[formatting="font-family: Courier new; font-size: 15px; color: Rgb(0, 0, 0); font-weight: Bold; font-style: Normal; text-align: Center; background-color: Rgb(255, 255, 255); border-style: Dotted; border-width: 5px; border-color: Rgb(0, 0, 0); width: 91%; background-image: Url(http://store2.up-00.com/2016-03/145720170220761.gif);"]
15
لا أدري إذا لاحظت يومًا أنك حين تولي انتباهك كاملاً يسود صمتٌ تام. وفي ذاك الانتباه لا حدود ثمة، ولا مركز، بوصفه "الأنا" الذي يعي أو ينتبه. ذاك الانتباه، ذاك الصمت، هو حال تأمل.
16
نكاد أن لا نصغي إلى صوت نباح كلب، إلى بكاء طفل، أو إلى ضحكة رجل وهو يمر. نفصل أنفسنا عن كلِّ شيء، ثم، من هذه العزلة، ننظر ونستمع إلى الأشياء كلِّها. هذا الفصل عينه هو الفصل الشديد التدمير؛ إذ إن فيه يكمن النزاع والتشويش. لو كنت تصغي إلى صوت تلك الأجراس في صمت تام لكنتَ ركبتَه – أو، بالحري، لكان الصوتُ حَمَلَك عبر الوادي حتى أعلى التلة. لن تشعر بجماله إلا حين لا تكون – أنت والصوت – منفصلين، حين تكون جزءًا منه. التأمل هو إنهاء الفَصْل، لكنْ ليس بواسطة أيِّ فعل إرادة أو رغبة.
التأمل ليس شيئًا منفصلاً عن الحياة؛ إنه جوهر الحياة بعينه، جوهر العيش اليومي نفسه. والإصغاء إلى هاتيك الأجراس، الإصغاء إلى ضحكة ذلك الفلاح وهو يسير مع زوجته، الإصغاء إلى صوت الجرس على دراجة البنت الصغيرة وهي تقودها على مقربة: إنها الحياة بكلِّيتها يفتحها التأمل، وليس جزءًا منها وحسب.
17
التأمل هو رؤية الموجود والذهاب إلى أبعد منه.
18
الإدراك من غير الكلمة، أي من غير فكر، هو واحد من أغرب الظاهرات. إذ ذاك يكون الإدراك أكثر حدَّة بكثير، ليس بالمخ وحده، لكن بالحواس جميعًا أيضًا. مثل هذا الإدراك ليس هو الإدراك المجزَّأ للفكر، ولا هو من شؤون الانفعالات. بالإمكان تسميته إدراكًا كليًّا، وهو جزء من التأمل. الإدراك من غير المدرِك في التأمل هو التواصل مع ارتفاع الشاسع وعمقه. وهذا الإدراك مختلف اختلافًا كليًّا عن رؤية موضوع من دون راصد، لأنه في الإدراك التأملي لا موضوع ثمة، وبالتالي، لا تجربة. غير أنه يمكن للتأمل أن يجري والعينان مفتوحتان والمرء محاط بموضوعات من أنواع شتى. لكن هذه الموضوعات حينئذٍ لا أهمية لها على الإطلاق. المرء يراها، لكن من دون وجود عملية تعرُّف، مما يعني عدم جود اختبار.
ما معنى مثل هذا التأمل؟ لا معنى، ولا نفع. لكن في ذاك التأمل ثمة حركة وَجْدٍ عظيم لا يصح أن يلتبس باللذة. إنه الوَجْد الذي يَهَبُ العينَ والمخَّ والقلبَ صفةَ البراءة. من دون رؤية الحياة كشيء جديد بالكلِّية، تُختزَل هذه إلى الروتين، إلى السأم، إلى شأن تافه. لذا فإن التأمل عظيم الأهمية. إنه يفتح الباب على ما يستعصي على الحساب، على ما لا يقاس.
