت آباءهم وابتغوا الكرامة من غير
وجهها.
أما أحبارهم ورهبانهم فاتخذوا عبادتي خولًا يتعبدونهم دوني ويحكمون
فيهم بغير كتابي حتى أنسوهم ذكري و غيروا سنني فأدان لهم عبادي بالطاعة التي لا
تنبغي إلا لي فهم يطيعونهم في معصيتي.
وأما ملوكهم وأمراؤهم فبطروا نعمتي وأمنوا مكري وغرتهم الدنيا حتى
نبذوا كتابي ويفترون على رسلي جرأة منهم عليَّ وغِرَّة بي.
فسبحان جلالي وعلو مكاني وعظمة شأني! وهل ينبغي لي أن يكون لي
شريك في ملكي.
وهك ينبغي لبشر أن يطاع في معصيتي وهل ينبغي لي أن أخلق عبادًا
أجعلهم أربابًا من دوني وآذن بطاعة لأحد لا تنبغي لأحد إلا لي.
وأما قرّاؤهم وفقهاؤهم فيدرسون ما يتخيرون فينقادون للملوك
فيتابعونهم على البدع التي يبتدعون في ديني ويطيعونهم في معصيتي ويوفون بعهودهم
الناقضة لعهدي.
وأما أولاد النبيين فمقهورون ومفتونون يخوضون مع الخائضين فيتمنون
طي مثل نصري آباءهم والكرامة التي أكرمتهم بها ويزعمون أنه لا أحد أولى بذلك منهم
مني بغير صدق منهم ولا تفكر ولا يذكرون كيف كان نصر آبائهم وكيف كان جهدهم في أمري
حين اغتر المغترون وكيف بذلوا أنفسهم ودماءهم فصبروا وصدقوا حتى عز أمري وظهر ديني
فتأنَّيْت بهؤلاء القوم لعلهم يستحييون مني ويرجعون فطولت عليهم وصفحت عنهم فأكثرت
ومددت لهم في العمر وأعذرت لعلهم يتذكرون وكل ذلك أمطر عليهم السماء وأنبت لهم
الأرض وألبسهم العافية وأظهرهم على العدو فلا يزدادون إلا طغيانًا وبعدًا مني.
فحتى متى أبي يتمرسون أم إياي يخادعون أم علي يتجرؤون فإني أقسم
بعزتي لأقيمن لهم فتنة يتحير فيها الحكيم ويضل فيها رأي ذو الرأي وحكمة الحكيم ثم
لأسلِّطن عليهم جبارًا قاسيًا عاتيًا ألبسه الهيبة وأنزع من صدره الرحمة والبيان
يتبعه عد وسواد مثل الليل المظلم له فيه عساكر مثل قطع السحاب ومراكب مثل العجاج
كأن حفيف راياته طيرانَ النسور وحجل فرسانه كصوت العقبان يعيدون العمران خرابًا
والقرى وحشًا وببعثون في الأرض فسادًا ويتبرون ما علوا تتبيرًا قاسية قلوبهم لا
يكترثون ولا يرقون ولا يرحمون يجولون في الأسواق بأصوات مرتفعة مثل زئير الأسد
تقشعر من هيبتها الجلود.
فوعزتي لأعطلن بيوتهم من كتبي وقدسي ولأخلين مجالسهم من حديثها
وعروسها ولأوحشن مساجدهم من عمارها وزوارها الذين كالوا يتزينون بعمارتها لغيري
ويتعبدون فيها لكسب الدنيا بالدين ويتفقهون فيها لغير الدين ويتعلمون فيها لغير
العمل.
لأبدلن ملوكها بالعز الذل وبالأمن الخوف وبالغنى الفقر وبالنعمة
الجوع وبطول العافية والرخاء ألوان البلاء وبلباس الحرير مدارع الوبر والعباء
بالأرواح الطيبة والأدهان جيف القتلى ثم لأعيدن فيهم بعد القصور الواسعة والحصون
الحصينة الخراب وبعد البروج المشيدة مساكن السباع وبعد صهيل الخيل عواء الذئاب وبعد
ضوء السراج دخان الحريق وبعد الأنس الوحشة والقفار.
ثم لأبدلن نساءها بالأسورة الأغلال وبقلائد الدر والياقوت سلاسل
الحديد وبألوان الطيب والأدهان النقع والغبار وبالمشي على الزرابي عبور الأسواق
والأنهار وبالخدور والستور الحسور عن الوجوه والسوق والأسفار.
ثم لأدوسنهم بألوان العذاب حتى لوكان الكائن منهم في خالق لوصل ذلك
إليه إني إنما أكرم من أكرمني وإنما أهين من هان عليه أمري ثم لآمرن السماء خلال
ذلك فلتكونن طبقًا من حديد ولأمرن الأرض فلتكونن سبيكة من نحاس فلا سماء تمطر ولا
أرض تنبت.
فإن أمطرت خلال ذلك شيئًا سلطت عليه الآفة فإن خلص منهم شيء نزعت
منه البركة وإن دعوني لم أجبهم وإن سألوني لم أعطهم وإن بكوا لم أرحمهم وإن تضرعوا
إِليَّ صرفت وجهي عنهم وإن قالوا: اللهم أنت الذي ابتدأتنا وآباءنا من قبلنا
برحمتك وكرامتك وذلك بأنك اخترتنا لنفسك وجعلت فينا نبوتك وكتابك ثم مكنت لنا في
البلاد واستخلفتنا فيها وربيتنا وآباءنا من قبلنا بنعمتك صغارًا وحفظتنا وإياهم
برحمتك كبارًا فأنت أحق المنعمين أن لا تغير إن غيرنا ولا تبدل إن فإن قالوا ذلك
قلت لهم: إني ابتدىء عبادي بنعمتي ورحمتي فإن قبلوا أتممت وإن استزادوا زدت وإن
شكروا ضاعفت وإن بدلوا غيرت وإذا غيروا غضبت وإذا غضبت عذبت وليس يقوم لغضبي شيء.
وقال كعب: قال أرمياء: برحمتك أصبحت أتكلم بين يديك وهل ينبغي
لي ذلك وأنا أذل وأضعف من أن ينبغي لي أن أتكلم بين يديك ولكن برحمتك أبقيتني لهذا
اليوم وليس أحد أحق من يخاف هذا العذاب وهذا الوعيد مني بما رضيت به مني طولًا
والإقامة في دار الخاطئين وهم يعصونك حولي بغير نكير ولا تغير مني فإن تعذبني
فبذنبي وإن ترحمني فذلك ظني بك.
ثم قال: يا رب سبحانك وبحمدك وتباركت ربنا وتعاليت إنك المملك هذه
القرية وما حولها وهي مساكن أنبيائك ومنزل وحيك يا رب سبحانك وبحمدك وتباركت
وتعاليت إنك لمخرب هذا المسجد وما حوله من المساجد ومن البيوت التي رفعت لذكرك يا
رب وإنك لتعذب هذه الأمة وهم ولد ابراهيم خليلك وأمة موسى نجيك وقوم داود صفيك يا
رب أي القرى يأمن عقوبتك بعد أوري شلم وأي العباد يأمنون سطوتك بعد ولدخليلك
ابراهيم وأمة نجيك موسى وقوم خليفتك داود تسلط عليهم عبدة النيران.
