منتديات شبكة شعاع الدعوية للتعليم عن بعد

منتديات شبكة شعاع الدعوية للتعليم عن بعد (https://hwazen.com/vb/index.php)
-   شعاع اللغة العربية (https://hwazen.com/vb/f97.html)
-   -   أدبيات اللغة العربية (https://hwazen.com/vb/t21807.html)

عطر الجنة 07-01-2021 03:40 AM

رد: أدبيات اللغة العربية
 

https://k.top4top.io/p_2007qrxtc1.png

(٣٦) ابن عبد ربه (٢٤٦–٣٢٨ﻫ/٨٦١–٩٤٠م)

هو الفقيه العالم أبو عُمَر أحمد بن عبد رَبِّه، وقد اشتُهر بأدبه في الأندلس، واتصلت شهرته إلى الشرق، وقد زاد في شهرته وأبقى ذكره الآن كتابُ «العقد الفريد» المعروف في الأدب، وقد عُمِّر أكثر من اثنتين وثمانين سنة كما يؤخذ من قوله في قصيدته:
وَمَا لِيَ لَا أَبْلَى لِسَبْعِينَ حِجَّةً
وَعَشْرٍ أَتَتْ مِنْ بَعْدِهَا سَنَتَانِ؟
وَلَسْتُ أُبَالِي مِنْ تَبَارِيح عِلَّتي
إِذَا كَانَ عَقْلِي بَاقِيًا وَلِسَانِي



(٣٧) أبو الطيب المتنبي (٣٠٣–٣٥٤ﻫ)

اسمه أحمد بن الحسين بن الحسن الكِنْدي الكوفي المتنبي الشاعر المشهور، وإنما قيل له المتنبي لأنه ادَّعى النُّبُوة في بادية السَّماوة وتبعه خلقٌ كثير من بني كَلْب وغيرهم، فخرج إليه لؤلؤ أمير حِمْص نائبُ الإخشيدية فأَسرَه وتفرَّق أصحابه وحبسه طويلًا ثم استتابه وأطلقه، ولما أُطْلِقَ من السجن التحق بالأمير سيف الدولة ثم فارقه، ودخل مصر سنة ٣٤٦ ومدح كافورًا الإخشيدي، ولمَّا لم يُرْضِه هجاه، وقصد بلاد فارس ومدح عَضُد الدولة بن بُوَيْه فأجزل صِلته، ولمَّا رجع من عنده عرَض له فاتك بن أبي جهل الأسدي في عدَّة من أصحابه فقاتله فقُتل المتنبي وابنُه، وقيل إن السبب في قتله عضد الدولة، لأنه لمَّا وفد عليه ووصله بثلاثة آلاف دينار وثلاثة أفراس مُسْرَجة مُحلَّاة وثياب مُفتخرة؛ دسَّ عليه من سَأله: أيْنَ هذا العطاء من عَطاء سيف الدولة؟ فقال له: هذا أجْزَل إلَّا أنه عَطاءٌ متَكَلَّف وسيفُ الدولة كان يُعْطِي طَبْعًا، فَغَضِب عضد الدولة من ذلك وجَهَّز عليه قومًا من بني ضَبَّة فقتلوه بعد أن قاتل قتالًا شديدًا، وقد قال له غلامه لمَّا انهزم: أين قولك:
الخَيْلُ وَاللَّيْلُ وَالبَيْدَاءُ تَعْرِفُني
وَالطَّعْنُ والضَّرْبُ والقِرْطَاسُ والقَلَم


فقال: قَتَلْتَني، قَتَلَك اللهُ! ثم قاتَل فقُتل، وكان قتله سنة ٣٥٤ ومولِدُه سنة ٣٠٣ بالكُوفة.


(٣٨) أبو فراس (٣٢٠–٣٥٧ﻫ)

هو الحَارث بن أبي العلاء ابن عمِّ ناصر الدولة وسَيْف الدولة، قال الثَّعالبي في وَصْفِه: «كان فَرْدَ دَهْره وشَمْس عَصْره أدبًا وفَضْلًا وكَرَمًا ومَجْدًا وبلاغة وبراعة وفُرُوسية وشَجَاعة، وشِعْرُه مشهور بَيِّن الحُسْن والجودة والسُّهُولة والجَزَالة والعُذُوبة والفَخَامة والحَلاوة، ولم تجتمع هذه الخِلال قَبْله إِلا في شِعر عبد الله بن المُعْتَزِّ، وأبو فِرَاس هذا يُعدُّ أشْعَر منه عند أهل الصَّنْعة ونَقَدَةِ الكلام، وكان المتنبي يشهد له بالتقدم فلا يَنْبري لمُبَارَاته ولا يجْترئ على مُجَاراته، وكان سيف الدولة يُعْجَب جدًّا بمحاسنه ويُميِّزه بالإكرام على سائر قومه ويستصحبه في غزواته ويستخلفه في أعماله.» وقد أَسرَه الروم في بعض الوقائع وأقام بالأسْر أربع سنين، وله في الأسْر أشعار كثيرة من أجود ما قاله، ومن شعره حين حضرتْه الوفاة سنة ٣٥٧ مخاطبًا ابنته:
أَبُنَيَّتِي لَا تَجْزَعِي
كُلُّ الأَنَامِ إِلَى ذَهَاب
نُوحِي عَلَيَّ بِحَسْرَةٍ
مِنْ خَلْفِ سِتْرِكِ وَالحِجَاب
قُولِي إذَا كَلَّمْتِنِي
فَعَيِيتُ عَنْ رَدِّ الجَوَاب
زَيْنُ الشَّبَابِ أَبُو فِرَا
سٍ لَمْ يُمَتَّعْ بِالشَّبَاب


ووُلد سنة ٣٢٠.

(٣٩) أبو الفرج الأصفهاني (٢٨٤–٣٥٦ﻫ)


هو علي بن الحسين، وجدُّه السابع مَرْوان بن محمد آخر خلفاء بني أميَّة، وُلد بأصبهان، ونشأ ببغداد، وقد كان من أعيان الأدباء وأفراد المُصنِّفين، وكان عالمًا بأيام الناس والأنساب والسِّيَر، يحفظ من الشعر والأغاني والأخبار والآثار والأحاديث المُسْندة والنَّسَب شيئًا كثيرًا جدًّا، مع الإلمام بعلوم أخرى مثل اللغة والطب والنجوم، وكان له من جيد الشعر شيء كثير، وألف كثيرًا من الكتب في العلوم المختلفة، وأشهر هذه الكتب كتاب «الأغاني» في واحد وعشرين مجلدًا.

وقد كان أبو الفرج منقطعًا إلى الوزير المُهَلَّبي وله فيه مدائح، وعاش فوق السبعين سنة،
وتوفِّي سنة ٣٥٦.


(٤٠) الخوارزميُّ (توفِّي سنة ٣٨٣ﻫ)

هو أبو بكر محمد بن العباس الخوارِزْمِيُّ الشاعر المشهور، وهو ابن أخت أبي جعفر محمد بن جَرير الطَّبَري صاحب «التاريخ»، والخوارزمي المذكور كان أحد الشعراء المُجِيدين، إمامًا في اللغة والأنساب، أقام بالشام مدة وسكن بنواحي حلب، وكان يُشار إليه في عصره، وحُكي أنه قصد حضرة الصاحب بن عبَّاد وهو بأَرَّجَان، فلما وصل إلى بابه قال لأحد حُجَّابه: قل للصاحب: على الباب أحدُ الأدباء وهو يستأذن في الدخول، فدخل الحاجب وأعلمه، فقال الصاحب: قل له: قد ألزمتُ نفسي أن لا يدخل عليَّ من الأدباء إلا من يحفظ عشرين ألف بيت من شعر العرب، فخرج إليه الحاجب وأعلمه بذلك، فقال له أبو بكر: ارجع إليه، وقل له: هذا القَدْر من شعر الرجال أم من شعر النساء؟ فدخل الحاجب فأعاد إليه ما قال، فقال الصاحب: هذا يكون أبا بكر الخوارزمي، فأذن له في الدخول فدخل، فعرفه وانبسط له. ولما رجع من الشام سكن نيسابور ومات بها سنة ٣٨٣

.
(٤١) بديع الزمان (توفِّي سنة ٣٩٨ﻫ)

هو أبو الفضل أحمد بن الحسين بن يحيى بن سعيد الهَمَذَاني الحافظ المعروف ببديع الزمان، صاحب الرسائل الرائقة والمقامات الفائقة، وعلى منواله نسج الحريريُّ مقاماته واحتذى حَذْوه واقْتفى أثرَه، واعترف في خطبته بفضله وأنه الذي أرشده إلى سلوك ذلك المنهج. وهو أحد الفضلاء الفصحاء، روى عن أبي الحسين أحمد بن فارس صاحب «المُجْمل في اللغة» وعن غيره، وله الرسائل البديعة. وسكن هَرَاة من بلاد خُراسان، وكانت وفاته سنة ٣٩٨ مسمومًا بمدينة هراة، وقيل إنه مات من السكتة، وعُجِّل دفنُه، فأفاق في قبره وسُمع صوته بالليل، وإنه نُبِش عنه فوجدوه وقد قبض على لحيته ومات من هول القبر.


(٤٢) ابن زيدون (سنة ٣٩٤–٤٦٣ﻫ)
هو أبو الوليد أحمد بن عبد الله بن أحمد بن غالب بن زيدون المخزومي الأندلسي القرطبي الشاعر المشهور، قال ابن بسَّام صاحب «الذخيرة» في حقه: كان أبو الوليد خاتمة شعراء بني مخزوم، وكان من أبناء وجوه الفقهاء بقرطبة، وبرع أدبه، وجاد شعره، وعلا شأنه، وانطلق لسانه، ثم انتقل عن قرطبة إلى المعتضد عباد صاحب أشبيلية، فجعله من خواصِّه يجالسه في خلواته، ويركن إلى إشاراته، وكان معه في صورة وزير، وله القصائد الطَّنَّانة، منها قصيدته النونية المشهورة التي منها:
نَكَادُ حِينَ تُنَاجِيكُمْ ضَمَائِرُنَا
يَقْضِي عَلَيْنَا الأَسَى لَوْلاَ تَأَسِّينَا
حَالَتْ لِبُعْدِكُمُ أَيَّامُنَا فَغَدَتْ
سُوْدًا وَكَانَتْ بِكُمْ بِيضًا لَيَالِينَا
بِالأَمْسِ كُنَّا وَمَا يُخْشَى تَفَرُّقُنَا
وَاليَوْمَ نَحْنُ وَمَا يُرْجَى تَلَاقِينَا


وكانت ولادته سنة ٣٩٤ بقُرطُبَةَ، وتوفِّي سنة ٤٦٣ بِأشْبِيليَّة.


https://k.top4top.io/p_2007qrxtc1.png

عطر الجنة 07-01-2021 03:48 AM

رد: أدبيات اللغة العربية
 


https://k.top4top.io/p_2007qrxtc1.png




(٤٣) الشَّريف الرضِيُّ (٣٥٩–٤٠٦ﻫ)
هو أبو الحسن محمد بن الطاهر، ينتهي نسبه إلى زين العابدين بن الحسين — رضي الله عنهما — وهو المعروف بالمُوسَوِيِّ، صاحب ديوان الشعر المشهور، وقال الثعالبي في كتاب «اليتيمة» في ترجمته إنه ابتدأ يقول الشعر بعد أن جاوز عشر سنين بقليل. وقال أيضًا: إنه اليومَ أبدع أبناء الزمان، وأنجب سادات العراق، ولو قلتُ إنه أشعر قريش لم أبعد عن الصدق، ويشهد بذلك شعره وكلامه الذي يجمع إلى السلاسة متانةً وإلى السهولة رصانة.

وكان والده يتولى قديمًا نقابة نقباء الطالبيِّين، ويحكم فيهم أجمعين، وينظر في المظالم، ثم رُدَّت هذه الأعمالُ إلى ولده الرَّضي المذكور وأبوه حيٌّ.

ومن غُرَر شعره ما كتبه إلى الإمام أبي العباس أحمد بن المقتدر:
عَطْفًا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ فَإنَّنَا
فِي دَوْحَةِ الْعَلْيَاءِ لَا نَتَفَرَّق
مَا بَيْنَنَا يَوْمَ الفَخَارِ تَفَاوُتٌ
أَبَدًا كِلَانَا فِي المَعَالِي مُعْرِق
إلَّا الخِلَافَة مَيَّزَتْكَ فإنَّنِي
أنَا عَاطِلٌ مِنْهَا وَأَنْتَ مُطَوَّقُ


وديوان شعره مشهور، وقد صنَّف كتابًا في معاني القرآن الكريم، وصنَّف كتابًا آخر في مَجَازاته. وكانت ولادته سنة ٣٥٩ ببغداد، وتُوفِّي سنة ٤٠٦. ويقال إنه جمع كتاب «نَهْج البلاغة» من مختار كلام أمير المؤمنين علي، رضي الله عنه.
وقال الإمام الذَّهبي في «ميزان الاعتدال»:

مَنْ طَالَعَ كتاب نهج البلاغة جَزَم بأنه مكذوبٌ على أمير المؤمنين علي، رضي الله تعالى عنه، فإنَّ فيه السَّبَّ الصريح والحطَّ على السَّيدين أبي بكر وعمر، رضي الله تعالى عنهما. ا.ﻫ.


(٤٤) ابن سيناء (٣٧٠–٤٢٨ﻫ)
هو أبو علي الحسين بن عبد الله بن سيناء البخاري المشهور بالشيخ الرئيس، كان من أشهر الحكماء والأطباء، فهو أبُقْراطُ الطِّبِّ، وأرسطو الحكمة عند العرب والإفرنج، وقد جَمَع في فسيح صدره كتابات أرسطو وأوعى في خزانة معارفه حِكَمه وقواعِده، وقد نقل الإفرنج عنه أكثر ما عندهم من كتابات جَالِينوس وأبقراط، ونشروا أشهر تآليفه في اللغة العربية، وترجموا أكثرها إلى لغاتهم، وكان هو المُعَوَّل عليه شرقًا وغربًا في قواعد الحكمة والطب، وقد اعترف له الجميع بالفضل فافتخر به الشرق وأخذ عنه ومدحه الغرب وانتفع بتصانيفه.

وكان والده من أهل بَلْخ وانتقل إلى بُخارَى، وكان من العُمَّال الكُفَاة. واشتغل ابن سيناء بالعلوم والفنون، ثم توجَّه نحوهم الحكيم أبو عبد الله النَّاتلي، فأنزله عنده، وابتدأ يقرأ عليه كتاب إيساغوجى، وأحكم عليه علم المنطق حتى بَرَع، ويقال إنه فاقه كثيرًا حتى أوضح له رموزًا وفَهَّمه إشكالات. ثم اشتغل بعد ذلك بالعلوم الطبيعية والإلهية، وفتح الله عليه أبواب العلوم، ثم رغب بعد ذلك في علم الطِّبِّ، فتعلَّم حتى فاق فيه الأوائل والأواخر وأصبح عديم القرين تَرِد إليه الناس لتتعلم منه أنواعه والمعالجات المقتبسة من التجربة، ويقال إن سِنَّه إذ ذاك لم تزد عن ست عشرة سنة؛ لأنه لم يشتغل بغير المطالعة، وكان إذا أشكلت عليه مسألة توضأ وقصد المسجد وصلى ودعا الله أن يُسهِّلها عليه.

وقد عالج الأمير نوح بن نصر السَّامَاني صاحب خُراسان من مرضه حين استحضره لمَّا سمع بحكمته حتى برئ، فاتصل به، وقرُب منه، ودخل إلى دار كتبه، وكانت عديمة المثل، فيها من كل فن، فظفِر بما حصل عليه منها من ثمرات العلوم. واتُّفق بعد ذلك أن حُرِقت خزانة هذه الكتب (ويقال إن أبا علي هو السبب في إحراقها لينفرد بما حصَّله منها)، ولما اضطربت أمور الدولة السامانية خرج أبو علي من بخارى إلى قَصَبَة خوارزم، ولم يزل ينتقل في البلاد إلى أن ذهب إلى جُرْجَان وصنَّف بها «الكتاب الأوسط» ولهذا يقال له الأوسط الجرجاني، ثم بعد ذلك ذهب إلى هَمَذان وتقلَّد الوزارة لشمس الدولة، ثم ثارت العسكر عليه فأغاروا على داره ونهبوها وقبضوا عليه، وسألوا شمس الدولة قَتْله فامتنع، ثم أُطْلق فتَوَارى. ولمَّا مرض شمس الدولة أحضره لمداواته واعتذر إليه وأعاده وزيرًا، ولما مات شمس الدولة وتولى تاج الدولة ولم يستوزره توجه إلى أصْبهانَ، وكان بها أبو جعفر فأحسن إليه.

وكانت ولادته سنة ٣٧٠، وتُوفِّي سنة ٤٢٨ بهمذان بعد أن اغتسل وتاب وتصدق بما معه على الفقراء، وردَّ المظالم إلى مَنْ عرفه، وأعتق مماليكه، وجعل يختم القرآن الكريم كل ثلاثة أيام مرة.


(٤٥) أبو العلا المعري (٣٦٣–٤٤٩ﻫ)
هو أحمد بن عبد الله بن سليمان التَّنُوخِي المَعَرِّي اللغوي الشاعر، كان متضلعًا من فنون الأدب، قرأ النحو واللغة على أبيه بالمَعَرَّة وعلى محمد بن عبد الله بحلب، وله التصانيف الكثيرة المشهورة، والرسائل المأثورة، وله من النظم «لزوم ما لا يلزم»، وله «سَقْط الزَّنْد»، وشَرَحه بنفسه وسمَّاه «ضوء السقط» وله غير ذلك، وكان علَّامة عصره. وأخذ عنه أبو القاسم علي بن المحسن التَّنوخي والخطيب أبو زكرياء التبريزي وغيرهما، وكانت ولادته سنة ٣٦٣ بالمَعَرَّة، وعَمِيَ سنة ٣٦٧ من الجُدَرِي. وقد اختصر ديوان أبي تمَّام والبُحْتُري والمتنبي، وتكلم على غريب أشعارهم ومعانيها ومآخذهم من غيرهم وما أُخذ عليهم، وبعد أن لزم منزله سنة ٤٠١ سار إليه الطلبة من الآفاق، وكاتبه العلماء والوزراء وأهل الأقدار، ومكث مدة خمس وأربعين سنة لا يأكل اللحم تَزَهُّدًا؛ لأنه كان يعدُّ ذبح الحيوان تعذيبًا، وعمل الشعر وهو ابن إحدى عشرة سنة، ومن كلامه في اللزوم:
لَا تَطْلُبَنَّ بآلةٍ لَكَ رُتْبَةً
قَلَمُ البَلِيغِ بِغيرِ جَدٍّ مِغْزَلُ
سَكَنَ السِّمَاكَانِ السَّمَاءَ كِلَاهُمَا
هَذَا لَهُ رُمْحٌ وَهَذَا أَعْزَلُ

وتوفي سنة ٤٤٩ بالمعرَّة، وأوصى أن يُكتبَ على قبره:
هَذَا جَنَاهُ أبِي عَلَيَّ
وَمَا جَنَيْتُ عَلَى أَحَد



(٤٦) حجة الإسلام الغزالي (٤٥٠–٥٠٥ﻫ)

هو أبو حامد محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الغزالي، المُلقَّب حُجَّة الإسلام، زين الدين الطُّوسي الفقيه الشافعي، ولم يكن للطائفة الشافعية في آخر عصره مثله، اشتغل في مبدأ أمره بطُوس، ثم قدِم نيسابور وجدَّ في الاشتغال على إمام الحَرَمين أبي المعالي حتى تَخرَّج في مدة قريبة وصار من الأعيان المشار إليهم في زمن أستاذه، ولم يزل ملازمًا له إلى أن توفي، فخرج من نيسابور إلى العسكر، ولقي الوزير نظامَ المُلْك فأكرمه وعظَّمه وأقبل عليه، وكان بحضرة الوزير جماعة من الأفاضل، فجرى بينهم الجدال والمناظرة في عدة مجالس وظهر عليهم، واشتُهر اسمه وسارت بذكره الركبان، ثم فُوِّض إليه التدريس بالمدرسة النظامية ببغداد،
وأُعْجبَ به أهلُ العراق وارتفعت عندهم منزلته.

ثم ترك جميع ما كان عليه وسلك طريق الزهد والانقطاع، وقصد الحج، ولمَّا رجع توجه إلى الشام فأقام بمدينة دِمَشْق، ثم انتقل منها إلى بيت المقدس، واجتهد في العبادة، ثم قصد مصر وأقام بالإسكندرية مدة، ثم عاد إلى وطنه بطوس، واشتغل وصنَّف الكتب، التي أشهرها: «إحياء علوم الدين»، وكتاب «الوسيط»، و«البسيط»، و«الوجيز»، و«الخلاصة» في الفقه، و«المقصد الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى»، و«مشكاة الأنوار»، و«المُنْقِذ من الضلال»، إلى غير ذلك من الكتب النفيسة، ثم أُلْزم بالعَوْد إلى نيسابور والتدريس بها بالمدرسة النظامية، ثم ترك ذلك وعاد إلى بيته في وطنه ووزَّع أوقاته على أعمال الخير والعبادة. وكانت ولادته سنة ٤٥٠ هجرية، وتوفي سنة ٥٠٥.

(٤٧) الطُّغْرائي (توفي سنة ٥١٣ﻫ)

هو العميد أبو إسماعيل الحسين بن علي الملقَّب مُؤَيِّد الدين المشهور بالطُّغْرائي، كان غزير الفضل، لطيف الطبع، فاق أهل عصره بصنعة النظم والنثر. وقال أبو المعالي في كتابه «زينة الدهر»:

إن الطغرائي كان يُنْعَت بالأستاذ، وكان وزير السلطان مسعود بن محمد السَّلْجُوقي بالموصل، ولمَّا جرى بينه وبين أخيه السلطان محمد المَصَافُّ بالقرب من همذان وكانت النصرة لمحمود، وُشِي به فقُتل، وكانت هذه الواقعة سنة ٥١٣، وقيل: سنة أربع عشرة، وقد جاوز ستين سنة. والطغرائي نسبة لمن يكتب الطُّغْرَى وهي الطُّرَّة التي تُكتب في أعلى الكتب فوق البسملة بالقلم الغليظ، وهي لفظة أعجمية. وللطغرائي المذكور ديوان شعر جيد، ومن محاسن شعره قصيدته المعروفة بلامية العجم التي أولها:
أَصَالَةُ الرَّأْي صَانَتْنِي عَنِ الخَطَلِ
… … … … إلخ


(٤٨) الحريري (٤٤٦–٥١٦ﻫ)

هو أبو محمد القاسم الحريري البصري، صاحب المقامات، أحدُ أئمة عصره، ورُزق الحُظْوة التامَّة في عمل المقامات، واشتملت على شيء كثير من كلام العرب؛ من لغاتها وأمثالها ورموز أسرار كلامها، وبها يُسْتدلُّ على فضل هذا الرجل، وعلى كثرة اطِّلاعه، وغزارة مادَّته. وسبب وضعه لها ما حكاه ولده أبو القاسم قال: كان أبي جالسًا في مسجده ببني حرام، فدخل شيخ ذو طِمْرَيْنِ، عليه أُهْبَة السفر، رَثُّ الحال، فصيح الكلام، حسن العبارة، فسألته الجماعة: من أين الشيخ؟ فقال: من سَرُوج، فاستخبره عن كُنْيته، فقال: أبو زيد، فعمل أبي المقامة المعروفة ﺑ «الحَرَامِيَّة»، وعزاها إلى أبي زيد المذكور، واشتُهرت فبلغ خبرها الوزير شرف الدين وزير الإمام المسترشد بالله، فلما وقف عليها أعجبته، وأشار على والدي أن يضم إليها غيرها، فأتمَّها خمسين. وكانت ولادة الحريري سنة ٤٤٦، وتوفي سنة ٥١٦ بالبصرة في سكة بني حرام.