19
التأمل لا يجري أبدًا في الزمن. فالزمن لا يمكن له أن يستجلب التحول؛ يمكن له فقط أن يُحدِثَ تغييرًا، يحتاج إلى أن يتغير مجددًا – ككل الإصلاحات. التأمل المنبجس من الزمن مقيِّد دومًا، لا حرية فيه – ومن دون الحرية ثمة دومًا اختيار ونزاع.
20
علينا أن نبدل بنية مجتمعنا، ظلمه، مناقبيته الفظيعة، التقسيمات التي اصطنعها بين الإنسان والإنسان، الحروب، الافتقار التام إلى المودة والمحبة الذي يدمِّر العالم. إذا كان تأملك مجرد أمر شخصي، شيئًا تستمتع به شخصيًّا، إذ ذاك فإنه ليس تأملاً. التأمل ينطوي على تغير جذري تام في الذهن وفي القلب. وهذا يكون ممكنًا فقط بوجود هذا الحس الخارق بالصمت الداخلي – وذاك وحده يستجلب الذهن المتدين. ذاك الذهن يعرف ما هو مقدس.
21
الجمال يعني الحساسية – جسمًا حسَّاسًا – الأمر الذي يقتضي حِمْيَة سليمة، طريقة معيشة سليمة. إذ ذاك فإن الذهن، في صورة طبيعية، من حيث لا ندري، سوف يصبح هادئًا حتمًا. ليس في مكنتك أن تجعل الذهن هادئًا، لأنك أنت مسبِّب البلبلة، أنت نفسك مضطرب، قَلِق، مشوَّش – كيف يسعك أن تجعل الذهن هادئًا؟ لكنك حين تفهم ماهية الهدوء، حين تفهم ماهية التشويش، ماهية الأسى، وفيما إذا كان بالإمكان إنهاء الأسى يومًا، وحين تفهم اللذة، إذ ذاك، يتمخض ذلك كلُّه عن ذهن خارق الهدوء؛ لست في حاجة إلى السعي في طلبه. عليك أن تبدأ من البداية، والخطوة الأولى هي آخر خطوة – وهذا هو التأمل.
22
التأمل هو التبرؤ من الزمن.
23
التأمل ليس هروبًا من العالم، ليس نشاطًا عازلاً، مسيِّجًا للذات، بل هو بالحري فهم العالم وأساليبه. ليس للعالم ما يقدِّمه إلا القليل ماخلا المأكل والملبس والمأوى واللذة، بمآسيها الكبيرة.
التأمل هو التجوال بعيدًا عن العالم: على المرء أن يكون غريبًا تمامًا. إذ ذاك يكون للعالم معنى، ويكون جمال السماوات والأرض دائمًا. إذ ذاك المحبة لا تكون اللذة. ومن هنا ينطلق كل فعل ليس نتاجًا للتوتر والتناقض والبحث عن تفوق الذات أو ضلالة السلطان.
24
إذا تعمَّدت اتخاذ موقف، أو وضعية، لكي تتأمل، عندئذٍ يصير الأمر ألعوبة، لعبة من لعبات الذهن. إذا عزمت على استخلاص نفسك من تشويش الحياة ومن بؤسها، عندئذٍ يصير تجربة من تجارب المخيِّلة – وهذا ليس التأمل. على العقل الظاهر أو العقل الباطن ألا يتدخلا فيه؛ عليهما ألا يعيا حتى مدى التأمل وجماله – فإذا وعياهما، لك أن تستعيض عن الأمر بشراء رواية رومانسية وحسب.
في الانتباه الكامل للتأمل ليس من معرفة ثمة، ولا من تعرُّف، ولا من تذكُّر لشيء ما قد سَبَقَ أن حصل. فالزمن والفكر قد وصلا إلى نهايتهما تمامًا؛ إذ إنهما المركز الذي يحدُّ من رؤيته نفسها.
في لحظة النور، يذوي الفكرُ متلاشيًا، والجهد الواعي للاختبار ولتذكُّره هو الكلمة التي مضت – والكلمة ليست الشيء الفعلي أبدًا. في تلك اللحظة – وهي ليست من الزمن – يكون الأقصى هو الآني؛ لكن ذلك الأقصى عديم الرمز، لا يأتي من شخص، ولا من إله.
