شعاع العلوم الشرعية مقالات- ارشاد- توجيه- خواطر تهدف للدعوة الى الله- حملات دعوية و ثقافة إسلامية.... |
الإهداءات |
| LinkBack | أدوات الموضوع | إبحث في الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
| ||||||||||||||
| ||||||||||||||
دعاء الخوف والأمن - حسبنا الله ونعم الوكيل - دعاء الخوف والأمن - حسبنا الله ونعم الوكيل - مشهدُ النبي صلى الله عليه وسلم وهو يردِّد: حسبُنا الله ونعم الوكيل، مشهدٌ عظيمٌ لا يُمكن أن يفارق الذاكرةَ، وهو الملطَّخ بالدم المكسورة ثنيتُه، ووجهُه المصاب بالشجاج، وهو يتحرك معلنًا النفيرَ، شعارُه: حسبنا الله ونعم الوكيل، يُخلِّد القُرآن هذه اللحظة مِن التاريخ، يقتنِص المشهد اقتناصًا بليغًا، ثُمَّ يوقفنا عليه! ثَمَّة عَلاقة بين يقينه بالله وترديده لهذا الدعاء، إنه أجمع دعاء للأمن والخوف، دعاءٌ جمع مقامات الأدعية ومرَّ على كل مستوياتها وجلاها.. لقد أُصيبَ النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في أحد بجراحات بالغة، وكانت معركة قاسية عليهم فقدوا فيها سبعين، وأثخَن العدوُّ فيهم، ومع ذلك توقَّع النبي صلى الله عليه وسلم أن يباغته العدو ويرجع مرة أخرى، فقرَّر أن يقوم بعملية تعقُّب لهم ومطاردة، لئلا يظنَّ العدوُّ أن الجراح قد أنهكتْهم، فخرَج بأصحابه حتى بلغوا حمراءَ الأسد، وعندها سمِع النبي صلى الله عليه وسلم أن المشركين يريدون العودة للإجهاز على المسلمين واستئصال شأْفتهم، عندها أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يعتصموا بـ"حسبنا الله ونعم الوكيل وكان حالهم وديدنهم؛ كما قال الله: ﴿ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾ [آل عمران: 173]. لقد جمع العدو لهم وحشدوا، ولكن الواثق بربه لا يهمُّه ذلك الأمر بقدر ما يهمه اتصال حبلُه بالله تعالى؛ قال ابن إسحاق: "كان أحُد يوم السبت للنصف من شوال، فلما كان الغد يوم الأحد سادس عشر من شوال، أذَّن مؤذنُ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس بطلب العدو، وألا يخرج معنا إلا من حضر بالأمس، فاستأذنه جابر بن عبدالله في الخروج معه فأذِن له، وإنما خرج مرهبًا للعدو، وليظنوا أن الذي أصابهم لم يوهنْهم عن طلب عدوِّهم"، وعن عائشة رضي الله عنها أنها: (قرأت قول الله تعالى: ﴿ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ ﴾ (آل عمران: 172)، فقالت لعروة ابن أختها: يا بن أختي كان أبوك منهم الزبير وأبو بكر، لَما أصاب الرسول صلى الله عليه وسلم ما أصاب يوم أحد، فانصرف عنه المشركون خاف أن يرجعوا، فانتدَب منهم سبعين رجلًا كان فيهم الزبير وأبو بكر؛ رواه البخاري. وقد سار النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه حتى بلغوا ذلك المكان في حمراء الأسد، وهو على بُعد ثمانية أميال من المدينة المنورة، فعسكروا هناك وأقاموا فيها ثلاثة أيام أشعلوا فيها النيران، وأعادوا ترتيبَ الجيش، وازدادوا حماسًا، فهابَهم المشركون ولم يَجسروا على لقائهم، غير أن أبا سفيان حاول أن يشنَّ حربًا نفسية ضد المسلمين، فقد مرَّ به رَكْبٌ من عبدالقيس يريد المدينة، فقال لهم: هل أنتم مُبلغون عني محمدًا رسالة، وأوقَر لكم راحلتكم هذه زبيبًا بعكاظ إذا أتيتم إلى مكة؟ قالوا: نعم، قال: فأبلغوا محمدًا أنَّا قد أجمعنا الكَرَّة (الرجعة)؛ لنستأصله ونستأصلَ أصحابه، فمرَّ هذا الركب بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو بحمراء الأسد، فأخبروه بالذي قال أبو سفيان، فقال صلى الله عليه وسلم هو والمسلمون: (حسبنا الله ونعم الوكيل)، لقد قال لهم الناس مخوِّفين ومرهبين: ﴿ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾ (آل عمران: 173)، واستمر المسلمون صامدين ثابتين في معسكرهم، فخاف أبو سفيان ومَن معه وآثروا السلامة ورجعوا يجرون أذيالهم إلى مكة. فإن لقيتَ في الحياة من يُرهبك ويرعبك، فردِّد ما قاله محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه حين قيل لهم: ﴿ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾ [آل عمران: 173]، وذاك هو شأن الواثق بربه المتوكِّل عليه المستنصر به، ورحم الله الشاطبي إذ يقول: وما خابَ ذو جدٍّ إذا هو حَسبَلا انظر كيفَ يزوِّدك القُرآن بهذا الزاد، ويُعيد تصوُّرك للأحداث أنها مهما كبرتْ، فهي تافهة ما دمت مع صاحب الركن الشديد حسبِك ووكيلِك، تأمَّل جيدًا كيفَ جعل لحظة الخوف ميدانًا لاستنزال القوة والثقة والانقلاب بالنعمة والفضل كأنه لم يمسسك سوء أبدًا! وتدبَّر كيفَ يرسمُ هذا الكتاب العزيز باقتدارٍ عَجيب مَشهد الصحابة بجراحهم وهم يرددون: حسبنا الله ونعم الوكيل، سيظل أعداؤك على الخُيول اللاهِثة يحاولون الَّلحاق بك ولن يبلغوا؛ لأنك تردِّد في مسيرك هذا الابتهال الذي تطرَّق به أبواب السماء وتستنزل به الأمن والفضل والقوة والعزة والكرامة. هذا الإنسانُ ضعيفٌ لا يستطيع أن يقاومَ الكروب وحدَه، وليس بمقدوره مصارعة الشدائد دون مُعين، ولا مجابهة الأزمات دون مُنقذ، ولا الوقوف أمام الطوفان دون نصيرٍ، إنه عاجزٌ تمام العجز وهو في أمسِّ الحاجة إلى ربه ومولاهُ تعالى، فإذا توكَّل عليه وفوَّض أمره إليهِ، جاءه مددُ الله وفتحه وعونه ونصره.. وقد كان الأنبياء أفقرَ الخلق إلى الله وأغناهم به، وكان سلاحُهم هو التوكل عليه وتفويض الأمر إليه، وهذا يتجلَّى في هذه الكلمة التي هي من أعظم الكلمات، وقد وردت كثيرًا في مناجاتهم ألا وهي كلمةُ "حسبنا الله ونعم الوكيل"، وَهِيَ المعروفَة بالحسْبلة. وحسبُك أن هذا الدعاء الذي احتوتْه هذه الجملة يشمل دعاء المسألة ودعاء العبادة، فدعاء المسألة استنصارك بالحسيب الوكيل في دفْع الضائقة، ودعاء العبادة اعتقادك أن التدبير كله بيد الله، وتفويضك الأمر إليه. وهاك موقفًا آخرَ مع هذه الكلمة لنبي الله وخليله إبراهيم عليه السلام، وقد أحاطوا به وقيَّدوه