شعاع الروايات العالمية اقتباس من الروايات العالمية |
الإهداءات |
| LinkBack | أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
#1
| ||||||||||||
| ||||||||||||
* الفصل الخامس * عندما وصل عصام إلى مكتب الدكتور إياد في الطابق الثالث من مبنى كلية الطب، توقف لحظة ريثما تأكد من سلامة هندامه، ثم طرق الباب طرقاً خفيفاً، وقف ينتظر الإذن بالدخول .. وأطل من وراء الباب وجه جميل اضطرب له فؤاده، وأطاح بهدوئه فراحت الكلمات تتلعثم على شفتيه : - (( ص .. صباح الخير)).. الدكتور إياد موجود؟ .. لم تكن سامية أكثر تماسكا، فقد احمرت وجنتاها، ورمشت عيناها، وقالت هي تغض طرفها في حياء : - (( صباح النور )) .. لحضات ويأتي ... أعتقد أن لديه ساعة فراغ ... - هذا صحيح.. إنه على وشك الوصول . - حسناً.. سأعود بعد دقائق . واستدار عصام يريد أن يمضي لكنه رأى الدكتور إياد قادماً فتوقف بانتظاره.. ومضت لحضات قليلة ريثما وصل الدكتور إلى مكتبه قاطعاً الممر الطويل، فصافح عصاماً بحرارة ثم قال مرحباً وهو يجلس وراء مكتبه : - أهلا بك يا بني.. خطوة عزيزة ... قال عصام وهو يتقدم بخطىً أثقلها الإحترام : - أرجو أن يكون لديكَ متسع من ال وقت للحديث .. - الوقت جدّ مناسب.. فلدي الآن ساعة من الفراغ . - من حسن حظي أن لا أجد لديك مشاغل أخرى ... قال الدكتور إياد وهو يشير إلى عصام وسامية بالجلوس : - (( في الحقيقة يا عصام المشاغل لا تنتهي.. فالواجبات أكثر من الأوقات كما يقولون، لكن هناك أولويات.. أريد أن أقول لك شيئاً: أنا ضد هذه الهوة التي تفصل بين الطالب والأستاذ في بلادنا، فالأستاذ في رأيي – - يجب أن يكون أكثر من مدرس لاختصاص ما.. يجب أن يكون أباً لطلابه، وصديقاً وتلميذاً في بعض الأحيان )). رفع عصام حاجبيه دهشة، فسارع الدكتور إياد إلى تبديد دهشته : - (( لا تستغرب كلامي.. هذا ليس تواضعاً، ولكنه حقيقة.. أنا مثلاً أخصائي في ))علم التشريح المرضي(( ولكنك أنت أو غيرك أعلم مني – - في مجالات أخرى خارج اختصاصي. وعليّ أن أتقبل منك معارفك بنفسيه )) التلميذ الذي يطلب العلم ويسعى إليه.. إننا في الحقيقة جميعاً تلاميذ – - نغرف من بحر المعرفة الزاخر الذي لا ينتهي، وسنظل عطشى مهما ابتغينا الإرتواء، ومهما أوغلنا فيه فسنجد أنفسنا ما زلنا على الشطآن .. ثم قال وهو يهز رأسه في أسف : - يؤسفني أن لا يوجد في بلادنا ذلك التفاعل الاجتماعي والثقافي بين الطالب والأستاذ.. الجامعة يا عصام مؤسسة علمية وثقافية وسياسية في آن واحد.. مؤسسة خطيرة، لها دورها الكبير، وأثرها الفاعل في المجتمع.. وعن طريقها تتقدم الأمة ويقوم بناؤها الحضاري المنشود، لكنك في جامعاتنا تقرأ معالم تخلفنا البغيض. إننا لا ننظر إلى الجامعة أكثر من أنها مرحلة زمنية.. مرحلة ما بعد الشهادة الثانوية وما قبل العمل والاستقرار. للأسف الشديد نحن نشكون من عقد كثيرة تحبط كل محاولات النهوض، لا تؤاخذني يا بني إذا أطلت .. - أبداً.. أبداً.. بودّي لو أسمع المزيد ... - إنها همومنا اليومية التي لا مناص لنا من تداولها، والطب علّمنا أن العلاج الصحيح يجب أن يسبقه تشخي دقيق، لذلك فأنا أحاول دائماً أن أشخ أمراضنا الإجتماعية. والآن