25
التأمل هو اكتشاف ما إذا كان ثمة مجال لم تصبْه بعدُ عدوى المعلوم.
26
التأمل هو تفتح الفهم. والفهم لا يقع ضمن نطاق الزمن؛ فالزمن لا يجلب الفهم أبدًا. الفهم ليس سيرورة متدرجة، بحيث ينبغي تحصيلُه شيئًا فشيئًا بعناية وصبر؛ فالفهم يكون الآن أو لا يكون أبدًا. إنه ومضة مدمِّرة، وليس قضية محاباة. وهذه الانتفاضة هي التي يخشاها المرء، وبالتالي، يتجنبها، من حيث يدري ومن حيث لا يدري. فمن شأن الفهم أن يغير مسار حياة المرء، طريقة تفكيره وعمله؛ قد يبدو قول ذلك لطيفًا أو لا، لكن في الفهم خطرًا على العلاقات كلِّها. لكن من غير الفهم، سيستمر الأسى لا محالة. لا ينتهي الأسى إلا من خلال معرفة النفس، وعي كلِّ خاطرة وكلِّ شعور، كلِّ حركة للواعية ولما هو مستور. التأمل هو فهم الوعي – الخفي والصريح – والحركة التي تجري أبعد من كلِّ فكر وشعور.
27
كان صباحًا من تلك الأصباح البديعة التي لم تكن قط. كانت الشمس بدأت لتوِّها تشرق، وكنتَ تراها بين أغصان الكينا والصنوبر. كانت فوق المياه، ذهبيةً، مُسْمَرَّة – نورًا كالذي يوجد فحسب بين الجبال والبحر. كان صباحًا من تلك الأصباح الصافية، المذهلة، الممتلئة بذلك النور الغريب الذي لا يراه المرء بعينيه فقط، بل وبقلبه أيضًا. وحين تراه، تكون السماوات قريبة جدًّا من الأرض، وتكون أنت ذاهلاً عن نفسك في الجمال. ليتك لا تتأمل أبدًا جهرًا، أو في صحبة آخر، أو وسط مجموعة: تأمَّلْ وحدك فقط، في سكينة الليل، أو في الصباح الباكر الساكن. وحين تتأمل وحدك، فلتكنْ وحدتُك وحدةً حقًّا. كن وحدك تمامًا، لا تتبع نظامًا، منهجًا، أو تكرر كلمات؛ لا تلاحق خاطرة، أو تشكِّل فكرة بحسب رغبتك.
هذه الوحدة تأتي حين يكون الذهن متحررًا من الفكر. عندما تكون ثمة مؤثرات من الرغبة أو من الأشياء التي يسعى إليها الذهن، سواء في المستقبل أو في الماضي، ليس ثمة وحدة. في شساعة الحاضر فقط يأتي هذا التوحُّد. وحينئذٍ، في السِّرية الهادئة التي يتوقف فيها كل تواصُل، والتي يغيب فيها الراصد، بشهواته ومشكلاته الحمقاء – إذ ذاك فقط، في ذلك التوحُّد الهادئ، يصير التأمل شيئًا لا تستوعبه الكلمات. إذ ذاك يكون التأمل حركة أبدية.
لا أدري إن كنت قد تأملت يومًا، إذا اتفق لك يومًا أن تكون وحدك، بمفردك، بعيدًا بعيدًا عن كلِّ شيء، عن كلِّ شخص، عن كلِّ خاطر ومسعى، إذا اتفق لك يومًا أن تكون وحدك تمامًا – غير منعزل، غير منكفئ إلى حلم أو رؤيا ما من بنات المخيِّلة، بحيث لا يوجد فيك شيء قابل للتعرف، لا شيء تلمسه بالفكر أو بالشعور – في مكان قصيٍّ إلى حدِّ أن الصمت نفسه، في تلك الوحدة المترعة، يصير الزهرة الوحيدة، النور الأوحد، والجوهر اللازمني الذي لا يقاس بالفكر. فقط في مثل هذا التأمل تتكون المحبة. لا تأبه للتعبير عنها: فهي ستعبِّر عن نفسها. لا تستعملها. لا تحاول أن تفعِّلها: فهي سوف تفعل من تلقاء ذاتها. وحين تفعل، في ذلك الفعل لن تكون ثمة حسرة، ولا تناقض، ولا شيء من بؤس الإنسان وشقائه.