وقد حاول كثير من الإفرنج ترجمة المقامات إلى لغتهم ولكن مثل هذا الكتاب لا يُترجم، وللحريري غير المقامات كتب كثيرة، منها «دُرَّة الغوَّاص» و«مُلْحَة الإعراب» في النحو، وديوان شعر ورسائل.

(٤٩) ابن رشد (٥١٤–٥٩٥ﻫ)
هو أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد أشهر فلاسفة العرب، وُلد في قرطبة سنة ٥١٤ هجرية، وكان أبوه متولِّيًا فيها الفتوى، أخذ عن أشهر الفلاسفة في عصره، وتخرَّج في الفقه والطب والفلسفة، وقرَّبه المهدي يوسف لثقته به وحذقه، ورقَّاه أسمى المراتب فخَلَفه بها في فتوى الأندلس، ثم تولى الفُتْيا في مَرَّاكُش وأقام فيها مدة، وسكن إشْبيليَّة وكان له نفس الرعاية والاعتبار في أوائل عهد المنصور خَلَف المهدي يوسف، إلا أنه وُشِي به حَسَدًا وعُدْوانًا ففسد أمره عند المنصور فعَزَله عن رتبته ونفاه عدة سنين، ثم دُعِي إلى مَرَّاكُش فشُمِل بالعطايا والمكارم، وتوفي بها بعد أمد وجيز سنة ٥٩٥ هجرية.

وقد ذهب ابن رشد إلى أن أرسطو هو أعظم الفلاسفة، وترجم مؤلَّفاته وشرحها بضبْطٍ وتَرَوٍّ، وله شرح أرجوزة في الطب للشيخ الرئيس ابن سيناء، وله كتاب «فصل المقال فيما بين الشريعة والطبيعة من الاتصال»، ومن أشهر مؤلفاته «الكليات» في الطب، وله غير ذلك كثير، وأصل مؤلفاته في العربية نادر الوجود ولكن الأوروبيين اهتموا بترجمتها إلى لغاتهم، فمن ذلك «شرح أقوال أرسطو مع الرد على الغزالي» فإنه تُرْجم إلى اللاتينية وحسب أحد عشر مجلدًا وطُبع بالبندقية سنة ١٥٦٠ ميلادية، وكذلك كلياته تُرجِمت وطُبِعت بالبندقية أيضًا.

وقد اهتم الأوروبيون بفلسفة ابن رشد اهتمامًا كبيرًا، وكتب رينان الفرنسي الشهير كتابًا سماه «ابن رشد ومذهبه»، ذكر فيه سيرته ومؤلفاته، وقال إنه كان أعظم فلاسفة القرون المتوسطة التابعين لأرسطو والناهجين سبيل الحرية في الأفكار والأقوال، وقد طُبع هذا الكتاب بباريس سنة ١٨٥٢.



(٥٠) ابن جُبَيْر (٥٤٠–٦١٤ﻫ)

هو أبو الحسن محمد بن أحمد بن جُبَيْر الكناني، وُلد ببَلَنْسِيَة في سنة ٥٤٠، وقد برع في العلم والشعر، ورحل إلى المشرق أكثر من مرة، فخرج من غَرْنَاطة في رحلته الأولى سنة ٥٧٨، ووصل إلى الإسكندرية بعد ثلاثين يومًا، وحجَّ ورحل إلى الشام والعراق والجزيرة وغيرها، ثم عاد إلى الأندلس سنة ٥٨١، ثم سافر بعد ذلك إلى المشرق، وتوفي بالإسكندرية سنة ٦١٤. وهو ممن أَثْرَوْا بالأدب ثم تزهَّد وأعرض عن الدنيا، وكان من أهل المروءات، مؤنسًا للغرباء، عاشقًا لقضاء حوائج الناس.

https://k.top4top.io/p_2007qrxtc1.png

عطر الجنة 07-01-2021 03:51 AM

رد: أدبيات اللغة العربية
 


https://k.top4top.io/p_2007qrxtc1.png


(٥١) ابن الفارض (٥٧٦–٦٣٢ﻫ)

هو أبو حفص وأبو القاسم عمر بن أبي الحسن المعروف بابن الفارض المنعوت بالشرف، له ديوان شعر لطيف، وأسلوبه فيه رائق ظريف، ينحو منحى طريقة الصوفية، ومن كلامه:
لَمْ أَخْلُ مِنْ حَسَدٍ عَلَيْكَ فَلَا تُضِعْ
سَهَرِي بِتَشيِيع الخَيَالِ المُرْجِفِ
وَاسْأَلْ نُجُومَ اللَّيْلِ هَلْ زَارَ الكَرَى
جَفْنِي؟ وَكَيْفَ يَزُورُ مَنْ لَمْ يَعْرِفِ

وكان — رحمه الله — صالحًا، كثير الخير، حَسَن الصحبة، محمود العشيرة، جاور بمكة المكرمة زمانًا. وكانت ولادته سنة ٥٧٦ بالقاهرة، وتوفي بها سنة ٦٣٢، ودُفن بسَفْح المُقَطَّم.
(٥٢) ابن الأثير

يطلق هذا الاسم على كل واحد من إخوة ثلاثة، وهم: العالم المحدِّث أبو السعادات مجْد الدين المبارك (٥٤٤–٦٠٦ﻫ)، والمؤرخ المدقق أبو الحسن عز الدين علي (٥٥٥–٦٣٠ﻫ)، والوزير الأديب ضياء الدين أبو الفتح نصر الله (…–٦٣٧ﻫ)، وهم أبناء أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشَّيْباني، وُلِدوا جميعًا بجزيرة ابن عمر بالجزيرة، ثم رحلوا مع أبيهم إلى المَوْصل واشتغلوا بها وحصَّلوا العلوم، وكانوا جميعًا فقهاء محدِّثين أدباء مؤرخين، إلا أن كل واحد منهم تفرَّد بعلم وألَّف فيه مؤلفات لا تزال طائرة الصيت إلى يومنا هذا.

فتفرَّد المبارك بالحديث، وألَّف فيه كتاب «النهاية في غريب الحديث»، وقد كان اعتراه مرض كفَّ يديه ورجليه فمنعه من الكتابة وأقام في داره، وفي هذه الحالة صنف كتبه، وكان له جماعة يعينونه عليها.

وتفرَّد عليٌّ بالتاريخ، وألَّف فيه عدَّة من الكتب بعد أن طاف كثيرًا من البلاد وسمع الأخبار، ومن أشهر كتب التاريخ كتابه «الكامل».

وتفرَّد ضياء الدين بالأدب، ومن أشهر كتبه فيه «المَثَل السائر في أدب الكاتب والشاعر»، وقد كان اتصل بخدمة صلاح الدين الأيوبي، ثم انتقل إلى ولده الملك الأفضل فاستوزره، وكانت وفاته سنة ٦٣٧.


(٥٣) ابن الحاجب (٥٧٠–٦٤٦ﻫ)
هو أبو عمرو عثمان بن عمر الفقيه المالكي المعروف بابن الحاجب الملقب جمال الدين، كان والده حاجبًا للأمير عز الدين، وكان كُرْدِيًّا، واشتغل ولده أبو عمرو في صغره بالقرآن الكريم ثم بالفقه على مذهب الإمام مالك ثم بالعربية والقراءات، وبرع في علومه وأتْقَنَها غاية الإتقان، وكان ذلك بالقاهرة، ثم انتقل إلى دمشق ودرَّس بجامعها وأكبَّ الخلق على الاشتغال عليه، وتَبحَّر في الفنون، وكان الأغلب عليه علم العربية.

صنَّف مختصرًا في مذهبه، ومقدمة وجيزة في النحو وسمَّاها «الكافية»، وأخرى مثلها في التصريف وسمَّاها «الشافية»، وشرح المقدمتين، وصنَّف في أصول الفقه، وخالف النحاة في مواضع وأورد عليهم إشكالات وإلزامات تَبْعُد الإجابة عنها، وكان من أحسن خلق الله ذهنًا، ثم عاد إلى القاهرة وأقام بها والناس ملازمون للاشتغال عليه، ثم انتقل إلى الإسكندرية للإقامة بها فلم تَطُل مدته هناك. وتُوفِّي بها سنة ٦٤٦، ووُلد سنة ٥٧٠ بإسنا.


(٥٤) بهاء الدين زهير (٥٨١–٦٥٦ﻫ)

هو أبو الفضل زُهَير بن محمد بن علي الملقب بهاء الدين الكاتب، كان من فضلاء عصره، وأحسنهم نظمًا ونثرًا وخطًّا، ومن أكبرهم مروءة، وكان قد اتصل بخدمة السلطان الملك الصالح نجم الدين أبي الفتح أيوب ابن الملك الكامل بالديار المصرية، وتوجَّه في خدمته إلى البلاد الشرقية، وأقام بها إلى أن مَلَك المَلِكُ الصالح مدينة دمشق فانتقل إليها في خدمته، وأقام كذلك إلى أن جرت الواقعة المشهورة على الملك الصالح وخرجت عنه دمشق وخانه عسكره وقَبَضَ عليه ابن عمه الملك الناصر داود صاحب الكَرَك واعتقله بقلعة الكَرَك، فأقام بهاء الدين زهير المذكور بنابلس محافظة لصاحبه ولم يتصل بغيره، ولم يزل على ذلك حتى خرج الملك الصالح وملك الديار المصرية فقدم إليها في خدمته؛ لما كان عليه من مكارم الأخلاق ودماثة السجايا، ولذلك كان متمكنًا من صاحبه، كبير القدر عنده، لا يَطَّلع على سره الخفي غيره، ومن محاسن شعره مُلْغِزًا في القُفْل قوله:
وأَسْوَدُ عَارٍ أَنْحَلَ البَرْدُ جِسْمَهُ
وَمَا زَالَ مِنْ أَوْصَافِهِ الحِرْصُ وَالمَنْعُ
وَأَعْجَبُ شَيْءٍ كَوْنُهُ الدَّهْرَ حَارِسًا
ولَيْسَ لَهُ عَيْنٌ ولَيْسَ لَهُ سَمْعُ


ووُلد بهاء الدين المذكور سنة ٥٨١ ومات سنة ٦٥٦ بمصر.


(٥٥) أبو الفداء (٦٧٢–٧٣٢ﻫ)

هو السلطان الإمام، والملك المُؤيَّد إسماعيل بن علي بن محمود بن محمد بن عمر بن شاهِنْشَاه بن أيوب صاحب حَمَاة، وكانت ولادته بدمشق لأن أهله كانوا خرجوا من حماة خوفًا من التَّتَر. وكان أبو الفداء بطلًا شجاعًا، خدم الملك الناصر محمد بن قَلَاوُون لمَّا كان في الكَرَك، وساعده في محاربة التَّتَر، فوعده بحماة التي كانت إقطاعًا لأسرتهم ووفَّى له بذلك وجعله سلطانًا عليها يفعل فيها ما يشاء من إقطاع وغيره، وليس لأحد من الدولة بمصر معه حُكْم، ولقَّبَه بالسلطان المؤيد.

ويقال إن أجود ما كان يعرفه أبو الفداء علم الهيئة لأنه أتقنه، وإن كان قد شارك في سائر العلوم مشاركة جيدة، وله مؤلَّفات كثيرة في علوم مختلفة، أهمها «التاريخ» المتضمِّن التاريخ القديم وتاريخ الإسلام إلى سنة ١٣٢٨ ميلادية، والجغرافية المتضمنة على الخصوص وصف مصر وسورية وبلاد العرب وفارس، وهي أحسن الجغرافيات الشرقية، وقد طُبعت هي وتاريخه مرارًا باللغة العربية واللغات الإفرنجية بعد ترجمتها. ومات في الستين من عمره سنة ٧٣٢.


(٥٦) ابن خلدون (٧٣٢–٨٠٨ﻫ)

هو أبو زيد عبد الرحمن بن محمد، وأصل بيته من إشبيلية من أعمال الأندلس، انتقلوا إلى تونس في أواسط القرن السابع للهجرة عند الجلاء، ونسبهم في حضرموت من عرب اليمن، وأول من رحل إلى الأندلس منهم هو خَلْدُون الجَدُّ العاشر للمترجَم.

ووُلد ابن خلدون بتونس سنة ٧٣٢ للهجرة، ورُبِّي في حجر والده، وقرأ القرآن الكريم بالقراءات السبع، ثم أخذ في دراسة الفقه والأدب فبرع فيهما، وكان كاتبًا بليغًا، وشاعرًا نابغًا، تنقَّل كثيرًا في بلاد المغرب والأندلس، وتولَّى الكتابة لكثير من الملوك، ورأى من النعيم والبأساء ما يراه أهل النباهة والشرف والصدق في كل زمان من الملوك الذين تَرُوج عندهم الوشايات، ثم حضر إلى مصر في سنة ٧٨٤، وأخذ يُعلِّم بالجامع الأزهر، ثم اتصل بالسلطان برقوق فأكرمه وأحسن مثواه، وفي سنة ٧٨٦ ولَّاه القضاء بمصر، فعدل بين الناس، ولم تؤثِّر فيه وشاية الواشين وسِعاية السَّاعين، ولم يزل بالقاهرة إلى أن مات سنة ٨٠٦، وقيل: سنة ٨٠٨.

وقد أبْقى شهرته إلى الآن تاريخه المشهور ومقدمته التي تدل على أن الرجل كان أكبر من نظروا في الاجتماع في عصره.

https://k.top4top.io/p_2007qrxtc1.png

عطر الجنة 07-01-2021 03:55 AM

رد: أدبيات اللغة العربية
 


https://k.top4top.io/p_2007qrxtc1.png




(٥٧) وفود العرب على كسرى قبل الإسلام
روى ابن القُطَامِي عن الكَلْبي قال: قدم النعمان بن المنذر على كسرى، وعنده وفود الروم والهند والصين، فذكروا من ملوكهم وبلادهم، فافتخر النعمان بالعرب وفضَّلهم على جميع الأمم لا يستثني فارسَ ولا غيرها، فقال كسرى وأخذته عزة الملك: يا نعمان، لقد فكَّرتُ في أمر العرب وغيرهم من الأمم، ونظرت في حالة من يَقْدم عليَّ من وفود الأمم، فوجدت للرُّوم حظًّا في اجتماع أُلْفتها، وعِظم سلطانها، وكثرة مدائنها، ووثيق بنيانها، وأنَّ لها دِينًا يُبيِّن حلالها وحرامها، ويرد سفيهها ويُقِيم جاهها، ورأيت الهند نحوًا من ذلك في حكمتها وطبِّها مع كثرة أنهار بلادها وثمارها وعجيب صناعتها، وطِيب أشجارها، ودقيق حسابها، وكثرة عددها، وكذلك الصين في اجتماعها، وكثرة صناعات أيديها، وفروسيتها، وهِمَّتها في آلة الحرب، وصناعة الحديد، وأن لها مُلكًا يجمعها، والتُّرك والخَزَر —
على ما بهم من سوء الحال في المعاش، وقلة الريف والثمار والحصون، وما هو رأس
عمارة الدنيا من المساكن والملابس — لهم ملوك تضم قَوَاصِيَهم، وتدبر أمرهم.

ولم أرَ للعرب شيئًا من خصال الخير في أمر دين ولا دنيا، ولا حزم ولا قوَّة، ومع أن مما يدل على مهانتها وذُلِّها وصغر همتها مَحِلَّتهم التي هم بها مع الوحوش النافرة والطير الحائرة، يقتلون أولادهم من الفاقة، ويأكل بعضهم بعضًا من الحاجة، قد خرجوا من مطاعم الدنيا وملابسها ومشاربها ولهوها ولذَّاتها، فأفضل طعام ظَفِر به نَاعِمُهم لحوم الإبل التي يَعَافها كثير من السباع لثقلها وسوء طعمها، وخوف دائها، وإن قَرَى أحدهم ضيفًا عدَّها مكرمة، وإن أُطْعِم أكلة عدَّها غنيمة. تنطق بذلك أشعارهم وتفتخر بذلك رجالهم، ما خلا هذه التَّنُوخية التي أسس جدي اجتماعها وشد مملكتها ومنعها من عدوها، فجرى لها ذلك إلى يومنا هذا، وإن لها — مع ذلك — آثارًا ولبوسًا وقُرًى وحصونًا وأمورًا تشبه بعض أمور الناس يعني اليمن، ثم لا أراكم تستكينون على ما بكم من الذِّلَّة والقلَّة والفاقة والبؤس حتى تفتخروا وتريدوا أن تنزلوا فوق مراتب الناس!

قال النعمان: أصلح الله الملك! حَقٌّ لأمةٍ الملكُ منها أن يسمو فضلها، ويعظم خطبها، وتعلو درجتها، إلا أن عندي جوابًا في كل ما نطق به الملك في غير ردٍّ عليه ولا تكذيب له، فإن أمَّنني من غضبه نطقت به. قال كسرى: قُلْ، فأنت آمن. قال النعمان: أما أُمَّتُك — أيها الملك — فليست تُنَازَع في الفضل؛ لموضعها الذي هي به من عقولها وأحلامها، وبَسطة محلها، وبُحْبُوحة عِزِّها، وما أكرمها الله به من ولاية آبائك وولايتك. وأما الأمم التي ذكرت، فأي أمة تَقْرُنها بالعرب إلا فَضَلَتْها. قال كسرى: بماذا؟
قال النعمان: بعزِّها ومَنَعَتها وحسن وجوهها وبأسها وسخائها وحكمة ألسنتها وشدة
عقولها وأنفتها ووفائها.

فأما عزُّها ومَنَعَتها فإنها لم تزل مجاورة لآبائك الذين دوَّخوا البلاد، ووطَّدوا الملك، وقادوا الجند، لم يطمع فيهم طامع، ولم يَنَلْهم نائل، حُصُونُهم ظهور خيلهم، ومِهَادهم الأرض، وسُقُوفهم السماء، وجُنَّتُهم السيوف، وعُدَّتُهم الصبر، إذ غيرها من الأمم إنما عِزُّها الحجارة والطين وجزائر البحور.

وأما حُسْن وجوهها وألوانها، فقد يُعْرَف فضلهم في ذلك على غيرهم من الهند المنحرفة، والصين المُنْحَفَة، والترك المُشوَّهة، والروم المُقشَّرة.

وأما أنسابها وأحسابها، فليست أمة من الأمم إلا وقد جهلت آباءها وأصولها وكثيرًا من أولها، حتى إن أحدهم ليُسْأل عمن وراء أبيه دُنْيَا فلا ينسبه ولا يعرفه، وليس أحد من العرب إلا يسمِّي آباءه أبًا فأبًا، حاطوا بذلك أحسابهم، وحفظوا به أنسابهم؛ فلا يدخل رجل في غير قومه، ولا يَنْتَسب إلى غير نسبه، ولا يُدْعى إلى غير أبيه.

وأما سخاؤها، فإنَّ أدناهم رجلًا الذي تكون عنده البَكْرة والنَّاب عليها بلاغه في حَمُوله وشِبعه ورِيِّه، فيطرقه الطارق الذي يكتفي بالفَلْذة ويجتزي بالشَّرْبة فيعقرها له، ويرضى أن يخرج عن دُنْيَاه كلها فيما يُكْسِبه حُسن الأُحْدوثة وطيِّب الذِّكر.

وأما حكمة ألسنتهم، فإن الله تعالى أعطاهم في أشعارهم، ورونق كلامهم، وحسنه ووزنه وقوافيه، مع معرفتهم بالأشياء، وضربهم للأمثال، وإبلاغهم في الصفات، ما ليس لشيء من ألسنة الأجناس. ثم خيلهم أفضل الخيل، ونساؤهم أعفُّ النساء، ولباسهم أفضل اللباس، ومعادنهم الذهب والفضة، وحجارة جبالهم الجَزْع، ومطاياهم التي لا يُبلغ على مثلها سفرٌ ولا يُقطع بمثلها بلدٌ قفرٌ.

وأما دينها وشريعتها، فإنهم متمسكون به حتى يبلغ أحدهم من نُسْكه بدينه أنَّ لهم أشهرًا حُرُمًا، وبلدًا مُحرَّمًا، وبيتًا محجوجًا يَنْسُكون فيه مناسكهم، ويذبحون فيه ذبائحهم، فيلقى الرجل قاتلَ أبيه أو أخيه، وهو قادر على أخذ ثأره وإدراك رغمه منه، فيَحْجُزُه كرمه ويمنعه دينه عن تناوله بأذى.

وأما وفاؤها، فإن أحدكم يلحظ اللحظة، ويومئ الإيماءة، فهي ولْثٌ (أي عهد) وعقدة لا يَحُلُّها إلا خروج نفسه، وإنَّ أحدهم يرفع عودًا من الأرض فيكون رهنًا بدَيْنه فلا يَغْلَق رهنُه ولا تُخْفَر ذمته، وإنَّ أحدهم ليبلغه أنَّ رجلًا استجار به، وعسى أن يكون نائيًا عن داره فيُصاب، فلا يرضى حتى يُفْنِي تلك القبيلة التي أصابته أو تَفْنى قبيلته لما أُخْفر من جواره، وإنه ليلجأ إليهم المجرم المُحدِث من غير معرفة ولا قرابة، فتكون أنفسهم دون نفسه، وأموالهم دون ماله.

وأما قولك أيها الملك: يئدون أولادهم، فإنما يفعله من يفعله منهم بالإناث؛ أنفةً من العار وغَيْرَة من الأزواج.

وأما قولك إنَّ أفضل طعامهم لحوم الإبل على ما وصفت منها، فما تركوا ما دونها إلا احتقارًا له، فعمَدُوا إلى أجلِّها وأفضلها، فكانت مراكبَهم وطعامَهم، مع أنَّها أكثر البهائم شحومًا، وأطيبها لحومًا، وأرقها ألبانًا، وأقلها غائلة، وأحلاها مَضْغة، وأنه لا شيء من اللُّحْمان يُعالَج ما يعالَج به لحمها إلا استبان فضلها عليه.

وأما تَحَارُبُهم وأكْل بعضهم بعضًا، وتركُهم الانقياد لرجل يسوسهم ويجمعهم؛ فإنما يفعل ذلك من يفعله من الأمم إذا أَنِسَت من نفسها ضعفًا وتخوَّفت نهوض عدوها إليها بالزحف، وإنه إنما يكون في المملكة العظيمة أهل بيتٍ واحدٍ يُعْرف فضلهم على سائر غيرهم، فيُلْقون إليهم أمورهم، وينقادون لهم بأزِمَّتهم. وأما العرب فإن ذلك كثيرٌ فيهم، حتى لقد حاولوا أن يكونوا ملوكًا أجمعين، مع أنفَتهم من أداء الخراج والوَطْث (أي الضرب الشديد بالرجل على الأرض) بالعَسْف.

