اعْلَمْ - أَصْلَحَ الله قَلْبَكَ - بِأَنَّ القَلُوبَ تَمْرَضُ بِالمَعَاصِي وَالشَّهَوَاتِ، وَتَأثِيرُ "الذُّنُوبِ فِي القُلُوبِ كَتَأثِيرِ الأَمْرَاضِ فِي الأَبْدَانِ، بَلِ الذُّنُوبُ أَمْرَاضُ القُلُوبِ وَدَاؤُهَا، وَلا دَوَاءَ لَهَا إِلَّا تَرْكُهَا".
قَالَ ابنْ المُبَارَكِ رَحِمَهُ الله تَعَالَى:
رَأَيتُ الذُّنُوبَ تُمِيتُ القُلُوبَ ... وَقَد يُورِثُ الذُّلَّ إِدمَانُهَا
وَتَركُ الذُّنُوبِ حَيَاةُ القُلُوبِ ... وَخَيرٌ لِنَفسِكَ عِصيَانُهَا
فَإِنْ عَالَجَهُ صَاحِبُهُ شُفِيَ، وَإِنْ تَرَكَهُ تَزَايَدَ المَرَضُ حَتَّى يَمُوتَ، قَالَ تعالى: {في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون} [البقرة: 10]، فَعَلَى الإِنْسَانِ أَنْ يَعْتَنِيَ بِقَلْبِهِ، وَيَحْرِصَ عَلَى أَنْ يُعَالِجَهُ بِالأُمُورِ التَّالِيَةِ:
أ َوَّلًا: قِرَاءَةُ القُرْآنِ الكَرِيمِ بِالتَّدَبُّرِ
القُرْآنُ الكَرِيمُ، رَبِيعُ القُلُوبِ، وَشِفَاءُ الصُّدُورِ، وَنُورُ البَصَائِرِ، وَحَيَاةُ الأَرْوَاحِ، وَهُوَ كَلَامُ رَبِّ العَالَمِينَ. يَسْتَضِيءُ بِهِ العَبْدُ فِي ظُلُمَاتِ الشُّبُهَاتِ وَالشَّهَوَاتِ، وَيَتَعَزَّى بِهِ عَنْ كُلِّ فَائِتٍ، وَيَتَعَزَّى بِهِ عَنْ كُلِّ مُصِيبَةٍ، وَيَسْتَشْفِي بِهِ مِنْ أَدْوَاءِ قَلْبِهِ.
قَالَ الله عَزَّ وَجَلَّ: { ياأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ } [يونس: 57].
وَقَالَ تَعَالَى: {قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء} [فصلت: 44].
وَقَالَ سبحانه وتعالى: {وَنُنَزِّلُ من الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ } [الإسراء: 82].
فَتَبَارَكَ مَنْ جَعَلَ كَلَامَهُ شِفَاءً لِصُدُورِ المُؤْمِنِينَ، وَحَيَاةً لِقُلُوبِهِم، وَنُورًا لِبَصَائِرِهِم، وَغِذَاءً لِقُلُوبِهِم، وَقُرَّةً لِعُيُونِهِم. فَمَنِ اسْتَشْفَى بِهِ صَحَّ وَبَرِىءَ مِنْ مَرَضِهِ.
فَيَا مَنْ تَبْحَثُ عَنْ دَوَاءٍ لِقَلْبِكَ، دَوَاؤُكَ فِي القُرْآنِ.
وَيَا مَنْ تَبْحَثِينَ عَنْ دَوَاءٍ لِقَلْبِكِ، دَوَاؤُكِ فِي القُرْآنِ.
وَكَيفَ تُقَاوِمُ الأَدوَاءُ كَلَامَ رَبِّ الأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، الَّذِي لَو أُنزِلَ عَلَى جَبَلٍ لَتَصَدَّعَ مِنْ عَظَمَتِهِ وَجَلالَتِهِ.