فقال الله تعالى: يا أرميا من عصاني فلا يستنكر نقمتي فإني إنما
أكرمت هؤلاء القوم على قال أرميا: يا رب اتخذت ابراهيم خليلًا وحفظتنا به وموسى
نجيًا فنسألك أن تحفظنا ولا تسلط علينا عدونا فأوحى الله تعالى إليه: يا أرميا
إني قدستك في بطن أمك وأخرتك إلى هذا اليوم فلو أن قومك حفظوا اليتامى والأرامل
والمساكين وابن السبيل وكنت الداعم لهم وكانوا عندي بمنزلة جنة ناعم شجرها طامر لا
يغور ماؤها ولا يبور ثمرها إني كنت لهم بمنزلة الراعي الشفيق أجنبهم كل قحط وكل عزة
واتبع بهم الخصب حتى صاروا كباشًا ينطح بعضها بعضًا.
فيا ويلهم ثم يا ويلهم إنما أكرم من أكرمتي وأهين من هان عليه أمري
إن من كان قبل هؤلاء القوم من القرون يستخفون بمعصيتي وإن هؤلاء القوم يظهرون
معصيتي في المساجد والأسواق وعلى رؤوس الجبال وظلال الأشجار حتى عجت السماء إليّ
منها والأرض والجبال ونفرت منها الوحوش في كل ذلك ينتهون ولا ينتفعون بما علموا من
الكتاب.
قال: فلما بلغهم أرميا رسالة ربهم وسمعوا ما فيها من الوعيد عصوه
وكذبوه وقالوا: أعظمت على الله الفرية وتزعم أن الله معطل أرضه ومساجده من كتابه
وعباده وتوحيده فمن يعبده حين لا يبقى له في الأرض عابد ولا مسجد ولاكتاب لقد أعظمت
الفرية واعتراك الجنون.
فأخذوه وقيدوه وسجنوه فعند ذلك بعث الله عز وجل عليهم بخت نصر.
لما ولي لهراسب وتمكن ملكه بعث بخت نصر وهو رجل من الأعاجم فأتى
دمشق وصالح أهلها ووجه قائدًا له فأتى بيت المقدس فصالح ملك بني إسرائيل وأخذ منه
رهائن وانصرف.
فلما بلغ طبرية وثب بنو إسرائيل على ملكهم فقالوا: داهنت أهل بابل
وخذلتنا فقتلوه فكتب قائد بخت نصر إليه بما كان فكتب إليه أن يقيم بموضعه حتى
يوافيه وأن يضرب أعناق الرهائن الذين معه.
فسار بخت نصر حتى أتى بيت المقدس فهدمه وهدم المساجد ورمى فيها
الكنائس وخرب الحصون وحرق التوراة وأخذ الأموال وقتل المقاتله وسبى الذرية وكانوا
سبعين ألف غلام ووجد في سجن بني إسرائيل أرميا النبي صلى الله عليه وسلم فقال له
بخت نصر: ما خطبك فأخبره أن الله تعالى بعثه إلى قومه ليحذرهم الذي حل بهم فكذبوه
وحبسوه فقال بخت نصر: بئس القوم قوم عصوا رسول ربهم! فخلى سبيله وأحسن إليه.
فاجتمع إليه من بقي من ضعفاء بني إسرائيل فقالوا: إنا قد أسأنا
وظلمنا ونحن نتوب مما صنعنا فادع الله أن يقبل توبتنا.
فذعا ربه فأوحى إليه: إنهم غير فاعلين فإن كانوا صادقين فليقيموا
معك بهذه البلد فأخبرهم فقالوا: كيف نقيم ببلدة قد خربت.
فخرجوا يستجيرون بملك مصر فغزا بخت نصر أرض مصر فقتل ملكها وقتلهم
ثم بلغ أقصى ناحية المغرب ذكر خبر غزو بخت نصر للعرب إن بخت نصر إنما حارب بني
إسرائيل لقتلهم يحيى بن زكريا وليس بصحيح على ما سيأتي بيانه ثم حارب العرب في زمن
معد بن عدنان فجمع من في بلاده من تجار العرب فبنى لهم حيرًا على النجف وضمهم فيه
ووكل بهم من يحفظهم ثم تأهب للخروج إلى قتال العرب فأقبلت طوائف منهم مسالمين
فأنزلهم على شاطىء الفرات فابتنوا موضع معسكرهم فسموه الأنبار وخلى عن أهل الحيرة
فاتخذوها منزلًا في حياة بخت نصر.
فلما مات انضموا إلى أهل الأنبار وبقي ذلك الحير خرابًا.
وقال قوم: خرج بخت نصر فالتقى هو وعدنان ورجع بخت نصر بالسبايا
فألقاهم بالأنبار فقيل: أنبار العرب ثم مات عدنان وبقيت بلاد العرب خرابًا.
فلما مات بخت نصر خرج معد بن عدنان ومعه أنبياء بني إسرائيل حتى أتى
مكة فأقام أعلامها وحج وحج معه الأنبياء وأفنى أكثر جرهم وتزوج معانة بنت جوشم
فولدت له نزار بن معد وولد لنزار مضر وربيعة وإياد وأنمار فقسم ماله بينهم.
وأنبأنا الحسين بن محمد الدياس قال: أخبرنا أبو جعفر بن المسلمة
قال: أخبرنا أبو طاهر المخلص قال: أخبرنا أحمد بن سليمان الطوسي قال: حدثنا
الزبير بن بكار قال: حدثني عقبة المكرم قال: حدثني محمد بن زياد عن ميمون بن
مهران عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تسبوا مضر
وربيعة فإنهما كانا مسلمين ".
أنبأنا محمد بن عبد الباقي البزاز قال: أنبأنا أبو القاسم علي بن
المحسن التنوخي قال: حدثنا أبي قال: حدثنا أحمد بن كامل بن شجرة قال: حدثنا
أبو أحمد محمد بن موسى بن حمار البربري قال: أخبرنا أبو جعفر محمد بن أبي السري
قال: أخبرنا هشام بن محمد بن السائب الكلبي عن معاوية بن عميرة أنه سمع عبد الله
بن عباس وقد سأله عن ولد نزار بن معد قال: " هم أربعة: مضر وربيعة وإياد
وأنمار بنو نزار بن معد بن عدنان فكثر أولاد معد ونموا وتلاحقوا ومنازلهم مكة وما
والاها من تهامة فانتشروا وتنافسوا في المنازل والمحال وأرض العرب يومئذ خاوية ليس
فيها كبير أحد إلا خراب بخت نصر وإياها وأجلى أهلها إلا من كان اعتصم برؤس الجبال
ولجأ إلى أوديتها وشعابها ولحق بالمواضع التي لا يقدر عليه فيها متنكبًا لمسالك
جنده فاقتسموا الغور غور تهامة على سبعة أقسام لمنازلهم ومسارح أنعامهم ومواشيهم
وإنما سميت بلاد العرب الجزيرة لإحاطة البحر والأنهار بها فصاروا في مثل الجزيرة من
جزائر البحر.
وذلك أن الفرات أقبل من بلاد الروم فظهر بناحية قنسرين ثم انحط على
الجزيرة وسواد العراق حتى وقع في البحر من ناحية البصرة والأيلة فامتد البحر من ذلك
المرضع مطيفًا ببلاد العرب فأتى منها على صفوان وكاظمة ونفذ إلى القطيف وهجر وعمان
والشحر ومال منه عنق إلى حضرموت وناحية أبين وعدن واستطال ذلك العنق فطعن في تهايم
اليمن ومضى إلى ساحل جدة.
وأقبل النيل في غربي هذا العنق من أعلى بلاد السودان مستطيلًا
معارضًا للبحر معه حتى وقع في بحرمصر والشام.