وكتَّفوه وشدُّوا رباطَه وهو الوحيد بينهم، فلا مدافعَ يدافع عنه، ولا ناصر يقف معه، ولا حارس يذب عنه، فعندما أَلْقَوْه في النار بالمنجنيق، قال: "حسبُنا الله ونعم الوكيل"، فجعل الله النار بردًا وسلامًا عليه. كانت المسافة الزمنية بين إلقاء إبراهيم عليه السلام في النار وبين تحويلها بردًا وسلامًا، هي مسافة نُطقه بهذا الابتهال. الرُّوح المُدَثَّرة بجلال الحسبلة لا يُصيبها الصقيع، ثمة من يَسعى سَعيًا لإحراقك أو تجميدك؛ كيْ تظلَّ تحترق بآلامك أو ترتعِش من مخاوفك، لكن مع "حسبنا الله ونعم الوكيل"، ستتحول حياتك إلى دفء.. إنك عندما تكون في غاية اليقين بربك، فإنك تعيش واثقًا من رعايته، لذا لا يخفق قلبك خوفًا من أحد؛ لأن مالك الحياة هو الله، وأمرك وأمرُ مَن تخافه بيده، وهو وحده من يقول للشيء كن فيكون.. لقد كانت بهذه الكلمة نجاة الخليلين إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام، فقلْها لتنجوَ، وعشْ معها لتجد الحماية والرعاية والنصرة، ومنها تعلم حقيقة التوكل على الله والاعتصام به، فالتوكل أعظم المُثبتات في الأخطار، والحسبلة أعظم ما يترجم عنه من الأذكار، وهو أعظمُ دافعٍ للنقم، وأكبر جالب للنعم، ألم يقل الله بعدها: ﴿ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ ﴾ [آل عمران: 174]. فإن توكَّلت على الله وكانت هذه الكلمة هِجِّيراك، فلا تخشَ من انتفاشة أهل الباطل وزَمْجرتهم وتهديداتهم، بل ازدِد إيمانًا بربِّك وخالقك ومولاك عز وجل، ولا يزيدك محيطُ التشاؤم إلا زيادة في الأمل، ولا نوازع الإحباط إلا أدلةَ انطلاقة وقوة، فالمؤمن المتفائل حقًّا هو من يجعل من أدلة المتشائمين أقوى دليلٍ على تفاؤله، فالنار التي تحرق ستعود بردًا وسلامًا، والأعداء الذين يخططون ويمكرون سيجرُّون أذيالهم اندحارًا وانهزامًا. "حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ"، عاش معها النبي صلى الله عليه وسلم بعد غزوة أحد وقد تكالبت عليه الهموم، وآلمته الكلوم، وسالتْ منه الدماء، وأوجَعه فقدُ الأصحاب والأخلَّاء والأقرباء، فكانت النتيجة التي ذكرها الله: ﴿ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ﴾ [آل عمران: 173 – 174]. وعاش معها إبراهيم عليه السلام حين اجتمعوا عليه، وقرَّروا أن يلقوه في النار، فجعلها الله بردًا وسلامًا عليه، وكانت أيامه في النار هي أطيب أيام دنياه؛ لأنه عاش في نعيمٍ معجَّل يكتنفه البرد والسلام، فالمؤمن يجد الأمن في قلب الخوف، والطمأنينة في وسط القلق، فعشْ معها وتذوق حلاوتها واستمتع بأُنسها.. **** وإنَّك لتعجب ممن داهَمه الخوف وسيطر عليه الجزع، وتَملَّكه القلق، كيف لا يفزع إلى الحسبلة، ويتخذها درعًا واقيًا له، ولو أنه قال: حسبنا الله وكفى، لسمع الله مناجاته، فقد سمع الله من دعا واتَّجه إليه وارتجا، وما أجمل ما ختم به الشاطبي مقدمته إذ يقول: وعجبتُ لمن يتعدَّى على الناس ويقهرهم، ويبطش بهم