تأمَّلْ وحدك، إذن. اذهلْ عن نفسك. ولا تحاول أن تتذكر أين كنت. إذ إنك إذا حاولت أن تتذكر سيكون الأمر شيئًا ميتًا. وإذا تشبثت بذكراك عنه، إذ ذاك لن تكون وحدك أبدًا من جديد. تأمَّلْ، إذن، في تلك الوحدة اللانهائية، في جمال تلك المحبة، في تلك البراءة، في الجديد أبدًا – إذ ذاك تستولي عليك الغبطة التي لا تفنى.
السماء شديدة الزرقة – الزرقة التي تأتي بُعيد المطر – وهذه الأمطار هطلت بعد شهور عديدة من القحط. بعد المطر تكون السماوات قد استحمَّت وعادت نقية، التلال تبتهج، والأرض تسكن. وعلى كلِّ وريقة شجر ينطبع نور الشمس؛ والشعور بالأرض يكون شديد القرب منك. تأمَّلْ، إذن، في خفايا قلبك وذهنك السِّرية نفسها، التي لم تستكشفها قط.
28
ليس التأمل وسيلة إلى غاية؛ إذ ليس من غاية ثمة، ولا من وصول. إنه حركة في الزمن وخارج الزمن. كل نظام، كل منهج، يشد الفكرَ إلى الزمن؛ أما وعي كلِّ خاطرة وشعور، من دون اختيار، وفهم دوافعهما، آليتهما، والسماح لهما بالتفتح، فهو بداية التأمل. حين يزهر الفكر والشعور ويموتان، يكون التأمل هو الحركة فيما يتعدى الزمن – وفي هذه الحركة وَجْد. ففي الفراغ التام تكون المحبة؛ ومع المحبة هناك دمار وخَلْق.
29
التأمل هو ذاك النور في الذهن الذي ينير سبيل العمل؛ ومن دون ذاك النور ليس ثمة محبة.
30
التأمل ليس الصلاة أبدًا. الصلاة، التوسل، يولدان من الإشفاق على الذات. أنت تصلي حين تكون في مأزق، حين تعاني من الأسى؛ لكنْ حين تكون ثمة سعادة، فرح، لا مجال للتوسل. هذا الإشفاق الذاتي، المنغرس عميقًا في الإنسان، هو جذر الفَصْل. فما يكون منفصلاً – أو يظن نفسه منفصلاً، ساعيًا أبدًا إلى التماهي مع شيء ليس منفصلاً – لا يجلب إلا المزيد من الانقسام والوجع. ومن قلب هذا التشويش يتوسل المرء صارخًا إلى السماء، أو إلى الزوج، أو إلى إله ما مِن صُنْع الذهن. وهذه الصرخة قد تجد جوابًا عليها، لكن الجواب هو صدى الإشفاق الذاتي، في انفصاله.
تكرار الكلمات، الصلوات، منوِّم ذاتيًّا، مطوِّق للذات، مدمِّر. وعَزْلُ الفكر يقع دومًا ضمن مجال المعلوم، وإجابة الصلاة هي استجابة المعلوم.
التأمل بعيد عن هذا كلِّه. ففي هذا المجال، ليس في مكنة الفكر أن يدخل؛ إذ لا فَصْل ثمة، وبالتالي، لا هوية. التأمل يتم في الهواء الطلق؛ ليس للسِّرية من مكان فيه. كل شيء صريح، واضح – وعندئذٍ يكون جمال المحبة.