فَتَدَبَّر فِي لَطَائِفِ خِطَابِهِ، وَطَالِبْ نَفْسَكَ بِالقِيَام بِأَحْكَامِهِ، وَقَلْبَكَ بِفَهْمِ مَعَانِيهِ، وَسِرَّكَ بِالإِقْبَالِ عَلَيْهِ.
اعْلَم - أَصْلَحَ الله قَلْبَكَ - بِأَنَّ لِذِكْرِ الله آثَارًا جَلِيلَةً عَلَى القَلْبِ، مِنْهَا:
أ- شِفَاءُ القَلْبِ: ذِكْرُ الله تَعَالَى دَوَاءُ القَلْبِ، وَالغَفْلَةُ مَرَضُهُ، فَالقُلُوبُ مَرِيضَةٌ، وَشِفَاؤُهَا فِي ذِكْرِ الله تَعَالَى. كَمَا قِيلَ:
إِذَا مَرِضْنَا تَدَاوَيْنَا بِذِكْرِكُمُ ... فَنَتْرُكَ الذِّكْرَ أَحْيَانًا فَنَنْتَكِسُ
ب- جَلَاءُ القَلْبِ: وَذِكْرُ الله يُورِثُ جَلَاءَ القَلْبِ مِنْ صَدَئِهِ. «وَلَا رَيْبَ أَنَّ القَلْبَ يَصْدَأُ كَمَا يَصْدَأُ النُّحَاسُ وَالفِضَّةُ وَغَيْرُهُمَا، وَجَلَاؤُهُ بِالذِّكْرِ، فَإِنَّهُ يَجْلُوهُ حَتَّى يَدَعَهُ كَالمِرْآةِ البَيضَاءِ؛ فَإِذَا تَرَكَ الذِّكْرَ صَدِىءَ، فَإِذَا ذَكَرَ جَلَاهُ.
وَصَدَأُ القَلْبِ بِأَمْرَيْنِ: بِالغَفْلَةِ وَالذَّنْبِ، وَجَلَاؤُهُ بِشَيْئَيْنِ: بِالاسْتِغْفَارِ وَالذِّكْرِ».
ج- حَيَاةُ القَلْبِ: حياةُ القلبِ بدوامِ الذِّكرِ، لا حَيَاةَ لَهُ بِدُونِ ذَلِكَ أبداً. فَإِنَّهُ «لِلقَلْبِ مِثْلُ المَاءِ لِلسَّمَكِ، فَكَيْفَ يَكُونُ حَالُ السَّمَكِ إِذَا فَارَقَ المَاءَ؟!».
بَلْ إِنَّ القُلُوبَ المَيِّتَةَ تَحْيَى بِالذِّكْرِ، كَمَا تَحْيَى الأَرْضُ المَيِّتَةُ بِالقَطْرِ.
وَالذِّكْرُ فِيهِ حَيَاةُ القُلُوبِ كَمَا ... يُحْيِي البِلَادَ إِذَا مَا مَاتَتِ المَطَرُ
وَالقَلْبُ الذَّاكِرُ كَالحَيِّ فِي بُيُوتِ الأَحْيَاءِ، وَالغَافِلُ كَالمَيِّتِ فِي بِيُوتِ الأَمْوَاتِ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ أَبْدَانَ الغَافِلِينَ قُبُورٌ لِقُلُوبِهِم، وَقُلُوبُهُم فِيهَا كَالأَمْوَاتِ فِي القُبُورِ، كَمَا قِيلَ:
فَنِسْيَانُ ذِكْرِ الله مَوْتُ قُلُوبِهِمُ ... وَأَجْسَامُهُم قَبْلَ القُبُورِ قُبُور
«فَإِنَّ أَبْدَانَهُم قُبُورٌ لِقُلُوبِهِم، فَقَدْ مَاتَتْ قُلُوبُهُم، وَقُبِرَتْ فِي أَبْدَانِهِم».
عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيهِ وَسَلَّمَ: «مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لَا يَذْكُرُ رَبَّهُ، مَثَلُ الحَيِّ وَالمَيِّتِ».
