08-17-2013
|
#12 |
بيانات اضافيه [
+
] | رقم العضوية : 34 | تاريخ التسجيل : May 2013 | أخر زيارة : 11-09-2016 (09:29 PM) | المشاركات : 531 [
+
] | التقييم : 6511 | SMS ~ | | لوني المفضل : Cadetblue | | * الفصل التاسع *
في حديقة الجامعة يحلو اللقاء، لا سيما في فصل الربيع الذي يحفها بهالة من
الروعة والجمال، تفتن الناظر، وتشده إليها ليستمتع بخضرتها الخلابة، ويغرف
من عبقها الفواح فيغسل به روحه المتعبة من أدران الحياة ... وبين أزهارها المتألقة، وفي ظلال أشجارها الباسقة، وعلى بساط سندسي
ممتد من الحشائش الخضراء كان الطلبة يتحلقون في مجموعات منسجمة،
غارقين في أحاديث شتى.. عن الجامعة.. وعن المستقبل.. وعن الحياة بكل
ما فيها، يطرحون المشاكل ويتبادلون الآراء، وتند عنهم الصيحات
والضحكات التي تضفي على جو الحديقة حياة فريدة، تبعثها أرواح شابة
تخفق بأعذب الأحلام والآمال وهي تتلمس طريقها إلى غدها الواعد
ومستقبلها المنشود ... وفي ركن هادئ من أركان الحديقة الفسيحة، كان عصام يجلس على كرسي
منعزل، منهمكاً في مطالعة مجلة طبية كان قد استعارها من مكتبة الدكتور
إياد، وبين الحين والآخر كان يرمي بنظراته الهادئة إلى خضرة الحديقة الموشاة
بالأزهار والرياحين، فتشف روحه وتحلق في عالم من الصفاء المريح، فتقبس
منه قبسات لذيذة تغرق كيانه بالسعادة، وتبعث في ذهنه النشاط، فيعود إلى
المجلة في شوق، ليلتهم سطورها في شهية للمعرفة لا تقاوم لا يزعجه إلا تلك
الهمهمة الغامضة التي تصدر عن أحاديث الطلبة المختلطة القادمة من بعيد،
يتخللها فاصل متقطع من وقع الأقدام العابرة، وهي تقطع الطريق إلى غايتها
عبر الأرصفة التي تخترق الحديقة الغناء . وانساب إلى سمعه صوت هادئ يلقي عليه السلام، فرفع إلى صاحب
الصوت عينين تشعان وداً واحتراماً، ونهض إليه في لهفة وشوق وهو يمد له
يد الترحيب :
- وعليكم السلام.. أهلاً سعد ..
قال سعد بعد أن تصافحا بحرارة الأصدقاء وقد احتفظ كل منهما بيد
الآخر في كفه وهو يشد عليها في مودة ظاهرة وكأنه لا يريد أن يفارق
صاحبه :
- كيف أنت يا عصام؟ - في شوق إليك يا صديقي.. ألا تجلس معي؟
- بودي أن أجلس، لكني أراك مشغولاً.. ما الذي تقرأه؟ .. مجلة طبية صادرة عن الجمعية الأمريكية للسرطان.. اقرأها إن أحببت .
- لا بد وأنها تحوي أبحاثاً قيمة ...
- فيها بحث طويل عن التدخين وعلاقته بسرطانات الرئة، اجلس معي فأنا
في شوق لأحاديثك الممتعة . - قلب سعد صفحات المجلة بسرعة وقال وهو يهم بالجلوس :
- لو تعلم كم سررت عندما رأيتك جالساً هنا ..
- لم نجلس معاً منذ زمن !!.
-لقد أصبحت صيداً ثميناً في هذه الأيام. لم يعد أحد يراك خارج أوقات
الدوام.. تأتي مسرعاً وتخرج مسرعاً وكأنك لا تعيش معنا في كلية واحدة !! -ماذا أفعل يا صديقي..
الواجبات أكثر من الأوقات كما يقول الدكتور
إياد، ولولا هذا التعديل الذي طرأ على برنامج اليوم بتأخير موعد المحاضرة
مقدار ساعة لما صادفتني هنا .
هتف سعد كمن تذكر :
- آه .. صحيح ما أخبارك مع الدكتور إياد؟؟
- أخبار طيبة.. علم غزير، وخبرة متنامية، وصحبة كريمة لرجل عظيم
وأستاذ جليل، يمدك دوماً بملاحظاته الدقيقة ونصائحه العميقة وتجاربه
الثرية .. همس سعد وهو يرمق صديقه في إعجاب :
-عصام.. إنك تدهشني.. كيف تستطيع أن توفق بين دراستك وملازمتك
للدكتور إياد وأمورك الأخرى؟
زفر عصام زف رة عميقة وشت بما يعانيه من إجهاد وعناء وقال : لا أكتمك يا سعد، إني أعاني من كثافة المشاغل وضيق الوقت وضغط
الأعباء، لكن تشجيع الدكتور إياد وإصراري على تحقيق طموحي، هما
اللذان يدفعاني للمتابعة ولولاهما لكنت تراجعت منذ زمن.. هل تعلم؟..
لقد خفَّ وزني خلال الأشهر القليلة الماضية سبعة كيلو جرامات .