وأما اليمن التي وصفها الملك، فإنما أتى جَدُّ الملك إليها الذي أتاه عند غلبة الحبش له على مُلْكٍ مُتَّسق وأمر مجتمع، فأتاه مسلوبًا طريدًا مستصْرِخًا، ولولا ما وُتِر به من يليه من العرب لمال إلى مجال، ولوجد من يجيد الطِّعان ويغضب للأحرار من غلبة العبيد الأشرار.

قال: فعجب كسرى لِمَا أجابه النعمان به، وقال: إنك لأهْلٌ لموضعك من الرئاسة في أهل إقليمك، ثم كساه من كسوته، وسرَّحه إلى موضعه من الحِيرة.

فلمَّا قَدِم النعمان الحِيرة، وفي نفسه ما فيها مما سمع من كسرى من تنقُّص العرب وتهجين أمرهم، بعث إلى أكثم بن صيفي وحاجب بن زُرَارة التَّميميَّين، وإلى الحارث بن ظالم وقيس بن مسعود البَكْريَّين، وإلى خالد بن جعفر وعلقمة بن عُلَاثَة وعامر بن الطُّفيل العامريين، وإلى عمرو بن الشَّريد السُّلَمي، وعمرو بن مَعْدِيكَرِب الزبيدي، والحارث بن ظالم المُرِّي؛ فلما قَدِموا عليه في الخَوَرْنَق قال لهم: قد عرفتم هذه الأعاجم، وقُرْب جِوار العرب منها، وقد سمعت من كسرى مقالات تخوَّفْت أن يكون لها غَوْر، أو يكون إنما أظهرها لأمر أراد أن يتخذ به العرب خَوَلًا كبعض طَمَاطِمته في تَأْدِيتهم الخراج إليه، كما يفعل بملوك الأمم الذين حوله،
فاقتصَّ عليهم مقالات كسرى وما رد عليه، فقالوا: أيها الملك، وفَّقك الله، ما أحسن ما رددت وأبلغ ما حجَجْته به! فمُرنا بأمرك، وادعنا إلى ما شئت.
قال: إنما أنا رجل منكم، وإنما ملكت وعززت بمكانكم وما يُتخوَّف من ناحيتكم، وليس شيء أحب إليَّ مما سدَّد الله به أمركم، وأصلح به شأنكم، وأدام به عزكم، والرأي أن تسيروا بجماعتكم أيها الرَّهْط، وتنطلقوا إلى كسرى، فإذا دخلتم نطق كل رجل منكم بما حضره، ليعلم أنَّ العرب على غير ما ظن أو حدثته نفسه، ولا ينطق رجل منكم بما يغضبه؛ فإنه ملك عظيم السلطان، كثير الأعوان، مُتْرف معجب بنفسه، ولا تَنْخَزلوا له انخزال الخاضع الذليل، وليكن أمر بين ذلك، تظهر به دماثة حلومكم، وفضل منزلتكم، وعظيم أخطاركم، وليكن أول من يبدأ منكم بالكلام أكثم بن صيفي، ثم تتابعوا على الأمر من منازلكم التي وضعْتكم بها، فإنما دعاني إلى التَّقدمة إليكم علمي بميل كل رجل منكم إلى التقدم قبل صاحبه، فلا يكوننَّ ذلك منكم فيجد في آدابكم مَطعنًا؛ فإنه ملك مترف، وقادر مسلَّط. ثم دعا لهم بما في خزائنه من طرائف حُلَل الملوك، كل رجل منهم حُلة، وعمَّمه عمامة، وختَّمه بياقوتة، وأمر لكل رجل منهم بنجيبة مَهْرِيَّة وفرس نجيبة، وكتب معهم كتابًا:

أما بعد، فإن الملك ألقى إليَّ من أمر العرب ما قد علم، وأجبته بما قد فهم مما أحببت أن يكون منه على علم، ولا يَتلَجْلج في نفسه أن أمة من الأمم التي احتُجزت دونه بمملكتها، وحَمت ما يليها بفضل قوَّتها، تبْلُغها في شيء من الأمور التي يتعزَّز بها ذَوُو الحزم والقوة والتدبير والمكيدة. وقد أوفدت أيها الملك رهطًا من العرب، لهم فضل في أحسابهم وأنسابهم وعقولهم وآدابهم، فليسمع الملك، ولْيُغْمض عن جفاء إن ظهر من منطقهم، ولْيُكْرمني بإكرامهم وتعجيل سراحهم، وقد نسبتهم في أسفل كتابي هذا إلى عشائرهم.

فخرج القوم في أُهْبَتهم حتى وقفوا بباب كسرى بالمدائن، فدفعوا إليه كتاب النعمان فقرأه وأمر بإنزالهم إلى أن يجلس لهم مجلسًا يسمع منهم. فلما أن كان بعد ذلك بأيام، أمر مَرَازِبَته ووجوه أهل مملكته فحضروا وجلسوا على كراسي عن يمينه وشماله، ثم دعا بهم على الولاء والمراتب التي وصفهم النعمان بها في كتابه، وأقام التَّرْجُمان ليؤدي إليه كلامهم، ثم أذن لهم في الكلام.

فقام أكثم بن صيفيُّ فقال: إن أفضل الأشياء أعاليها، وأعلى الرجال ملوكها، وأفضل الملوك أعمُّها نفعًا، وخير الأزمنة أخصبها، وأفضل الخطباء أصدقها. الصدق مَنْجاة، والكذب مَهْواة، والشَّرُّ لَجَاجة، والحزم مركب صعب، والعجز مركب وطيء. آفَة الرأي الهوى، والعجز مفتاح الفقر، وخير الأمور الصبر. حُسْن الظن ورطة، وسوء الظن عصمة. إصلاح فساد الرعية خير من إصلاح فساد الراعي. من فسدت بطانته كان كالغاصِّ بالماء. شر البلاد بلاد لا أمير بها. شر الملوك من خافه البريء. المرء يعجِز لا محالة. أفضل الأولاد البررة. خير الأعوان من لم يُراء بالنصيحة. أحقُّ الجنود بالنصر مَنْ حَسُنَتْ سَريرته. يكفيك من الزاد ما بلَّغك المحل. حَسْبُك من شرٍّ سَمَاعه. الصمت حِكَم وقليل فاعله. البلاغة الإيجاز. من شدَّد نفَّر، ومن تراخى تألَّف.

فتعجب كسرى من أكثم، ثم قال: ويحك يا أكثم! ما أحكمك وأوثق كلامك لولا وضعُك كلامك في غير موضعه! قال أكثم: الصدق ينبئ عنك لا الوعيد. قال كسرى: لو لم يكن للعرب غيرك لكفى. قال أكثم: رُبَّ قولٍ أنفذ من صَوْل.

ثم قام حاجب بن زُرارة التميمي، قال: وَرَى زندك، وعلت يدك، وهِيب سلطانك، إن العرب أمة قد غَلُظت أكبادها، واسْتَحْصدت مِرَّتُها، ومُنِعَت دِرَّتها. وهي لك وامقة ما تألَّفْتها، مُسْتَرْسِلة ما لَايَنْتها، سامعة ما سامَحْتها، وهي العلقم مرارة، وهي الصَّابُ غضاضة، والعسل حلاوة، والماء الزلال سلاسة. نحن وفودها إليك، وألسنتها لديك. ذمَّتنا محفوظة، وأحسابنا ممنوعة، وعشائرنا فينا سامعة مطيعة. إن نَؤُب لك حامدين خيرًا فلك بذلك عموم مَحْمدتنا، وإن نَذُمَّ لم نُخَصَّ بالذمِّ دونها. قال كسرى: يا حاجب، ما أشبه حجر التِّلال بألوان صخرها. قال حاجب: بل زئير الأُسد بصَوْلتها. قال كسرى: وذلك.

ثم قام الحارث البكري فقال: دامت لك المملكة باستكمال جزيل حظِّها، وعُلُوِّ سنائها! من طال رِشاؤه كثر مَتْحُه، ومن ذهب ماله قل مَنْحُه. تناقُل الأقاويل يُعرِّف اللُّب، وهذا مقام سيُوجف بما تنطق به الرَّكْب، وتعرف به كُنْه حالنا العجم والعُرْب. ونحن جيرانك الأَدْنون، وأعوانك المُعِينون. خيولنا جمَّة، وجيوشنا فخْمة. إن استنجدْتَنا فغير رُبُض، وإن استطرقْتنا فغير جِهْض، وإن طلبتنا فغير غُمْض. لا ننْثني لذعر، ولا نتنكَّر لدهر. رماحنا طوال، وأعمارنا قصار. قال كسرى: أنفس عزيزة، وأمة ضعيفة. قال الحارث: أيها الملك، وأنَّى يكون لضعيفٍ عزَّة، أو لصغير مِرَّة؟! قال كسرى: لو قصر عمرك لم تسْتولِ على لسانك نفسك. قال الحارث: أيها الملك، إن الفارس إذا حمل نفسه على الكتيبة مغرِّرا بنفسه على الموت، فهي مَنِيَّة استقبلها، وجِنان استَدْبرها، والعرب تعلم أني أبعث الحرب قُدُمًا وأحبِسها وهي تَصَرَّف بها، حتى إذا جاشَتْ نارُها، وسَعَرت لظاها، وكشفت عن ساقها، جعلْت مَقادها رمحي، وبَرْقَها سيفي، ورعدها زئيري، ولم أقصِّر عن خوض خَضْخَاضِها حتى أنغمس في غمرات لُجَجها، وأكون فُلْكًا لفرساني إلى بُحْبُوحة كبشها، فأستمطِرها دمًا، وأترك حُماتَها جَزَرَ السِّباع وكلِّ نَسر قَشْعَم. ثم قال كسرى لمن حضره من العرب: أكذلك هو؟ قالوا: فِعالُهُ أنطق من لسانه. قال كسرى: ما رأيت كاليوم وفدًا أحشد، ولا شهودًا أوفد.

ثم قام عمرو بن الشَّريد السُّلَمي فقال: أيها الملك، نَعِم بالُك، ودام في السرور حالُك! إنَّ عاقبة الكلام مُتدبَّرة، وأشكال الأمور معتبَرة، وفي كثيرٍ ثِقْلة، وفي قليل بُلْغة، وفي الملوك سَوْرة العزِّ، وهذا منطق له ما بعده، شَرُف فيه من شَرُف، وخَمَل فيه من خمل. لم نأتِ لضَيْمك، ولم نَفِد لسُخْطك، ولم نتعرَّض لرِفْدِك. إنَّ في أموالنا مُنْتَقَدًا، وعلى عزِّنا معتمَدًا. إن أَوْرَيْنا نارًا أثْقَبنا، وإنْ أَوِد دهرٌ بنا اعْتدلنا. إلا أنَّا مع هذا لجِوَارك حافظون، ولمن رَامَك كافحون، حتى يُحْمد الصَّدَر، ويُستَطاب الخبر. قال كسرى: ما يقوم قَصْد منطقك بإفراطك، ولا مدْحُك بذمِّك.

قال عمرو: كفى بقليل قصدي هاديا، وبأيْسرَ إفراطي مُخْبِرا! ولم يُلَمْ من غَرَبت نفسه عما يعلم، ورضي من القصد بما بلغ. قال كسرى: ما كل ما يعرف المرء ينطق به. اجلس.

ثم قام خالد بن جعفر الكلابيُّ فقال: أحضَر الله الملك إسعادا، وأرشده إرشادا! إنَّ لكل منطق فرصة، ولكل حاجة غُصَّة، وعِيُّ المنطق أشدُّ من عِيِّ السكوت، وعِثَار القول أنكأ من عثار الوَعْث، وما فرصة المنطق عندنا إلا بما نَهْوَى، وغُصَّة المنطق بما لا نَهْوَى غير مستساغة، وتركي ما أعلم من نفسي ويُعْلم من سمعي أنني له مُطيق أحبُّ إليَّ من تكلُّفي ما أتخوَّف ويُتَخوَّف مني. وقد أوفدنا إليك ملكنا النعمان، وهو لك من خير الأعوان، ونِعْمَ حامل المعروف والإحسان! أنفُسنا بالطاعة لك باخعة، ورقابنا بالنصيحة خاضعة، وأيدينا لك بالوفاء رهينة. قال له كسرى: نطقت بعقل، وسَمَرْت بفضل، وعَلَوْت بنُبل. ثم قام علقمة بن عُلَاَثة العامريُّ فقال: نُهِجَت لك سبل الرشاد، وخضعت لك رقاب العباد! إن للأقاويل مناهج، وللآراء موالج، وللعويص مخارج، وخير القول أصدقه، وأفضل الطلب أنجحه. إنَّا وإن كانت المحبة أحضرتْنا، والوِفادة قرَّبتنا، فليس من حضرك منا بأفضل ممَّن عَزَب عنك، بل لو قستَ كل رجل منهم وعلمت منهم ما علمنا، لوجدتَ له في آبائه دُنْيَا أندادًا وأكفاءً، كلُّهم إلى الفضل منسوب، وبالشرف والسُّؤْدُد موصوف، وبالرأي الفاضل والأدب النافذ معروف. يَحْمى حِماه، ويُرْوِي نداماه، ويَذُود أعداه. لا تخْمُد ناره، ولا يَحْتَرز منه جاره. أيها الملك، مَنْ يَبْلُ العربَ يعرفْ فضلَهم، فاصطنع العرب، فإنها الجبال الرواسي عِزّا، والبحور الزَّواخر طَمْيا، والنجوم الزواهر شرفا، والحصى عددا، فإن تعرف لهم فضلهم يُعِزُّوك، وإنْ تستصرِخْهم لا يخذُلُوك. قال كسرى وخشي أن يأتي منه كلام يحمله على السُّخْط عليه: حسْبُك، أبلغت وأحسنت.

ثم قام قيس بن مسعود الشَّيباني فقال: أطاب الله بك المراشد، وجنَّبك المصائب، ووقاك مكروه الشَّصَائب! ما أحقَّنا إذ أتيناك بإسماعك ما لا يُحْنِق صدرك، ولا يزرع لنا حقدًا في قلبك، لم نَقْدَم أيها الملك لمُسَاماة، ولم ننتسب لمعاداة، ولكن لتعلم أنت ورعيتك ومن حضرك من وفود الأمم أنَّا في المنطق غير مُحْجِمين، وفي الناس غير مقصِّرين، إن جُورينا فغير مسبوقين، وإن سُومِينا فغير مغلُوبين. قال كسرى: غير أنكم إذا عاهدتم غير وافين. وهو يعرِّض به في تركه الوفاء بضمانِهِ السَّواد. قال قيس: أيها الملك، ما كنت في ذلك إلا كوافٍ غُدِرَ به، أو كخافرٍ أُخْفِرَ بذمته. قال كسرى: ما يكون لضعيفٍ ضمان، ولا لذليلٍ خفارة. قال قيس: أيها الملك، ما أنا فيما أُخْفِر من ذمتي أحق بإلزامي العارَ منك فيما قُتِل من رعيتك وانْتُهِك من حُرمتك. قال كسرى: ذلك لأن من ائتمن الخانة، واستنجد الأَثَمة ناله من الخطأ ما نالني، وليس كل الناس سواء، كيف رأيت حاجب بن زرارة لم يُحْكِم قواه فيُبْرِم، ويَعْهَد فيُوفِّي، ويعدُ فَيُنْجِز؟ قال: وما أحقه بذلك وما رأيته إلا لي. قال كسرى: القوم بُزْلٌ فأفضلها أشدها.

ثم قام عامر بن الطُّفيل العامريُّ فقال: كَثُر فنون المنطق، وليس القول أعمى من حِنْدِس الظَّلْماء، وإنما الفخر في الفِعال، والعجز في النجدة، والسُّؤدد مطاوعة القدرة. وما أعلمك بقدْرنا، وأبصرك بفضلنا، وبالْحَرا إنْ أدالت الأيام، وثابَتِ الأحلام، أن تُحْدِث لنا أمورًا لها أعلام. قال كسرى: وما تلك الأعلام؟ قال: مجتمع الأحياء من ربيعة ومُضَر، على أمر يذكر. قال كسرى: وما الأمر الذي يُذْكَر؟ قال: ما لي علم بأكثر مما خبَّرني به مخبر. قال كسرى: متى تكاهنت يا بن الطُّفيل؟ قال: لست بكاهن، ولكني بالرمح طاعن. قال كسرى: فإن أتاك آتٍ من جهة عينك العوراء، ما أنت صانع؟ قال: ما هَيْبتي في قفاي بدون هيبتي في وجهي، وما أذهب عيني عَيْث ولكن مطاوعة العَبَث.

ثم قام عمرو بن مَعْدِيكَرِب الزبيدي فقال: إنما المرء بأصغريه؛ قلبه ولسانه، فبلاغ المنطق الصواب، ومِلاك النجدة الارتياد، وعفو الرأي خير من استِكْراه الفكرة، وتوقيف الخِبرة خير من اعتساف الحَيْرة، فاجْتَبِذْ طاعتنا بلفظك، واكْتَظِم بادِرتنا بحِلمك، وأَلِنْ لنا كَنَفك يَسْلَس لك قِيادنا، فإنَّا أناس لم يُوَقِّس صَفَاتَنا قِراع مناقير من أراد لنا قضما، ولكن منعْنا حِمانا مِن كل من رام لنا هضما.

ثم قام الحارث بن ظالم المُرِّي فقال: إنَّ من آفة المنطق الكذب، ومن لؤم الأخلاق المَلَق، ومن خَطَل الرأي خِفَّة المَلك المُسَلَّط، فإن أعلمناك أن مواجهتنا لك عن ائتلاف، وانقيادنا لك عن تصاف، ما أنت لقَبول ذلك منا بخليق، ولا للاعتماد عليه بحقيق، ولكن الوفاء بالعهود، وإحكام ولْث العقود، والأمر بيننا وبينك معتدل، ما لم يأت من قِبلك ميل أو زَلَل. قال كسرى: من أنت؟ قال: الحارث بن ظالم. قال: إن في أسماء آبائك لدليلًا على قلة وفائك، وأن تكون أولى بالغدر، وأقرب من الوزر. قال الحارث: إنَّ في الحق مَغْضَبة، والسَّرْوُ التغافل، ولن يستوجب أحد الحلم إلا مع القدرة، فلتشبه أفعالُك مجلسَك. قال كسرى: هذا فتى القوم.

ثم قال كسرى: قد فهمت ما نطقت به خطباؤكم، وتفنَّن فيه متكلِّموكم، ولولا أني أعلم أن الأدب لم يُثَقِّف أَوَدَكم، ولم يُحْكم أمركم، وأنه ليس لكم ملك يجمعكم فتنطقون عنده منطق الرعية الخاضعة الباخعة، فنطقتم بما استولى على ألسنتكم، وغلب على طباعكم؛ لم أُجِزْ لكم كثيرًا مما تكلمتم به، وإني لأكره أن أَجْبَه وفودي أو أُحْنِق صُدُورهم، والذي أحب من إصلاح مدبَّركم، وتألُّف شواذِّكم، والإِعذار إلى الله فيما بيني وبينكم. وقد قَبِلْت ما كان في منطقكم من صواب، وصفحت عما كان فيه من خلل، فانصرفوا إلى ملككم فأحسنوا مؤازرته والتزموا طاعته، واردَعوا سُفَهَاءكم، وأقيموا أَوَدَهم، وأحسنوا أدَبَهم، فإن في ذلك صلاح العامَّة.

https://k.top4top.io/p_2007qrxtc1.png

عطر الجنة 07-01-2021 04:12 AM

رد: أدبيات اللغة العربية
 


https://k.top4top.io/p_2007qrxtc1.png


(٥٨) قصيدة السَّموءل في الفخر


إِذَا المَرءُ لَم يَدْنَسْ مِنَ اللُّؤمِ عِرضُهُ
فَكُلُّ رِداءٍ يَرتَديهِ جَميلُ
وَإِن هُوَ لَمْ يَحمِلْ عَلَى النَّفْسِ ضَيْمَهَا
فَلَيسَ إِلى حُسْنِ الثَّنَاءِ سَبيلُ
تُعَيِّرُنا أَنَّا قَليلٌ عَدِيدُنا
فَقُلْتُ لَها إِنَّ الكِرامَ قَليلُ
وَمَا قَلَّ مَنْ كانَتْ بَقاياهُ مِثْلَنَا
شَبَابٌ تَسَامَى لِلْعُلا وَكُهُولُ
وَمَا ضَرَّنا أَنَّا قَليلٌ وَجارُنَا
عَزِيزٌ وَجارُ الأَكثَرينَ ذَلِيلُ
لَنَا جَبَلٌ يَحْتَلُّهُ مَنْ نُجِيرُهُ
مَنيعٌ يَرُدُّ الطَّرْفَ وَهوَ كَلِيلُ
رَسَا أَصْلُهُ تَحْتَ الثَّرَى وَسَما بِهِ
إِلى النَّجْمِ فَرعٌ لا يُنالُ طَويلُ
هُوَ الأَبْلَقُ الفَردُ الذِي شَاعَ ذِكْرُه
يَعِزُّ عَلَى مَنْ رَامَهُ وَيَطولُ
وَإِنا لَقَوْمٌ لَا نَرَى القَتْلَ سُبَّةً
إِذَا ما رَأَتْهُ عَامِرٌ وَسَلُولُ
يُقَرِّبُ حُبُّ المَوتِ آجالَنَا لَنَا
وَتَكْرَهُهُ آجالُهُم فَتَطُولُ
وَما مَاتَ مِنَّا سَيِّدٌ حَتْفَ أَنْفِهِ
وَلا طُلَّ يومًا حَيثُ كانَ قَتيلُ
تَسيلُ عَلى حَدِّ الظُّباتِ نُفوسُنا
وَلَيْسَتْ عَلى غَيرِ الظُّباتِ تَسيلُ
صَفَوْنَا ولَم نَكدَرْ وَأَخْلَصَ سِرَّنا
إِناثٌ أَطابَتْ حَمْلَنا وَفُحُولُ
عَلَوْنَا إِلى خَيرِ الظُّهورِ وَحَطَّنا
لِوَقْتٍ إِلى خَيرِ البُطونِ نُزولُ
فَنَحْنُ كَمَاءِ المُزنِ مَا في نِصابِنا
كَهَامٌ وَلا فِينَا يُعَدُّ بَخيلُ
وَنُنْكِرُ إِنْ شِئنَا عَلى النَّاسِ قَوْلَهُم
وَلا يُنْكِرونَ القَولَ حينَ نَقولُ
إِذا سَيِّدٌ مِنَّا خَلا قَامَ سَيِّدٌ
قَئُولٌ لِمَا قَالَ الكِرامُ فَعُولُ
وَما أُخْمِدَت نارٌ لَنَا دُونَ طَارِقٍ
وَلا ذَمَّنَا في النَّازِلينَ نَزيلُ
وَأَيَّامُنا مَشْهورَةٌ في عَدُوِّنا
لَها غُرَرٌ مَعْلومَةٌ وَحُجولُ
وَأَسْيَافُنا في كُلِّ شَرقٍ وَمَغْرِبٍ
بِها مِنْ قِراعِ الدَّارِعينَ فُلولُ
مُعَوَّدَةٌ أَنْ لَا تُسَلَّ نِصالُها
فَتَغْمَدَ حَتَّى يُسْتَبَاحَ قَتيلُ
سَلِي إِنْ جَهِلتِ الناسَ عَنَّا وَعَنهُمُ
فَلَيسَ سَواءً عالِمٌ وَجَهولُ
فَإِنَّ بَني الدَّيَّانِ قُطْبٌ لِقَوْمِهِم
تَدُورُ رَحَاهُم حَوْلَهُم وَتَجولُ
(٥٩) خطبة قُسِّ بن ساعدة الإيادي (جاهلي)


يأَيُّهَا النَّاسُ، اسْمَعُوا وَعُوا، وإذَا وَعَيتُم شيئًا فانْتَفِعُوا، إنَّهُ مَنْ عَاشَ مَاتَ، وَمنْ مَاتَ فَاتَ، وكُلُّ مَا هُوَ آتٍ آت. مَطَرٌ وَنَبَات، وأرْزَاقٌ وأقْوات، وآبَاءٌ وَأُمَّهَات، وأحْيَاءٌ وأمْوَات، جَمْعٌ وأشْتَات، وآيَاتٌ بَعْدَ آيَات. إنَّ في السَّمَاءِ لَخَبَرا، وإنَّ في الأرْضِ لَعِبَرا؛ لَيْلٌ دَاج، وسَمَاءٌ ذَاتُ أبْرَاج، وأرْضٌ ذَاتُ فِجَاج، وبِحَارٌ ذَاتُ أمْوَاج، مَا لِي أَرَى النَّاسَ يَذْهَبُون ولَا يَرْجِعون؟! أرَضُوا بالمُقامِ فأقَامُوا؟ أم تُرِكُوا هُنَاك فنَامُوا؟ أقْسَمَ قُسٌّ قَسَمًا حَقّا، لا خَائِنًا فيه ولا آثِما؛ إنَّ لله دِيْنًا هو أحبُّ إليه من دينكم الذي أنتم عليه، ونبيًّا قَدْ حانَ حِينُه، وأظلَّكُم أوانُه، وأدْركَكم إبَّانُه، فطُوبَى لمن أَدركَه فآمن به وهداه، وويلٌ لمن خالفه وعصاه.