ويظلمهم، ويسومهم سوء العذاب، وهو يسمع حسبلتهم ويسمع مناجاتهم بـ﴿ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾، ألا يعلم أن هذا أمضى سلاح فتَّاك، وأن هذه الكلمة تخترق السبع الطباق ناصرة لقائلها، فهذا يَزِيدُ بنُ حَكِيمٍ يَقُولُ: "مَا هِبْتُ أَحدًا قَط هَيبَتِي رَجُلًا ظَلَمتُهُ، وَأَنَا أَعلَمُ أَنَّهُ لَا نَاصِرَ لَهُ إِلَّا اللهُ، يَقُولُ لِي: حَسبِيَ اللهُ، اللهُ بَينِي وَبَينَكَ". هذه الكلمة هي بوصلة الطريق في الرغب والرهب في البر والبحر، أتعرف أن الشيطان يريدك أن تُشرع مراكِبك ثم تتقاذفك الأمواج وتهزك القواصف، ثم تتوهُ في عَرض البَحر بلا بَوْصلة؟ أوَّاهُ على أوقاتنا الضائعة وزماننا المنصرم، كم فرَّطنا في هذه الكلمة، إنها عدة في السراء والضراء، وبها ينال المرء الدرع الواقي والحصن الحصين من كل ما يحذر.. "حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ"، اجعلها منهج حياة تردِّدها في صبحك ومسائك، عند الغروب والشروق، في الحل والترحال، بها تلوذ وتعتصم، هي سلاحك قبل كلِّ سلاح، وقوَّتك قبل كلِّ قوةٍ، وهي مصدرك إن شحَّت المصادر، ومفزعك إذا ادْلَهمَّت الخطوب، وذكرك عند حصول المرهوب أو رجاء المرغوب، وهي كفايتك فحسب وكفى بها من كفاية. (حَسْبُنَا اللهُ): كلمة التجاء تستشعر معها اسمَ الله الحسيب، ومن كان الله حسبه كفاه، وآواه، ونجَّاه: هو وحدَه عز وجل من يكفي عبده من كل همٍّ، ويدفع عنه كل ضرٍّ، (وَنِعْمَ الوِكْيلُ): أَي كَفِيلٌ على أُمورك، يقوم عز وجل على ما يصلحك، يجنِّبك ما تحذر ويعطيك ما ترجو، ويمنع عنك بحكمته ما يضر أو يبعدك عنه لطيفٌ بك.. "حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ": تعني العقيدة الراسخة التي لا يخالطها شكٌّ ولا ريبٌ في أن الله الحسيب والناصر والمعين، وأنه صاحب المدد والتوفيق، وأن هذا العبد دون قوة الله وفتحه وغوثه لا شيء: وليعلم العبد أن الله إذا خصَّه بخير، فلن يقفَ أحدٌ مهما بلغت قوَّته دون هذا الخير، وإن قدَّر عليه ضرًّا، فلن يقف أحد مهما بلغت قوته دون نزول هذا الضر، رفعت الأقلام وجفَّت الصحف، وفي هذا يقول تَعَالَى: ﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ ﴾ [الزمر: 38]. فإنهم إذا كذَّبوا وأعرضوا عن الإيمان بالله، فأخبرهم أن الله وحده هو المعبود، وأنه خالق الخلق النافع الضار وَأَن سواه عاجز من كل وجه مستجلبًا كفايته، مستدفعًا مكرَهم وشرَّهم وأذاهم: ﴿ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ ﴾ [الزمر: 38]، ولأنها تقال عند الشدائد فما أعظم شديدة ستمر على الإنسان؟ جُلْ بخاطرك وتأمَّل بفكرك، وانظُر هل هناك ما هو أشد من وقعة القيامة ونفخ الصور، وبعثرة ما في القبور وزلزلة الأرض، ونسْف الجبال، وتكوير الشمس وخسْف القمر، وانكدار النجوم وتسجير البحار وتغيير نظام الكون؟ لا يوجد مخافةٌ أعظمُ من هذه المخافة، والموت جزءٌ من هذه المخافة؛ لأن من مات فقد قامت قيامته، فهذا الهول هو أعظم هولٍ في حياة البشرية، وهذه المخافة هي أعظم المخافة في حياة الإنسانية، ولا يوجد كرب أعظم من هذا البتَّة، ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخيَّل دائمًا هذا الحدث الهائل، ولقد شاب من هود وأخواتها، وفي هذا يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح -: "كَيْفَ أَنْعَمُ وَصَاحِبُ الْقَرْنِ قَدِ الْتَقَمَ الْقَرْنَ، وَاسْتَمَعَ الْإِذْنَ مَتَى يُؤْمَرُ بِالنَّفْخِ، فَيَنْفُخُ" فثَقُلَ ذلكَ عَلَى أَصْحَابِه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - فَقَالَ لَهُمْ: قُولُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنَا". فعندما داهَمهم الخوف بشأن أهوال القيامة كانت أنسب كلمة أرشدهم النبي صلى الله عليه وسلم إليها هي هذه الكلمة التي تعد سلاحًا واقيًا يقيهم هذا الهول، ويدفع عنهم هذه المخافة العظيمة التي تعدُّ أعظم مخافة في حياة البشرية، وهي دمارُ الكون بأكمله، ومشاهدة هذا الحدث الجلل المُرعب الذي تنخلعُ القلوب لِمْرَآه. وتقال هذه الكلمة عند الخوف من الطعن في العرض واتِّهامك بما لم تفعل، أو تقويلك ما لم تقُل، أو إلصاق السوء بك، فهذه عائشة رضي الله عنها تمرُّ بأصعب موقف في حياتها وتعصف بها حادثة الإفك عصفًا، حتى لتظنُّ أن البكاء فالقُ كبدِها، ثم ينزل الله آيات في براءتها تتلى إلى يوم القيامة، وإذا ما لمحنا ذلك الحوار بينها وبين زينب بنت جحش، عرَفنا كلمة السر، واكتشفنا سرَّ الكلمة التي عاشت معها، بل استفتحت بها ما وقع معها، اسمع إليها وهي تَحكي القصةَ، وتُفصح عن هذا السر المَكنون: "فَعَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ، وَزَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُمَا تَفَاخَرَتَا، فَقَالَتْ زَيْنَبُ: زَوِّجْنِيَ اللهُ، وَزَوَّجكُن أَهَالِيكُنَّ، وَقَالَتْ عَائِشَةُ: نَزَلَتْ بَرَاءَتِي مِنَ السَّمَاءِ فِي الْقُرْآنِ. فَسَلَّمَتْ لَهَا زَيْنَبُ، ثُمَّ قَالَتْ: كَيْفَ قُلْتِ حِينَ رَكِبْتِ رَاحِلَةَ صَفْوانَ بْنِ الْمُعَطَّلِ؟ فَقَالَتْ: قُلْتُ: حَسْبِيَ اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، فَقَالَتْ زَيْنَبُ: قُلْتِ كَلِمَةَ الْمُؤْمِنِينَ". لقد عاشت متدرعة بالصبر منتظرة انتظار الواثق بالله رؤيا يراها النبي صلى الله عليه وسلم في شأنها، وإذا بالوحي ينزل قرآنًا يتلى إلى يوم القيامة: لقد ركِبَت بعد أن قالت تلك الكلمة، وكأن المؤمن سبحان الله يشعر أن هناك شيئًا ما يدور حوله أو سيُلقى عليه، فهو متأهِّبٌ دومًا بهذا السلاح، مستعدٌّ بهذه القوة، فهي تقال عند خوف المكاره، وتقال أيضًا هذه الكلمة عند نزول البلاء، ففي الصحيحين من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ: عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَمْ يَتَكَلَّمْ فِي