فَحَقِيقٌ بِالعَبْدِ أَنْ يُنْزِلَ ذِكْرَ الله مِنْهُ، «مَنْزِلَةَ حَيَاتِهِ الَّتِي لَا غِنَى لَهُ عَنْهَا، وَمَنْزِلَةَ غِذَائِهِ الَّذِي إِذَا فَقَدَهُ فَسَدَ جِسْمُهُ وَهَلَكَ، وَبِمَنْزِلَةِ المَاءِ عِنْدَ شِدَّةِ العَطَشِ، وَبِمَنْزِلَةِ اللِّبَاسِ فِي الحَرِّ وَالبَرْدِ».
د- رِقَّةُ القَلْبِ: اعْلَم بِأَنَّ «فِي القَلْبِ قَسْوَةً لَا يُذِيبُهَا إِلَّا ذِكْرُ الله تَعَالَى، فَيَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ يُدَاوِيَ قَسْوَةَ قَلْبِهِ بِذِكْرِ الله تَعَالَى؛ لأَنَّ القَلْبَ كُلَّمَا اشْتَدَّتْ بِهِ الغَفْلَةُ، اشْتَدَّت بِهِ القَسْوَةُ، فَإِذَا ذَكَرَ الله تَعَالَى، ذَابَتْ تِلَكَ القَسْوَةُ كَمَا يَذُوبُ الرَّصَاصُ فِي النَّارِ، فَمَا أُذِيبَتْ قَسْوَةُ القُلُوبِ بِمِثْلِ ذِكْرِ الله عَزَّ وَجَلَّ».
قَالَ الله تَعَالَى: {أَلَم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون. اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها} [الحديد: 16-17].
فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَنْ قَدِرَ عَلَى إِحْيَاءِ الأرْضِ بَعْدَ مَوْتِهَا بِوَابِلِ القَطْرِ، فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى إِحْيَاءِ القُلُوبِ المَيِّتَةِ القَاسِيَةِ بِالذِّكْرِ.
عَسَى مَنْ أَحْيَى الأَرْضَ المَيِّتَةَ بِالقَطْرِ، أَنْ يُحِييَ القُلُوبَ المَيِّتَةَ بِالذِّكْرِ.
هـ- تَنْبِيهُ القَلْبِ: وَالذِّكْرُ «يُنَبِّهُ القَلْبَ مِنْ نَوْمِهِ، وَيُوقِظُهُ مِنْ سِنَتِهِ، وَالقَلْبُ إِذَا كَانَ نَائِمًا فَاتَتْهُ الأَرْبَاحُ وَالمَتَاجِرُ، وَكَانَ الغَالِبُ عَلَيْهِ الخُسْرَانَ، فَإِذَا اسْتَيْقَظَ وَعَلِمَ مَا فَاتَهُ فِي نَوْمَتِهِ شَدَّ المِئْزَرَ، وَأَحَيَى بَقِيَّةَ عُمُرِهِ، وَاسْتَدْرَكَ مَا فَاتَهُ، وَلَا تَحْصُلُ يَقَظَتُهُ إِلَّا بِالذِّكْرِ، فَإِنَّ الغَفْلَةَ نَوْمٌ ثَقِيلٌ».
و- نُورُ القَلْبِ: الذكرُ نُورٌ في القَلْبِ. فَمَا اسْتَنَارَتِ القُلُوبُ بِمِثْلِ ذِكْرِ الله تَعَالَى. وَالشَّأْنُ كُلُّ الشَّأْنِ، وَالفَلَاحُ كُلُّ الفَلَاحِ فِي النُّورِ، وَالشَّقَاءُ كُلُّ الشَّقَاءِ فِي فَوَاتِهِ. وَإذا "اسْتَنَارَ القَلبُ أَقْبَلَت وُفُودُ الخَيراتِ إِلَيهِ مِنْ كُلِّ نَاحيَةٍ، كَمَا أَنَّهُ إِذا أَظْلَمَ أقْبَلَتْ سَحَائِبُ البَلاءِ وَالشَّرِّ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ".