ثم قال: تَبًّا لأرْبَاب الغَفْلة، والأمم الخالية، والقرون الماضية! يا معشرَ إياد، أين الآباءُ والأجداد؟ وأين المريضُ والعُوَّاد؟ وأين الفراعنة الشِّداد؟ أين من بَنَى وشَيَّد؟ وزخرفَ ونَجَّد؟ أين المال والولد؟ أين من بَغَى وطَغَى وجمع فأوْعَى وقال: أنا ربُّكم الأعلى؟ ألم يكونوا أكثر منكم أموالا، وأطول منكم آجالا؟! طَحَنَهم الثَّرى بكَلْكَله، ومزَّقهم بطَوْله، فتلك عِظامهم بالية، وبيوتهم خالية، عَمَرَتها الذئاب العاوية، كلَّا بل هو الله الواحد المعبود، ليس بوالدٍ ولا مولود.

ثم أنشأ يقول:
في الذَّاهِبِينَ الأوَّلِيـ
ـنَ من القُرُونِ لنا بَصَائرْ
لمَّا رَأيْتُ مَوَارِدًا
لِلْمَوْتِ ليس لها مَصَادِرْ
وَرَأَيْتُ قَوْمِي نَحْوَها
يَمْضِي الأصَاغِرُ والأكَابِرْ
لَا يَرْجِعُ المَاضِي إِلَيْ
يَ ولا من الباقين غَابِرْ
أَيْقَنْتُ أنِّي لَا مَحَا
لَةَ حيثُ صارَ القَوْمُ صَائِرْ



(٦٠) وأصيبت أعرابية بابنها وهي حاجَّة فلما دَفَنَتْه قامت على قبره

وقالت والله يا بُنَيَّ، لقد غَذَوْتُكَ رَضِيعًا، وفَقَدْتُكَ سَرِيعًا، وكأنَّه لم يكن بين الحالَين مُدَّة أَلْتَذُّ بعيشِك فيها، فأصبحتَ بعد النَّضَارة والغَضَارَة ورَوْنَق الحياة والتَّنَسُّم في طِيب روائحها، تحت أطباق الثَّرَى جسدًا هامدًا، ورُفاتًا سَحِيقًا، وصعيدًا جُرُزًا. أيْ بُنيَّ، لقد سَحَبَتِ الدنيا عليك أذيالَ الفَنَا، وأسكنتْك دار البِلَى، ورَمَتْنِي بعدك نَكْبَةُ الرَّدَى. أيْ بُنَيَّ، لقد أسفر لي عن وجه الدنيا صباحٌ داجٍ ظلامه. ثم قالت: أيْ ربِّ، ومنك العدلُ، ومن خَلقك الجوْر، وهَبْتَه لي قُرَّةَ عين، فلم تُمَتِّعْني به كثيرًا، بل سَلَبْتَنِيه وَشِيكًا، ثمَّ أمرتني بالصَّبر، ووعدتني عليه الأجر، فَصَدَّقْتُ وعدك، ورضيتُ قضاءك، فَرَحِم اللهُ مَنْ تَرَاحَم على من اسْتَوْدَعْتُهُ الرَّدْمَ، ووسَّدْتُه الثَّرَى! اللهم ارحمْ غُرْبتَه، وآنِسْ وحْشَتَه، واسْتُرْ عَوْرَتَه، يوم تُكْشَف الهَنَات والسَّوْءَات.

فلما أرادتِ الرجوعَ إلى أهلها قالت: أيْ بُنَيَّ، إنِّي قد تزوَّدتُ لسفري، فليتَ شِعْرِي، ما زادُكَ لِبُعد طريقك، ويوم مَعادِك؟! اللهم إني أسألك له الرِّضى برِضائي عنه. ثم قالت: استودعتُك مَنِ استودعك في أحشائي جنينًا، وأثكَلَ الوالدات، ما أَمَضَّ حرارةَ قلوبهنَّ، وأقْلَقَ مضاجعَهُنَّ، وأطولَ ليلَهُنَّ، وأقصرَ نَهَارَهُنَّ، وأقلَّ أُنْسَهُنَّ، وأشدَّ وَحْشَتَهُنَّ، وأبعدَهنَّ من السُّرور، وأَقْرَبَهُنَّ من الأحزان!

وقَالَت الجُمَانَة بنت قيس بن زُهَيْر تنصحُ جَدَّها الرَّبيع بنَ زياد


إِنْ كَانَ قَيْسٌ أبي، فَإنَّك — يَا ربيع — جَدِّي، وَمَا يجب لَهُ من حقِّ الْأُبُوَّةِ عَليَّ إِلَّا كَالذي يجب عَلَيْك من حق البُنُوَّة لي. والرأي الصَّحِيحُ تبعثُه الْعِنَايَةُ، وتُجلِّي عَن مَحْضه النَّصِيحَةُ. إِنَّك قد ظلمتَ قيسًا بِأَخْذ دِرْعه، وأجَدُّ مكافأتِه إياك سوءُ عزمه، والمُعَارِض مُنْتصر، والبادي أظلَم، وَلَيْسَ قيسٌ مِمَّن يُخَوَّف بالوعيد وَلَا يَرْدَعه التهديد، فَلَا تَرْكننَّ إِلَى مُنابذته، فالحَزم فِي مُتارَكته، وَالْحَرب مَتْلَفة للعباد، ذَهَّابة بالطَّارِف والتِّلاد، وَالسِّلْم أرْخَى للبال، وَأَبْقى لأَنْفُس الرِّجَال. وبحقٍّ أَقُول: لقد صَدَعْتُ بِحُكْم، وَمَا يَدْفَع قَوْلي إِلَّا غيرُ ذِي فهم. ثُمَّ أنْشأتْ تقول:
أبي لا يَرَى أنْ يَتْرُك الدَّهْرَ دِرْعَهُ
وجَدِّي يَرَى أنْ يَأخُذَ الدِّرْعَ مِنْ أبِي
فرأيُ أبِي رَأيُ البَخِيلِ بِمالِهِ
وشِيمةُ جَدِّي شِيمةُ الخَائِفِ الأبِي


وقالت بنت حاتم للنبي ﷺ
يَا مُحَمَّد، هَلَكَ الوَالِدُ، وَغَابَ الوَافِدُ، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُخَلِّيَ عَنِّي فلَا تُشْمِتْ بِي أَحيَاءَ العَرَبِ، فَإِنِّي بِنْتُ سيِّد قومي، كَانَ أبي يَفُكُّ العَاني، ويحمي الذِّمَار، ويَقْرِي الضَّيْفَ، ويُشْبِعُ الجَائعَ، ويُفرِّج عَن المكروب، وَيُطْعم الطَّعَامَ، ويُفْشي السَّلَامَ، وَلم يَرُدَّ طَالبَ حَاجَةٍ قطُّ، أنَا بنْتُ حاتمِ طيٍّ. فَقَالَ لها النَّبِيُّ ﷺ: يَا جَارِيَةُ، هَذِه صفةُ المُؤمن، لَو كَانَ أَبوك إِسْلَامِيًّا لترحَّمْنا عَلَيْهِ. خَلُّوا عَنْهَا؛ فَإِنَّ أَبَاهَا كَانَ يُحِبُّ مَكَارِمَ الأَخْلَاقِ.
وقال زهير بن أبي سُلمى من معلَّقته المشهورة
وأَعْلَمُ عِلْمَ اليَوْمِ وَالأَمْسِ قَبْلَهُ
وَلَكِنَّنِي عَنْ عِلْمِ مَا فِي غَدٍ عَمِي
رَأَيْتُ المَنَايَا خَبْطَ عَشْوَاءَ مَنْ تُصِبْ
تُمِتْهُ وَمَنْ تُخْطِئْ يُعَمَّرْ فَيَهْرَمِ
وَمَنْ لَا يُصَانِعْ فِي أُمُورٍ كَثِيرَةٍ
يُضَرَّسْ بِأَنْيَابٍ وَيُوطَأْ بِمَنْسِمِ
وَمَنْ يَجْعَلِ المَعْروفَ مِنْ دُونِ عِرْضِهِ
يَفِرْهُ وَمَنْ لا يَتَّقِ الشَّتْمَ يُشْتَمِ
وَمَنْ يَكُ ذَا فَضْلٍ فَيَبْخَلْ بِفَضْلِهِ
عَلَى قَوْمِهِ يُسْتَغْنَ عَنْهُ وَيُذْمَمِ
وَمَنْ يُوْفِ لا يُذْمَمْ وَمَنْ يَهْدِ قَلْبَهُ
إِلَى مُطْمَئِنِّ البِرِّ لَا يَتَجَمْجَمِ
وَمَنْ هَابَ أَسْبَابَ المَنَايَا يَنَلْنَهُ
وَإِنْ يَرْقَ أَسْبَابَ السَّمَاءِ بِسُلَّمِ
وَمَنْ يَجْعَلِ المَعْرُوفَ فِي غَيْرِ أَهْلِهِ
يَكُنْ حَمْدُهُ ذَمًّا عَلَيْهِ وَيَنْدَمِ
وَمَنْ يَعْصِ أَطْرَافَ الزِّجَاجِ فَإِنَّهُ
يُطِيعُ العَوَالِي رُكِّبَتْ كُلَّ لَهْذَمِ
وَمَنْ لَمْ يَذُدْ عَنْ حَوْضِهِ بِسِلاحِهِ
يُهَدَّمْ وَمَنْ لَا يَظْلِمِ النَّاسَ يُظْلَمِ
وَمَنْ يَغْتَرِبْ يَحْسَبْ عَدُوًّا صَدِيقَهُ
وَمَنْ لَا يُكَرِّمْ نَفْسَهُ لَا يُكَرَّمِ
وَمَهْمَا تَكُنْ عِنْدَ امْرِئٍ مِنْ خَلِيقَةٍ
وَإِنْ خَالَهَا تَخْفَى عَلَى النَّاسِ تُعْلَمِ
وَكَائِنْ تَرَى مِنْ صَامِتٍ لَكَ مُعْجِب
زِيَادَتُهُ أَو نَقْصُهُ فِي التَّكَلُّمِ
لِسَانُ الفَتَى نِصْفٌ وَنِصْفٌ فُؤَادُهُ
فَلَمْ يَبْقَ إلَّا صُورَةُ اللَّحْمِ وَالدَّمِ


(٦١) غيلان بن سلمة عند كسرى (جاهلي)

خرج أبو سُفْيان في جماعة من قريش يريدون العِراقَ بتجارةٍ، فلما ساروا ثلاثًا جَمَعَهم أبو سفيان فقال لهم: إنَّا من مَسيرنا هذا لعَلَى خَطَر مَا قُدُومُنا على مَلِك جَبَّار لمْ يأذَنْ لنَا في القُدُوم عليه، ولَيْسَتْ بلادُه لَنَا بِمَتْجَر، ولكنْ أيُّكُم يذهبُ بالعِير، فإنْ أُصِيبَ فنحن بَرَاءٌ مِنْ دمِه، وإنْ غَنِم فلهُ نِصْفُ الرِّبْح؟ فقال غَيْلَان بن سلمة: دَعُونِي إذَن فأنا لها، فلمَّا قدِمَ بلادَ كسرى تَخَلَّق ولَبِس ثَوْبَين أَصْفَرين، وشَهَر أمرَه، وجلس بباب كسرى حتى أذِن له، فدخل عليه وبينهما شُبَّاكٌ من ذَهَب، فخرج إليه التَّرْجُمان وقال له: يقول لكَ الملكُ: ما أدْخلَكَ بلادي بغير إذني؟ فقال: قُلْ له: لسْتُ من أهلِ عداوةٍ لك، ولا أتَيْتك جاسُوسًا لضدٍّ من أضْدادك، وإنَّما جئتُ بتجارةٍ تسْتمتع بها، فإنْ أردتَها فهي لك، وإنْ لم تُردْها وأذنتَ في بيعها لرعيَّتك بعْتُها، وإنْ لم تأذنْ في ذلك رددْتُها. قال: فإنَّه لَيتكلَّم إذْ سمع صوت كسرى فسجد، فقال له الترجمان: يقول لك الملكُ: لِمَ سجدتَ؟ فقال: سمعتُ صوتًا عاليًا حيث لا ينبغي لأحد أنْ يعلوَ صوتُه إجْلالًا للملك، فعلِمتُ أنَّه لم يُقدِم على رفع الصوت هناك غيرُ الملك، فسجدتُ إعظامًا له. قال: فاستحسَنَ كسرى ما فعل، وأمر له بمِرْفَقَةٍ تُوضَع تحتَه. فلمَّا أُتِي بها رأى عليها صورة الملك، فوضَعها على رأسه، فاستجهَلَه كسرى واستحْمَقَه،

وقال للتَّرْجُمان: قُلْ له: إنَّما بعثْنا بهذه لتجلس عليها،
قال: قد علمتُ، ولكنِّي لمَّا أُتِيتُ بها رأيتُ عليها صورة الملك فلم يكنْ حقُّ صورته على مِثلي
أن يجلسَ عليها ولكن كان حقُّها التعظيم، فوضعتُها على رأسي لأنَّه أشرفُ أعضائي وأكرمُها عليَّ. فاستحسن فعلَه جدًّا، ثم قال له: ألَكَ ولدٌ؟ قال: نعم. قال: فأيُّهم أحبُّ إليك؟ قال: الصَّغير حتى يَكْبَر، والمريض حتى يَبْرَأ، والغائب حتى يَؤُوب. فقال كسرى: زِهْ، ما أدخلَكَ عليَّ، ودلَّكَ على هذا القول والفعل إلَّا حَظُّك، فهذا فعل الحكماء وكلامُهم، وأنت من قومٍ جُفاةٍ لا حكمة فيهم، فما غِذاؤك؟ قال: خبز البُرِّ. قال: هذا العقل من البُرِّ لا من اللَّبن والتَّمر. ثم اشترى منه التِّجارة بأضعاف ثمنها وكَسَاه، وبَعَث معه من الفُرْس من بَنَى له أُطُمًا بالطائف، فكان أوَّل أُطُمٍ بُنِي بها.


https://k.top4top.io/p_2007qrxtc1.png

عطر الجنة 07-01-2021 04:36 AM

رد: أدبيات اللغة العربية
 


https://k.top4top.io/p_2007qrxtc1.png


(٦٢) صورة كتاب أرسله الإسكندر إلى شيخه الحكيم أرسْطُو يستشيره فيما يفعله بأبناء ملوك فارس بعد أن قتل آباءهم وتغلَّب على بلادهم (جاهلي)


عليك — أيُّها الحكيم — منَّا السلام، أما بعد: فإنَّ الأفلاك الدائرة، والعِلَل السماوية وإن كانت أسعدتنا بالأمور التي أصبح الناس لنا بها دائنين، فإنَّا جِدُّ واجِدِينَ لِمَسِّ الاضطرار إلى حِكْمتِك، غيرُ جاحدين لفضلك والإقرار بمنزلتك والاستِنامة إلى مشورتك والاقتِداء برأيك والاعتماد لأمرك وفهْمِك؛ لمَا بَلَوْنا مِن إِجْداء ذلك علينا وذُقْنا مِنْ جَنَى مَنْفعته، حتى صار ذلك بنُجُوعِه فينا وتَرَسُّخِه في أذْهاننا كالغِذاء لَنا، فَما نَنْفَكُّ نُعَوِّل عليه ونَسْتَمدُّ منه استمداد الجَداول من البُحُور، وتعويل الفُروع على الأصول، وقوة الأشكال بالأشكال. وقد كان مما سِيقَ إلينا من النصر والفَلْج، وأُتيح لنا من الظَّفَر والقَهْر، وبَلَغْنا في العَدُوِّ من النِّكاية والبطش ما يَعْجِز القول عن وصفه، ويَقْصُر شُكْر المُنعِم عن موقع الإنعام به. وكان من ذلك أنْ جاوزْنا أرض سوريَة والجزيرة إلى بابل وأرض فارس، فلما حللنا بعَقْوَة أهلها وساحة بلادهم لم يكن إلَّا رَيْثَما تلقَّانا نفرٌ منهم برأس ملكِهم هَدِيةً إلينا وطلبًا للحُظْوة عندنا، فأمرْنا بصَلْب من جاء به وشهرته؛ لسوء بلائه وقلة ارْعِوائه ووفائه، ثم أمرْنا بجمع من كان هناك من أولاد مُلُوكِهِم وأحرارهم وذَوي الشَّرَف منهم، فَرَأيْنا رِجالًا عظيمةً أجسامُهم وأَحْلامهم، حاضرةً ألبابُهم وأذهانُهم، رائعةً مَناظرهم ومَناطقُهم، دليلًا على أن ما يظهر من رُوَائهم ومَنْطِقهم وراءه من قُوَّة أيْديهم وشدة نجدتهم وبأسهم ما لا يكون معه لنا سبيل إلى غَلَبتهم وإعطائهم بأيْدِيهم لولا أن القضاء أَدَالَنا منهم، وأَظْفَرنا بهم، وأظْهَرنا عليهم، ولمْ نَرَ بعيدًا من الرَّأْي في أمْرهم أنْ نَسْتأصل شَأْفتهم، ونَجْتَثَّ أصْلَهم، ونُلْحِقهم بمن مَضَى من أسلافهم؛ لتَسْكُن القُلُوب بذلك إلى الأمْن من جرائرهم وبَوائقهم، فرأينا أن لا نَعْجَل بإسعافِ بادِئ الرَّأي في قَتْلِهم دُونَ الاستظهار عليه بمشورتك. فارفع إلينا رأيك فيما استشرناك فيه بعد صحَّته عندك، وتَقليبِك إياه بِجَليِّ نَظَرك. والسلام لأهل السلام، فَليكُن علينا وعليك.


(٦٣) إجابة الحكيم أرسطو إلى الملك بعد ديباجة طويلة

إنَّ لكل تربة لا محالة قسمًا من الفضائل، وإنَّ لفارس قِسْمَها من النجدة والقوة، وإنك إن تقتل أشرافهم تخلِّف الوُضَعاء على أعقابهم، وتُورِثْ سِفْلَتهم منازل عِلْيَتهم، وتُغلِّب أدْنياءَهم على مراتب ذوي أخطارهم، ولم يُبْتلَ الملوك قطُّ ببلاء هو أعظم عليهم وأشد تَوْهينًا لسلطانهم من غلبة السِّفْلة وذُلِّ الوجوه. فاحذر الحذر كلَّه أن تمكِّن تلك الطبقةَ من الغلبة والحركة! فإنهم إنْ نَجَم منهم بعد اليوم على جُنْدك وأهل بلادك نَاجِمٌ، دَهَمَهم منه ما لا روِيَّة فيه ولا بقيَّة معه، فانصرف عن هذا الرأي إلى غيره، واعْمِد إلى مَن قِبلك من أولئك العظماء والأحرار فوزِّعْ بينهم مملكتهم، وأَلْزِم اسم المَلك كلَّ من ولَّيته منهم، واعقِد التاج على رأسه وإن صغُر ملكه؛ فإن المتسمِّي بالمَلِك لازم لاسمه، والمعقود التاج على رأسه لا يخضع لغيره، فليس يَنْشَب ذلك أنْ يُوقِع كلُّ ملك منهم بينه وبين صاحبه تدابرًا وتقاطعًا وتغالبًا على المُلك وتفاخرًا بالمال والجند، حتى ينسوا بذلك أضغانهم عليك وأَوْتَارهم فيك، ويعود حربُهم لك حربًا بينهم، وحَنَقُهم عليك حَنَقًا منهم على أنفسهم، ثم لا يزدادون في ذلك بصيرةً إلَّا أحدثوا لك بها استقامة، إنْ دنوتَ منهم دَنَوْا لك، وإنْ نأَيْتَ عنهم تعزَّزُوا بك، حتى يَثِب مَن مَلَك منهم على جاره باسمك، ويَسْتَرْهِبه بجندك، وفي ذلك شاغلٌ لهم عنك، وأمانٌ لِإحداثهم بعدك، وإن كان لا أمان للدهر،
ولا ثقة بالأيام.

وقد أديتُ إلى الملك ما رأيتُه لي حظًّا وعليَّ حقًّا مِن إجابتي إيَّاه إلى ما سألَني عنه، ومَحَّضْته النصيحة فيه، والمَلك أعلى عينًا، وأنْفذ رويَّة، وأفضل رأيًا، وأبعد همَّة فيما استعان بي عليه، وكلَّفني تَبْيينه والمشورة عليه فيه. لا زال الملك مُتعرِّفًا من عوائد النِّعم وعواقب الصُّنْع، وتوطيد المُلْك، وتنفيس الأجل، ودَرْك الأمل ما تأتي فيه قدرته على غاية أقصى ما تناله قدرة البشر! والسلام الذي لا انقضاء له ولا انتهاء ولا غاية ولا فناء فليكن على الملك.