ماذا وراءك يا عصام.. كنت أتوقع مجيئك . أجاب عصام وهو يرنو إلى أستاذه بعينين تشعّان حباً وإعجاب اً : - أستاذ.. لا أدري ماذا أقول لك، ولا من أين أبدأ.. إنني في صراحة شديدة معجب بآ رائك ومواقفك، وكلما استمعت إلى محاضراتك أو جلست إليك، تحركت في أعماقي طاقة هائلة من الهمة والتحفز والنشاط والطموح لا أعرف كيف أوجهها !. لقد كانت محاضراتك الماضيةمحل تفكير عميق مني، وكان لمبادرتك الكريمة بتبني الطاقات العلمية أكبر الأثر في نفسي، وها أناذا أطلب أبوتك العلمية، راجيا منك أن تصنعني كما تريد، فإني نذرت نفسي للطب، وبالتحديد لمشكلة السرطان . اهتز الدكتور إياد لكلمات عصام ورأى فيه بارقة أمل تبشر بولادة فجر جديد.. فجر عظيم لطالما انتظره وحلم به .. - لو كان شبابنا كلهم من هذا الطراز، إذا لطوينا حياة التخلف والتمزق والانهيار التي نحياها، وحرقنا المراحل في طريقنا إلى المستقبل الذي نتطلق إليه واستعدنا مكانتنا المرموقة تحت الشمس، ولكن .. آه ... فكر الدكتور إياد في هذا وقد شبك يديه تحت ذقنه وعيناه تسبحان في تأمل عميق ... أما عصام فقد كانت يده المبسوطة على المنضدة تعاني من اضطراب حركة أصابعها وكأنها تداري بذلك ارتباكه بينما راحت اليد الثانية تشد على حافة الكرسي الجلدية، وقد رطبتها بالعرق من فرط الإنفعال . وكانت سامية تتأمل هذا المنظر المؤثر بإكبار، وترمق عصاماً بإعجاب.. هذا هو الشاب الذي تحلم به.. هذا هو فارس أحلامها المنشود.. لقد تهاوت أمامه الآن أسوار الحيرة والتردد التي كانت قائمة في قلبها إزاءه ليقتحمه فيحتله إلى الأبد ... قال الدكتور إياد بنبرات قوية معبرة بعد أن مضت لحضات من الصمت الحافل بالانفعال : اسمع يا بني.. قد لا أتقن صناعة الرجال، لكنّي أملك أن أضع قدميك على أول الطريق، وأوجه خطاك نحو القمة .. سأعطيك أول الخيط، وسأدعمك بكل ما أستطيع لتصنع نفسك بنفسك.. بالعزيمة والتصميم.. بالصبر والتعب.. بالعمل المضني الدؤوب ... ثم بعد صمت قصير : - هل لي أن أعرف نبذة عن وضعك الاجتماعي؟.. إذا سمحت طبعا؟ .. أجاب عصام وقد فاجأه السؤال : - بكل سرور، ولكن اسمح لي أن أوضح لك بأنني إنما أريد الدعم العلمي والأدبي فحسب، أما المادة فهي متوفرة والحمدلله ... قال الدكتور إياد وهو يحرك يده حركة من يطلب التريث : - لحظة من فضلك.. لنكن صرحاء.. إن الطريق الذي سوف تسلكه طريق صعب طويل يحتاج لكل شئ. ونحن جميعاً إنما نعمل لغاية عظيمة تتطلب منّا أن نتجاوز الكثير من اعتباراتنا الشخصية حتى نحققها على الوجه المطلوب. وأنا عندما سألتك عن وضعك الاجتماعي لم أقصد الوضع المادي فحسب، بل طلبت بصورة عامة تشمل كل شئ في حياتك الاجتماعية يمكنك أن تصارحني به. لننسَ أنني أستاذك في الجامعة... اعتبرني بمثابة والدك إذا سمحت؟ وشعرت سامية بأن وجودها قد يربكه فنهضت وقالت : - (( بابا)) هل تسمح لي بالإنصراف؟ لكن عصاماً قال بلهجة دلت على تمسكه ببقائها : - لعلك تريدين الإنصراف لأجلي.. أرجو أن تجلسي إن كان الأمر كذلك... استسلمت سامية لإرادة عصام وقد نفذت كلماته إلى أعماقها، ففهمت مراده بحاسة الأنثى.. إنه يريدها بقربه.. يريدها أن تسمع كلامه... أن تعرف عنه كل شئ.. وجلست دون أن تنبس، وعلى شفتيها ابتسامة امتنان . قال الدكتور إياد : - اجلسي يا سامية.. إن عصاماً لديه من الجرأة الأدبية ما يجعله يقول ما يريد دون حرج. لقد سبرت أغواره منذ زمن . قال عصام : - أشكرك على هذه الثقة. في الحقيقة أنا أعيش وحيداً مع والدتي في بيت نملكه ... مات أبي منذ فترة طويلة.. كان تاجراً ميسوراً، وقد ترك لنا بعض الأموال والعقارات التي ما زلنا نعيش منها حتى الآن، دون أن نحتاج أحداً.. لي أخت متزوجة وهي تقيم مع زوجها الذي يعمل في السعودية.. ولي أيضاً عم مغترب في الأرجنتين منذ زمن بعيد.. هذا كل شئ .. وقف الدكتور إياد، وراح يذرع المكتب جيئة وذهاباً، وهو غارق في التفكير، أما سامية فقد فهمت الآن مصدر الحزن الصامت الذي يوشح دائماً وجه عصام ويطل من نظراته.. لقد عانى بلا شك من الحرمان إلى حنان أبيه، وتفتح وعيه على مأساة باكية تسربت كآبتها إلى طبعه وترسبت في وجدانه. وراحت تسترق إليه نظرات تنطق بالرثاء ... توقف الدكتور إياد فجأة وقال : - دعنا نشرح الأمر كما يلي .. لديك منهاجك الدراسي الواسع، لا سيما وأنت الآن على أبواب التخرج، ولديك اهتمامك بالخاص بأبحاث السرطان، والذي يتطلب منك رؤية الحالات السرطانية المختلفة، ودراسة تشريحها المرضي، وملاحقة كل جديد يصدر في المجلات الطبية حول هذا المرض. وهذا يتطلب منك أن تكون قريبا من عيادتي ومختبر أبحاتي لأطلعك باستمرار على الحالات التي تأتيني. وبذلك تتعمق خبرتك بهذا المرض، فإذا ما ذهبت للإختصاص برعت فيه. وتفوقت على زملائك ونلت أعلى الشهادات وحزت على إعجاب أساتذتك وتقديرهم.. بالمناسبة أنا أعرف عدداً من العلماء المهتمين بأبحاث السرطان في أمريكا بصفتي زميلاً في )) الجمعية الأمريكية للسرطان(( بما فيهم الدكتور ))فرانكلين جاكسون(( رئيس الجمعية وأنا على صلة مستمرة به، حيث نتبادل الآراء حول آخر ما يجدُّ من أبحاث ونظريات ومعالجات لهذا المرض، وسوف أحدثه عن طموحك، وأطلب منه أن يتدخل من أجل قبولك في إحدى الجامعات الأمريكية، وهو لن يتأخر، لاسيما عندما يرى وثيقة درجاتك المشرفة والتي ستتوجها هذا العام بتخرج متفوق إن شاء الله.. بالمناسبة.. حاول أن تحضر لي صورة وثائق تخرجك بمجرد صدورها حتى أتمكن من إرسالها إلى أمريكا في أقرب وقت .. - قال عصام والفرحة تغمره : - دكتور.. لا أدري كيف أشكرك على هذا الاهتمام.. إن اندفاعي للتعاون معك يزداد يوماً بعد يوم !. قال الدكتور إياد وهو يرمق عصاماً في عتاب : - إنما أقوم بواجبي يا بني، أم أن الواجب أمسى في نظرك تطوعاً نبيلاً يستوجب الشكر والثناء؟ قال عصام وهو يداري ارتباكه أمام عتاب أستاذه الرفيق : - إذا لم يشكرك لساني فيشكرك قلبي.. إن لم يكن لأنك تقوم بواجبك فلأنك تعلمني ما هو الواجب . ابتسمت سامية لهذا الرّد اللبق بينما سأله الدكتور إياد : - كيف لغتك الإنكليزية؟ - جيدة والحمدلله.. إنني أقرأ المراجع المكتوبة بالإنجليزية بطلاقة . - حسن جداً.. فلتكثر من ذلك حتى توفر على نفسك سنة اللغة التي يحتاجها الطلبة عادة لتقوية لغتهم وهذه مكتبتي تحت تصرفك لك أن تستعير منها المرجع الذي تريد . - شكرا لك، ولكن.. كيف سنتعاون؟.. أقصد كيف سيكون برنامجنا معاً؟ .. قطّب الدكتور إياد وجهه مفكراً ثم همس بنبرة حائرة / - في الحقيقة هذا ما أفكر فيه .. - أنا مستعد للتوفيق بين دراستي وتعاوني معك مهما كانت أعباؤه، وما هي إلا أشهر وتمضي.. سأتحمل تبعها وأمري إلى الله . قال الدكتور إياد في حماس وقد أضاء وجهه بابتسامة مشرقة : - في الحقيقة لديّ فكرة.. فكرة علمية جداً.. تحلّ لنا الكثير من المشاكل وتوفر لنا المزيد من الوقت مما يساعدك على إنجاز مشروعك بنجاح.. لكنها فكرة غريبة بعض الشئ وقد تتشنج إزاءها !... - أقبلها مهما كانت . لا تتسرع... اسمعها ثم اعطني رأيك بصراحة.. لعلك لا تعلم أني أملك عمارة كبيرة مؤلفة من ثلاثة طوابق وكل طابق مؤلف من شقتين، خصصت الطابق الأرضي للعيادة والمختبر، وأشغل أنا وأسرتي الطابق الثاني بشقتيه، بينما الطابق الثالث فارغ، ولا أنوي استعماله أو تأجيره حالياً، فما رأيك لو انتقلت أنت والوالدة إلى إحدى الشقتين الخاليتين، وبذلك نستطيع تنسيق أوقاتنا بما يناسب ظروفك ويحقق طم وحك.. فما رأيك؟ استغرب عصام لهذا العرض، وأدهشه هذا التحمس من الدكتور إياد، واهتزت نفسه لهذه الأريحية، فأطل التردد من عينيه، وقال : - لقد فاجأتني بهذا العرض، ولا أدري ماذا أقول؟ - ألم أقل لك لا تتسرع بالجواب.. فكر بالموضوع مع الوالدة . - بالنسبة لي لا توجد مشكلة، فأنا مستعد لكل ما يخدم مشروعنا، ولكن الوالدة قد تمانع في ذلك، كما أنني أريد أن أعرف طريقة السكن عندك. هل هو سكن بالأجرة؟.. أم أنك ستبيعنا البيت؟.. ثم لا بد من دراسة ظروفنا المادية على أساس هذه الطريقة !.. قال الدكتور إياد وهو يبتسم في هدوء : - سامحك الله يا بني.. اعتبرها ضيافة، أم أنك لا ترغب في جواري؟ - معاذ الله، ولكن الوالدة حساسة جداً في مثل هذه القضايا.. إنني أعرفها جيد اً . أرسل الدكتور إياد تنهيدةً وقال : - بالنسبة للقضايا المادية سنسويها كما ترتاح أنت ووالدتك، أم بالنسبة لموقف والدتك، فمهما كان صعب اً فلن يصعب على ابنها الغالي.. أنا أب يا عصام وزوجتي أم، وأعرف ضعف الأم أمام رغبات أبنائها، لا سيما أمثالك.. هذه سامية أمامك، اسألها كيف تقنع أمها بما لا تريد ... ابتسمت سامية ولاذت بالصمت، بينما قال عصام : - أعدك بأني سأدرس معها الفكرة، وأحاول إقناعها .. - وإن لم تقتنع فسأتدخل شخصياً لتحقيق ذلك. والآن أرجو أن تسمح لي فقد اقترب وقت المحاضرة ولا بد من التحضير لها . قالت سامية وهي تهم بالنهوض / - أترى يا عصام إن والدي يهتم بك أكثر من اهتمامه بابنته . تساءل عصام متجاوبا مع دعابتها : - لعلها الغيرة؟ !. - بل هي الغبطة با بني . هكذا قال الدكتور إياد وهو يضحك ضحكته المميزة، وقد أضمر في نفسه شيئ اً !. * * * يتبـــــــــــــــع |
08-10-2013 | #2 |