ثم أقبل ذلك البحر من مصر حتى بلغ بلاد فلسطين فمر بعسقلان وسواحلها
وأتى على بيروت ونفذ إلى سواحل حمص و قنسرين حتى خالط الناحية التي أقبل منها
الفرات فخطا على أطراف قنسرين والجزيرة إلى سواد العراق.
وأقبل جبل الصراة من قعر اليمن حتى بلغ أطراف الشام فسمته العرب
حجازًا لأنه حجز بين الغور ونجد فصار ما خلف ذلك الجبل في غربيه الغور وما دونه في
شرقيه النجد.
فصار لعمرو بن معد بن عدنان وهو قضاعة جدة وما دونها إلى منتهى ذات
عرق إلى حيز الحرم فانتشروا فيها وكان لجنادة بن معد الغمر.
وصار لمضر بن نزار حيز الحرم إلى السروات.
وصار لربيعة بن نزارمهبط الجبل من غمر ذي كندة وبطن ذات عرق إلى
عمرة وما صاقبها من بلاد نجد الغور من تهامة.
وصار لأياد وأنمار ما بين حذاء من مصر إلى أرض نجران وما قاربها.
وصار لباقي ولد معد أرض مكة وأوديتها وشعابها وجبالها وبطاحها وما
صاقبها من البلاد فأقاموا بها مع من كان في الحرم من جرهم.
وسنذكر أحوال بني نزار في نسب نبينا صلى الله عليه وسلم.
وفي ذلك الزمان تفرقت بنو إسرائيل ونزل بعضهم أرض الحجاز بيثرب
ووادي القرى وغيرهما.
ثم أوحى اللهّ تعالى إلى أرميا: أني عامر بيت المقدس فأخرج إليها
فأنزلها فخرج حتى قدمها وهي خراب فقال في نفسه: متى تعمر هذه.
فأماته الله مائة عام ثم بعثة وقيل هو عزير عليه السلام.
ذكر عمارة بيت المقدس اختلفوا على قولين: أحدهما: إنه أرميا.
روى عبد الصمد بن معقل عن وهب بن منبه قال: أقام أرميا بأرض مصر
فأوحى الله تعالى إليه: أن الحق بأرض إيليا فإن هذه ليست لك بأرض فقام فركب حماره
حتى إذا كان ببعض الطريق وقد أخذ معه سلة من عنب وسقاء جديدًا أملاه ماء.
فلما بدا له شخص بيت المقدس وما حوله من القرى نظر إلى خراب لا يوصف
فقال: " أنى يًحيي هذهِ اللّهُ بَعْدَ مَوتِهَا " ثم تبوأ منها منزله وربط
حماره فألقى الله عليه السبات ونزع روحه مائة عام.
فلما مرت منها سبعون أرسل الله ملكًا إلى ملك من ملوك فارس فقال:
إن الله يأمرك أن تنْفِرَ بقومك فتعمر بيت المقدس وإيليا وأرضها حتى تعود أعمر ما
كانت.
فقال الملك: أنظرني ثلاثة أيام حتى أتأهب لهذا العمل.
فندب ألف قهرمان مع كل قهرمان ثلاثة آلاف عامل وما يصلحه من أداة
العمل فسارت القهارمة فلما وقعوا في العمل رد الله روح الحياة في عيني إرمياء فنظر
إليها تعمر.
قال مجاهد: إسمه كورش ولم يتم بناؤها إلا بعد الملك الرابع بعد
كورش على سماعة بن أصيد وهو من رهط داود.
القول الثاني إن أرمياء لبث في موته إلى أن هلك بخت نصر وكان قد عاش
ثلاثمائة سنة وهلك ببعوضة دخلت في رأسه وهلك الملك الذي فوقه وهو لهراسب وكان ملكه
مائة وعشرين سنة.
وملك بعده ابنه بشاسب فبلغه عن بلاد الشام خراب وإن السباع قد كثرت
في بلاد فلسطين فلم يبق فيها من الإنس أحد فنادى في أرض بابل في بني إسرائيل: من
شاء أن يرجع إلى الشام فليرجع وملك عليهم رجلًا من آل داود وأمره أن يعمر بيت
المقدس ويبني مسجدها فرجعوا فعمروها ورد اللّه الروح إلى أرمياء عليه السلام.
القول الثالث وعلى هذا أكثر العلماء وهو عُزَير بن شرويق بن عزيا بن
أيوب بن زرحيا بن عزي من ولد هارون.
أخبرنا أبو الحصين قال: أخبرنا أبو طالب بن غيلان قال: أخبرنا
أبو بكر الشافعي قال: حدثنا أبو يعقوب الحربي قال: حدثنا أبو حذيفة النهدي
قال: حدثنا سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن ناجية بن كعب: " أوْ كَالَذِي مًر
عَلَى قَرْيَة " قال: هو عزير.
قاد علماء السير: لما قال عزيز: " أني يحيى هذه اللّه بعد
موتها " أماته اللّه مائة عام وأول ما خلق منه عيناه فجعل ينظر إلى عظامه ينضم
بعضها إلى بعض ثم كسيت لحمًا ونفخ فيه قال ابن عباس: مات وهو ابن أربعين سنة
وابنه ابن عشرين سنة.
ثم بعث وهو ابن أربعين ومائة وابنه ابن مائة وعشرين فأقبل حتى أتى
قومه في بيت المقدس فقال: أنا عزير فقالوا: حدثنا آباؤنا أن عزير مات فقال:
أنا هو أرسلني الله إليكم أجدد لكم توراتكم وكانت قد ذهبت فليس أحد يقرأها فأملاها
عليهم.
قال وهب بن منبه: كان عزير من السبايا التي سباها بخت نصر من بيت
المقدس فرجع إلى الشام يبكي على فقد التوراهَ فجاء ملك فقال: صم وتطهر وطهر ثيابك
وتعالى إلى هذا المكان.
ففعل فأتاه بإناء فيه ماء فسقاه فمثلت التوراة في صدره فرجع على بني
إسرائيل فتلاها عليهم وأقام فيهم مقيمًا بحق اللّه ثم توفاه.
قال أحمد بن جعفر بن المنادي: لما تلى عليهم بعضها افتتنوا فقالو
ما قالوا فلما مات بدلت وكان المتولي لتبديلها ميخائيل تلميذ عزير وهو رأس بابل
كلها.
وقال غيره: لما خرب بيت المقدس أحرق التوراة وساق بني إسرائيل إلى
بابل فذهبت التوراة فجاء عزير فجددها لهم ودفعها إلى تلميذ له ومات فذلك التلميذ
زاد فيها ونقص.
ويدل على تبديلها أن فيها أسفار موسى وما جرى له وكيف كان موته
ووصيته إلى يوشع وحزن بني إسرائيل عليِه وغير ذلك مما لا يشكل على عافل أنه ليس من
كلام اللّه ولا من كلام وقال داود بن أبي هند: سأل عزير ربه عن القدر فأوحى اللّه
إليه: سألتني عن علمي فعقوبتك أن لا أَسميك في الأنبياء فلم يذكرمن الأنبياء.
قالت علماء السير: لما بني بيت المقدس أقام بنو إسرائيل أمرهم
وكثروا إلى أن غلبتهم الروم فلم يكن لهم بعد ذلك جماعة.
ذكر زراديشت
ويقال: زرتيشست بن سقيمان وقيل: ابن حركان بعد ثلاثين سنة من
ملك بشتاسب وهو الذي يزعم المجوس أنه نبيهم.