(٦٤) إِنَّ غَدًا لِنَاظِرِهِ قَرِيب

أي لمنتظره، يقال: نَظَرْتُه، أي انتظرته، وأول من قال ذلك قُرَاد بن أجْدَعَ، وذلك أن النعمان بن المُنذر خرج يتصيَّد على فَرَسه «اليَحْمُوم»، فأجراه على أَثَر عَيْر، فذهب به الفَرَس في الأرض ولم يقدِر عليه، وانفرد عن أصحابه، وأخذتْه السماء، فطَلب مَلْجأ يلجأ إليه، فدَفَع إلى بناءٍ فإذا فيه رجلٌ من طيِّئ يقال له حَنْظَلة ومعه امرأة له، فقال لهما: هل من مَأوًى؟ فقال حنظلة: نعم، فخرج إليه فأنزله، ولم يكن للطائيِّ غير شاةٍ وهو لا يعرف النُّعمان، فقال لامرأته: أرى رجلًا ذا هيئة، وما أخْلَقَه أن يكون شريفًا خطيرًا! فما الحيلة؟ قالت: عندي شيء من طَحين كنتُ ادَّخرْتُه، فاذْبَح الشاةَ لأتَّخذ من الطَّحِين مَلَّة. قال: فأخرجت المرأة الدقيق فخَبَزت منه مَلَّة، وقام الطائيُّ إلى شاته فاحْتَلَبها ثمَّ ذَبَحَها فاتَّخذ من لحمها مَرَقة مَضِيرة، وأطعمه مِن لحمها، وسقاه من لبنها، واحتال له شرابًا فسقاه، وجعل يُحَدِّثه بقيَّةَ ليلته، فلما أصبح النعمان لبس ثيابه وركب فرسه ثم قال: يا أخا طيِّئ، اطلب ثَوَابك، أنا الملك النعمان، قال: أفعل إن شاء الله، ثم لحِق الخيلَ فمضى نحو الحِيرة.

ومكث الطائي بعد ذلك زمانًا حتى أصابته نَكْبةٌ وجَهْدٌ وساءت حاله، فقالت له امرأته: لو أتيتَ الملك لَأحسن إليك، فأقبلَ حتى انتهى إلى الحِيرَة فوافق يومَ بُؤس النعمان، فإذا هو واقف في خَيْله في السلاح، فلما نظر إليه النعمان عَرَفه، وساءه مكانُه، فوقف الطائيُّ المنزولُ به بين يَدَي النعمان، فقال له: أنت الطائيُّ المنزول به؟ قال: نعم، قال: أفلا جِئْتَ في غير هذا اليوم! قال: أبَيْتَ اللَّعْنَ! وما كان علمي بهذا اليوم؟ قال: والله، لو سَنَحَ لي في هذا اليوم قابوسُ ابني لم أجد بُدًّا من قتله، فاطلب حاجَتَكَ من الدنيا وسَلْ ما بدا لك، فإنك مقتول، قال: أبَيْتَ اللَّعْنَ! وما أصنع بالدنيا بعد نفسي؟! قال النعمان: إنَّه لا سبيل إليها، قال: فإن كان لا بدَّ فأجِّلْني حتى أُلِمَّ بأهلي، فأُوصِي إليهم وأهيِّئ حالهم ثم أنصرف إليك، قال النعمان: فأقمْ لي كَفيلًا بمُوَافَاتك، فالتفت الطائيُّ إلى شَرِيك بن عمرو بن قيس من بني شَيْبَان، وكان يُكنَى أبا الحَوْفَزَان، وكان صاحب الرِّدَافَة، وهو واقف بجنْب النعمان، فقال له:
يَا شَرِيكًا يَابْنَ عَمْرٍو
هَلْ مِنَ الموتِ مَحَالَةْ؟
يَا أخَا كلِّ مُضَافٍ
يَا أخَا مَنْ لَا أخَا لَهْ
يَا أَخَا النُّعْمَان فُكَّ الْـ
ـيَوْمَ ضَيْفًا قَدْ أَتَى لَهْ
طَالمَا عَالجَ كَرْبَ الْـ
ـمَوْتِ لَا يُنْعِم بَالَهْ


فأبى شريك أن يتكفَّل به، فوثب إليه رجل من كَلْب يقال له قُرَادُ بن أجْدَع، فقال للنعمان: أبيتَ اللَّعْن! هو عليَّ، قال النعمان: أفعلْتَ؟ قال: نعم، فضمَّنه إياه ثم أمر للطائي بخَمْسِمئة ناقةٍ، فمضى الطائيُّ إلى أهله، وجَعَلَ الأجَلَ حَوْلًا من يومه ذلك إلى مثل ذلك اليوم من قابِل، فلمَّا حال عليه الحولُ وبقي من الأجل يومٌ قال النعمان لقُرَاد: ما أراك إلَّا هالكًا غَدًا، فقال قُرَاد:
فإنْ يَكُ صَدْرُ هذا اليوم وَلَّى
فإنَّ غَدًا لِنَاظِرِه قَريب

فلما أصبح النعمان ركب في خيله ورَجْله متسلِّحًا كما كان يفعل حتى أتى الغَرِيَّيْنِ فوقف بينهما، وأخرج معه قُرَادًا وأمر بقتله، فقال له وزراؤه: ليس لك أن تقتله حتى يستوفي يومه، فتركه، وكان النعمان يشتهي أن يُقْتَلَ قُرَادٌ ليُفْلِتَ الطائي من القتل، فلما كادت الشمس تَجِبُ وقُرَادٌ قائم مُجَرَّد في إزار على النِّطَع والسَّيَّافُ إلى جنبه، أقبلت امرأتُه وهي تقول:
أيَا عَيْنُ بَكِّي لي قُرَادَ بنَ أجْدَعَا
رَهِينًا لقَتْلٍ لا رهينًا مُوَدَّعا
أَتَتْه المنَايا بَغْتةً دُونَ قَوْمه
فأَمْسَى أَسيرًا حَاضِر البَيْتِ أضْرَعَا


فبينما هم كذلك إذ رُفِع لهم شخصٌ من بعيد، وقد أمر النعمان بقتل قُراد، فقيل له: ليس لك أن تقتله حتى يأتيك الشخص فتعلم من هو، فكفَّ حتى انتهى إليهم الرجلُ، فإذا هو الطَّائيُّ، فلمَّا نظر إليه النعمان شَقَّ عليه مجيئه، فقال له: ما حملك على الرجوع بعدَ إفلاتك من القتل؟ قال: الوفاء، قال: وما دَعَاك إلى الوفاء؟ قال: دِينِي، قال النعمان: وما دينك؟ قال: النصرانية، قال النعمان: فاعْرِضْهَا عليَّ، فعرضها عليه فتنصَّر النعمان هو وأهلُ الحِيرة أجمعون وكان قبل ذلك على دين الجاهلية، فترك القتلَ منذ ذلك اليوم، وأَبْطل تلك السُّنَّة وأمر بهدم الغَرِيَّيْن، وعفا عن قُرَاد والطائي، وقال: والله، ما أدري أيهما أوفى وأكرمُ، أهذا الذي نجا من القتل فعاد، أم الذي ضمِنه؟ والله، لا أكون أَلْأَمَ الثلاثة، فأنشأ الطائيُّ يقول:
ما كُنْتُ أُخْلِفُ ظَنَّه بعد الذي
أسْدَى إلىَّ من الفَعَال الخَالي
ولقد دَعَتْنِي للخِلاف ضَلَالتي
فأبَيْتُ غيرَ تَمَجُّدِي وفَعَالي
إنِّي امرؤٌ منِّي الوفاءُ سَجِيَّة
وجَزَاء كُلِّ مُكَارِم بَذَّالِ

وقال أيضًا يمدح قُرَادًا:
أَلَا إنَّما يَسْمو إلى المَجْد والعُلَا
مَخارِيقُ أمثالُ القُرَاد بْنِ أجْدَعَا
مَخَارِيقُ أمثال القُرَاد وأهْلِه
فإنَّهمُ الأخْيَار منْ رَهْطِ تُبَّعَا


انتهى. هذا هو المشهور، والصحيح أن صاحب الغَرِيَّيْن ويوم البؤس هو المنذر الأكبر.


(٦٥) إِنَّ أَخَاكَ مَنْ آسَاكَ
يقال: آسيتُ فلانًا بمالي أو غيره، إذا جَعَلْتَه أُسْوَةً لك، ووَاسَيْتُ لغة فيه، ومعنى المثل أنَّ أخاك حقيقةً مَنْ قَدَّمَكَ وآثَرَك على نفسه، يُضرب في الحثِّ على مراعاة الإخوان. وأوَّل مَنْ قال ذلك خُزَيم بن نَوْفل الهَمْداني، وذلك أنَّ النعمان بن ثَوَاب العبدي ثم الشَّنِّي كان له بنون ثلاثة: سعد وسعيد وساعدة، وكان أبوهم ذا شرف وحكمة، وكان يوصي بنيه ويحملهم على أدَبِه، أمَّا ابنه سعد فكان شجاعًا بطلًا من شياطين العرب لا يُقَام لسبيله ولم تَفُتْه طَلِبَتُه قطُّ ولم يَفِرَّ عن قِرْن، وأمَّا سعيد فكان يشبه أباه في شرفه وسُؤْدَده. وأمَّا ساعدة فكان صاحب شرابٍ ونَدَامى وإخوان. فلمَّا رأى الشيخ حالَ بنيه دعا سعدًا، وكان صاحب حرب، فقال: يا بُنَيَّ، إنَّ الصَّارم يَنْبُو، والجَوَاد يَكْبُو، والأثر يَعْفُو، فإذا شهِدت حربًا فرأيتَ نارها تستعِر، وبطلها يخْطِر، وبحرها يزْخَر، وضعيفَها يُنصر، وجبانها يَجْسُر؛ فأَقْلِلِ المْكثَ والانتِظارَ، فإنَّ الفِرار غيرُ عار إذا لم تكن طالبَ ثار، فإنما يُنْصَرون هم، وإيَّاك أن تكون صَيْدَ رماحها، ونَطِيح نِطَاحها. وقال لابنه سعيد، وكان جَوَادًا: يا بُني، لا يَبْخل الجواد، فابْذُلِ الطَّارف والتِّلاد، وأَقْلِلِ التَّلَاح تُذْكَر بالسَّماح، وابْلُ إخوانَك فإن وَافِيهم قليل، واصنع المعروف عند مُحْتَمِله. وقال لابنه ساعدة، وكان صاحب شراب: يا بُني، إن كثرة الشراب تفسد القلب، وتُقَلِّل الكسب، فأبصر نَديمك، واحْمِ حَرِيمك، وأعِنْ غَرِيمك، واعلم أن الظمأ القَامِح خيرٌ من الرِّيِّ الفاضح، وعليك بالقَصْد فإن فيه بلاغًا.

ثم إن أباهم النُّعمان بن ثَوَاب تُوُفِّي، فقال ابنه سعيد، وكان جوادًا سيدًا: لآخذنَّ بوصية أبي، ولَأَبْلُوَنَّ إخواني وثِقَاتي في نفسي، فعَمَد إلى كبش فذبحه ثم وضعه في ناحية خِبائه، وغَشَّاه ثوبًا، ثم دعا بعض ثِقَاته فقال: يا فلان، إن أخاك مَنْ وفَى لك بعهده، وحاطك بِرِفده، ونصرك بوُدِّه، قال: صدقت، فهل حدث أمر؟ قال: نعم، إنِّي قتلت فلانًا، وهو الذي تراه في ناحية الخِباء، ولا بد من التعاون عليه حتى يُوَارَى، فما عندك؟ قال: يا لَهَا سَوْأة وقعتَ فيها! قال: فإنِّي أريد أن تُعِينني عليه حتى أُغيِّبه، قال: لستُ لك في هذا بصاحب، فتَرَكه وخرج، فبعث إلى آخر من ثِقَاته فأخبره بذلك وسأل مَعُونتَه، فردَّ عليه مثل ذلك، حتى بعث إلى عَدَد منهم كلُّهم يردُّ عليه مثل جواب الأوَّل، ثم بعث إلى رجل من إخوانه يقال له خُزَيم بن نَوْفل، وقال له: يا خُزَيم، ما لي عندك؟ قال: ما يسرُّك، وما ذاك؟ قال: إني قتلت فلانًا وهو الذي تراه مُسَجًّى، قال: أيْسَرُ خَطْبٍ، فتريد ماذا؟ قال: أريد أن تعينني حتى أغيِّبه، قال: هان ما فَزِعْتَ فيه إلى أخيك، وغلام سعيدٍ قائم معهما، فقال له خزيم: هل اطَّلع على هذا الأمر أحدٌ غير غلامك هذا؟ قال: لا، قال:
انظر ما تقول، قال: ما قلت إلَّا حقًّا، فأَهْوَى خزيم إلى غلامه فضربه بالسيف وقتله، وقال: ليس عبدٌ أخًا لك، فأرسلها مثلًا، وارتاع سعيد وفزع لقتل غلامه، فقال: ويحك! ما صنعتَ؟! وجعل يلومه، فقال خزيم: إن أخاك من آساك، فأرسلها مثلًا، قال سعيد: فإنِّي أردْتُ تَجْرِبتك، ثم كشف عن الكَبْش، وخبَّره بما لقي من إخوانه وثقاته وما ردُّوا عليه، فق

https://k.top4top.io/p_2007qrxtc1.png

عطر الجنة 07-01-2021 04:42 AM

رد: أدبيات اللغة العربية
 



https://k.top4top.io/p_2007qrxtc1.png



(٦٦) ألَا مَنْ يَشْتَرِي سَهَرًا بِنَوْم؟
قالوا: إن أوَّل مَنْ قال ذلك ذو رُعَيْن الحِمْيَرِي، وذلك أنَّ حِمْيَر تفرَّقت على مَلِكها حسَّان وخَالَفت أمره لسوء سيرته فيهم، ومالوا إلى أخيه عمرو، وحَمَلُوه على قَتْل أخيه حَسَّان وأشاروا عليه بذلك ورغَّبوه في المُلْك، ووَعَدوه حُسْنَ الطاعة والمؤازرة، فنهاه ذو رُعَيْن من بين حِمْير عن قتل أخيه، وعلم أنه إن قتل أخاه نَدِم ونَفَر عنه النوم وانْتَقَضت عليه أموره، وأنه سيُعاقِبُ الذي أشار عليه بذلك ويعرف غشَّهم له. فلمَّا رأى ذو رُعَيْن أنَّه لا يَقْبَل ذلك منه وخشي العواقبَ، قال هذين البيتين الآتِيَين وكتبهما في صحيفة وختم عليها بخاتم عمرٍو، وقال: هذه وديعة لي عندك إلى أن أطلبها منك، فأخذها عمرو فدَفَعها إلى خازنه وأمَرَه برَفْعها إلى الخِزانة والاحتِفاظ بها إلى أن يَسْأل عنها.

فلمَّا قَتَلَ أخاه وجلس مكانه في المُلك مُنِعَ منه النومُ، وسُلِّط عليه السهر، فلمَّا اشتد ذلك عليه لم يَدَعْ باليمن طبيبًا ولا كاهنًا ولا منجِّمًا ولا عرَّافًا ولا عائفًا إلَّا جمعهم، ثم أخبرهم بقصته، وشكا إليهم ما به، فقالوا له: ما قَتَلَ رجلٌ أخاه أو ذا رَحِم منه على نحو ما قتلت أخاك إلَّا أصابه السهر ومُنِع منه النوم، فلما قالوا له ذلك أقبل على مَنْ كان أشار عليه بقتل أخيه وساعده عليه من أقْيَال حِمْير فقتلهم حتى أفناهم، فلما وصل إلى ذي رُعَين قال له: أيها الملك، إنَّ لي عندك بَرَاءة مما تريد أن تصنع بي، قال: وما براءتك وأمانك؟ قال: مُرْ خازنك أن يخرج الصحيفة التي استودعْتُكها يوم كذا وكذا، فأمر خازِنه فأخرجها فنظر إلى خاتمه عليها ثم فَضَّها فإذا فيها:
ألَا مَنْ يَشْتَري سَهَرًا بِنَوْم
سَعِيدٌ مَنْ يَبِيتُ قَرِيرَ عَيْنِ
فأمَّا حِمْيَرٌ غَدَرَتْ وخَانَتْ
فَمَعْذِرَةُ الإلَه لِذِي رُعَيْنِ


ثم قال: أيها الملك، قد نَهيتك عن قتل أخيك، وعلمتُ أنَّك إن فعلتَ ذلك أصابك الذي قد أصابك، فكتبت هذين البيتين بَرَاءةً لي عندك مما علمت أنَّك تصنع بمن أشار عليك بقتل أخيك، فقَبِل ذلك منه، وعفا عنه، وأحسن جائزته.
(٦٧) إنَّ العَصَا مِنَ العُصَيَّة

قال أبو عبيد: هكذا قال الأصمعيُّ، وأنا أَحْسَبُه العُصَيَّة من العَصَا، إلَّا أن يُرَاد أنَّ الشيء الجليل يكون في بَدْء أمره صغيرًا، كما قالوا: إنَّ القَرْم من الأفِيل، فيجوز حينئذٍ على هذا المعنى أن يقال: العَصَا من العُصَيَّة. قال المفَضَّل: أوَّل من قال ذلك الأفْعَى الجُرْهُميُّ، وذلك أن نِزَارًا لمَّا حَضَرَتْه الوفاة جَمَعَ بنيه مُضرَ وإيادًا وربيعةَ وأنمارًا، فقال: يا بَنِيَّ، هذه القُبَّة الحمراء — وكانت من أَدَم — لمضرَ، وهذا الفرس الأدهم والخِبَاء الأسود لربيعة، وهذه الخادم — و
كانت شَمْطَاء — لإيادٍ، وهذه البَدْرَة والمجلس لأنمار يجلس فيه، فإن أُشْكل عليكم كيف تقتسمون فَأْتُوا الأفعى الجرهمي ومنزلُه بنَجْران. فتشاجروا في ميراثه، فتوجهوا إلى الأفعى الجرهمي، فبينما هم في مسيرهم إليه إذ رأى مُضَر أثَرَ كلأٍ قد رُعِيَ فقال: إنَّ البعير الذي رَعَى هذا لَأعْوَر، قال ربيعة: إنه لأزْوَرُ، قال إياد: إنه لأبْتَرُ، قال أنْمارٌ: إنه لَشَرُودٌ، فساروا قليلًا فإذا هم برجل يُنْشِد جَمَله فسألهم عن البعير، فقال مضر: أهو أعْور؟ قال: نعم، قال ربيعة: أهو أزْوَر؟ قال: نعم، قال إياد: أهو أَبْتر؟ قال: نعم، قال أنمار: أهو شَرُودٌ؟ قال: نعم، وهذه والله صفة بعيري، فدُلُّوني عليه، قالوا: والله ما رأيناه، قال: هذا والله الكذبُ، وتَعَلَّق بهم وقال: كيف أصَدِّقكم وأنتم تَصِفون بعيري بصفته؟ فساروا حتى قَدِموا نَجْرانَ، فلما نزلوا نادى صاحبُ البعير: هؤلاء أَخَذوا جَمَلي ووصَفوا لي صفته، ثم قالوا: لم نَرَهُ، فاختصموا إلى الأفْعَى، وهو حَكَم العرب، فقال الأفعى: كيف وصفتموه ولم تَرَوْه؟ قال مضر: رأيته رَعَى جانبًا وتَرَك جانبًا فعلمتُ أنه أعور، وقال ربيعة: رأيت إحدى يديه ثابتة الأثَر والأخرى فاسدته؛ فعلمت أنه أَزْوَر؛ لأنه أفسَده لشدةِ وَطْئه لازْوِرَاره، وقال إيادٌ: عرفت أنه أبتر باجتماع بَعْره، ولو كان ذَيَّالًا لَمَصَع به، وقال أنمار: عرفت أنه شَرُود لأنه كان يرعى في المكان الملتَفِّ نَبْتُه ثم يَجُوزُه إلى مكانٍ أرقَّ منه وأخبث نَبْتًا؛ فعلمت أنه شَرُود. فقال للرجل: ليسوا بأصحاب بعيرك فاطلبه.

ثم سألهم: مَنْ أنتم؟ فأخبروه، فرحَّب بهم، ثم أخبروه بما جاء بهم، فقال: أتحتاجون إليَّ وأنتم كما أرى؟ ثم أنزلهم فَذَبَحَ لهم شاةً وأتاهم بخَمْرٍ، وجلس لهم الأفعى حيث لا يُرَى وهو يسمع كلامهم، فقال ربيعة: لم أَرَ كاليوم لحمًا أطيبَ منه لولا أنَّ شاته غُذِيَت بلبن كلبة، فقال مضر: لم أرَ كاليوم خمرًا أطيَبَ منه لولا أنَّ حُبْلَتَها نبتتْ على قَبر، فقال إيادٌ: لم أرَ كاليوم رجلًا أسْرَى منه لولا أنه ليس لأبيه الذي يُدْعَى له، فقال أنمار: لم أرَ كاليوم كلامًا أَنْفَعَ في حاجتنا من كلامنا، وكان كلامُهم بأُذُنِهِ فقال: ما هؤلاء إلا شياطين، ثم دعا القَهْرَمَان فقال: ما هذه الخمر؟ وما أمرها؟ قال: هي من حُبْلَةٍ غرستُها على قبر أبيك لم يكن عندنا شرابٌ أطيبُ من شرابها، وقال للرَّاعي: ما أمر هذه الشاة؟ قال: هي عَنَاقٌ أرضَعْتُها بلبن كلبة، وذلك أنَّ أمها كانت قد ماتت ولم يكن في الغنم شاةٌ ولدتْ غيرها، ثم أتى أمه فسألها عن أبيه، فأخبرته أنها كانت تحت ملكٍ كثير المال، وكان لا يُولد له، قالت: فخفتُ أن يموت ولا ولد له فيذهب المُلك، فأمكنتُ من نفسي ابنَ عم له كان نازلًا عليه.

فخرج الأفعى إليهم، فقصَّ القومُ عليه قصَّتهم وأخبروه بما أوصى به أبوهم، فقال: ما أشْبَهَ القبة الحمراء من مال فهو لمضر، فذهب بالدنانير والإبل الحمر، فسُمِّي مضر الحمراء لذلك، وقال: وأما صاحب الفرس الأدهم والخِباء الأسود فله كل شيء أسود، فصارت لربيعة الخيل الدُّهْم، فقيل ربيعة الفَرَس، وما أشبه الخادمَ الشَّمْطاء فهو لإيادٍ، فصار له الماشية البُلْق من الحَبَلَّق والنَّقَد فسُمِّي إياد الشَّمْطَاء، وقضى لأنمار بالدراهم وبما فَضَل فسُمِّي أنمار الفضل. فصَدَروا من عنده على ذلك، فقال الأفعى: إن العصا من العُصَيَّة، وإن خُشَيْنًا من أخْشَن، ومُسَاعدة الخاطل تُعدُّ من الباطل، فأرسلهنَّ مُثُلًا، وخُشَيْن وأخشن جَبَلاَن أحدهما أصغر من الآخر، والخاطل الجاهل، والخَطَل في الكلام اضطرابه، والعُصَيَّة تصغير تكبيرٍ مثل: أنا عُذَيْقُها المُرَجَّبُ وجُذَيْلُها المُحَكَّكُ، والمراد أنهم يُشْبهون أباهم في جَوْدة الرأي، وقيل: إنَّ العصا اسم فرس، والعُصَيَّة اسم أمه، يراد أنه يَحْكِي الأم في كَرَم العِرْق وشرف العِتْق.


(٦٨) خَطْبٌ يَسِيرٌ في خَطْبٍ كَبِير

قاله قَصِير بن سَعْد اللَّخْمي لِجَذِيمة بن مالك بن نَصْر الذي يقال له جَذِيمة الأَبْرَش وجَذِيمة الوَضَّاح، والعرب تقول للذي به البَرَصُ: به وَضَح؛ تفاديًا من ذكر البَرَص.