31
في هذا الصباح كانت صفةُ التأمل هي العدم، الفراغ التام من الزمن والمكان. وهذا واقع، وليس من قبيل الأفكار أو محيِّرات الظنون المتعارضة. يجد المرء هذا الفراغ الغريب حين يذوي جذرُ المشكلات كلِّها متلاشيًا. وهذا الجذر هو الفكر، الفكر الذي يقسِّم ويتشبث. في التأمل يصير الذهن فعلاً فارغًا من الماضي – مع كونه يستطيع أن يستعمل الماضي بوصفه فكرًا. وهذا يتواصل طوال النهار، وفي الليل يكون النوم هو الفراغ من الأمس، وبالتالي، يلامس الذهن ما هو لازمني.
32
التأمل ليس مجرد السيطرة على الجسم والفكر، ولا هو بطريقة للشهيق والزفير. على الجسم أن يبقى ساكنًا، صحيحًا، وغير مُجهَد؛ وعلى حساسية الشعور أن تحتدَّ ويحافَظ على سلامتها؛ والذهن، بكلِّ ثرثرته وتقلباته وتلمُّساته، أن يؤول إلى السكوت. فالبدن ليس هو ما يجب البدء منه، بل بالحري الذهن، بآرائه وأحكامه المسبقة واهتمامه بذاته، هو ما يجب الالتفات إليه. حين يكون الذهن صحيحًا وحيويًّا ونشيطًا، إذ ذاك فإن الشعور سوف يستدق ويتصف بحساسية فائقة. وإذ ذاك فإن الجسم، بفطنته الطبيعية التي لم تُفسِدها العادةُ والذوق، سوف يعمل كما ينبغي عليه أن يفعل.
على المرء، إذن، أن يبدأ بالذهن وليس بالجسم – الذهن بوصفه الفكر وتنوعات التعبير عن الفكر. مجرَّد التركيز يجعل الفكر ضيقًا، محدودًا، وهشيمًا؛ لكن التركيز يأتي كشيء طبيعي حين يكون ثمة وعيٌ لأساليب الفكر. وهذا الوعي لا يأتي من المفكر الذي يتخيَّر ويستبعد، يتشبث وينبذ. هذا الوعي لا اختيار فيه، وهو يحيط بالخارج وبالداخل معًا؛ إنه سريان متبادل بين الاثنين، بحيث إن التقسيم بين الخارجي والداخلي ينتهي.
الفكر يدمِّر الشعور – الشعور بوصفه المحبة. فالفكر لا يقدِّم غير اللذة؛ وفي السعي إلى اللذة تُزاح المحبة جانبًا. فلذة الأكل، لذة الشرب، تستمد استمرارها من الفكر، ومجرَّد السيطرة على هذه اللذة التي يستجلبها الفكر أو قمعها لا معنى له؛ إنه لا يولِّد سوى مختلف أشكال النزاع والقَسْر.
الفكر – وهو من طبيعة مادية – ليس بمقدوره طلب ما يتعدى الزمن؛ إذ إن الفكر هو الذاكرة، والاختبارُ في نطاق تلك الذاكرة ميتٌ كورقة شجر من الخريف الماضي، سواء بسواء.
في وعي هذا كلِّه يأتي الانتباه، الذي ليس نتاج عدم الانتباه. فعدم الانتباه هو الذي أملى عادات الجسم اللذيذة وذوَّب حدَّة الشعور. وعدم الانتباه لا يمكن له أن يصير انتباهًا. أما وعي عدم الانتباه فهو انتباه.
رؤية هذه السيرورة المعقدة برمَّتها هي التأمل، الذي منه وحده يحلُّ النظام في هذا التشويش. وهذا النظام مطلق، مثله كمثل النظام في الرياضيات؛ ومن هذا النظام يتم العمل – الفعل الآني المباشر. والنظام ليس الترتيب والتصميم والتناسب: فهذه تأتي بعده بوقت طويل. النظام ينبثق من ذهن غير مزدحم بأشياء الفكر. وحين يصمت الفكر يسود فراغ، هو النظام.