وقد زعم بعض أهل الكتاب أنه كان خادمًا لبعض تلامذة أرمياء النبي
صلى الله عليه وسلم وأنه كان خاصًا به فخانه وكذب عليه فدعى الله عليه فبرص فلحق
بأذربيجان وشرع بها دين المجوسية ثم خرج منها متوجهًا نحو بشتاس وهو ببلخ.
فلما قدم عليه ادعى النبوة وأراده على قبول دينه فامتنع من ذلك ثم
صدقه وقبل ما دعاه إليه وأتاه به من كتاب ادعاه وحيًِا فكتب في جلد اثني عشر ألف
بقرة حفرًا في الجلود ونقشًا بالذهب وصيّر بشتاسب ذلك في موضع من إصطخر ووكل به
الهرابذة ومنع تعليمه العامة وألزم رعيته بقبول قول زرادشست وقتل منهم مقتلة عظيمة
حتى قبلوا ذلك ودانوا به وبنى بالهند بيوت النيران وتنسك وتعبد.
وقال عمرو بن بحر الجاحظ: جاء زرادشت من بلخ وهو صاحب المجوس
وادعى أن الوحي نزل عليه على جبل سيلان فدعى أهل تلك النواحي الباردة الذين لا
يعرفون إلا البرد وجعل الوعيد يضاعف البرد وأقر بأنه لم يبعث إلا إلى أهل الجبال
فقط وشرع لأصحابه التوضؤ بالأبوال وغشيان الأمهات وتعظيِم النيران مع أمور سمجة.
قال: ومن قول زرادثست: كان الله وحده ولا شيء معه فلما طالت
وحدته فكر فتولد من فكره إبليس فلما مثل بين يديه أراد قتله فامتنع منه فلما رأى
امتناعه وادعه إلى مدةّ وسالمه إلى غاية.
وما زال مذهب زرادشت معمولًا به إلى زمان كسرى أنوشروان فإنه هو
الذي منع من أتباع ملة زرادشت وقد ذكرنا أنه كان للمجوس نبي وكتاب إلا أنه لا يتحقق
متى كان ذلك.
وقد أخبرنا أبو زرعة طاهر بن محمد المقدسي قال: أخبرنا علي بن
منصور بن علان (ح).
وأخبرتنا فاطمة بنت الحسين بن الحسن الرازي قالت: أخبرنا أبو
بكرأحمد بن علي الخطيب قالا: أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن الخيري قال: أخبرنا
أبو العباس الأصم قال: حدثنا الربيع بن سليمان قال: حدثنا الشافعي قال: حدثنا
سفيان عن سعيد بن المرزبان عن نصر بن عاصم قال: قال فروة بن نوفل: على ما تَؤخذ
الجزية من المجوس وليسوا بأهل كتاب فقام إليه المستورد فأخذ يلبيه وقال: يا عدو
الله تطعن على أبي بكر وعمر وعلى أمير المؤمنين يعني عليًا وقد أخذوا منهم الجزية
فذهب به إلى القصة فخرج إليهم علي رضي الله عنه فقال: اتئدا! أنا أعلم الناس
بالمجوس كان لهم علم يعلمونه وكتاب يدرسونه وإن ملكهم سكر فوقع على ابنته أو أمه
فاطلع عليه بعض أهل مملكته فلما صحا جاءوا يقيمون عليه الحد فامتنع منهم فدعا أهل
مملكته فقال: تعلمون دينًا خيرًا من دين آدم قد كان آدم ينكح بنيه من بناته فأنا
على دين آدم وما يرغب بكم عن دينه.
فتابعوه وقاتلوا الذين خالفوهم حتى قتلوهم فأصبحوا وقد أسرى على
كتابهم فرفع بين أظهرهم وهم أهل كتاب وقد أخذ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وأبو
بكر وعمر منهم الجزية.
أنبأنا أبو غالب الماوردي قال: أخبرنا أبو علي التستري قال:
أخبرنا أبو عمرو الهاشمي قال: أخبرنا أبو علي اللؤلؤي قال: حدثنا أبو داود
السجستاني قال: حدثنا أحمد بن سنان الواسطي قال: حدثنا محمد بن بلال عن عمران
القطان عن أبي حمزة عن ابن عباس قال: إن أهل فارس لما مات نبيهم كتب لهم إبليس
المجوسية.
وصار الملك باليمن بعد بلقيس إلى ياسر بن عمرو بن يعفر وكان يقال
له: ياسر أنعم سموه بذلك لأنعامه عليهم فسار نحو المغرب غازيًا فبلغ إلى وادي
الرمل ولم يبلغه أحد قبله فلم يقدر على الجواز فبينا هو مقيم انكشف الرمل فأمر
رجلًا من أهل بيته أن يعبر هو وأصحابه فعبروا فلم يرجعوا.
فأمر حينئذ بصنم من نحاس فنصب على صخرة على شفير الوادي وكتب في
صدره: هذا الصنم لياسر الحميري وليس وراءه مذهب فلا يتكلف أحد ذلك فيعطب
.
ذكر قصة تبع
ثم ملك من بعده تُبًع بن زيد بن عمرو بن تبع بن أبرهة بن ذي المنار
بن الرائش بن قيس بن صيفي بن سبأ.
وكان تبع هذا في أيام بشتاسب وبهمن وأنه شخص متوجهًا من اليمن حتى
خرج على جبلي طيء ثم سار يريد الأنبار فلما انتهى إلى موضع الحيرة تحير وذلك في
الليل فأقام مكانه فسمي ذلك الموضع الحيرة.
ثم سار وخلف به قومًا من الأزد ولخم وجُذام وعاملة وقضاعة فبنوا
وأقاموا به ثم توجه إلى الأنبار ثم إلى الموصل ثم أذربيجان فلقي الترك بها فهزمهم
وقتل المقاتلة وسبى الذرية ثم انكفأ راجعًا إلى اليمن فهابته الملوك وأهدت إليه ثم
غزا الصين فاكتسح ما فيها وقتل مقاتلتها.
أنبأنا يحيى بن ثابت بن بندار قال: أخبرنا أبي قال: أخبرنا أبو
علي بن دوما قال: أخبرنا مخلد بن جعفر قال: أخبرنا الحسن بن علي القطان قال:
أخبرنا إسماعيل بن عيسى العطار قال: أخبرنا إسحاق بن بشر قال: حدثنا علي بن
عاصم قال: أخبرني عمران بن حدير عن أبي مجلز قال: جاء ابن عباس إلى عبد اللّه
بن سلام فسأله فقال: سمعت الله تعالى يذكر تبعًا فلم يذمه وذم قومه فقال: نعم
إن تبعًا غزا بيت المقدس فسبى أولاد الأحبار فقدم بهم على قومه فأعجب بفتية منهم
فجعل يدنيهم ويسمع منهم وجعل الفتية يخبرونه عن اللّه عز وجل وما في الآخرة فأعجب
بهم فتكلم قومه فقالوا: إن هؤلاء الفتية قد غلبونا على تبع ونخاف أن يدخلوه في
دينهم.
فبلغ تبعًا ما يقول قومه فأعلم الفتية بذلك فقالوا: بيننا وبينهم
النصيف قال: وما هو قالوا: النار التي تحرق الكاذب ويبرأ فيها الصادق.