وكان جذيمة مَلِكَ ما على شاطئ الفرات، وكانت الزَّبَّاء ملكةَ الجزيرة، وكانت من أهل بَاجَرْما وتتكلم بالعربية، وكان جَذِيمة قد وتَرها بقتل أبيها، فلما استجمع أمرُها، وانتظم شملُ ملكها، أحَبَّتْ أن تغزو جَذيمة، ثم رأت أن تكتب إليه أنها لم تجد مُلْكَ النساء إلَّا قبيحًا في السَّمَاع وضَعْفًا في السُّلطان، وأنها لم تجد لمُلكها موضعًا ولا لنفسها كُفُوًا غيرك، فأقْبِلْ إليَّ لأجْمَعَ مُلْكي إلى مُلكك، وأصِلَ بلادي ببلادك، وتُقَلَّد أمري مع أمرك. تريد بذلك الغَدْر. فلما أتى كتابُها جذيمةَ وقدم عليه رسُلُها، استخفَّه ما دَعَتْه إليه، ورَغِبَ فيما أطمعته فيه، فجمع أهل الحِجا والرأي من ثِقَاته، وهو يومئذٍ ببَقَّةَ من شاطئ الفُرات، فعرض عليهم ما دعته إليه، وعرضته عليه، فاجتمع رأيهم على أن يسير إليها فيستولي على مُلكها، وكان فيهم قَصير وكان أرِيبًا حازمًا أثيرًا عند جَذيمة، فخالفهم فيما أشاروا به، وقال: رأيٌ فاترٌ وغَدْرٌ حاضرٌ، فذهبت كلمته مثلًا، ثم قال لجذيمة: الرأيُ أن تكتب إليها، فإن كانت صادقةً في قولها فَلْتُقْبِلْ إليك، وإلَّا لم تمكِّنْها من نفسك ولم تَقَعْ في حِبَالتها وقد وَتَرْتَها وقتلتَ أباها، فلم يوافق جذيمة ما أشار به، فقال قَصير:
إنِّي امْرُؤٌ لا يُمِيلُ العَجْزُ تَرْوِيَتِي
إذَا أتَتْ دُونَ شَأْيي مِرَّةُ الرُّزَمِ

فقال جذيمة: لا، ولكنك امرؤ رأيُكَ في الكِنِّ لا في الضِّحِّ، فذهبت كلمته مثلًا، ودعا جَذيمة عمرو بن عَدِيٍّ ابنَ أخته فاستشاره فشجَّعه على المسير، وقال: إنَّ قومي مع الزَّبَّاء، ولو قد رَأَوْكَ صاروا معك، فأحَبَّ جذيمةُ ما قاله، وعصى قَصِيرًا، فقال قَصِير: لا يُطَاع لقَصِيرٍ أمرٌ، فذهبت مثلًا، واستخلف جذيمةُ عمرَو بن عديٍّ على مُلْكه وسلطانه، وجعل عمرو ابن عبد الجن معه على جنوده وخيوله، وسار جذيمةُ في وُجُوه أصحابه، فأخذ على شاطئ الفُرَات من الجانب الغربي، فلما نزل دعا قصيرًا فقال: ما الرأيُ يا قصير؟ فقال قصير: ببقَّةَ خَلَّفْتُ الرأي، فذهبت مثلًا، قال: وما ظَنُّكَ بالزَّبَّاء؟ قال: القولُ رِدَاف، والحَزْم عَثَراتُه تُخَاف، فذهبت مثلًا. واستقبله رسُلُ الزباء بالهَدَايا والألطاف، فقال: يا قصير، كيف ترى؟ قال: خَطْبٌ يسير في خَطْب كبير، فذهبت مثلًا، وسَتَلْقَاكَ الخيول فإن سارت أمامك فالمرأة صادقة، وإن أخَذَتْ جَنْبَتَيك وأحاطت بك من خلفك فالقومُ غادرون بك، فارْكَبِ العصا فإنه لا يُشَقُّ غُبَارها، فذهبت مثلًا، وكانت العصا فَرَسًا لجذيمة لا تُجَارى، وإني راكبُها ومُسَايرك عليها. فلَقِيَته الخيولُ والكتائب، فحالت بينَهُ وبين العصا، فركبها قصير، ونظر إليه جذيمة على مَتْن العصا مُوَلِّيا فقال: وَيْل أمِّه! حَزْمًا على متن الْعَصَا، فذهبت مثلًا، وجرت به إلى غروب الشمس، ثم نَفَقَتْ، وقد قطعت أرضًا بعيدة، فبنى عليها بُرْجًا يقال له بُرْجُ العصا، وقالت العرب: خَيْرٌ ما جاءت به العصا، فذهبت مثلًا، وسار جَذيمة وقد أحاطت به الخيلُ حتى دخل على الزباء، فرآها على غير أُهْبة العروس، فقال: بَلَغ المَدَى، وجفَّ الثَّرَى، وأمْرَ غَدْرٍ أرى، فذهبت مثلًا. ودعت بالسيف والنِّطَع ثم قالت: إن دماء الملوك شِفَاء من الكَلَب، فأمرت بطَسْت من ذهب قد أعَدَّته له فسَقَتْه الخمرَ حتى سَكِر وأخذت الخمر منه مأخذها، فأمرت بِرَاهِشَيْه فقُطِعا، وقَدَّمت إليه الطَّسْتَ، وقد قيل لها: إنْ قَطَر من دمه شيء في غير الطَّسْت طُلِب بدمه، وكانت الملوك لا تُقْتَل بضرب الأعناق إلا في القتال تَكْرِمةً للمَلك، فلمَّا ضعفت يَدَاه سقطَتَا فقَطَر من دَمه في غير الطست، فقالت: لا تضيِّعوا دم الملك، فقال جذيمة: دَعُوا دَمًا ضيَّعه أهله، فذهبت مثلًا، فهلَكَ جَذيمة، وجعلت الزباء دمه في رَبْعَةٍ لها.

وخرج قصير من الحي الذي هلكت العصا بين أظهُرِهم حتى قدم على عمرو بن عَدِيٍّ وهو بالحِيرَة، فقال له قصير: أثائرٌ أنت؟ قال: بل ثائر سائر، فذهبت مثلًا، ووافق قصيرٌ الناس وقد اختلفوا، فصارت طائفة مع عمرو بن عدي اللَّخْمي، وجماعة منهم مع عمرو بن عبد الجن الجَرْمِيِّ، فاختلف بينهما قصير حتى اصطلحا وانْقَاد عمرو بن عبد الجن لعمرو بن عدي، فقال قصير لعمرو بن عديٍّ: تَهَيَّأْ واستعدَّ ولا تَطُلَّنَّ دم خالك، قال: وكيف لي بها وهي أمْنَعُ من عُقَاب الجوِّ؟ فذهبت مثلًا. وكانت الزباء سألت كاهنةً لها عن هلاكها، فقالت: أرى هلاكك بسبب غلام مَهِين، غير أمينٍ، وهو عمرو بن عدي، ولن تموتي بيده، ولكنْ حَتْفُك بيدك، ومِنْ قِبَله ما يكون ذلك، فحَذِرَتْ عمرًا، واتَّخذت لها نَفَقًا من مجلسها الذي كانت تجلس فيه إلى حصن لها في داخل مدينتها، وقالت: إن فَجَأني أمرٌ دخلت النفق إلى حصني. ودعتْ رجلًا مُصَوِّرًا من أجْوَد أهل بلادهم تصويرًا وأحسنهم عملًا، فجَهَّزَتْه وأحسنت إليه، وقالت: سِرْ حتى تَقْدَم على عمرو بن عدي متنكِّرًا فتخلو بحَشَمه وتنضم إليهم وتُخَالطهم وتُعْلِمُهم ما عندك من العلم بالصُّور، ثم أثبِتْ لي عمرَو بن عدي مَعْرفةً فصَوِّرْهُ جالسًا وقائمًا وراكبًا ومتفضِّلًا ومتسلِّحًا بهيئته ولِبْسته ولونه، فإذا أحكمتَ ذلك فأَقْبِلْ إليَّ. فانطَلَقَ المصوِّر حتى قدم على عمرو بن عدي وصنع ما أمرتْه به الزباء، وبلغ من ذلك ما أوْصَتْه به، ثم رجع إلى الزباء بعمل ما وجَّهَتْه له من الصُّورة على ما وصفتْ وأرادت أنْ تعرف عمرو بن عدي، فلا تراه على حال إلَّا عرفته وحَذِرتْه وعلِمت علمَه. فقال قصير لعمرو بن عدي: اجْدَعْ أنْفِي، واضربْ ظَهْرِي، ودعْني وإيَّاها، فقال عمرو: ما أنا بفاعلٍ، وما أنت لذلك مُسْتَحِقًّا عندي، فقال قصير: خَلِّ عني إذن وخَلَاكَ ذمٌّ، فذهبت مثلًا، فقال له عمرو: فأنت أبْصَرُ، فجَدَع قصير أنفه، وأثَّر آثارًا بظهره، فقالت العرب: لِأَمْرٍ ما جَدَع قصير أنفه، وفي ذلك يقول المتلمِّس:
وفِي طَلَبِ الأوْتَارِ مَا حَزَّ أنْفَهُ
قَصِير ورَام الموتَ بالسَّيْفِ بَيْهس


ثم خرج قصير كأنه هاربٌ، وأظهر أن عَمْرًا فعل ذلك به، وأنه زعَم أنَّه مَكَر بخاله جَذيمة وغَرَّه من الزباء، فسار قصير حتى قدم على الزباء، فقيل لها: إنَّ قصيرًا بالباب، فأمرت به فأُدخل عليها، فإذا أنفُه قد جُدِعَ، وظهرُه قد ضُرب، فقالت: ما الذي أرى بك يا قصير؟ قال: زعم عمرو أني قد غَرَرْت خاله، وزَيَّنْتُ له المَصِيرَ إليك وغَشَشْتُه ومَالَأْتُكِ، ففعل بي ما تَرَيْنَ، فأقْبلتُ إليك وعرفْتُ أني لا أكون مع أحدٍ هو أثقل عليه منك. فأكْرمَتْه وأصابَتْ عنده من الحزم والرأي ما أرادت، فلمَّا عرف أنها استرْسلتْ إليه ووَثِقْت به قال: إنَّ لي بالعراق أموالًا كثيرةً وطَرَائِفَ وثيابًا وعِطْرًا، فابعثيني إلى العراق لأحْمِلَ مالي وأحملَ إليك مِن بُزُورها وطَرَائفها وثيابها وطِيبها، وتُصِيبِينَ في ذلك أرباحًا عِظامًا، وبعضَ ما لا غنًى بالملوك عنه، وكان أكثر
ما يُطْرِفُها من التمر الصَّرَفَان وكان يُعْجبها، فلم يزل يُزَيِّنُ ذلك حتى أذنتْ له ودفعتْ له
أموالًا وجَهَّزتْ معه عَبيدًا، فسار قصير بما دفعتْ إليه حتى قَدِمَ العراق وأتى الحِيرَة متنكِّرًا، فدخل على عمرٍو فأخبره الخبَرَ، وقال: جهِّزْني بصنوف البَزِّ والأمتعة؛ لعل الله يُمكِن من الزباء فتصيبَ ثأرَك وتقتلَ عدوَّك، فأعطاه حاجته، فرجع بذلك إلى الزباء فأعجبها ما رأت وسَرَّها، وازدادت به ثِقَةً وجَهَّزتْه ثانيةً فسار حتى قدم على عمرٍو فجَهَّزه وعاد إليها، ثم عاد الثالثة وقال لعمرٍو: اجْمَعْ لي ثقات أصحابك، وهيِّئ الغَرَائر والمُسُوح، واحْمِلْ كل رجلين على بعير في غِرَارَتَين، فإذا دخلوا مدينة الزباء أقَمْتُكَ على باب نَفَقِها وخَرَجَتِ الرِّجال من الغَرَائر فصاحوا بأهل المدينة، فمن قاتلهم قتلوه، وإن أقبلت الزباء تُرِيدُ النفَق جَلَّلْتَها بالسيف. ففعل عمرو ذلك، وحمل الرجال في الغرائر بالسلاح، وسار يَكْمُنُ النهارَ ويسير الليلَ، فلما صار قريبًا من مدينتها تقدَّمَ قصير فبشَّرَها وأعلمها بما جاء به من المتاع والطرائف، وقال لها: آخِرُ البَزِّ على القَلُوص، فأرسلها مثلًا، وسألها أن تخْرُج فتنظر إلى ما جاء به، وقال لها: جئْتُ بما صَاءَ وصَمَت، فذهبت مثلًا، ثم خرجت الزباء فأبصرت الإبلَ تكاد قوائمُهَا تَسُوخ في الأرض من ثقل أحمالها، فقالت: يا قصير:
مَا لِلْجِمَالِ مَشْيُهَا وَئِيدَا
أَجَنْدَلًا يَحْمِلْنَ أَمْ حَدِيدَا
أَمْ صَرَفَانًا تَارِزًا شَديدَا

فقال قصير في نفسه:
بَلِ الرِّجَالَ قُبَّضًا قُعُودَا


فدخلت الإبلُ المدينةَ حتى كان آخرها بعيرًا مَرَّ على بوَّاب المدينة، وكان بيده مِنْخَسَة، فنَخَس بها الغِرَارة فأصابت خاصِرَةَ الرجل الذي فيها، فسُمِعَ منه صوتٌ، فقال البواب بالرومية ما معناه: شَرٌّ في الجُوالِق، فأرسلها مثلًا. فلما توسَّطت الإبل المدينة أُنِيخَتْ ودلَّ قصير عمرًا على باب النفق الذي كانت الزباء تدخله، وأَرَتْه إياه قَبْلَ ذلك، وخرجت الرجالُ من الغرائر فصاحوا بأهل المدينة ووضعوا فيهم السلاح،
وقام عمرو على باب النفَق، وأقبلت الزباء تريد النفق، فأبصرت عمرًا فعرفته بالصورة التي صُوِّرت لها، فمصَّتْ خاتمها وكان فيه السم، وقالت: بِيَدِي لا بِيَدِ ابنِ عَدِيٍّ، فذهبت كلمتها مثلًا، وتلقَّاها عمرو فجلَّلها بالسيف وقتلها، وأصاب ما أصاب من المدينة وأهلها، وانْكَفأ راجعًا إلى العراق.

https://k.top4top.io/p_2007qrxtc1.png

عطر الجنة 07-01-2021 04:50 AM

رد: أدبيات اللغة العربية
 


https://k.top4top.io/p_2007qrxtc1.png



(٦٩) صَارَتِ الفِتْيَانُ حُمَمًا
هذا من قول الحمراء بنت ضَمْرة بن جابر، وذلك أن بني تميم قتلوا سعد بن هند أخا عمرو بن هند الملك، فنَذَر عمرو لَيَقْتلَنَّ بأخيه مئة من بني تميم، فجمع أهلَ مملكته فسارَ إليهم، فبلغهم الخبر، فتفرَّقوا في نواحي بلادهم، فأَتَى دارهم فلم يجد إلَّا عجوزًا كبيرةً، وهي الحمراء بنت ضمرة، فلما نظر إليها وإلى حُمْرَتها قال لها: إني لأحْسَبُك أعجمية، فقالت: لا، والذي أسأله أن يخفض جَنَاحَك، ويهُدَّ عِمادَك، ويَضَع وِسادَك، ويَسْلُبك بلادَك، ما أنا بأعجمية، قال: فمن أنت؟ قالت: أنا بنت ضمرة بن جابر، ساد معدًّا كابرًا عن كابر، وأنا أخت ضمرة بن ضمرة، قال: فمن زوجك؟ قالت: هَوْذَةُ بن جَرْوَل، قال: وأين هو الآن؟ أما تعرفين مكانه؟ قالت: هذه كلمة أحمق، لو كنت أعلم مكانه حال بينك وبيني، قال: وأي رجل هو؟ قالت: هذه أحمق من الأولى، أعَنْ هَوْذة يُسأل؟ هو والله طيِّب العِرْق، سَمِين العَرْقِ، لا يَنام ليلةَ يَخَاف، ولا يشْبع ليلةَ يُضَاف، يأكل ما وجَدَ، ولا يَسأل عما فَقَد، فقال عمرو: أما والله لولا أني أخاف أنْ تَلِدِي مثل أبيك وأخيك وزوجك لاسْتَبقيتُكِ، فقالت: وأنت والله لا تقتل إلا نساءً أعاليها ثُدِيٌّ وأسافلها دُمِيٌّ، والله ما أدركت ثارًا، ولا مَحَوْت عارًا، وما مَنْ فعلتَ هذه به بغافلٍ عنك، ومع اليوم غد.

فأمَرَ بإحراقها فلما نظرتْ إلى النار قالت: ألَا فتًى مكانَ عَجُوزٍ؟ فذهبت مثلًا، ثم مكثت ساعةً فلم يَفْدِهَا أحدٌ فقالت: هيهات! صارت الفتيان حُمَمًا، فذهبت مثلًا، ثم أُلْقيت في النار، ولبث عمرو عامَّة يومه لا يقدر على أحدٍ حتى إذا كان في آخر النهار أقبلَ راكب يُسمَّى عمًّارًا تُوضِعُ به راحِلتُه حتى أناخ إليه، فقال له عمرو: مَنْ أنت؟ قال: أنا رجل من البَرَاجم؟ قال: فما جاء بك إلينا؟ قال: سطع الدُّخَان، وكنتُ طَوَيْتُ منذ أيام فظننْتُه طعامًا، فقال عمرو: إنَّ الشَّقِيَّ وافدُ البراجم، فذهبت مثلًا، وأَمَر به فأُلْقِي في النار، فقال بعضهم: ما بلَغَنا أنه أصاب من بني تميم غيرَه، وإنما أحرق النساء والصبيان، وفي ذلك يقول جرير:
وأخْزَاكُمُ عَمْرٌو كَمَا قَدْ خَزِيتُمُ
وَأَدْرَكَ عَمَّارًا شَقِيَّ البَرَاجِم

ولذلك عُيِّرت بنو تميم بحب الطعام لما لقي هذا الرجل، قال الشاعر:
إذَا مَا مَاتَ مَيْتٌ مِنْ تَمِيم
فَسَرَّكَ أنْ يَعِيشَ فَجِئْ بِزَادِ
بِخُبْزٍ أو بِلَحْمٍ أو بِتَمْرٍ
أو الشَّيْء المُلَفَّفِ في البِجَادِ
تَرَاهُ يُنَقِّبُ الآفَاقَ حَوْلًا
لِيَأْكُلَ رَأْسَ لُقْمَانَ بْنِ عَادِ



(٧٠) عِنْدَ جُهَيْنَةَ الخَبَرُ اليَقِينُ
قال هشام بن الكَلْبي: كان من حديثه أنَّ حُصَين بن عَمْرو بن مُعَاوية بن كِلاب خرج ومعه رجلٌ من جُهَينة يقال له الأخْنَس بن كعب، وكان الأخنس قد أَحدثَ في قومه حَدَثًا فخرج هاربًا، فلقيه الحُصَيْنُ فقال: مَنْ أنت ثَكِلتْكَ أمُّك؟ فقال له الأخنس: بل مَنْ أنت ثكلتك أمُّك؟ فردَّد هذا القول حتى قال الأخنس بن كعب: فأخْبِرني مَن أنت وإِلَّا أَنْفَذْتُ قلبك بهذا السِّنان، فقال له الحصين: أنا الحصين بن عمرو الكلابي — ويقال: بل هو الحصين بن سُبَيع الغَطَفَاني — فقال له الأخنس: فما الذي تريد؟ قال: خرجت لِمَا يخرج له الفِتْيانُ، قال الأخنس: وأنا خرجتُ لمثل ذلك، فقال له الحصين: هل لك أن نتعاقَدَ أن لا نَلْقَى أحدًا من عشيرتك أو عشيرتي إلا سلبناه؟ قال: نعم، فتعاقدا على ذلك، وكلاهما فاتِكٌ يَحْذَر صاحبه، فلقيا رجلًا فسلَباه، فقال لهما: هل لكما أن تردَّا عليَّ بعض ما أخذتما منى وأدُلُّكما على مغنم؟ قالا: نعم، فقال: هذا رجل من لَخْم قد قدم من عند بعض الملوك بمغنم كثير، وهو خَلْفي في موضع كذا وكذا، فردَّا عليه بعضَ ماله وطلبا اللَّخْميَّ فوجَدَاه نازلًا في ظل شجرة، وقُدَّامه طعام وشراب، فَحَيَّيَاه وحَيَّاهما، وعرض عليهما الطعام، فكره كلُّ واحد أن ينزل قبل صاحبه فيفتك به، فنزلا جميعًا فأكلا وشربا مع اللخميِّ. ثم إنَّ الأخنس ذهب لبعض شأنه، فرجع واللخميُّ يتَشَحَّطُ في دمه، فقال الجهنيُّ — وهو الأخنس — وسَل سيفه لأنَّ سيف صاحبه كان مَسلُولًا: وَيْحَكَ! ويْحَكَ! فتكتَ برجل قد تَحَرَّمْنَا بطعامه وشرابه! فقال: اقعُدْ يا أخا جهينة، فلهذا وشِبْهه خرجنا، فشربا ساعةً وتحدَّثا.

ثم إن الحصين قال: يا أخا جُهَيْنة، أتدري ما صَعْلة وما صَعْل؟ قال الجهني: هذا يوم شُرْب وأكل، فسكت الحصين، حتى إذا ظنَّ أنَّ الجهنى قد نسى ما يُرَاد به، قال: يا أخا جهينة، هل أنت للطير زاجرٌ؟ قال: وما ذاك؟ قال: ما تقول هذه العُقَاب الكاسر؟ قال الجهني: وأين تراها؟ قال: هي ذِهْ، وتطاوَلَ ورفع رأسه إلى السماء، فوضع الجهني بادرةَ السيف في نَحْره، فقال: أنا الزاجرُ والنَّاحِرُ، واحتوى على مَتَاعه ومتاع اللخمي، وانصرف راجعًا إلى قومه، فمرَّ ببطنَين من قيس يقال لهما مَرَاحٌ وأنمارٌ، فإذا هو بامرأة تَنْشُدُ الحصينَ بن سبيع، فقال لها: من أنت؟ قالت: أنا صخرة امرأة الحصين، قال: أنا قتلته، فقالت: كذبتَ، ما مِثْلُك يقتل مثله، أما لو لم يكن الحيُّ خِلوًا ما تكلَّمتَ بهذا، فانصرف إلى قومه فأصلحَ أمرهم، ثم جاءهم فوقف حيث يُسْمعهم، وقال:
وَكَمْ مِنْ ضَيْغَم وَرْدٍ هَمُوسٍ
أبي شِبْلَيْن مَسْكَنُهُ العَرِينُ
عَلَوْتُ بَيَاضَ مَفْرِقِهِ بِعَضْبٍ
فأَضْحَى في الفَلاةِ لَهُ سُكونُ
وَأضْحَتْ عِرْسُه ولَها عَلَيهِ
بُعَيْدَ هُدُوءِ لَيْلَتِها رَنِينُ!
وكَمْ مِنْ فَارِسٍ لَا تَزْدَرِيهِ
إذَا شَخَصَتْ لِمَوْقِعِهِ العُيُونُ
كَصَخْرَة إذْ تُسَائِلُ في مَرَاحٍ
وأنْمَارٍ وَعِلْمُهُمَا ظُنُونُ!
تُسَائِلُ عَنْ حُصَيْن كُلَّ رَكْبٍ
وعنْدَ جُهَيْنَةَ الْخَبَرُ اليَقيِنُ
فَمَنْ يَكُ سائلًا عَنْهُ فَعِنْدِى
لِصَاحِبِهِ البَيَانُ المُسْتَبِينُ
جُهَيْنَةُ مَعْشَرِي وَهُمُ مُلُوك
إذَا طَلَبُوا المَعَالِيَ لمْ يَهُونُوا


قال الأصمعيُّ وابن الأعرابي: هو جُفَينة بالفاء، وكان عنده خبر رجل مقتول، وفيه يقول الشاعر:
تُسَائِلُ عَنْ أَبِيهَا كُلَّ رَكْبٍ
وَعِنْدَ جُفَيْنةَ الخبَرُ اليقينُ


قال: فسألوا جفينة، فأخبرهم خبرَ القتيل. وقال بعضهم: هو حُفَينة بالحاء المهملة. يُضرب في معرفة الشيء حقيقةً.