33
كان نهرًا رائعًا حقًّا، وسيعًا، عميقًا، على ضفتيه مدنٌ كثيرة جدًّا، لا يبالي في حرِّيته بشيء، ومع ذلك لا يترك ذاته على عواهنها. كانت الحياة كلُّها هناك على ضفتيه: حقول خضراء، غابات، بيوت متوحدة، الموت، الحب، والدمار. كانت فوقه جسور طويلة، عريضة، رشيقة، يستعملها الناس أحسن استعمال. كانت سواقٍ وأنهار أخرى تصب فيه، لكنه كان أمَّ الأنهار قاطبة، صغيرها وكبيرها. كان دومًا ممتلئًا، أبدًا يتطهَّر. وفي تلك الأمسية كانت مشاهدتُه بَرَكة، بوجود لون الغيوم المائل تدريجيًّا إلى الدكنة ومياهه الذهبية. لكن وشل المياه الضئيل بعيدًا، بين تلك الصخور الماردة التي بَدَتْ منشغلة كلَّ هذا الانشغال في استيلاده، كان بداية الحياة، بينما كانت نهايتها أبعد من ضفافه ومن البحار.
كان التأمل أشبه بذلك النهر؛ غير أنه كان بلا بداية ولا نهاية. كان يبدأ، ونهايته كانت بدايته. لم يكن من سبب ثمة، وحركته كانت تجدده. كان جديدًا دائمًا؛ لم يكن يتراكم أبدًا ليصير قديمًا؛ لم يكن يتلوث أبدًا لأنه كان بلا جذور في الزمن. ما أطيب أن يتأمل المرء، من دون قسر، من دون بذل أيِّ جهد، بادئًا بوَشَل صغير، ثم ماضيًا أبعد من الزمن والمكان، حيث الفكر والإحساس لا يستطيعان الدخول، وحيث تنعدم التجربة.
34
التأمل هو الإطلاق الكامل للطاقة.
35
في الحيِّز الذي يوجِده الفكر من حوله ليس ثمة محبة. فهذا الحيِّز يفصل الإنسان عن الإنسان؛ وفيه تجري الصيرورة برمَّتها، معركة الحياة، العذاب، والخوف. التأمل هو إلغاء هذا الحيِّز، هو إنهاء "الأنا". إذ ذاك يكون للعلاقة معنى مختلف تمامًا؛ ففي ذلك الفضاء، الذي ليس من صنع الفكر، ينعدم وجود الآخر، لأن وجودك أنت ينعدم.
التأمل، إذن، ليس طلب رؤيا ما، مهما يكن تقديس الموروث لها. إنه، بالأحرى، ذلك الفضاء اللانهائي الذي لا يمكن للفكر ولوجُه. أما في نظرنا، فإن الحيِّز الضئيل الذي يصطنعه الفكر من حوله – وهو "الأنا" – هو على غاية من الأهمية؛ إذ إنه كلُّ ما يعرفه الذهن، متماهيًا مع كلِّ شيء يوجد في ذلك الحيِّز. والخوف من انعدام الوجود يولد في ذلك الحيِّز. أما في التأمل، حين يُفهَم هذا حقَّ فهمه، فيمكن للذهن ولوج بُعْدٍ من الفضاء حيث الفعل هو لافعل.
نحن لا نعرف ماهية المحبة؛ ففي الحيِّز الذي يصطنعه الفكر من حوله بوصفه "الأنا"، يكون الحب هو النزاع بين "الأنا" و"اللاأنا". وهذا النزاع، هذا التعذيب، ليس حبًّا.
الفكر هو حصرًا انتفاء المحبة، وهو لا يستطيع أن يلج ذلك الفضاء حيث "الأنا" غير موجودة. في ذلك الفضاء تسري البَرَكة التي يطلبها الإنسان ولا يجدها. إنه يطلبها ضمن نطاق الفكر، والفكر يدمِّر وَجْدَ هذه البَرَكة.