فأرسل إلى أحبار قومه فأدخلهم عليه فقال: اسمعوا ما يقول هؤلاء
قالوا: وما يقولون قال: يقولون إن لنا ربًا خلقنا وإليه نعود وان بين أيدينا
جنة ونارًا فإن أبيتم علينا فإن بيننا وبينكم فمر الفتية في النار وخرجوا منها
فاختار تبع من قومه عدتهم فقال: ادخلوها فلما دخلوها أحرقتهم فأسلم تبع وكان
رجلًا صالحًا فذكره الله تعالى ولم يذمه وذم قومه.
وروى سفيان عن قتادة قال: كان تبع رجلًا من حمير سار بالجنود حتى
أتى الحيرة ثم أتى سمرقند فهدمها.
أخبرنا ابن الحصين قال: أخبرنا ابن المذهب قال: أخبرنا القطيعي
قال: حدثنا عبد الله بن أحمد قال: حدثني أبي قال: حدثنا حسن بن موسى قال:
حدثنا ابن لهيعة قال: حدثنا أبو زرعة عمرو بن جابر عن سهل بن سعد قال: سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لاتسبوا تبعًا فإنه قد كان أسلم ".
وقال أبو الحسين بن المنادي: ليس ببعيد أن يكون قوم تبع نسبوا
إليه لأنه نبي.
وقد ذهب قوم إلى أنه كان في الفترة بعد عيسى والله أعلم.
ذكر خبر أردشير وابنته خماني قال علماء السير: وجرت لبشتاسب حروب
عظيمة مع الترك وغيرهم ومات وكان ملكه مائة واثنتي عشرة سنة وقيل مائة وخمسين.
وملك بعد بشتاسب ابن ابنه بهمن بن إسفنديار بن بشتاسب فلما عقد
التاج على رأسه قال: نحن محافظون على الوفاء ودائنون برعيتنا بالخير وكان يدعى
أردشير الطويل الباع.
وإنما قيل له ذلك لتناوله كل ما يمد يده إليه من الممالك التي حوله
حتى ملك الأقاليم كلها.
وابتنى بالسواد مدينة وسماها آبادان وابتنى الأبُلّة.
وهو أبو دارا الأكبر وأبو ساسان أبي ملوك الفرس الآخر.
وكانت أم بهمن من أولاد طالوت وأم ولده من أولاد سليمان بن داود.
وتفسير بهمن بالعربية: الحسن النية وأنه ولى في زمانه على بيت
المقدس جماعة ثم ولى كيرش العيلمي من ولد عيلم بن سام بن نوح وكتب إليه أن يرفق
ببني إسرائيل وأن يطلق لهم النزول حيث أحبوا وأن يولي عليهم من يختارونه فاختاروا
دانيال النبي صلى الله عليه وسلم فولى أمرهم.
ذكر دانيال عليه السلام
لما تمت عمارة بيت المقدس سأل أرميا ربه عز وجل أن يقبضه إليه فمات
وأنقذ اللّه بني إسرائيل من أرض بابل على يدي دانيال.
وكان دانيال ممن سباه بخت نصر في تخريب بيت المقدس فرمى به في جب
مغلولًا في فلاة من الأرض وألقى معه سبعَين وأطبق عليه الجب فبقى تسعة أيام.
فأوحى الله تعالى إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل: انطلق فاستخرج
دانيال من الجب فقال: يا رب من يدلني عليه قال: يدلك عليه مركبك فركب أتانًا له
فخرج يطوف فقال: يا صاحب الجب فأجابه دانيال فقال: قد أسمعت فما تريد قال:
أنا رسول الله إليك لأستخرجك من هذا الموضع فقال دانيال: الحمد لله الذي لا ينسى
من ذكره والحمد لله الذي لا يَكِل من توكَلَ عليه إلى غيره والحمد لله الذي يجزي
بالإحسان إحسانًا وبالإساءة غفرانًا.
ثم استخرجه والسبعان يمشيان معه فعزم عليهما دانيال أن يرجعا إلى
الغيضة.
وقد روينا أن بخت نصر اتخذ صنمًا وأمر بالسجود له فلم يسجد دانيال
وأصحابه فأمر بهم فألقوا في أتون فلم يحترقوا.
أنبأنا يحيى بن ثابت بن بندار قال: أخبرنا أبي قال: أخبرنا ابن
دوما قال: أخبرنا مخلد بن جعفر قال: أخبرنا الحسن بن علي القطان قال: أخبرنا
إسماعيل بن عيسى العطار قال: حدثنا أبو حذيفة القرشي قال: حدثنا سعيد بن بشر عن
قتادة عن كعب قال: كان سبب استنقاذ بني إسرائيل من أرض بابل أن بخت نصر لما صدر
من بيت المقدس بالأسارى وفيهم دانيال وعزير فاتخذ بني إسرائيل خولًا زمانًا طويلًا
وإنه رأى رؤيا فزع منها فدعا كهنته وسحرته فأخبرهم بما أصابه من الكرب في رؤياه
وسألهم أن يعبروها فقالوا: قصها علينا قال: قد أنسيتها فأخبروني بتأويلها
قالوا: لا نقدر حتى تقصها فغضب وقال: قد أجلتكم ثلاثة أيام فإن أتيتموني
بتأوبلها وإلا قتلتكم.
وشاع ذلك في الناس فبلغ دانيال وهو محبوس فقال لصاحب السجن: هل لك
أن تذكرني للملك فإن عندي علم رؤياه وإني أرجو أن تنال بذلك عنده منزلة فقال له:
إني أخاف عليك سطوة الملك لعل غم السجن حملك على أن تروح بما ليس عندك فيه علم قال
دانيال: لا تخف عليً فإن لي ربًا يخبرني بما شئت من حاجتي.
فانطلق صاحب السجن فأخبر بخت نصر بذلك فدعا دانيال فدخل ولا يدخل
عليه أحد إلا سجد له فوقف دانيال ولم يسجد فقال الملك لمن في البيت: اخرجوا
فخرجوا فقال: ما منعك أن تسجد لي قال: إن لي ربًا أتاني هذا العلم على أن لا
أسجد لغيره فخشيت أن أسجد لك فينسلخ عنيِ العلم ثم أصير في يديك أميًا لا تنتفع بىِ
فتقتلني فرأيت ترك السجدة أهون من القتل وخطر سجدة أهون من الكرب الذي أنت فيه
فتركت السجود نظرًا إلى ذلك.
فقال بخت نصر: لم يكن قط أوثق في نفسي منك حيث وفيت لإلهك وأعجب
الرجال عندي الذين يوفون لأربابهم بالعهود فهل عندك علم بهذه الرؤيا التي رأيت
قال: نعم عندي علمها وتفسيرها.
قال: رأيت صنمًا عظيمًا رجلاه في الأرض ورأسه يمس السماء أعلاه من
ذهب ووسطه من فضة وأسفله من نحاس وساقاه من حديد ورجلاه من فخار فبينا أنت تنظر
إليه قد أعجبك حسنه وأحكام صنعته قذفه الله بحجر من السماء فوقع على قبة رأسه فدقه
حتى طحنه فاختلط ذهبه وفضته ونحاسه وحديده وفخاره حتى يخيل اليك أنه لو اجتمع الإنس
والجن على أن يميزوا بعضه من بعض لم يقدروا على ذلك ولو هبت الريح لأذرته.
ونظرت إلى الحجر الذي قذف به يربو ويعظم وينتشر حتى ملأ الأرضين
كلها فصرت لا ترى إلا السماء والحجر.
قال له بخت نصر: صدقت هذه الرؤيا التي رأيت فما تأويلها.