(٧١) كِلَاهُمَا وتَمْرًا

ويُرْوَى: كِلَيْهما. أول مَنْ قَال ذلك عمرو بن حُمْرَان الجَعْدِي، وكان حمران رجلًا لَسِنًا ماردًا، وأنَّه خَطَب «صَدُوفَ»، وهي امرَأة كانت تأْبِدُ الكلام وتسجع في المنطق، وكانت ذاتَ مالٍ كثيرٍ، وقد أتاها قوم كثير يخطبونها فردَّتهم، وكانت تتعنَّتْ خُطَّابها في المسألة، وتقول: لا أتزوج إلَّا مَنْ يعلم ما أسأله عنه ويجيبني بكلام على حَدِّه لا يَعْدُوه. فلما انتهى إليهَا حُمْرَان قام قائمًا لا يجلس، وكان لا يأتيها خاطبٌ إلا جلس قبل إذنها، فَقَالت: ما يمنعك من الجلوس؟ قَال: حتى يُؤْذَنَ لي، قَالت: وهل عليك أمير؟ قَال: رَبُّ المنزِل أحقُّ بفِنَائه، وربُّ الماء أحَقُّ بسِقَائِه، وكلٌّ له ما في وِعائه، فَقَالت: اجلسْ، فجلس، قَالت له: ما أردتَ؟ قَال: حاجة، ولم آتِكِ لَجَاجَة، قَالت: تُسِرُّها أم تُعْلِنها؟ قَال: تُسَرُّ وتُعْلَنُ، قَالت: فما حاجتك؟ قَال: قضاؤها هَيِّنٌ، وأمرُها بيِّنٌ، وأنتِ بها أخْبَر، وبنُجْحِها أبْصَر، قَالت: فأخبرني بها، قَال: قد عَرَّضْتُ وإن شِئت بَيَّنْتُ، قَالت: مَنْ أنت؟ قَال: أنا بَشَرٌ، وُلِدتُ صغيرًا، ونشأتُ كبيرًا، ورأيت كثيرًا، قَالت: فما اسمك؟ قَال: مَنْ شاء أحْدَثَ اسمًا، وقَال ظُلْمًا، ولم يكن الاسم عليه حَتْمًا، قَالت: فَمَنْ أبوك؟ قَال: والدِي الذي وَلَدني، ووالدُه جَدِّي فلم يعِشْ بَعْدِي، قَالت: فما مالُك؟ قَال: بعضُه وَرِثْته، وأكثَرُه اكتسبتُه، قَالت: فممَّن أنت؟ قَال: من بشرٍ كثيرٍ عدده، معروف ولدُه، قليل صُعُدُه، يُغْنِيه أبدُه، قَالت: ما وَرَّثَك أبوك عن أوَّلِيه؟ قَال: حُسْن الهمم، قَالت: فأين تنزل؟ قال: على بساط واسع، في بلدٍ شاسع، قريبُه بعيد، وبعيده قريب، قَالت: فمن قومُك؟ قَال: الذين أنتمي إليهم، وأجْني عليهم، ووُلِدتُ لديهم، قَالت: فهل لك امرَأة؟ قَال: لو كانت لي لم أطلُب غيرها، ولم أُضَيِّعْ خَيْرَها، قَالت: كأنك ليست لك حاجة، قَال: لو لم تكن لي حاجة لم أُنِخْ ببابك، ولم أتَعَرَّضْ لجوابك، وأتعلَّق بأسبابك، قَالت: إنك لَحُمْران بن الأقرع الجَعْدي، قَال: إن ذلك ليُقَال. فزوجتْه نفسها، وفَوَّضَتْ إليه أمرها.

ثم إنها ولدت له غلامًا فسماه عمرًا، فنشأ ماردًا مُفَوَّهًا، فلما أدركَ جَعَله أبوه راعيًا يرعى له الإبل، فبَيْنا هو يومًا إذ رُفِعَ إليه رجل قد أَضَرَّ به العطش والسُّغُوب، وعمرو قاعد وبين يديه زُبْد وتمر وتَامِكٌ، فدنا منه الرجل فقال: أطْعِمْنى من هذا الزُّبد والتَّامِك، فَقَال عمرو: نعم، كلاهما وتمرًا. فأطعَم الرجل حتى انتهى، وسقَاه لبنًا حتى رَوِيَ، وأقام عنده أيامًا، فذهبت كلمته مَثَلًا. ورفع «كلاهما»: أى لك كلاهما، ونصب «تمرًا» على معنى: أزيدك تمرًا، ومن روى «كليهما» فإنما نصبه على معنى: أطعِمُك كليهما وتمرًا، وقَال قومٌ: مَنْ رفع حكى أن الرجل
قال: أنِلْني مما بين يديك، فَقَال عمرو: أيُّما أحبُّ إليك زُبْدٌ أم سَنَام؟ فَقَال الرجل: كلاهما وتمرًا، أي مطلوبي كلاهما وأزِيدُ معهما تمرًا، أو وزدني تمرًا.


(٧٢) إنَّ المُنْبَتَّ لَا أرْضًا قَطَعَ وَلا ظَهْرًا أَبْقَى
المُنْبَتُّ: المُنْقَطِع عن أصحابه في السَّفَر، والظَّهْرُ: الدابة. قاله عليه الصلاة والسلام لرجل اجتَهَد في العبادة حتى هَجَمتْ عيناه، أي غارَتَا، فلما رآه قال له: إنَّ هذَا الدِّينَ مَتِينٌ، فأوْغِلْ فيه بِرِفْقٍ، إنَّ المُنْبَتَّ، أي الذي يجِدُّ في سيره حتى ينبتَّ أخيرًا، سماه بما تَئُول إليه عاقبتُه كقوله تعالى: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ.

يُضرب لمن يُبالغ في طلب الشيء ويُفْرِط حتى ربما يُفَوِّته على نفسه.


(٧٣) إنَّ الدَّوَاهِيَ في الآفَاتِ تَهْتَرِس

ويُرْوَى: «تَرْتَهِس»، وهو قلبُ تهترس: من الهَرْسِ، وهو الدَّقُّ. يعني أن الآفات يموج بعضُها في بعض ويدُقُّ بعضها بعضًا كَثْرَةً. يُضرب عند اشتداد الزمان واضطراب الفتن. وأصله أن رجلًا مرَّ بآخر وهو يقول: يا ربِّ، إما مُهْرَةً أو مُهْرًا، فأنكر عليه ذلك، وقال: لا يكون الجنين إلا مُهْرَةً أو مُهْرًا، فلما ظهر الجنين كان مُشَيَّأَ الخَلْقِ مُخْتَلِفَه، فقال الرجل عند ذلك:
قَدْ طَرَّقَتْ بِجَنِينٍ نِصفُهُ فَرَسٌ
إنَّ الدَّوَاهِيَ في الآفَاتِ تَهْتَرِس


(٧٤) إنَّ البَلَاءَ مُوَكَّلٌ بالمَنْطِقِ
قال المُفَضَّل: يقال: إنَّ أول من قال ذلك أبو بكر الصدِّيق — رضي الله تعالى عنه — فيما ذكره ابن عباس، قال: حدَّثني عليُّ بن أبي طالب — رضي الله تعالى عنه — لمَّا أُمِرَ رسولُ الله ﷺ أنْ يَعْرِضَ نفسَه على قبائل العرب، خرج وأنا معه، فَدَفَعْنَا إلى مجلسٍ من مجالس العرب، فتقدم أبو بكر وكان نَسَّابةً فسَلَّم فردُّوا عليه السلام، فقال: ممَّن القوم؟ قالوا: من ربيعة، فقال: أمِنْ هامَتها أم من لَهَازِمها؟ قالوا: من هامَتها العُظمى، قال: فأيُّ هامتها العظمى أنتم؟ قالوا: ذُهْل الأكبر، قال: أفمنكم عَوْف الذي يقال له: لا حُرَّ بِوَادِي عَوْف؟ قالوا: لا، قال: أفمنكم بِسْطَام ذُو اللِّواء ومُنتهَى الأحياء؟ قالوا: لا، قال: أفمنكم جَسَّاس بن مُرَّةَ حامي الذِّمار ومانِعُ الجار؟ قالوا: لا، قال: أفمنكم الحَوْفَزَان قاتل الملوك وسالبُها أنفسَها؟ قالوا: لا، قال: أفمنكم المُزْدَلِف صاحب العِمَامة الفَرْدة؟ قالوا: لا، قال: فأنتم أخوال الملوك من كِنْدَة؟ قالوا: لا، قال: فلستم ذُهْلًا الأكبر، أنتم ذهل الأصغر، فقام إليه غلام قد بَقَلَ وَجْههُ يقال له دَغْفَل، فقال:
إنَّ عَلَى سائلِنا أنْ نَسْأَلَهْ
وَالعِبْءُ لا تَعْرِفُهُ أوْ تَحْمِلَهْ


يا هذا، إنك قد سألتنا فلم نَكْتُمْك شيئًا، فمَن الرجل أنت؟ قال: رجل من قريش، قال: بَخْ بَخْ! أهل الشرف والرئاسة، فمن أي قريش أنت؟ قال: من تَيْم بن مُرَّة، قال: أمْكَنْتَ والله الراميَ من ضَفَا الثُّغْرة، أفمنكم قُصَيُّ بن كلاب الذي جَمَعَ القبائل من فِهْر وكان يُدْعَى مُجَمِّعًا؟ قال: لا، قال: أفمنكم هاشم الذي هَشم الثَّريدَ لقومه ورجالُ مكة مُسْنِتُونَ عِجَافٌ؟ قال: لا، قال: أفمنكم شَيْبَةُ الحمدِ مُطْعِم طير السماء الذي كأنَّ في وجهه قمرًا يضيء ليل الظلام الداجي؟ قال: لا، قال: أفمن المُفِيضينَ بالناس أنت؟ قال: لا، قال: أفمن أهل النَّدْوَة أنت؟ قال: لا، قال: أفمن أهل الرِّفَادة أنت؟ قال: لا، قال: أفمن أهل الحِجَابة أنت؟ قال: لا، قال: أفمن أهل السِّقَاية أنت؟ قال: لا، قال: واجتذَبَ أبو بكر زِمام ناقته فرجع إلى رسول الله ﷺ، فقال دَغْفَل: صادَفَ دَرْءُ السَّيْل دَرْءًا يَصْدَعُهُ، أما والله لو ثبتَّ لأخبرتُك أنك من زَمَعَات قريش أو ما أنا بدَغْفل، قال: فتبسَّم رسولُ الله ﷺ. قال عليٌّ: قلت لأبي بكر: لقد وقَعْتَ من الأعرابي على باقِعَة، قال: أجَلْ، إنَّ لكل طامَّة طامَّة، وإنَّ البلاء مُوَكَّل بالمنطق.

وفي قصة المثل أمثال: قوله: «لا حُرَّ بوادي عَوْف» يُتمَثَّل به في هضم من يَتعاظم بنواحي من يقدر على قهره، وقوله: «إنَّ عَلَى سائلنا أن نسأله» ومحل التمثُّل به ظاهر، وقوله: «والعبءُ لا تعرفه أو تحملَه» يُتمثَّل به في طَلَب الاختبار وترك الاكتفاء بما يبدو، فإن الشيء الذي تريد حَملَه فيكون عبئًا ربما يكون كبيرًا في النظر خفيفًا في الوزن، وربما كان ثقيل الوزن وهو صغير الحجم.


(٧٥) أنْ تَرِدَ المَاءَ بمَاءٍ أكْيَسُ

يُتمثَّل به عند الأمر بالاقتصاد في المعيشة والمحافظة على قليله وإن كان واثقًا بحصول كثير له في المستقبل، وأصلُه في المسافر عرف قُرْبَه من المَنْهل فأسرف في استعمال ما حمل من الماء.

(٧٦) إنَّمَا يُعَاتَبُ الأَدِيمُ ذُو البَشَرَة

المُعَاتَبَة: المُعَاوَدَة، وبَشَرَة الأديم: ظاهرُه الذي عليه الشَّعَر، أي إنما يُعاد إلى الدِّبَاغ من الأديم ما سَلِمتْ بَشَرَته. يُضرَب لمن فيه مُرَاجعة ومُسْتَعْتَب. قال الأصمعيُّ: كل ما كان في الأديم مُحتَمَلٌ ما سلِمت البشَرة، فإذا نَغِلَت البشرةُ بَطَل الأديم. ومن هنا أُخذ العِتاب بين الإخوان لذكر الهَفَوات ثم الاعتذار أو الاعتراف والمسامحة والعَوْد إلى المُصافاة، فيكون ذلك بمنزلة دَبْغ الجلد لإزالة فَضَلَاته.


(٧٧) إنَّ العَصَا قُرِعَتْ لِذِي الحِلْم

قيل: إنَّ أوَّل من قُرِعت له العصا عمرُو بن مالك بن ضُبَيْعَة أخو سعد بن مالك الكِناني، وذلك أن سعدًا أتى النعمانَ بن المنذر ومعه خَيل له قادَها وأخرى عَرَّاها، فقيل له: لم عَرَّيت هذه وقُدْتَ هذه؟ قال: لم أقُدْ هذه لأمْنَعَها ولم أُعَرِّ هذه لِأَهَبَها. ثم دخل على النعمان، فسأله عن أرضه، فقال: أمَّا مَطَرُها فغَزير، وأمَّا نَبْتها فكثير، فقال له النعمان: إنَّك لَقَوَّال، وإن شئت أتيتك بما تَعْيَا عن جوابه، قال: نعم، فأمر وَصيفًا له أن يَلْطِمَهُ، فلطَمه لَطْمة، فقال: ما جواب هذه؟ قال: سَفِيهٌ مأمورٌ، قال: الْطِمْه أخرى، فلطمه، قال: ما جوابُ هذه؟ قال: لو أُخِذ بالأولى لم يَعُدْ للأخرى. وإنما أراد النعمان أن يتعدَّى سعد في المنطق فيقتله. قال: الْطِمْه ثالثةً، فلطمه، قال: ما جواب هذه؟ قال: رَبٌّ يؤدب عبدَه، قال: الْطِمْه أخرى، فلطمه، قال: ما جواب هذه؟ قال: مَلَكْتَ فأَسْجِحْ، فأرسلها مثلًا،
قال النعمان: أصَبْتَ فامكُثْ عندي، وأعجبه ما رأى منه، فمكث عنده ما مكث، ثم بَدَا للنعمان
أن يبعث رائدًا، فبعث عمرًا أخا سَعْد فأبطأ عليه فأغضبه ذلك، فأقسم لئن جاء ذامًّا للكلأ أو حامدًا له لَيقتلنَّه، فقدم عمرو، وكان سعد عند الملك، فقال سعد: أتأذن أن أُكلِّمه؟ قال:
إذَنْ يُقطع لسانُك، قال: فأشير إليه؟ قال: إذن تُقطع يدُك، قال: فأَقرعُ له العصا؟ قال: فَاقْرَعْها، فتناول سعد عَصَا جليسِه وقَرَع بعصاه قرعةً واحدةً، فعرف أنه يقول له: مَكَانَك، ثم قرع بالعصا ثلاث قَرَعَات، ثم رفعها إلى السماء ومَسَح عَصَاه بالأرض، فعرف أنه يقول له: لم أَجد جَدْبًا، ثم قرع العصا مرارًا ثم رفعها شيئًا وأومأ إلى الأرض، فعرف أنه يقول: ولا نَبَاتًا، ثم قرع العصا قرعةً وأقبل نحو الملك، فعرف أنه يقول: كَلِّمْه، فأقبل عمرو حتى قام بين يدي الملك، فقال له: أخْبِرْنِي هل حَمِدْت خِصْبًا أو ذَمَمْت جَدْبًا؟ فقال عمرو: لم أذْمُم هُزْلًا، ولم أحِمدْ بَقْلًا، الأرضُ مُشْكلة، لا خِصْبُها يُعرَف، ولا جَدْبُها يُوصَف، رائدُها واقف، ومُنْكِرها عارف، وآمِنُها خائف.
قال الملك: أَوْلى لك! فقال سعد بن مالك يذكر قَرْع العصا:
قَرَعْتُ العَصَا حَتَّى تَبَيَّنَ صَاحِبِي
ولم تَكُ لولا ذَاكَ في القَوْمِ تُقْرَعُ
فقال: رأيتُ الأرْضَ لَيْسَتْ بمُمْحِلٍ
ولا سَارِح فيها على الرَّعْي يَشْبَعُ
سَوَاء فَلَا جَدْب فيُعْرَف جَدْبُها
ولا صَابَها غَيْثٌ غَزيرٌ فتَمْرَعُ
فَتَحْيَا بها حَوْباء نَفْسٍ كَرِيمةٍ
وَقَدْ كَادَ لَوْلَا ذَاكَ فِيهِمْ يُقَطَّعُ

هذا قول بعضهم. وقال آخرون في قولهم «إنَّ العصا قُرِعَت لذي الحِلْم»: إن ذا الحلم هذا هو عامر بن الظَّرِب العَدْوَاني، وكان من حكماء العرب، لا تَعْدِل بفهمه فهمًا ولا بحكمه حُكْمًا، فلمَّا طَعَنَ في السنِّ أنْكَر من عقله شيئًا، فقال لبنيه إنه قد كبِرَتْ سِنِّي، وعرَض لي سَهْو، فإذا رأيتموني خرجْتُ من كلامي وأخذت في غيره فاقْرَعوا لي المِجَنَّ بالعَصَا. وقيل: كانت له جارية يقال لها «خُصَيْلة»، فقال لها: إذا أنا خُولِطْتُ فاقرعي لي بالعصا، وأُتيَ عامر بِخُنْثَى ليحكم فيه، فلم يَدْر ما الحُكم، فجعل ينحَرُ لهم ويُطعمهم ويُدَافعهم بالقضاء، فقالت خصيلة: ما شأنك؟ قد أتْلَفْتَ مالك، فخبَّرها أنه لا يدري ما حكم الخنثى، فقالت: أَتْبِعْهُ مَبَالَه. قال الشَّعْبِي: فحدثني ابن عباس بها قال: فلما جاء الله بالإسلام صارت سُنَّة فيه. وعامر هو الذي يقول:
أَرَى شَعَراتٍ عَلَى حَاجِبَيَّ
بِيضًا نَبَتْنَ جَمِيعًا تُؤَامَا
ظَلِلْتُ أُهَاهِي بِهِنَّ الكلَا
بَ أَحْسَبُهُنَّ صُوَارًا قِيامَا
وأَحْسَبُ أَنْفِي إذَا مَا مَشَيْـ
ـتُ شَخْصًا أمَامِي رَآنِي فَقَامَا


يقال: إنه عاش ثلثمئة سنة. وهو الذي يقول:
تَقُولُ ابْنَتِي لَمَّا رَأَتْنِي كَأنَّنِي
سَلِيمُ أَفَاعٍ لَيْلُهُ غَيْرُ مُودَعِ
وَمَا المَوْتُ أَفْنَانِي وَلَكِنْ تَتَابَعَتْ
عَلَيَّ سِنُونٌ مِنْ مَصيف ومَرْبَعِ
ثَلَاثُ مِئِينَ قَدْ مَرَرْنَ كوامِلًا
وَهَا أَنَا هَذَا أَرْتَجِي مَرَّ أَرْبَعِ
فَأَصْبَحْتُ مِثل النَّسْرِ طَارَتْ فِرَاخُهُ
إذَا رَامَ تَطْيَارًا يُقَالُ لَهُ: قَعِ
أُخَبِّر أَخْبَارَ القُرُونِ التي مَضَتْ
ولا بُدَّ يَوْمًا أنْ يُطَارَ بِمَصْرَعِي


قال ابن الأعرابي: أوَّل من قُرِعَتْ له العصا عامر بن الظَّرِب العَدْوَاني، وربيعة تقول: بل هو قيس بن خالد بن ذي الجَدَّيْن، وتميم تقول: بل هو ربيعة بن مُخَاشِن أحد بني أَسِيد بن عمرو بن تميم، واليمن تقول: بل هو عمرو بن حُمَمَة الدَّوْسي. قال: وكانت حُكَّام تميم في الجاهلية أَكْثَم بن صَيْفيٍّ، وحاجِب بن زُرَارة، والأقْرَع بن حَابس، وربيعة بن مُخَاشن، وضَمْرة بن ضَمْرة، غير أن ضمرة حكم فأخذ رِشْوة فغَدَر. وحُكَّام قَيْس: عامر بن الظَّرِب، وغَيْلَان بن سَلَمة الثَّقَفي، وكانت له ثلاثة أيام: يوم يَحكُم فيه بين الناس، ويوم يُنْشد فيه شعره، ويوم ينظر فيه إلى جَمَاله، وجاء الإسلام وعنده عشر نسوة، فخيَّره النبي ﷺ، فاختار أربعًا، فصارت سُنَّة. وحكَّام قريش: عبدُ المطَّلِب، وأبو طالب، والعاصي بن وائل. وحكيمات العرب: صخرة بنت لقمان، وهند بنت الخُسِّ، وجُمُعَة بنت حابس، وابنة عامر بن الظَّرِب الذي يقال له ذو الحِلْم، قال المتلمِّس يريده:
لِذِي الحِلْم قَبْلَ اليَوْم مَا تُقْرَعُ العَصَا
وَمَا عُلِّم الإنْسَان إلَّا لِيَعْلَمَا


والمَثَل يُضرب لمن إذا نُبِّه انتبه.