الْمَهْدِ إِلَّا ثَلَاثَةٌ... وَبَيْنَا صَبِيٌّ يَرْضَعُ مِنْ أُمِّهِ، فَمَرَّ رَجُلٌ رَاكِبٌ عَلَى دَابَّةٍ فَارِهَةٍ وَشَارَةٍ حَسَنَةٍ، فَقَالَتْ أُمُّهُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْ ابْنِي مِثْلَ هَذَا، فَتَرَكَ الثَّدْيَ، وَأَقْبَلَ إِلَيْهِ فَنَظَرَ إِلَيْهِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى ثَدْيِهِ فَجَعَلَ يَرْتَضِعُ - قَالَ: فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَحْكِي ارْتِضَاعَهُ بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ فِي فَمِهِ فَجَعَلَ يَمُصُّهَا - وَمَرُّوا بِجَارِيَةٍ وَهُمْ يَضْرِبُونَهَا وَيَقُولُونَ: زَنَيْتِ سَرَقْتِ، وَهِيَ تَقُولُ: حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، فَقَالَتْ أُمُّهُ: اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ ابْنِي مِثْلَهَا، فَتَرَكَ الرَّضَاعَ وَنَظَرَ إِلَيْهَا فَقَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا»؛ رَاوَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. قال شراح الحديث: "فَإِنَّهُمْ لَمَّا ضَرَبُوا الْجَارِيَةَ وَهِيَ مَظْلُومَةٌ، قَالَتْ هَذِهِ الْكَلِمَةَ، وَإِنَّمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ لِلاقْتِدَاءِ..". كأني بهم يضربونها ويسبونها وهي تبتهل إلى الله بهذه الكلمة وتستنصره بها، والله وحده يعلم، وإنه إذا اشتدَّ الكرب وعظُم الخطب، جعلها الله خلاصًا لمن يستمسك بها، وأنعم بالله كافيًا وحسيبًا ومنقذًا. واسمع إلى خطاب الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم يطمئنهُ من كيد كلِّ معرضٍ: ﴿ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ﴾ [التوبة: 129]. والمعنى: فإن تولَّى يا محمد هؤلاء الذين جئتهم بالحق وأدبروا عنك، فقل: حسبي الله يكفيني هو ربي وناصري ومعيني، عليه أتوكَّل وبه أستعين، يكفيني ما أهَمَّني، وإليه فَوَّضْتُ جميع أموري، فإنه ناصري ومعيني، وهو ربُّ العرش العظيم، الذي هو أعظم المخلوقات. (فقل حسبي الله)؛ أي: الله كافي، لا إله إلا هو عليه توكلت، كما قال تعالى: ﴿ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا ﴾ [المزمل: 9]. وقد أمرَه الله حالَ تولِّيهم أن يقول هذه الكلمة؛ لأن توليهم ناشئٌ عن حقد وغلٍّ وكرهٍ، وتلك حالة مظنَّة السعي في الكيد والأذى، ولذا أيَّده الله بقوله: ﴿ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ ﴾ [الأنفال: 62]، وهذا أعظم سلاح وأكبر مدافع، فمن يكن الله حسبَه، فلو كادت له السماوات والأرض، لجعل الله من بينها فرجًا ومخرجًا، دعِ الخوف جانبًا وكن قويًّا بصلتك بربك وخالقك، ومدبِّر أمرك، فإنه حسبك وكافيك، ولا تجعل الهم يبيض، ويفرِّخ في رأسك ولا تتماهى مع الأحزان والمواجع، ولا تشغل نفسك بما يراد لك، واعلم أن من أكبر وظائف الشيطان