قال: أما الصنم فأمم مختلفة في أول الزمان وفي أوسطه وفي آخره.
وأما الذهب فهذا الزمان وهذه الأمة التي أنت فيها وأنت ملكها.
وأما الفضة ابنك من بعدك يملكها وأما النحاس فإنه الروم وأما الحديد
ففارس.
وأما الفخار فأمتان تملكهما امرأتان إحداهما في مشرق اليمن والأخرى
في غربي الشام.
وأما الحجر الذي قذف به الصنم حذف الله به هذه الأمم في آخر الزمان
فيظهر عليها حتى يبعث نبي أمي من العرب فيدوخ به الأمم والأديان كما رأيت الحجر دوخ
أصناف الصنم ويظهره على الأديان والأمم كما رأيت الحجر ظهر على الآرض وانتشر فيها
حتى ملأها فيحق الله به الحق ويزهق به الباطل ويعز به الأذلة وينصر به
المستضعفين.
فقال له بخت نصر: ما أعلم أحدًا استفتيت به منذ وليت الملك على
شيء غلبني غيرك ولا لأحد عندي يد أعظم من يدك وأنا أجازيك بإحسانك فاختر من ثلاث
خلال أعرضهن عليك: إن أحببت أن أردك إلى بلادك وأعمر لك كل شيء خربته وإن أحببت
كتبت لك أمانًا تأمن به حيث ما ملكت وإن أحببت أن تقيم معي فأواسيك.
قال دانيال: أما قولك تردني إلى بلادي وتعمر لي ما خربت فإنها أرض
كتب الله عز وجل عليها الخراب وعلى أهلها الفناء إلى أجل معلوم فليس تقدر علي أن
تعمر ما خرب الله ولا ترد أجلًا أجله الله حتى يبلغ الكتاب أجله وينقضي هذا البلاء
الذي كتب الله على إيليا وأهلها.
وأما قولك أن تكتب لي أمانًا آمن به حيث ما توجهت فإنه لا ينبغي لي
أن أطلب مع أمان الله أمان مخلوق.
وأما ما ذكرت من مواساتك فإن ذلك أرفق لي يومي هذا حتى يُقضى فينا
قضاء.
فجمع بخت نصر ولده وحشمه وأهل العلم والرأي من أهل المملكة فقال
لهم: هذا رجل حكيم قد فرج اللهّ به عني الكرب الذي عجزت عنه وإني رأيت أن أوليه
أمركم فخذوا من أدبه وحكمته وأعظموا حقه فإذا جاءكم رسولان أحدهما مني والآخر من
دانيال فآثروا حاجته على حاجتي.
قال: فنزل منه دانيال أفضل المنازل فجعل تدبير ملكه إليه فلما رأى
ذلك عظماء أهل بابل حسدوا دانيال فاجتمعوا إلى بخت نصر فقالوا له: لم يكن على
الأرض ملك أعز من ملكنا ولا قوم أهيب في صدور أهل الأرض منا حتى دانت لنا الأرض
والأن قد طمعوا فينا منذ قلدت ملكك هذا العبد الإسرائيلي فقال أتنقموني إِني عمدت
إلى أحكم أهل الأرض فاستعنت به.
ثم ان بخت نصر هلك ببعوضة سلطت عليه وملك مكانه ابنه بلطا فبطش بطش
الجبارين وكان يشرب الخمر في آنية مسجد بيت المقدس التي غنمها أبوه فنهاه دانيال ثم
قال له: إنك تقتل إلى ثلاثة ويسلب الله ملكك فدخل بيته وأغلق بابه ودعى أوثق
الناس عنده وقال: الزم عتبة بابي فلا يمر بك أحد في هذه الأيام الثلاثة إلا قتلته
وإن قال إني أنا الملك.
فلما مضت الأيام الثلاثة قام الملك فخرج من الباب فرحًا فمر بالحارس
فقام الحارس فضربه بالسيف وهو يقول: أنا الملك فيقول: كذبت فقتله.
ورجع بنو إسرائيل إلى بيت المقدس فمكثوا بأحسن حال حتى مات دانيال
ثم كثرت فيهم الأحداث والبغي فسلط الله عليهم أرطاصوس فقتل وسبى.
وهذا دانيال من بني إسرائيل وهو مدفون بالسوس ولما فتح أبو موسى
السوس دل على جثة دانيال فقام رجل إلى جثته فكانت ركبة دانيال محاذية رأسه وليس
بدانيال الأكبر فإن ذاك كان بين نوح وإبراهيم وقد سبق ذكره.
ذكر الملوك بعد ذلك
وتوفي بهمن وكان ملكه مائة واثنتي عشرة سنة وقيل ثمانين سنة.
ثم ملكت بعده ابنته خماني واختلفوا في سبب تمليكهما.
فقال بعضهم: إنما ملكوها لعقلها ونجدتها وإحسان أبيها إليهم.
وقال آخرون: كانت حاملًا من أبيها بهمن بدار الأكبر فسألت أباها
أن يعقد له التاج وهو في بطنها ففعل.
وكان ساسان من امرأة أخرى وكان حينئذ رجلًا ينتظر الملك لا يشك فيه
فلما فعل أبوه ذلك لحق بإصطخر وتزهد وتعبد في رؤس الجبال واتخذ غُنَيْمة فكان
يتولاه بنفسه.
وقيل: إن خماني ولدت بعد أشهر من ملكها فأخفت من إظهار الولد
فجعلته في تابوت وصيرت معه جوهرًا نفيسًا وأجرته تحت نهر من أنهار إصطخر وقيل من
أنهار بلخ فوقع التابوت إلى رجل طحان من أهل إصطخر فأخذه ورباه وظهر أمره حين شب
وأقرت خماني بإساءتها إليه وتعريضها إياه للتلف فلما تكامل امتحن فوجد على غاية ما
يكون عليه أبناء الملوِك فحولت التاج عن رأسها إليه وتقلد أمر المملكة وتنقلت خماني
إلى فارس وبنتْ مدينة إصطخر وقمعت الأعداء ومنعتهم من بلادها وأغزت أرض الروم فسبى
سبي كثير فأمرت أن يبنى لها في كل موضع بنيانًا منيفًا فأحد ذلك البنيان في مدينة
إصطخر.
والثاني على المدرجة التي يسلك فيها إلى دار بجرد على فرسخ من
المدينة.
والثالث على أربعة فراسخ منها في المدرجة التي تسلك فيها إلى
خراسان.
وإنها أجهدت نفسها في طلب مرضاة الله تعالى.
وكان ملكها ثلاثين سنة.
وكان بعض ملكها في زمن كيرش العيلمي الذي ذكرنا آنفًا أنه تولى بيت
المقدس على بني إسرائيل.
وعاشت خماني بعد هلاك كيرش ستًا وعشرين سنة وكانت مدة خراب بيت
المقدس من لدن خربه بخت نصر إِلى أن عمر سبعين سنة بعضها في أيام بهمن وبعضها في
أيام خماني.
ذكر دارا وأولاده
فلما ملك دارا بن بهمن بن إِسفنديار بن بشتاسب وكان ضابطًا لملكه
قاهرًا لمن حوله من الملوك فابتنى بفارس مدينة سماها دارا بجرد وولد له ولد فأعجب
به فسماه دارا باسم نفسه وصير له الملك من بعده فملك اثنتي عشرة سنة.