ثَالِثًا: العِلْمُ النَّافِعُ:
اعْلَمْ - رَحِمَكَ الله - بِأَنَّ أَمْرَاضَ القُلُوبِ كُلَّهَا مُتَوَلِّدَةٌ عَنِ الجَهْلَ وَدَوَاؤُهَا العِلْمُ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ صَاحِبِ الشُّجَّةِ الَّذِي أَفْتَوْهُ بِالغُسْلِ فَمَاتَ: «قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ الله، أَلَا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا؟ فَإِنَّمَا شِفَاءُ العِيِّ السُّؤَالُ». فَجَعَل العِيَّ -وَهُو عِيُّ القَلْبِ عَنِ العِلْمِ وَاللِّسَانِ عَنِ النُّطْقِ بِهِ- مَرَضًا، وَشِفَاؤُهُ سُؤَالُ العُلَمَاءِ.
فَأمْرَاضُ القُلُوبِ أَصْعَبُ مِنْ أَمْرَاضِ الأَبْدَانِ؛ لأَنَّ غَايَةَ مَرَضِ البَدَنِ أَنْ يُفْضِيَ بِصَاحِبِهِ إِلَى المَوْتِ، وَأَمَّا مَرَضُ القَلْبِ فَيُفْضِي بِصَاحِبِهِ إِلَى الشَّقَاءِ الأَبَدِيِّ، وَلَا شِفَاءَ لِهَذَا المَرَضِ إِلَّا بِالعِلْمِ.
فَكَمَا أَنَّهُ لَا حَيَاةَ لِلأَرْضِ إِلَّا بِالمَطَرِ، فَكَذَلِكَ لَا حَيَاةَ لِلْقَلْبِ إِلَّا بِالعِلْمِ.
وَلِهَذَا؛ فَإِنَّ الأَرْضَ إِنَّمَا تَحْتَاجُ إِلَى المَطَرِ فِي بَعْضِ الأَوْقَاتِ، فَإِذَا تَتَابَعَ عَلَيْهَا احْتَاجَتْ إِلَى انْقِطَاعِهِ، وَأَمَّا العِلْمُ فَيَحْتَاجُ إِلَيْهِ القَلْبُ بِعَدَدِ الأَنْفَاسِ، وَلَا يَزِيدُهُ كَثْرَتُهُ إِلَّا صَلَاحًا وَنَفْعًا.
فَحَاجَةُ القَلْبِ إِلَى العِلْمِ لَيْسَتْ كَالحَاجَةِ إِلَى التَّنَفُّسِ فِي الهَوَاءِ، بَلْ أَعْظَمُ.
وَبِالجُمْلَةِ؛ فَالعِلْمُ لِلْقَلْبِ مِثلُ المَاءِ لِلسَّمَكِ؛ إِذَا فَقَدَهُ مَاتَ، فَنِسْبَةُ العِلْمِ إِلَى القَلْبِ كَنِسْبَةِ ضَوْءِ العَيْنِ إِلَيْهَا، وَكَنِسْبَةِ سَمْعِ الأُذُنِ كَلَامَ اللِّسَانِ إِلَيْهِ، فَإِذَا عَدِمَهُ كَانَ كَالعَيْنِ العَمْيَاءِ، وَالأُذُنِ الصَّمَّاءِ؛ وَاللِّسَانِ الأَخْرَسِ.
وَلَيْسَ هَذَا لِكُلِّ عِلمٍ، بَلْ لِلْعِلْمِ المَورُوثِ عَنِ الرَّسُولِ صَلَّى الله عَلَيهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ العِلْمُ النَّافِعُ.
رَابِعًا: أَكْلُ الحَلالِ وَاتِّقَاءُ الشُّبُهَاتِ:
عَنِ النُّعمَانِ بنِ بَشَيرٍ رَضِيَ الله عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيهِ وَسَلَّمَ: « إِنَّ الحَلالَ بَيِّنٌ وَإِنَّ الحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَينَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ، لا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَولَ الحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ، أَلا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمَىً، أَلا وَإِنَّ حِمَى الله مَحَارِمُهُ، أَلا وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ»(3).