- وكم تنام في اليوم ؟
-خمس ساعات تقريباً. الوالدة تنهرني، فأمنيها بالمستقبل فترضخ لإرادتي
على مضض، علماً بأنَّ سكني الجديد في عمارة الدكتور إياد قد وفّر علي
الكثير من الوقت والجهد فهو كم تعلم قريب من الجامعة وقريب من – –
عيادة الدكتور إياد في آن واحد ..
- وبيتكم القديم.. ماذا فعلتم به؟
-لقد أجرناه لنستفيد من أجرته.. سعد.. لماذا لا تنضم إلينا.. لقد حدثتني
كثيراً فيما مضى عن اهتمامك بالسرطان وميلك للاختصاص فيه، كما أن
الدكتور إياد سيرحب بانضمامك فهو يمدح دائماً تفوقك وسلوكك الممتاز . -حقاً؟.. هذه نظرة أعتز بها.. كان بودي الانضمام إليكما لكني بصراحة
لا أملك جلدك ودأبك.. سأكتفي بزيادة مطالعاتي حول السرطان ريثما
أتخرج ثم .. وقطع حديثهما صوت بعيد يلقي التحية فرد عليه سعد :
- أهلا ((عرفان)).. هلم إلينا . وأردف عصام :
- تعال إلى هنا يا عرفان، لم نرك منذ زمن ..
مضت برهة ريثما انضم اليهما عرفان وقد بدا سعيداً بلقائهما وابتسامته المعهودة تتوج ثغره الضاحك وما إن وصل حتى ارتمى بينهما على الكرسي
الخشبي الطويل قائلاً لعصام :
- لتتكلم عن نفسك يا عصام، أنت الذي لم تعد تظهر بيننا. لقد
استغ رقتك مشاغلك الكثيرة وأبعدتك عنا.. يجب أن تعترف بذلك يا
أستاذ ... ثم وهو يلتفت بحديثه إلى سعد :
لقد أصبح الأخ كالبدر.. يظهر كل شهر مرة، وقد لا يظهر ...
ثم التفت إلى عصام ثانية وقال :
-أصبحنا لا نراك إلاّ مسرعاً.. تأتي إلى المحاضرات وهي توشك على البداية
وما إن تنتهي حتى تطوي كراستك وتمضي.. تصور يا سعد.. ((عصام
السعيد)) أصبح يجلس في الصفوف الأخيرة من المدرج، وهو الذي لم يتنازل
عن مكانه في الصف الأول منه منذ السنة الأولى. هل تذكر كيف كان
يحجز لنا المقاعد الأمامية؟
ثم أردف ضاحكاً :
- كان الطلبة يندهشون لوجودي في الصف الأول وأنا المشهور بالتأخر
المزمن عن المحاضرات... (( ها.. ها.. ها )).
ضحك الثلاثة في ود ثم ما لبث عرفان أن استأنف حديثه قائلا : -أنت السبب يا عصام فلا تسألن عن قلة رؤيتنا لك.. أنت الذي لم تعد
تسعى للقائنا، أما نحن فإننا نلتقي دائماً.. أنا وسعد ومجدي وبهاء وعثمان
و.. على فكرة.. نحن مدعوون مساء الثلاثاء القادم على مأدبة عشاء فاخرة
عند عثمان، ولن ندعوك طبعا. تساءل عصام في مرح :
- ولماذا؟
-لأنك يا عزيزي أصبحت تنتمي إلى طبقة جديدة.. طبقة العلماء
والباحثين والحفلة معدة لطبقة الطلبة المساكين، فأين نحن منك يا
صديقي؟.. أين الثرى من الثريا؟ !
ضحك عصام طويلاً ثم قال :
- سامحك الله يا عرفان.. منذ متى لم أضحك هذا الضحك !
- جميل أن تجد وقتاً لتضحك.. بودي لو كان بحوزتي آلة تصوير .. لماذا؟ !..
-لأجمد هذه اللحضات وأحصل على صورة لك وأنت تضحك قبل أن
تنقرض الضحكة من على شفتيك . ثم نهض عرفان وهو يقول :
- ائذنا لي الآن.. لدي ((مشوار)) مهم قبل أن يحين موعد المحاضرة .
هتف عصام في توسل وهو يشده من يده ليجلس :
- ابق معنا يا عرفان.. حديثك يمتعني.. لتؤجل ((مشوارك)) هذا .
صاح عرفان :
- إلا هذا ((المشوار ))...
- يبدو أنه على درجة من الأهمية !.
مال عرفان على عصام وهمس:د
- لقد صدقت فأنا على موعد مع القمر .
- القمر؟ !..
قال سعد وقد سمع تحاورهما :
- يقصد خطيبته.. إنها طالبة في كلية الآداب، وهو ينتهز الأوقات
لرؤيتها ...
- حقاً؟.. مبروك.. ألف مبروك يا عرفان.. لماذا لم تخبرني بذلك؟ .
- ومتى رأيتك حتى أخبرك؟
- كفاك يا عرفان.. لقد أوغلت في المبالغة !
قال عرفان وقد انحنى فيما يشبه الركوع ويداه تستندان على فخذيه :
-قد أكون مبالغاً، لكن صدقني أنك أصبحت وكأنك تنتمي إلى عالم
آخر ...
- عالم آخر !..
- أجل... عالم آخر .
ثم قهقه قائلاً وهو يمضي :
- إنه عالم السرطان ...
* * * يتبـــــــــــــــع |
| |