أن يقنعك بأنك ستفتقر وتذل وتضعف، والله يعدك مغفرته ورزقه وكرمه، فلا تتحمل من الهمِّ ما لا تطيق، ولا تقلق فأمرك كله بيد الله، وما أجمل ما قال الشاعر: إذا كان الله حسبَك فأنت في منعة وعزٍّ وجاه وسلطان ورفعة، حتى وإن كنتَ مُقلًّا مغمورًا لا مال ولا جاه ولا سلطان؛ لأنك تستمد قوتك وسلطانك وجاهك وعزتك من القوي العزيز.. ولتعلم أن أصل التوحيد هو التعلق بالله والارتباط بجنابه؛ إذ لا خلاص من كل محنة ولا نجاة من كل كربٍ إلا بدوام التعلق به: ﴿ قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ﴾ [الأنعام: 64]. فإذا تعلق القلب بكافيه وحسيبِه القوي، تناهى في ذلِّه وعبوديته، فصغُر كلُّ ما حوله، وإذا التجأ العبد إلى ربه في كل حال، استشعر هيمنة الله على الحياة؛ إذ لا يجري شيء في هذا الكون إلا تحت سمعه وبصره وعلمه ومشيئته، وقدرته وإرادته، وإذا استشعر هيمنة الله على الكون والحياة والأحياء، عرف معنى تفويض الأمر إلى ربه، وأنه الكافي الحسيب عز وجل، وعبدٌ هذا حاله مع ربه قَمِنٌ أَن يَحفَظَه رَبه ويَكفِيهِ؛ ﴿ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ﴾ [الطلاق: 3]. والحسبلة ليست في دفْع النِّقمِ فحسبُ، بل حتى في جلب النعم قال تعالى: ﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ ﴾ [التوبة: 58، 59]، فإذا كررت الحسبلة رجاءَ فضل الله وكرمه، رأيت من عجائبها الجمَّة ما يبعث على الدهشة، وأعرف عالِمًا جليلًا جاء من يشكو إليه الفقر، فأشار عليه بتكرار الحسبلة وتكرار هذه الآية بالذات، فانهمرت عليه غيوث الكرم الإلهي. فالتعلق بالكافي الحسيب استعلاء وعز وغنى وكرامة، والتعلق بما دونه ضَعفٌ وحاجة وذل وَهَوَانٌ ومهانَة. التعلق بالكافي الحسيب والعيش مع "حسبنا الله ونعم الوكيل"، برهان ناصع على التوحيد، ودليل واضح على الإيمان، وبهذا التعلق تحيا الهمم الفاترة، وتستيقظ النفُوس الغافلَة، وينبعث غيث الذل والافتقار وهذا والله مقام العارف بربه الذي يُجزى عليه الجزاء الأَوفَى. إن المؤمن الحق دومًا يسلم لله الأمر، لعلمه أن لله حكمة في كل قضاء يقضيه، ولأنه يعلم أنه هو عز وجل المدبر لأمره القائم على مصالحه الكفيل بها حاله: اجعل هذه الكلمة شعارك عند خوف المكاره واشتداد البأساء، وإذا اقترب منك الأعداء وليكن حالك: اجعلها شعارك حينما تضيق عليك الحال، وتخشى المآل، وليكن يقينك بربك كبيرًا، فمن كان الله حسبه فمم يخاف؟ ومن كان الله وكيله فممن يحذر ويرتهب؟ لتكن عقيدتك الراسخة وثقتك المطلقة في هذه الكلمة كبيرة لا حدود لها كثقة إبراهيم عليه السلام والملائكة تَعرِض عليه النصرة، وهو يردِّد هذه الكلمة مستقبِلًا ألسنةَ النار دون أدنى خوف؛ إذ لا ناصر إلا الله، ولا كافي إلا الله، ولا حسيب إلا الله، لقد كان حال إبراهيم عليه السلام حينها: ليكن هذا الابتهالُ صادقًا، تستشعر فيه اسمَ الله الحسيب، والحسيب هو: الكافي لعبادهِ في دفع المضار