ثم ملك ابنه دارا بن دارا بن بهمن فأساء السيرة في رعيته وقتل
رؤساءهم فغزاه الإسكندر بن فيلبوس اليوناني وقد ملَّه أهل مملكته فلحق كثير منهم
بالإسكندر فأطلعوه على عورة دارا وقووه عليه فالتقيا ببلاد الجزيرة فاقتتلا سنة ثم
أن رجالًا من أصحاب دارا وثبُوا به فقتلوه وتقربوا برأسه إلى الإسكندر فأمر بقتلهم
وقال: هذا جزاء من اجترأ على ملكه.
وتزوج ابنته روشنك بنت دارا وغزا الهند ومشارق الأرض ثم انصرف وهو
يريد الإسكندرية فهلك بناحية السواد فحمل إلى الإسكندرية في تابوت من ذهب.
وكان ملكه أربع عشرة سنهَ وقيل كان ملك دارا أربع عشرة سنة أيضًا
واجتمع ملك الروم وكان قبل الإسكندر متفرقًا وتفرق ملك فارس وكان قبل الإسكندر
مجتمعًا.
ذكر هلاك دارا بن دارا
إن دارا بن دارا لما مَلَك وكان فيلبوس أبو الأسكندر اليوناني قد
ملك بلادًا من بلاد اليونانيين فصالح دارا على خراج يحمل إِليه في كل سنة ثم ملك
ابنه الإسكندر فلم يحمل الخراج فغضب دارا وكتب إليه يوبخه وبعث إليه بصولجان وكرة
وقفيز من سمسم وقال فيما كتب إليه: أنت صبي ينبغي أن تلعب بالصولجان وإنك إن
استعصيت بعثت إليك من يأتيني بك في وثاق وإن عدة جندي كعدة حب السمسم الذي بعثت
به.
فكتب
إليه الإسكندر أنه قد فهم كتابه وتيَمّن بإرساله الصولجان
والكرة لإلقاء الملقي الكرة إلى الصولجان واحترازه إياها ويشبه الأرض بالكرة وإنه
محيز ملك دارا إلى ملكه وبلاده إلى حيزه من الأرض.
وإنه تيمن بالسمسم لدسمه وبعده عن المرارة والحرافة.
وبعث إلى دارا بِصُرةٍ من خردل فهي تجمع الكرة والحرافة والمرارة.
فلما وصل إليه الكتاب جمع جنده وتأهب لمحاربة الإسكندر وتأهب
الإسكندر وسار نحو بلاد دارا.
فالتقيا فاقتتلا أشد القتال وصارت الدّبْرة على جند دارا.
فلما رأى ذلك رجلان من حرس دارا طعناه من خلفه فوقع ليحظيا عند
الإسكندر.
ونادى الإسكندر: أن لا يقتل دارا.
ثم سار حتى وقف عليه فرآه يجود بنفسه فنزل الإسكندر عن دابته وجلس
عند رأسه وأخبره أنه ما هم قط بقتله وأن الذي أصابه لم يكن عن رأيه وقال له: سلني
ما بدا لك فقال دارا: إليَ لك حاجتان: إحداهما أن تنتقم لي من الرجلين اللذين
فتكا بي والأخرى أن تتزوج ابنتي روشنك.
فأجابه وصلب الرجلين وتوسط بلاد دارا فكان له ملكه.
وقال آخرون: كان ملك الروم في أيام دارا الأكبر يؤدي إلى دارا
الخراج فلما هلك ملك الإسكندر وكان ذا حزم ومكر فمن مكره أنه خرج في بعض الحروب من
صف أصحابه وأمر من نادى: يا معشر الفرس قد علمتم ما كتبنا لكم من الأمان فمن كان
منكم على الوفاء فليعتزل العسكر وله منا الوفاء.
فاتهمت الفرس بعضها بعضًا فكان أول اضطراب حدث فيهم.
وتلقاه بعض ملوك الهند بألف فيل عليها السلاح وفي خراطيمها السيوف
فلم تقف دواب الإسكندر فأمر باتخاذ قلة من نحاس مجوفة وربط خيله بين تلك التماثيل
حتى التقيا ثم أمر فملئت نفطًا وكبريتًا وألبسها الدروع وجرت على العجل إلى المعركة
وبين كل تمثالين منها جماعة من أصحابه.
فلما نشبت الحرب أمر بإشعال النيران في أجواف التماثيل فلما حميت
انكشفت أصحابه عنها فغشيتها الفيلة فضربتها بخراطيمها فتشيطت فولت مدبرة راجعة على
أصحابها فصارت وغزا الإسكندر بعض ملوك المغرب فظفر به فآنس لذلك من نفسه القوة فنشز
على دارا الأصغر وامتنع عما كان يحمله إليه وكان الخراج الذي يؤديه آل الإسكندر إلى
ملوك الفرس بيضًا من ذهب ألف ألف بيضة في كل بيضة مائة مثقال.
فلما امتنع الإسكندر أن يبعث كتب إليه دارا يطالبه.
فكتب إليه: إني قد ذبحت تلك الدجاجة التي كانت تبيض ذلك البيض
وأكلت لحمها.
فالتقيا للقتال بناحية خراسان مما يلي الحرز.
ذكر نبذ من أحوال الإسكندر
قد ذكرنا أن هذا الإسكندر هو ابن فيلبوس وبعضهم يقول: ابن بيلبوس
بن مطريوس.
ويقال: ابن مصريم بن هرمس بن هردسر بن مسطون بن رومي بن يلظي بن
يونان بن يافث بن توبة بن سرحون بن رومية بن يرثط بن توفيل بن زوفي بن الأصفر بن
أليفز بن العيص بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليه السلام.
ولما هلك دارا ملك الإسكندر ملك دارا فملك العراق والروم والشام
ومصر وعرض جنده بعد هلاك دارا فوجدهم ألف ألف وأربع مائة ألف رجل منهم من جنده
ثمانمائة ألف ومن جند دارا ستمائة ألف.
فجلس على سريره وقال: أدالنا الله من دارا ورزقنا خلاف ما كان
يتوعدنا به وهدم ما كان ببلاد الفرس من المدن والحصون وبيوت النيران وقتل الهرابذة
وأحرق كتبهم ودواوين دارا واستعمل على مملكة دارا رجلًا من أصحابه وسار إلى أرض
الهند فقتل ملكها وفتح مدينتها.
ثم سار منها إلى الصين وصنع بها كصنيعه بالهند ودانت له عامة الأرض
وملك الصين والتبت.
أنبأنا محمد بن عبد الباقي البزاز قال: أنبأنا علي بن المحسن
التنوخي عن أبيه قال: حدثني أبو الفرج الأصفهاني قال: قرأت في بعض كتب الأوائل
أن الإسكندر لما انتهى إلى ملك الصين أتاه صاحبه وقد مضى من الليل شطره وقال له:
هذا رسول ملك الصين بالباب يستأذن عليك فقال: احضروه.
فوقف بين يديه وسلم ثم قال: إن رأى الملك أن تخليني فأمر الإسكندر
من بحضرته من أصحابه فانصرفوا وبقي صاحبه فقال: الذي جئت فيه لا يحتمل أن يسمعه
غيرك.
فقال الإسكندر فتشوه ففتش فلم يصب معه حديد فوضع الإسكندر بين يديه
سيفًا وقال له: كن بمكانك وقل ما شئت وخرج كل ما كان عنده فقال: قل.