| * الفصل السادس * إن فرحة عصام اليوم بلا حدود.. فها هي الأقدار تبتسم له وتدفعه إلى آماله دفعاً.. إنه يحس الآن بالحياة من حوله حلوة نضرة لأنه صاحب هدف كبير بات يعرف الطريق إليه ... وكلما تذكر وعد الدكتور إياد له بتأمين قبوله في أمريكا، وفي الفرع الذي يصبو إليه، غمرته السعادة، وتملَّكله السرور، وطغى عليه الإبتسام ... وفي غمرة الأحاسيس المتدفقة بالبهجة والفرح كان طيف سامية لا يفارقه.. فقد أضحت روحه التي يحيا بها، وقلبه الذي يخفق بين جوانحه.. لقد شعر اليوم أنها قريبة منه أكثر من أي وقت مضى، وفهم من كلماتها ونظراتها ومشاعرها نحوه، وتأكد من ميلها إليه . ولاح إليه المنزل من بعيد فأوسع الخطوَ إليه.. يحدوه الشوق لأن يبث أفراحه الجديدة إلى أمه الحنون.. ووصل إلى البيت فقرع الجرس كعادته ليشعر أمه بقدومه، ثم أدار المفتاح في القفل ودلف إلى الداخل وهو ينادي في لهفةٍ عارمة : -(( ماما)) .. ((ماما))((.. أين أنت يا ))((ماما))؟ وأجابه صوت عميق من وراء الجدران : - أنا هنا في المطبخ.. ماذا هناك؟ .. ألقى عصام كتبه على طاولة الصالون، واتجه إلى المطبخ في خفة ومرح، وما إن رآها حتى هتف : - (( ماما)). أنا فرحان.. أنا سعيد.. لو تعلمين كم أنا سعيد ... تساءلت الأم في دهشة وابتسام : - أسعد الله أيامك كلها، ولكن أخبرني ما الذي حدث؟ - ماذا أخبرك يا أماه؟.. عما قريب ستتحقق كل أحلامي وآمالي. إن الأفراح تأتي على ما يبدو دفعة واحدة . - ما الذي تتحدث عنه بالله عليك؟.. أشركني في فرحتك؟ - أماه... أنا جائع... جائع جداً.. أريد أن آكل.. أن أستمتع بطعامك الطيب اللذيد.. على فكرة.. ماذا طبخت لنا اليوم؟ - أكلة لذيذة ستأكل أصابعك بعدها.. إنَّها ملفوف ورق العنب التي تحبها جد اً . - (( ممم)).. شئ لذيذ حقاً.. هيا نحضر الطعام معاً، ثم أق عليك ما جرى .. كانت الأم تسكب الطعام في الصحاف في خفة وسرور مبعثه هذا التغير الطارئ الذي بدا فيه ابنها فرحاً سعيداً بينما كان عصام ينقل تلك الصحائف إلى طاولة الطعام في همة ونشاط. وما هي إلا دقائق قليلة حتى التأم شملهما حول المائدة وشرعا في تناول الغداء ... قال عصام وهو يلتهم إصبعاً من أصابع الملفوف الطازج : - أماه.. تعرفين مدى حبي للطب، وطموحي للإختصاص في أحد فروعه، وبالتحديد مرض السرطان ... صاحت الأم في فزع وقد تقلصت ملامحها : - أعوذ بالله... لعنه الله ولعن سيرته !!!. ضحك عصام وقال : - (( ماما)).. السرطان لا يذهب باللعنات، ولو كان الأمر كذلك لنذرت عمري في لعنه.. لا بد من العمل.. من البحث والتجريب.. إنه داء فتاك يحير العلماء.. ويحتاج لمن يسبر أسراره ويكتشف علاجه الشافي . - لعنه الله ألف مرة.. واللّه كلما ذكر اسمه المشؤوم أمامي شعرت بالقشعريرة تسري في جسدي . قال عصام وهو يتحول إلى الجد : - لعنه الله مليون مرة.. المهم في الحديث أنّ الدكتور إياد.. لقد حدثتك عنه مرار اً ... أجل أذكره، إنك تحبه كثيرا على ما يبدو ... - هذا صحيح.. إنّه إنسان نادر.. تصوري أنه تطوع لدعم أي طالب يريد أن يخت في هذا المرض ويتعمق في أبحاثه، فما كان مني إلا أن ذهبت إليه اليوم، وقلت له أنني أتطلع للإختصاص في هذا المجال وأنني مندفع جداً لهذا الأمر فتجاوب معي إلى أبعد الحدود، ووعدني أن يرمن لي القبول في إحدى جامعات أمريكا.. إنه على صداقة حميمة برئيس الجمعية الأمريكية للسرطان ووعدني أن يحدثه عن تفوقي وطموحي . توقفت الأم عن الأكل ثم قالت والهمّ يلوح في نظراتها : - فكرة السفر هذه كم أكرهها!.. ألا يكفيك أن تتخرج وتفتح لك عيادة جيدة في مكان مرموق؟.. اسمع مني يا بني.. سوف أبيع قطعة من أرضنا التي في الريف وأفتح لك أفضل عيادة في البلد، وأحدثَها . - قال عصام وهو يصب كأساً من الماء : - سامحك الله يا أمي!. هذا الكلام كان على أيامكم، أما اليوم فإن الطبّ بلا اختصاص لم يعد عليه ذلك الإقبال، لأن علومه توسعت كثيراً، والإختصاص يؤمن للطبيب خبرة عالية وشهرة فائقة ودخل ممتاز.. ثم إنني أطمح إلى أكثر من العيادة والشهرة والمال.. أتمنى لو أصبح عالماً في الطب يا أماه، أم أنك لا تريدين لابنك أن يصبح عالماً مشهوراً؟ قالت الأم وهي تشير إلى نفسها متسائلة : - أنا؟.. إنني أتمنى أن تصبح أفضل طبيب في الدنيا، ولكني أكره أن تبتعد عني . - ولماذا أبتعد عنك؟ سآخذك معي .. إلى أمريكا؟ !.. - وإلى آخر الدنيا ... ضحكت الأم وقالت وهي تلملم حبات من الرز كانت منثورة على المائدة : - لا أدري ماذا أفعل بلسانك.. دائماً تغلبني بمنطقك الجميل . - كلامك يشجعني لأن أطرح عليك فكرة جديدة اقترحها عليَّ الدكتور إياد . - ما هي هذه الفكرة؟ - انتهى عصام من طعامه فحمد الله، ثم قال : - إن تعاوني مع الدكتور إياد سيشغل جزءاً كبيرا جداً من وقتي، فبالإضافة إلى الوقت الذي يستهلكه مني التحضير لامتحانات التخرج، سأضطر إلى ملازمة الدكتور إياد في عيادته لمشاهدة حالات السرطان المختلفة والتمرس في طرق تشخصيها وعلاجها، عدا الوقت الذي سأقضيه في مطالعة المراجع الأجنبية والمجلات الطبية، ولا تنسي الدوام في الكلية ... وكيف ستوفق بين كل هذه الأمور؟ على هذا لن تجد وقتاً حتى لتأكل؟ !. لا تخافي عليّ يا أماه،سأنظم وقتي تنظيماً دقيقاً، واقتراح الدكتور إياد سوف يساعدني كثير اً، فقد عرض عليّ بعد أن حدثته عن أوضاعنا وحياتنا الخاصة أن أنتقل أنا وأنت لنقيم في شقة ضمن عمارته التي تضم منزله وعيادته، وذلك حتى يتسنى لنا استغلال الوقت وتنظيمه بما يناسب ظروفي وظروفه ويحقق طموحي في أفضل صورة ممكنة . - ضربت الأم صدرها في جزع وهتفت كالملسوعة : - ماذا؟.. نترك بيتنا؟!.. نترك هذا البيت العامر بالذكريات؟؟ !... ثم أردفت وقد تهدج صوتها ولمعت عيناها بالدموع : - أنترك البيت الذي عشت فيه أحلى ايام عمري مع أبيك؟.. أأنرك الحديقة التي غرس أشجارها بيديه الطاهرتين؟ ... إنه ليصعب عليّ أن أفارق هذا البيت العزيز على نفسي فلا تحرجني يا بني.. بالله عليك؟ خفق قلب عصام إكباراً لهذا الوفاء وقال وقد أحسّ بغصة في حلقة : - لم أكن أتصور أنك تتعلقين بهذا البيت إلى هذا الحد !. ثم قال بعد أن مالت نفسه إلى الهدوء : - أماه.. إنني أكنّ في نفسي المشاعر ذاتها، ولكن يجب أن لا تكبلنا الذكريات فالحياة تمضي بسرعة عجيبة، وإن لم نواكب حركتها ركلتنا إلى عالم النسيان . - فلتواكبها في هذا البيت وتريحني . - لكن الدكتور إياد مصر على الفكرة، وإذا لم توافقي فسيتدخل بنفسه ليرجوك أن تسمحي بذلك.. هكذا قال لي فلا تحرجيني معه . قالت الأم وقد حارت في أمرها : - لقد أوقعني في حيرة شديدة، فلست بقادرة على ترك البيت ، ولا أرضى أن أكون عقبة في طريق مستقبلك، ثم لا يمكن أن أسكن في بيت دون أن يكون ملكي أو أدفع أجره ، هذا أمر لا أتنازل عنه بحال ... - لقد وضحت للدكتور إياد ووعدني بتسوية الأمور المادية بما يناسب الضروف، المهم عندي أن تقتنعي بأن هذا الحال سيساعدني على تحقيق المستقبل الذي أبغيه... أرجوك .. قالت الأم وقد بدأت تستسلم لإرادته : - أنت الرجل هنا فقرر ما شئت ... - ما كنت لأقرر أمراً ما لم يكن ممهوراً برضائك، وإذا كنت أنا الرجل في هذا البيت فأنت أمه الغالية التي لن أخالف لها في النهاية أمراً أو رغبة . - الله يرضى عليك ... - هذه الكلمة تسحرني ... هه، ماذا قلت؟ - ماذا أقول؟.. لقد حاصرتني بأسلوبك العذب الجميل... مثل كلمة مرة . - ما ذنبي إذا كنت تملكين قلباً كبيراً يتسع لكل مشاكلي، ويستجيب لكل رغباتي... هل أفهم أنك موافقة؟ قالت الأم وقد أسقط في يدها : - موافقة، ولكن... ماذا سنفعل بهذا البيت؟ - فكّر عصام ملياً ثم قال : - سنتركه إلى حين.. ثم نعود إليه ما دام يهمك إلى هذا الحد. أماه.. لن أحرمك من موطن ذكرياتك الغالية.. أعدك بأنني سوف أستقر معك بعد أن أعود من دراستي في الخارج وسترين فيه أحفادك الذين سيملؤونه عليك أنساً وسعادة ... ضحكت الأم وقالت : - على رسلك يا عصام.. لا تسرف يا بني في الوعود، فلا تعرف ماذا سيحمل لنا الغد. المهم أني واثقة بتصرفاتك ورجاحة عقلك، فافعل ما بدا لك.. الآن، وفي المستقبل . سأكون عند حسن ظنك بي.. إن شاء الله . - إن شاء الله.. سأحضر الشاي .. * * * استرخى عصام على كرسيه بانتظار الشاي. بيد أن ذكرى والده حطت فجأة في ساحة خواطره فعصفت بكل سعادته : - (( رحمك الله يا والدي.. ماذا لو كنت معنا الآن؟ .. كنت أود لو رافقتني في رحلة الحياة، لأنعم بقربك الحبيب وأستظل بعطفك وحنانك.. أستمد منك التشجيع.. وأستلهم من تجاربك الثرية خطواتي إلى المستقبل ... )) وانتبه عصام على خطوات أمه حين عادت، فأرسل ابتسامة عريضة أخفى تحتها ملامح الحزن التي كانت تغضن وجهه ثم قال وهو يتناول فنجانه : - أماه.. هناك.. هناك سرّ أود أن أبوح به إليك . - سر؟!.. عساه خير اً ... قال عصام بنبرة هامسة : - لقد وجدتها . - من ؟ - بنت الحلال ... هتفت الأم في لهفة : - بنت الحلال؟.. أصحيح ما تقول؟ لعلك تمزح !. ثم تابعت وهي تجلس قربه في فرح عارم : - قل لي من هي؟ خبرني بالله عليك.. ما أوصافها؟ وكيف تعرفت عليها؟ من هم أهلها؟ هل هي جميلة؟؟ ما لك صامت لا تتكلم؟ !... ضحك عصام من أعماقه واستغرق في الضحك حتى دب الألم في خاصرته بينما تابعت الأم في توسل باسم : - هيا خبرني أرجوك، فقلبي يشتاق إلى هذه اللحظة منذ أمد بعيد . قال عصام وهو يحاول أن يتمالك نفسه : - رويدك يا أماه... رويدك .. - هيا تكلم؟ فأنا في لهفة لمعرفتها، هيا ... - لقد أغرقتني بأسئلتك، فلم أعد أدري على أيها أجيب، ولكنّ الأهم من كل ذلك أنها دخلت قلبي منذ زمن، فارتاحت لها نفسي، واقتنعت بها شريكة حياتي . لكزته الأم في صدره وهمست في عتاب : - أيها الماكر!.. منذ متى تكتم أسرارك عني؟! يبدو أن بنت الحلال هذه قد خطفتك مني دون أن أشعر . - (( ماما أنت الأصل)).. ((أنت الكل بالكل)).. تأكدي أن قلبي يتسع لكما معاً دون أن تزاحم إحداكن الأخرى.. بل إن لك فيه المكانة الأكبر والأقدس ... - كل الشباب يقولون هذا قبل الزواج، ثم لا يلبثون أن يتغيروا !. - إلا أنا.. صدقيني يا أماه ... - لنرَ.. والآن حدثني عنها لأختبر ذوقك؟ - إنها سامية بنت الدكتور إياد . - بنت الدكتور إياد!!.. الآن فهمت سر هذا الحب الذي تكنه لهذا الدكتور، وسر ذلك الشرود الذي يغشاك بعد أن تحدثني عنه.. يا لسذاجتي وغبائي!!... كيف لم أفطن لهذا؟ !.. ابتسم عصام ولم ينبس فألحت الأم من جديد : - لم تصفها لي بعد؟ ... - أهم صفاتها أخلاقها... حشمتها... تربيتها... وعيها ... - أريد شكلها.. كيف شكلها؟ - إنها بيضاء البشرة.. شقراء الشعر.. هيفاء القد.. متناسقطة التقاطيع.. عيناها عسليتان واسعتان تطل منهما براءة وادعة كبراءة الأطفال، وفي وجهها الأبيض المورد صفاء ساحر يأسر القلوب، لكن هدوءها الوادع يا أمّاه أجمل ما فيها.. لكأنها ملاك في صورة أنثى من البشر !.. ابتسمت الأم وهي تصغي لابنها يتحدث بلغة العاشقين فقالت تستفزّه : - لقد علمت منك ذات مرّة أنها في صفك بالكلية.. هذا يعني أنها في مثل سنّك.. إنها كبيرة بالنسبة لك يا بني، فالنساء يهرمن قبل الرجال ... هتف عصام محتج اً : - (( ماما((.. إنك تطلبين الكمال، الفتاة تعجبني وأنا مرتاح إليها كل الإرتياح، وسوف تشاركيني رأيي عندما ترينها !.. ضحكت الأم وقالت وهي ترنو إليه في حنان : - إنك تدافع عنها بحماس !.. ثم تابعت في مرح وهي تربت على كتفه في ود رفيق : - لا عليك يا بني... الأمهات كلهن هكذا... يردن لأبنائهن أجمل الفتيات وأكملهن، هل أخطبها لك؟ ليس الآن.. انتظري حتى أسوي أموري مع الدكتور إياد . - إذن لتسوها بسرعة، حتى أمسي قريبة من كنتي . رفع عصام حاجبية في دهشة وقال : - لو كنت أعلم أن موضوع الخطبة يستولي على اهتمامك بهذا القدر لكنت حدثتك به قبل أن أطرح عليك اقتراح الدكتور إياد، ولوفرت على نفسي عناء إقناعك به . ضحكت الأم قليلاً، ثم ما لبثت أن مالت إلى الهدواء وقد اجتاحها حزن جارف بعد أن حرك موضوع زواج عصام جذور ذاكرتها، ونكأ جرحا قديماً يأبى أن يندمل فأرسلت تنهيدة عميقة وشت بما يعتمل في أغوارها وقالت في هدوء حزين : - (( كنت أتمنى لو كان أبوك ما زال على قيد الحياة.. إذن لكانت فرحتي بلا حدود ...)). أحس عصام بما تكابده أمه من أحاسيس الحسرة والمرارة فاق ترب منها مواسياً وطبع على جبينها قبلة حانية، ثم همس بنبرات متوسلة : - (( ماما)).. أرجوك ألاّ تسرفي في تذكر الماضي... إنك ترهقين نفسك بالأحزان.. ابتسمي.. ابتسمي أرجوك ... رفعت الأم إلى ابنها نظرات مثقلة بالهم والأسى، وقد بانت في عينها كآبة عميقة. حاولت أن تبتسم، لكنها راحت في بكاء شديد ... * * * يتبـــــــــــــــع |
|
مواقع النشر (المفضلة) |
(مشاهدة الكل) عدد الذين شاهدوا هذا الموضوع : 2 : | |
, |
|
|
المواضيع المتشابهه | ||||
الموضوع | كاتب الموضوع | المنتدى | مشاركات | آخر مشاركة |
غزةَ المجد | أم انس السلفية | شعاع الأدب العربي | 2 | 08-06-2014 11:10 PM |
نجوم المجد .....في الصحراء | ام معاذ | شعاع القصص الوعظية | 4 | 08-05-2014 06:18 PM |
من يشتري دموع عينيك..................... | ام عبدالله وامنه | شعاع العلوم الشرعية | 6 | 04-18-2014 03:36 PM |
ساحة المجد تنتظرك | أم انس السلفية | شعاع العلوم الشرعية | 5 | 03-05-2014 11:26 AM |
دموع حبيسة وقلوب ذليلة | مريم مصطفى رفيق | شعاع العلوم الشرعية | 4 | 08-28-2013 02:10 AM |