لمدونة لسحنون
المدونة لسحنون
لما كانت
المدونة هي نسخة منقحة عن الأسدية، فقد لزمنا التعرض لترجمة الإمام أسد بن الفرات، ثم ترجمة الإمام سحنون بن سعيد.
ترجمة أسد بن الفرات:
هو أسد بن الفرات بن سنان مولى بني سليم بن قيس، كنيته أبو عبد الله. قال أبو العرب: أوله من خراسان من نيسابور. وولد بحرّان من ديار بكر سنة (142ﻫ).
دخل القيروان مع أبيه في جيش ابن الأشعث (سنة 144ﻫ) وهو ابن سنتين، ثم رحلوا إلى تونس، وبعدما حفظ القرآن اختلف إلى علي بن زياد، فلزمه وتفقه بفقهه، ثم رحل إلى المشرق سنة (172ﻫ)، فلقي مالكا وواظب عليه. وسمع منه الموطأ وغيره، ثم ذهب إلى العراق فلقي أبا يوسف ومحمد بن الحسن،وغيرهما، ثم رحل بعد وفاة مالك إلى مصر، فلقي ابن القاسم وكتب عنه الأسدية، وقدم بعدها إلى القيروان.
ولي قضاء القيروان سنة (203ﻫ)، ثم إمارة الجهاد لغزو صقلية مع ولاية القضاء، وتوفي وهو محاصر لها من جراء جراحات أصابته سنة (213ﻫ) ودفن هناك[1].
ترجمة سحنون:
هو عبد السلام بن سعيد بن حبيب بن حسان بن هلال بن بكار بن ربيعة التنوخي. يكنى أبا سعيد، ويلقب بسحنون، وهو بفتح السين على قول الجمهور، وسمى سحنون باسم طائر حديد، لحدته في المسائل.
صليبة من العرب أصله شامي من حمص، قدم به أبوه سعيد في جند حمص إلى القيروان، وبها أخذ العلم من مشايخها: أبي خارجة وبهلول، وعلي بن زياد، وابن غانم، وابن أشرس، وغيرهم.
ثم رحل إلى مصر والحجاز فسمع من ابن القاسم، وابن وهب، وأشهب، وسفيان بن عيينة، ووكيع، وعبد الرحمن بن مهدي، وأبي داود الطيالسي، ويزيد بن هارون، وابن نافع الصائغ، ومعن بن عيسى، وابن الماجشون، وغيرهم.
ثم انصرف إلى إفريقية سنة (191ﻫ). ثم ولي القضاء بها سنة (234ﻫ)، وسنه إذ ذاك (74) سنة، فلم يزل قاضياً إلى أن مات سنة (240ﻫ)، ومولده سنة (260ﻫ)[2].
أصل المدونة:
المدونة هي نسخة منقحة من الأسدية لأسد بن الفرات، ولتبيان ذلك نقسم حديثنا إلى قسمين:
الأول: الأسدية
تنسب الأسدية إلى أسد ابن الفرات، وقصة تأليفها أنه ورد على الإمام مالك بعدما أخذ عن علي بن زياد وغيره بتونس، فقرأ عليه وسمع منه الموطأ وغيره، ثم ذهب إلى العراق، ويذُكَر في سبب ذهابه إلى العراق أنه قال: "كان ابن القاسم وغيره يجعلونني أسأل مالكا، فإذا أجابني قالوا: قل له: فإن كان كذا وكذا؟ فضاق علي يوما، وقال: هذه سلسلة بنت سليسلة، إن كان كذا كان كذا! إن أردت فعليك بالعراق"[3].
ولما قدم العراق لقي أبا يوسف، فأخذ عنه موطأ مالك، ولقي محمد بن الحسن، وأسد بن عمرو، وغيرهم. واختص بمحمد بن الحسن، ولزمه حتى أصبح من المناظرين من أصحابه، وزامله في سفرته إلى مكة، لمكانته عنده.
فلما مات الإمام مالك قدم إلى مصر وأتى إلى ابن وهب، فناوله مسائل أبي حنيفة، "وسأله أن يجيب فيها على مذهب مالك. فتورع ابن وهب وأبى. فذهب إلى ابن القاسم فأجابه إلى ما طلب"[4].
فكان يجيبه فيما حفظ عن مالك بقوله، وفيما شك فيه يقول: أخال وأحسب وأظن، وأحيانا يجيبه باجتهاده على ًأصل قول مالك.
وظل أسد يسأله كل يوم، حتى دون عنه ستين كتاباً، فسميت بالأسدية، فطلبها أهل مصر ودونوها عنه.
ثم أتى إلى القيروان فدونها عنه الناس، وحصلت له بها رئاسة كبيرة، فأنكر عليه بعضهم ما في جوابها من الظن، وخلوها من الآثار، فقالوا: جئتنا بأخال وأظن وأحسب، وتركت الآثار وما عليه السلف. فقال: "لقد كنت أسأل ابن القاسم عن مسألة فيجيبني فيها، فأقول له: هو قول مالك؟ فيقول: كذا أخال وأرى، وكان ورعاً يكره أن يهجم على الجواب"[5]
الثاني: كتابة المدونة:
أخذت الأسدية مكانها من مجالس العلوم، وغدت حديث الناس في مواطن الدرس، فطلبها سحنون، فمنعها منها أسد[6]، فتلطف سحنون حتى وصلت إليه، ثم ارتحل سحنون بالأسدية إلى ابن القاسم سنة (188ﻫ)[7] فعرضها عليه، فأخذها منه، ونظر إليها وتصفحها، فقال: "فيها شيء لا بد من تغييره، وضرب على كثير منها، وأبدل كثيرا"[8]، وقد ساعد ابن القاسم على هذا العمل أن سحنون كان إماما في الفقه، فهذب ابن القاسم
المدونة معه، فأسقط منها ما كان يشك فيه من قول مالك، وأجابه فيه على رأيه، لأنه كان أملاها على أسد من حفظه، واستدرك فيها أشياء كثيرة.
ولما كملت على هذا النحو، رجع بها سحنون إلى القيروان في سنة (191ﻫ ) وأشاعها.
مصير الأسدية:
لما كتب سحنون ما كتب عن ابن القاسم، وحدث ما حدث في الأسدية من تغيير، أرسل ابن القاسم إلى أسد: " أن عارض كتبك بكتب سحنون، فإني رجعت عن أشياء مما رويتها عني"[9]
فأخذت أسدا الأنفة، وكبر عليه أن يعود عما كتبه، وأبي إباء شديدا.
فأهملت الأسدية بعد ذلك وانهمدت شعلتها، وتوقف الاشتغال بها، وانتشر ذكر
المدونة في الآفاق، "وعول الناس عليها وأعرضوا عن الأسدية، وغلب عليها اسم سحنون»[10].
ومع ذلك فإن لبعض العلماء جهودا تذكر عليها[11].