فَقَد دَلَّ هَذَا الحَدِيثُ عَلَى أَنَّ أَكْلَ الحَلالِ، يُصْلِحُ القَلْبَ، وَأَكْلُ الحَرَامِ وَالشُّبْهَةِ يُفْسِدُهُ. وَيُخَافُ عَلى آكِلِ الحَرَامِ وَالمُتَشَابِهِ، أَلاَّ تُسْمَعَ لَهُ دَعْوَةٌ. أَلَا تَسْمَعُ قَولَهُ صَلَّى الله عَلَيهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ الله طَيِّبٌ لاَ يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا وَإِنَّ الله أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ:{يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}[المؤمنون:51]، وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172]؛ ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِّيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟!».
خَامساً: مُطَالَعَةُ القَلْبِ لِلأَسمَاءِ الحُسنَى وَالصِّفَاتِ العُلى
اعْلَمْ بِأَنَّ "صَلاحَ القَلْبِ وَاسْتِقَامَتَهُ عَلَى طَرِيقِ سَيرِهِ إِلَى الله تَعَالَى، مُتَوَقِّفٌ عَلَى جَمْعِيَّتِهِ عَلَى الله، وَلَمِّ شَعَثِهِ بِإِقْبَالِهِ بِالكُلِّيَّةِ عَلَى الله تَعَالَى". وَلَو فُرِضَتْ لَذَّاتُ أَهْلِ الدُّنيَا بأَجْمَعِهَا حَاصِلَةً لِرَجُلٍ، لَمْ يَكُنْ لَهَا نِسْبَةٌ إِلَى لَذَّةِ جَمْعِيَّةِ قَلْبِهِ عَلَى الله .
وَأَعْظَمُ سَبَبٍ لاسْتِقَامَةِ القَلْبِ: مُطَالَعَةُ القَلْبِ لأَسْمَاءِ الله الحُسنَى وَصِفَاتِهِ العُلَى. فَإِنَّهَا تَدعُو إِلى مَحَبَّتِهِ وَخَشيَتِهِ، وَخَوفِهِ وَرَجَائِهِ، وَإِخلاصِ العَمَلِ لَهُ؛ وَهَذَا هُوَ المَطلَبُ الأَعلَى، وَالمَقصَدُ الأَسنَى، وَهَذَا عَينُ سَعَادَةِ العَبدِ.
وَلْنَذْكُر مِثَالاً وَاحِداً: "المُرَاقَبَةُ الَّتي هِيَ مِنْ أَعلَى أَعْمَالِ القُلُوبِ هِيَ التَّعَبُّدُ لِلّاهِ بِاسْمِهِ الرَّقِيبِ الشَّهِيدِ، فَمَتَى عَلِمَ العَبدُ أَنَّ حَرَكَاتِهِ الظَّاهِرَةَ وَالبَاطِنَةَ قَد أَحَاطَ الله بِعِلمِهَا، وَاسْتَحْضَرَ هَذَا العِلْمَ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِ، أَوجَبَ لَهُ ذَلِكَ حِرَاسَةَ بَاطِنِهِ عَنْ كُلِّ فِكْرٍ وَهَاجِسٍ يُبْغِضُهُ الله، وَحَفِظَ ظَاهِرَهُ عَنْ كُلِّ قَولٍ أَو فِعْلٍ يُسْخِطُ الله، وَتَعَبَّدَ بِمَقَامِ الإِحْسَانِ فَعَبَدَ الله كَأنَّهُ يَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ يَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاهُ".
فَتَأَمَّلَ كُلَّ مَقَامٍ مِنْ مَقَامَاتِ الدِّينِ، وَكُلَّ عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ القُلُوبِ، كَيْفَ تَجِدُ هَذَا أَصْلَهُ وَمَنْبَعَهُ.
أسأل الله العلي القدير أن يصلح قلوبنا
|