36
الاعتقاد ليس ضروريًّا، كما هي المُثُل: كلاهما يبدِّد الطاقة المطلوبة لمتابعة تفتُّح الواقعة، تفتُّح "ما هو موجود". المعتقدات، كالمُثُل، مهارب من الواقع؛ وفي الهروب ليس من نهاية للأسى ثمة. إنهاء الأسى هو فهم الواقع من لحظة إلى لحظة. وليس ثمة منهج أو طريقة توصِل إلى الفهم. وحده وعي لا اختيار فيه لواقعة من الوقائع من شأنه أن يفعل. التأمل وفقًا لمنهج ما هو تجنب لواقع ما أنت إياه. لذا فأهم بما لا يقاس أن تفهم نفسك – أن تفهم التغير الدائم للوقائع عن نفسك – من أن تتأمل من أجل أن تجد الله أو تحصل على رؤى وإحساسات وضروب أخرى من التسلية.
37
التأمل في تلك الساعة كان حرية، وكان أشبه بالدخول في عالم مجهول من الجمال والسكينة. كان عالمًا بلا صور ولا رموز ولا كلمات، بلا أمواج من الذاكرة. والمحبة كانت موت كلِّ دقيقة، وكلُّ موت كان تجديد المحبة. لم تكن تعلقًا؛ إذ كانت بلا جذور. كانت تزهر بلا سبب، وكانت لهبًا يحرق الحدود، أسوار الوعي المرفوعة بكلِّ حرص. كانت هي الجمال أبعد من الفكر والشعور؛ لم تكن ململمة على قماشة، في كلمات، أو في الرخام. التأمل كان فرحًا – ومعه حلَّت بَرَكة.
38
تفتح المحبة هو التأمل.
39
في التأمل، على المرء أن يكتشف فيما إذا كانت ثمة نهاية للمعرفة، وبالتالي تحرر من المعلوم.
40
كانت السماء قد أمطرت بغزارة طوال الليل والنهار، وأسفل الغبيب كانت الساقية الموحلة تصب في البحر، جاعلة إياه بنيًّا بلون الشوكولاته. وأنت تسير على الشاطئ كانت الأمواج هائلة، وكانت تتكسر بقوة خارقة، راسمة انحناءات بديعة. كنت تسير بعكس اتجاه الريح – وفجأة، شعرت بأن لا شيء يفصل بينك وبين السماء – وهذا الانفتاح كان الفردوس. أن تكون هكذا منفتحًا تمامًا، معرَّضًا – للتلال، للبحر، وللإنسان – ذلك بعينه هو جوهر التأمل.
ألا تُبدي أية مقاومة، أن تنعدم حواجزُك الداخلية نحو أيِّ شيء، أن تكون حرًّا حقًّا، طليقًا تمامًا، من النوازع الطفيفة والدوافع القاهرة والمطالب، بكلِّ ما فيها من نزاع ونفاق وضيع – هو أن تسير في الحياة بذراعين مشرعتين. وفي تلك الأمسية، وأنت تسير هناك على تلك الرمال الرطبة، ونوارسُ البحر من حولك، كنت تشعر بذلك الشعور الخارق بالحرية المشرعة وبجمال المحبة العظيم الذي لم يكن فيك ولا خارجك – بل في كلِّ مكان.
نحن لا ندرك مبلغ أهمية أن نكون أحرارًا من الملذات النقَّاقة وأوجاعها، بحيث يبقى الذهن وحده. وحده ذهن متوحد تمامًا ذهنٌ مفتوح. شعرتَ بذلك كلِّه على حين غرة، كريح عظيمة كنست الأرض وتخلَّلتْك. هناك كنت – متجردًا من كلِّ شيء، فارغًا – وبالتالي منفتحًا تمامًا. جمال الأمر لم يكن في الكلمة ولا في الشعور، بل كان يبدو في كلِّ شيء – حولك، فيك، فوق المياه، وفي التلال. التأمل هو هذا.
[/formatting]