فقال له: إني أنا الملك لا رسوله وقد جئتك أسألك عما تريد مما
يمكن عمله ولو على أصعب الأمور فإني أعمله فأغنيك عن الحرب فقال له الإسكندر: ما
آمنك مني قال: علمي بأنك رجل عاقل وليس بيننا عداوه ولا مطالبة قد حل.
وأنت تعلم إنك إن قتلتني لم تحظ بطائل ولم يكن سببًا لأخذ مملكة
الصين ولم يمنعهم قتلي أن ينصبوا لأنفسهم ملكًا ثم تنسب أنت إلى غير الجميل وصيد
الحريم.
فأطرق الإسكندر وعلم أنه رجل عاقل فقال: الذي أريد منك ارتفاع
مملكتك لثلاث سنين عاجلًا ونصف ارتفاع مملكتك في كل سنة فقال: هل غيرذلك شيء
قال: لا قال: قد أجبتك قال: كيف يكون حالك حينئذ قال: أكون قتيلًا وأكلة كل
مفترس.
قال: فإن قنعت منك بارتفاع سنتين كيف يكون حالك قال: أصلح مما
كانت قال: فإن قنعت منك بارتَفاع سنة قال: يكون ذلك كمالًا لأمر ملكي ومذهباٌ
جميع أذاني قال: فإذا اقتصرت منك على النصف من ارتفاع السنة قال: يكون الملك
ثابتًا وأسبابه مستقيمة قال: فإذا اقتصرت منك على ارتفاع الثلث قال: يكون السدس
وقفًا ويكون الباقي لجيشي وأسباب الملك.
قال: فقد اقتصرت منك على هذا فشكره وانصرف.
فلما طلعت الشمس أقبل جيش الصين حتى طبق الأرض وأحاط بجيش الإسكندر
حتى خافوا الهلاك فتواثب أصحابه فركبوا الخيل واستعدوا للحرب.
فبينما هم كذلك إذ طلع وعليه التاج فلما رأى الإسكندر ترجل له فقال
له الإسكندر: غدرت قال: لا والله قال: فما هذا الجيش قال: أردت أن أريك
أنني لم أطعك عن قلة وضعف وأنت ترى الجيش وما غاب عنك أكثره ولكن رأيت العالم
الكبير مقبلًا فملكنا لك ممن هو أقوى منك وأكثر من عددك ومن حارب العالم الكبير غلب
وأردت طاعته بطاعتك والذلة بأمره بالذلة لك.
فقال الإسكندر: ليس مثلك من يؤخذ منه خراج فما رأيت بينيِ وبينك
أحدًا يستحق الفضل والوصف بالعدل غيرك فقد أعفيتك من جميع ما أردته منك وأنا منصرف
عنك.
فقال له ملك الصين: أما إذا فعلت ذلك فليس بحسن.
ثم انصرف الإسكندر فبعث إليه ملك الصين هدايا أضعاف ما كان قرر
معه.
وكان أرسطاطاليس مؤدب الإسكندر فىِ صغره فقال له ولصبيان معه: أي
شيء تعملون إذا ملكتم فكل واحد بذل من نفسه شيئًا فقال الإسكندر: أعمل حسب ما
يوجبه الوقت ويقتضيه العقل فقال له: أنت أدرى بالرئاسة والملك.
فلما ملك الأسكندر كان أرسطاطاليس له كالوزير يكاتبه ويعمل برأيه
فكتب إليه: إن في عسكري جماعة لا آمنهم على نفسي لبعد هممهم وشجاعتهم ولا أرى لهم
عقولًا تفي بتلك الفضائل.
فكتب إليه: أما ما ذكرت من بعد هممهم فإن الوفاء من بعد الهمة.
وأما شجاعتهم ونقص عقولهم فمن هذه حاله فَرَفِّهْهُ في معيشته
وأخصصه بحسان النساء فإن رفاهية العيش توهي العزم وتحبب السلامة وليكن خلقك حسنًا
تخلص لك النيات ولا تتناول من لذيذ العيش ما لا يمكن أوساط رعيتك مثله فليس مع
الاستئثار محبة ولا مع المواساة بغضة.
واعلم أن المملوك إذا اشترى لا يسأل عن مال سيده وإنما يسأل عن
خلقه.
وهذا أرسطاطاليس كان من كبار الحكماء قال يومًا أفلاطون لأصحابه:
ما العجب فتكلموا فقال أرسطاطاليس: ما ظهر وخفيت علته قال: أنت أفضل الجماعة.
وكان أرسطاطاليس يقول: لكل شيء صناعة وصناعة العقل حسن
الاختيار.
وقال: إعصَ الهوى وأطع من شئت.
وقيل له: ألا تجتمع الحكمة والمال فقال: آخر الكمال.
وكتب إلى بعض ملوك يونان وكان مستهترًا باللعب: إذا علمت الرعايا
تسليط الهوى على الملك تسلطت عليه فاقهر هواك تفضل حكمتك والسلام.
فكتب الملك: أيها الحكيم إذا كانت بلادنا عامرة وسبلنا آمنة
وعمالنا عادلة فلم تمنع لذة عاجلة.
فكتب إليه: إنما تمهدت الأمور على ما ذكرت بيقظتك بالحكمة دون
غفلتك باللذة فما أخوفني أن تهدم ما بنته الحكمة ما جنته الغفلة.
فأقبل الملك على السياسة.
وقد ذكر بعض من لا يعلم إن الإسكندر هو الذي دخل الظلمات وهذا غلط
وإنما أشكل عليهم لاشتراك الاثنين في الإسم والتسمية بالإسكندر.
وقد ذكرنا خبر ذاك في زمن إبراهيم الخليل وإنه عاش ألف سنة وستمائة
سنة وهذا اليوناني عاش ستًا وثلاثين سنة.
وملك ثلاث عشرة سنة وأشهرًا وبنى مدنًا كثيرة وتوفي في بعض قرىَ
بابل
.
انتهى الجزء الاول
تابعوا البقيه في الكتاب
أموت ويبقى ما كتبته ** فيا ليت من قرا دعاليا
عسى الإله أن يعفو عني ** ويغفر لي سوء فعاليا
قال ابن عون:
"ذكر الناس داء،وذكر الله دواء"
قال الإمام الذهبي:"إي والله،فالعجب منَّا ومن جهلنا كيف ندع الدواء ونقتحم الداءقال تعالى :
(الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب)
ولكن لا يتهيأ ذلك إلا بتوفيق الله ومن أدمن الدعاءولازم قَرْع الباب فتح له"
السير6 /369
قال العلامة السعدي:"
وليحذرمن الاشتغال بالناس والتفتيش عن أحوالهم والعيب لهم
فإن ذلك إثم حاضر والمعصية من أهل العلم أعظم منها من غيرهم
ولأن غيرهم يقتدي بهم. ولأن الاشتغال بالناس يضيع المصالح النافعة
والوقت النفيس ويذهب بهجة العلم ونوره"
الفتاوى السعدية 461
فترة الأقامة :
6560 يوم
الإقامة :
ارض الحرمين
معدل التقييم :
زيارات الملف الشخصي :
3462
مواضيعي ~
•
ركني الهادي
•
شعاع الترحيب والضيافة
•
شعاع الإعلانات الإدارية
إحصائية مشاركات »
المواضيـع
الــــــردود
[
+
]
[
+
]
بمـــعــدل :
2.20 يوميا
هوازن الشريف
مشاهدة ملفه الشخصي
إرسال رسالة خاصة إلى هوازن الشريف
زيارة موقع هوازن الشريف المفضل
البحث عن كل مشاركات هوازن الشريف