عنهم، الحافظ لهم من كلِّ مكروهٍ، والوكيل هو القائم على أمورهم، المدبِّر لشؤونهم بسَعة علمه وكمال قدرته وعظيمِ حكمتهِ. من القصص التي تواترت عن الشيخ المفسِّر عبدالرحمن السعدي أن رجلًا فقيرًا ذا عيال كان يتردَّد عليه كل عام في القصيم، فيُعطيه الشيخ ريالين من الزكاة، وظل على هذه الحالة أكثر من عشر سنوات وفي السنة الأخيرة خيَّره الشيخ السعدي بين الريالين، وبين فائدة تنفعه في حياته كلها، حاوَل الجمع بين الأمرين، لكن أصرَّ الشيخ إما المال أو الفائدة، وبعد تردُّد شديد، وهو يتذكَّر أهلَه الجياع، وتشوُّفه للفائدة التي سينتفع بها حياته كلها استخارَ الله، ثم اختار الفائدة! كانت هذه الفائدة التي أفاده بها الشيخ هي تكرار قوله تعالى: ﴿ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا ﴾ [المزمل: 9]، وقد أمره الشيخ حينها أن يكررها دائمًا وأبدًا في كل أوقاته، وأخبره أنه سيجدُ من بركتها شيئًا مُذهلًا، ومضى الرجل وهو مهموم يكرِّر الآية، ولما وصل لأقرب منطقة يعرف أهلها، عرَض عليه أحدُهم شراءَ جملٍ له مع كمية من التمر وأصرَّ عليه، وبعد تردُّدٍ اشترى الجمل دَينًا، وأطعم نصف التمر أهله وباع الباقي، وجعل يحتطب على جمله ويبيع، ولا يفتر عن ترديد الآية ليلًا ونهارًا، وخلال ثمانية أشهر سدَّد دَين الجمل والتمر، ووسَّع الله عليه وانفتحت عليه أبواب الرزق، وبعد سنوات يسيرة جاء إلى الشيخ، ولكن هذه المرة حمل معه ثمانية ريالات، فقدمها بين يدي الشيخ، وقال له هذه زكاة مالي، وأصبح بعد ذلك يأتي كل سنة بأضعافها إلى الشيخ زكاة، وأصبح من أغنياء البلد. ألا ترى كيف وسَّع الله عليه ورزقه رزقًا واسعًا، وفتح عليه من فتوحه وما ذاك إلا لأنه اتَّخذ الله وكيلًا، ومن اتَّخذ الله وكيلًا، فنعم وكيله، ومن أعظم من الله حسيبًا ووكيلًا. عمر الخميسي |
10-18-2022 | #2 |
كبار الشخصيات مراقبة عامة سابقا |
Re: دعاء الخوف والأمن - حسبنا الله ونعم الوكيل - أثريتي بجزيل ماقدمت دمت بخير وراحة بال الثلاثاء 23 ربيع الأول 1444 |
نًحترِمْ ذآتنـَا وَنـَحتـِرمْ الغَـيْر .. عِنـدَمـْا نتـَحدثْ نتحَـدثْ بِعُمـْق نـَطلبْ بـإدبْ .. وَنشُكر بـِذوَق .. وَنـَعتذِرْ بِـصدقْ نتـَرفـْع عَـن التفَاهـَاتـْ والقِيـلَ والقـَالْ .. ونَرْتَقِيْ بِالْحُبْ لِلّه nnn |
مواقع النشر (المفضلة) |
(مشاهدة الكل) عدد الذين شاهدوا هذا الموضوع : 2 : | |
, |
|
|
المواضيع المتشابهه | ||||
الموضوع | كاتب الموضوع | المنتدى | مشاركات | آخر مشاركة |
الخوف من الله سبحانه | عطر الجنة | شعاع العلوم الشرعية | 2 | 03-06-2021 01:30 AM |
هل تعرف الكفيل .. الوكيل؟ | ام عبدالله وامنه | شعاع العلوم الشرعية | 3 | 10-07-2016 05:28 PM |
ونعم بالله | أم انس السلفية | شعاع العلوم الشرعية | 9 | 01-04-2016 06:26 PM |
نعم ظاهرة ونعم باطنة | دلال إبراهيم | شعاع العلوم الشرعية | 4 | 07-10-2014 12:27 AM |