(٧٨) إِيَّاكِ أعْنِي وَاسْمَعِي يَا جَارَة

أوَّل مَنْ قال ذلك سَهْل بن مالك الفَزَاريُّ، وذلك أنه خرج يريد النعمان، فمرَّ ببعض أحياء طيِّئ، فسأل عن سيد الحي فقيل له: حارثة بن لَأم، فأمَّ رَحْلَه فلم يُصِبْه شاهدًا، فقالت له أخته: انْزِلْ في الرَّحْب والسَّعَة، فنزل فأكرمته ولاطفته، ثم خرجت من خِبائها فرأى أجْمَلَ أهل دهرها وأكملهم، وكانت عَقِيلَةَ قومِها وسيدة نسائها، فوقع في نفسه منها شيء، فجعل لا يَدْرِي كيف يُرْسل إليها ولا ما يُوافِقُها من ذلك، فجلس بفِناء الخِباء يومًا وهي تسمع كلامه، فجعل ينشد ويقول:
يَا أخْتَ خَيْرِ البَدْوِ وَالحَضَارَةْ
كَيْفَ تَرَيْنَ فِي فَتَى فَزَارَةْ؟
أَصْبَحَ يَهْوَى حُرَّةً مِعْطَارَةْ
إيَّاكِ أعْنِي وَاسْمَعِي يَا جَارَةْ

فلما سمعت قوله عرفت أنه إيَّاها يعني، فقالت: ماذا بِقَوْلِ ذي عَقْل أريب، ولا رأيٍ مصيب، ولا أنفٍ نجيب، فأقِمْ ما أقَمْتَ مُكْرَمًا ثم ارْتَحِلْ متى شئتَ مُسَلَّمًا. ويقال: أجابته نظمًا فقالت:
إنِّي أقُولُ يَا فَتَى فَزَارَةْ
لا أبْتَغِي الزَّوْجَ وَلا الدَّعَارَةْ
وَلا فِرَاقَ أَهْلِ هَذِي الجَارَةْ
فَارْحَلْ إلى أهْلِكَ بِاسْتِخَارَةْ


فاسْتَحْيا الفتى، وقال: ما أردتُ منكَرًا، واسَوْأَتَاه! قالت: صدقْتَ، فكأنها اسْتَحْيَتْ من تسرُّعها إلى تُهَمَتِه، فارتحل، فأتى النعمان فَحَيَّاه وأكرمه، فلما رجع نزل على أخيها، فبَيْنا هو مقيم عندهم تطلَّعت إليه نفسُها، وكان جميلًا، فأرسلت إليه أنِ اخْطُبْني إن كان لك إليَّ حاجة يومًا من الدهر فإنِّي سريعةٌ إلى ما تريد، فخطبها وتزوجها وسار بها إلى قومه. يُضرب لمن يتكلم بكلام ويريد به شيئًا غيره.


(٧٩) إنْ كُنْتَ كَذُوبًا فَكُنْ ذَكورًا

يُضرب للرجل يكذِب ثم ينسى فيُحَدِّث بخلاف ذلك.


(٨٠) إذَا اشْتَرَيْتَ فاذْكُرِ السُّوقَ

يعني إذا اشتريت فاذكر البيع لتجتنب العيوب.

https://k.top4top.io/p_2007qrxtc1.png


عطر الجنة 07-01-2021 04:56 AM

رد: أدبيات اللغة العربية
 


https://k.top4top.io/p_2007qrxtc1.png


(٨١) بَلَغَ السَّيْلُ الزُّبَى

هي جمع زُبْيَة، وهي حُفْرة تُحْفَر للأسد إذا أرادوا صَيْده، وأصلُها الرَّابية لا يَعْلُوها الماء، فإذا بلغها السيل كان جارفًا مُجْحِفًا. يُضرب لمن جاوز الحدَّ.

قال المُؤَرِّج: حدثني سعيد بن سماك بن حرب عن أبيه عن ابن المعتمِر قال: أُتِيَ مُعاذ بن جبل بثلاثة نَفَر قتلهم أسد في زُبْيَة، فلم يدر كيف يُفتِيهم، فسأل عليًّا — رضي الله عنه — وهو مُحْتَبٍ بفِناء الكعبة، فقال: قُصُّوا عليَّ خبركم، قالوا: صِدْنا أَسَدًا في زُبْية، فاجتمعنا عليه، فتدافع الناسُ عليه، فَرَمَوْا برجل فيها، فتعلَّق الرجل بآخَرَ، وتعلَّق الآخر بآخر، فَهَوَوْا فيها ثلاثتُهم، فقضَى فيها عليٌّ — رضي الله عنه — أن للأول رُبُعَ الدِّيَة،
وللثاني النصف، وللثالث الدية كلها، فأَخْبَر النبي ﷺ بقضائه، فقال: لقد أَرْشَدَكَ اللهُ للحق.


(٨٢) تَطْلُبُ أَثَرًا بَعْدَ عَيْن

العَيْن: المُعَاينة. يُضرب لمن ترك شيئًا يَرَاه ثم تَبِع أَثَرَه بعد فَوْت عيْنه.
قال الباهلي: أوَّلُ من قال ذلك مالك بن عمرو العاملي. وفي كتاب أبي عبيد مالك بن عمرو الباهلي، قال:
وذلك أن بعض ملوك غَسَّان كان يطلب في عامِلَةَ ذَحْلًا، فأخذ منهم رجلين يقال لهما مالك وسِمَاك ابنا عمرو، فاحتبسهما عنده زمانًا، ثم دعاهما فقال لهما: إنِّي قاتلٌ أحَدَكما، فأيُّكما أقتل؟ فجعل كل واحدٍ منهما يقول: اقتلني مكان أخي، فلما رأى ذلك قتل سماكًا وخلَّى سبيل مالك، فقال سِماك حين ظن أنه مقتول:
أَلَا مَنْ شَجَتْ لَيْلَةٌ عَامِدَةْ
كَمَا أَبَدًا لَيْلَةٌ وَاحِدَةْ
فَأَبْلِغْ قُضَاعَةَ إنْ جِئْتَهُمْ
وَخُصَّ سَرَاةَ بَنِي سَاعدَةْ
وَأَبْلِغْ نِزَارًا عَلَى نَأْيِها
بِأنَّ الرِّمَاحَ هِيَ العَائدَةْ
وَأُقْسِمُ لَوْ قَتَلُوا مَالِكًا
لَكُنْتُ لَهُمْ حَيَّةً رَاصِدَةْ
بِرَأْسِ سَبِيلٍ عَلَى مَرْقَبٍ
وَيَوْمًا عَلَى طُرُقٍ وَارِدَةْ
فَأمُّ سِمَاكٍ فَلا تَجْزَعِي
فَلِلْمَوْتِ مَا تلِدُ الوَالِدَةْ


وانصرف مالك إلى قومه، فلبث فيهم زمانًا، ثم إن رَكْبًا مرُّوا وأحدهم يتغنى بهذا البيت:
وأُقْسِمُ لَوْ قَتَلُوا مَالِكًا
لَكُنْتُ لَهُمْ حَيَّةً رَاصِدَةْ

فسمعت بذلك أمُّ سماك فقالت: يا مالك، قبَّح الله الحياةَ بعد سماك! اخْرُجْ في الطلب بأخيك، فخرج في الطلب، فلقي قاتلَ أخيه يسير في ناسٍ من قومه، فقال: مَنْ أحَسَّ لي الجمل الأحمر، فقالوا له، وعرفوه: يا مالك، لك مئةٌ من الإبل فكُفَّ، فقال: لا أطلب أثرًا بعد عَين، فذهبت مثلًا، ثم حَمَل على قاتل أخيه فقتله، وقال في ذلك:
يَا رَاكِبا بَلِّغَا وَلَا تَدَعَا
بَنِي قُمَيْر وَإنْ هُمُو جَزِعُوا
فَلْيَجِدُوا مِثْلَ مَا وَجَدْتُ فَقَدْ
كُنْتُ حَزِينًا قَدْ مَسَّنِي وَجَعُ
لَا أَسْمَعُ اللهْوَ فِي الحَدِيثِ وَلَا
يَنْفَعُنِي فِي الفِرَاشِ مُضْطَجَعُ
لَا وَجْد ثَكْلَى كَمَا وَجَدْتُ وَلَا
وَجْد عَجُولٍ أضَلَّها رُبَعُ
وَلَا كَبِير أضَلَّ ناقَتَهُ
يَوْمَ تَوَافَى الحَجِيجُ واجْتَمَعُوا
يَنْظُرُ فِي أوْجُهِ الرِّكابِ فَلَا
يَعْرِفُ شيئًا والوَجْهُ مُلْتَمِعُ
جَلَّلْتُه صَارِمَ الحَدِيدَة كَالْـ
ـمِلْحِ وَفِيهِ سَفَاسِقٌ٢ لُمَعُ
بَيْنَ ضُمَيْر وَبَاب جِلِّق فِي
أَثْوَابِهِ مِنْ دِمَائِهِ بَقَعُ
أَضْرِبُهُ باديًا نَوَاجِذُه
يَدْعُو صَدَاهُ وَالرَّأْسُ مُنْصَدِعُ
بَنِي قُمَير قَتَلْتُ سَيِّدَكُم
فَاليَوْمَ لَا رَنَّةٌ وَلَا جَزَعُ
فَاليَوْمَ قُمْنَا عَلَى السَّوَاءِ فَإِنْ
تَجْوَوْا فَدَهْرِي وَدَهْرُكُمْ جُرَعُ
(٨٣) جَاوِرِينَا وَاخْبُرِينَا


قال يونس: كان رجلان يتعشقان امرأةً، وكان أحدهما جميلًا وَسيمًا، وكان الآخر دَميمًا تقْتحمه العين، فكان الجميل منهما يقول: عاشرينا وانظري إلينا، وكان الدميم يقول: جاوِرِينا واخْبُرِينا، فكانت تُدْنِي الجميل، فقالت: لأخْتبرنَّهما، فقالت لكل واحد منهما أن يَنْحَر جَزُورًا، فأتتهما متنكِّرة، فبدأت بالجميل فوجَدَتْه عند القِدْرِ يَلْحَس الدَّسَم ويأكل الشحم، ويقول: احتفظوا كل بيضاء لِيَهْ، يعني الشحم، فاستطعمتْه فأمر لها بِثِيل الجَزور، فوُضع في قَصْعتها، ثم أتت الدَّمِيم فإذا هو يَقْسِم لحم الجزور ويُعْطي كل مَنْ سأله، فسألتْه فأمر لها بأطايِبِ الجزور فوُضِع في قَصْعَتها، فرَفَعَت الذي أعطاها كلُّ واحدٍ منهما على حِدَةٍ، فلما أصبحا غَدَوا إليها فوضَعَتْ بين يديْ كل واحد منهما ما أعطاها، وأقصَت الجميل، وقرَّبت الدميم، ويقال إنها تزوجته. يُضرب في القبيح المنظر الجميل المَخْبَر.


(٨٤) الجَرْعُ أَرْوَى وَالرَّشِيفُ أَنْقَعُ

الرَّشْفُ والرَّشِيف: المصُّ للماء، والجَرْع: بَلْعه، والنَّقْعُ: تسكين الماء للعطش، أي أن الشراب الذي يُتَرَشَّفُ قليلًا قليلًا أَقْطَعُ للعطش وأَنْجَع وإن كان فيه بطء، وقوله: أرْوى، أي أَسْرَعُ رِيًّا، وقوله: أنْقَع، أي أَثْبَتُ وأدْوَم رِيًّا، من قولهم: سُمٌّ ناقع، أي ثابت. يُضرب لمن يقع في غنيمة فيؤمر بالمبادرة والاقتطاع لمَا قدر عليه قبل أن يأتيه مَنْ ينازعه. وقيل: معناه أن الاقتصاد في المعيشة أبلغ وأَدْوَمُ من الإسراف فيها.


(٨٥) الجَارُ ثُمَّ الدَّارُ

هذا كقولهم: الرفيق قبل الطريق، وكلاهما يُرْوى عن النبي ﷺ قال أبو عبيد: كان بعضُ فقهاء أهل الشام يُحدِّثُ بهذا الحديث، ويقول: معناه إذا أرَدْتَ شراء دارٍ فَسَلْ عن جِوَارها قبل شرائها.


(٨٦) حَسْبُكَ مِنْ شَرٍّ سَمَاعُه

أي اكْتَفِ من الشر بسماعه ولا تُعَايِنْه، ويجوز أن يريد: يَكْفِيك سَمَاعُ الشَّر، وإن لم تُقْدِمْ عليه ولم تُنْسب إليه. قال أبو عبيد: أخبرني هشام بن الكَلْبي أن المثل لأم الربيع بن زياد العبسي، وذلك أن ابنها الربيع كان أَخَذ من قيس بن زُهير بن جَذِيمة دِرْعًا، فعرض قيس لأم الربيع وهي على راحلتها في مَسِيرٍ لها، فأراد أن يذهب بها ليَرْتَهِنَها بالدرع، فقالت له: أين عَزَبَ عنك عَقْلُك يا قيس؟! أَتَرَى بني زياد مُصَالحيك وقد ذهبْتَ بأمهم يمينًا وشمالًا، وقال الناس ما قالوا أو شاءوا، وإنَّ حسْبَك من شر سماعه؟ فذهبت كلمتها مثلًا، تقول: كَفَى بالمَقَالة عارًا وإن كان باطلًا. يُضرب عند العار والمقالة السيئة وما يُخاف منها. وقال بعض النساء الشواعر:
سَائِلْ بِنَا فِي قَوْمِنَا
وَلْيَكْفِ مِنْ شَرٍّ سَمَاعُهْ

وكان المُفَضَّل فيما حُكِي عنه يذكر هذا الحديث ويسمي أم الربيع ويقول: هي فاطمة بنت الخُرْشُب، من بني أنمار بن بَغيض.
(٨٧) حِلْمي أَصَمُّ وأُذْنِي غَيْرُ صَمَّاءِ

أي أُعْرِضُ عن الخَنَا بحِلْمي وإنْ سمعْتُه بأذني.
(٨٨) حَسْبُكَ مِنْ غِنًى شِبَعٌ وَرِيٌّ

أي اقْنَعْ من الغِنى بما يُشْبِعك ويُرْوِيك، وجُدْ بما فَضَلَ. وهذا المثل لامرئ القيس يذكر مِعْزًى كانت له فيقول:
إذَا مَا لَمْ تكُنْ إبِلٌ فمِعْزى
كأنَّ قُرُونَ جِلَّتِها العِصِيُّ
فَتَمْلأُ بيْتَنا أَقِطًا وسَمْنا
وحَسْبُك مِنْ غِنًى شِبَعٌ وَرِيُّ

قال أبو عبيد: وهذا يحتمل معنيين، أحدهما يقول: أعْطِ كل ما كان لك وراء الشِّبع والري، والآخر: القَنَاعة باليسير، يقول: اكْتَفِ به ولا تطلب ما سوى ذلك. والأوَّل الوَجْهُ، لقوله في شعر له آخر، وهو:
وَلَوْ أنَّمَا أَسْعَى لأدْنَى مَعيشةٍ
كفاني وَلَمْ أَطْلُبْ قليلٌ من المال
ولكنَّمَا أَسْعَى لمجدٍ مُؤَثَّلٍ
وقد يُدْرِكُ المجدَ المُؤَثَّلَ أَمْثَالِي
وَمَا المرءُ ما دامَتْ حُشَاشَةُ نَفْسِه
بمُدْرِك أَطْرَاف الخُطُوبِ وَلَا آلِ


فقد أخْبَرَ ببُعْد همَّته وقدره في نفسه.


(٨٩) الحَدِيثُ ذُو شُجُون

أي ذو طُرُقٍ، الواحدُ شَجْنٌ بسكون الجيم، والشَّواجن: أوديةٌ كثيرة الشجر، الواحدةُ شَاجِنة، وأصْلُ هذه الكلمة الاتصالُ والالتفاف، ومنه الشجنة، والشِّجْنَةُ: الشجرة المُلْتفَّة الأغصان. يُضرب هذا المثل في الحديث يُتَذَكَّر به غيره. وقد نظَم الشيخ أبو بكر علي بن الحسين القِهِستاني هذا المثَل ومثلًا آخر في بيت واحد وأحسن ما شاء، وهو:
تَذَكَّرَ نَجْدًا والحديثُ شُجُونُ
فَجُنَّ اشْتِيَاقًا والجُنُونُ فُنُونُ


وأوَّل من قال هذا المثل ضَبَّة بن أُدِّ بن طابِخَة بن إلياس بن مُضَر، وكان له ابنان، يقال لأحدهما سَعْد وللآخر سُعَيْد، فنفرت إبل لضبة تحت الليل، فَوَجَّه ابنيه في طَلَبها فتفرقا، فوجَدَها سعد فردَّها، ومضى سعيد في طلبها فلقيه الحارث بن كعب، وكان على الغلام بُرْدَانِ فسأله الحارث إيَّاهما فأبى عليه فقتله وأخذ بُرْدَيْه، فكان ضبة إذا أمسى فرأى تحت الليل سَوَادًا قال: أسَعْد أم سُعَيْد؟ فذهب قوله مثلًا يُضْرب في النجاح والخيبة. فمكث ضبة بذلك ما شاء الله أن يمكث، ثم إنه حجَّ فوَافَى عُكَاظَ فلقي بها الحارث بن كعب ورأى عليه بُرْدَىْ ابنه سُعَيْد فعرفهما، فقال له: هل أنت مُخْبِري ما هذان البردان اللذان عليك؟ قال: بلى، لقيتُ غلامًا وهُمَا عليه، فسألته إيَّاهما فأبى عليَّ فقتلته وأخذتُ بُرْدَيه هذين، فقال ضبة: بسيفك هذا؟ قال: نعم، فقال: فأعْطِنيه أنظر إليه فإني أظنه صارمًا، فأعطاه الحارث سيفه، فلما أخَذَه من يده هَزَّهُ وقال: الحديث ذو شجون، ثم ضربه به حتى قتله، فقيل له: يا ضبة أفي الشهر الحرام؟! فقال: سَبَقَ السَّيف العَذَل. فهو أول مَنْ سارت عنه هذه الأمثال الثلاثة. قال الفرزدق:
لا تَأمنَنَّ الحَرْبَ إنَّ اسْتِعَارَها
كَضَبَّةَ إذْ قال الحَدِيثُ شُجُونُ


(٩٠) خطبة أبي بكر الصديق — رضي الله عنه — يوم السَّقيفة

حمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
أيُّها الناس، نَحن المُهَاجِرُونَ، أول النَّاس إسلامًا، وأكرمهم أحْسابًا، وأوسطهم دَارًا، وأَحْسَنهم وُجُوهًا، وَأكْثر النَّاس ولادَةً فِي العَرَب، وأمسُّهم رحمًا برَسُول الله ﷺ. أسْلمْنَا قبلكُمْ، وَقُدِّمنا في القُرْآن عَلَيْكُم، فقال تبارك وتعالى: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ فنحن المهاجرون وأنْتم الأنصار، إخْوَانُنَا فِي الدِّين، وشركاؤنا فِي الْفَيْء، وأنصارنا على العَدوِّ، آويْتُم، وواسَيْتم، فجزاكم الله خيرًا! فنحن الأُمَرَاء، وأَنْتُم الوزراء. لَا تدين العَرَب
إِلا لهَذَا الحَيِّ من قُرَيْش، فلا تَنْفَسُوا على إخْوَانكُم المُهَاجِرين مَا منحهم الله من فضله.

https://k.top4top.io/p_2007qrxtc1.png

عطر الجنة 07-01-2021 05:01 AM

رد: أدبيات اللغة العربية
 


https://k.top4top.io/p_2007qrxtc1.png


(٩١) خطبة أبي بكر الصديق — رضي الله عنه — عند وفاة النبي ﷺ

أيُّها النَّاس، من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيٌّ لا يموت، وإن الله قد تقدَّم إليكم في أمره فلا تَدَعوه جَزَعًا، وإن الله قد اختار لنبيه ما عنده على ما عندكم، وقَبَضه إلى ثوابه، وخلَّف فيكم كتابه وسُنَّة نبيه، فمن أخذ بهما عُرِف، ومن فرَّق بينهما أُنْكِر.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ ولا يَشْغَلنَّكم الشيطان بموت نبيكم، ولا يَفْتِننَّكم عن دينكم، فعاجلوه بالذي تُعْجِزونه، ولا تَسْتَنْظروه فيَلْحق بكم.

(٩٢) عهد أبي بكر — رضي الله عنه — عند موته

مما رُوي عنه — رضي الله عنه — حيث عَهِد عند موته، وهو:
بسم الله الرحمن الرحيم

هذا ما عهد به أبو بكر خليفة محمد رسول الله ﷺ عند آخر عهده بالدنيا وأوَّل عهده بالآخرة، في الحال التي يؤمن فيها الكافر ويَتَّقي فيها الفاجر: إِنِّي اسْتَعْملتُ عَلَيْكُم عمر بن الخطاب، فَإِنْ بَرَّ وعَدَل فَذَلك علمي بِهِ، ورأيي فِيهِ، وَإِنْ جَارَ وَبدَّل فَلَا علم لي بِالغَيْبِ، وَالخَيْرَ أردْتُ، وَلكُل امْرِئ مَا اكْتسب، وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ.

ومما يُؤثر من هذه الآداب ويُقدَّم قول عمر بن الخطاب — رضي الله تعالى عنه — في أول خطبة خطبها:

قال العُتْبي: لم أرَ أقل منها في اللفظ، ولا أكثر في المعنى، حَمِد الله وأثنى عليه بما هو أهله، وصلى على نبيه محمد ﷺ، ثم قال: أَيُّهَا النَّاس، إِنَّه وَالله مَا فِيكُم أحد أقوى عِنْدِي من الضَّعِيف حَتَّى آخذ الحق لَهُ، وَلَا أَضْعَف عِنْدِي من الْقوي حَتَّى آخذ الحقَّ مِنْهُ. ثمَّ نزل.

قال أبو الحسن: قد رُوِّينا هذه الخطبة التي عزاها إلى عمر بن الخطاب عن أبي بكر — رضي الله عنهما — وهو الصحيح.

قال أبو العباس: ومن ذلك رسالته في القضاء إلى أبي موسى الأشعري، وهي التي جمع فيها جُمَل الأحكام واختصرها بأجود الكلام، وجعل الناسُ بعده يتَّخذونها إمامًا، ولا يجد مُحِقٌّ عنها مَعْدِلًا، ولا ظالمٌ عن حدودها محيصًا.


(٩٣) رسالة عمر — رضي الله عنه — في القضاء لأبي موسى الأشعري

بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله عمر بن الخطاب أمير المؤمنين إلى عبد الله بن قيس. سلامٌ عليك، أما بعد، فإنَّ القضاء فريضة مُحكمة، وسنَّة متَّبعة، فافهم إذا أُدْلي إليك، فإنه لا ينفع تكلُّم بحق لا نفاذ له: آسِ بين الناس في وجهك، وعدلك، ومجلسك؛ حتى لا يطمع شريف في حَيْفك، ولا يَيْأَس ضعيف من عدلك. البيِّنة على من ادَّعى، واليمين على من أنكر. والصُّلح جائز بين المسلمين، إلا صلحًا أحل حرامًا، أو حرَّم حلالًا.
لا يمْنعنَّك قضاءٌ قضيتَه اليوم فراجعت فيه عقلك، وهُديت فيه لرشدك، أن ترجع إلى الحق،
فإن الحق قديمٌ، ومُراجَعة الحق خيرٌ من التَّمادي في الباطل. الفهمَ الفهمَ فيما تَلَجْلَجَ في صدرك مما ليس في كتاب ولا سنة، ثم اعرف الأشياء والأمثال، فقِسِ الأمور عند ذلك، واعمِدْ إلى أقربها إلى الله، وأشبهها بالحقِّ. واجعل لمن ادَّعى حقًّا غائبًا أو بيِّنة أمدًا ينتهي إليه، فإن أحضر بينته أخذْتَ له بحقه، وإلَّا استحلَلْتَ عليه القضية، فإنه أنفى للشك، وأجلى للعمى. المسلمون عدولٌ بعضهم على بعض، إلَّا مجلودًا في حدٍّ أو مجرَّبًا عليه شهادة زور،
أو ظَنِينًا في ولاء أو نسب، فإن الله تولَّى منكم السرائر، ودَرَأَ بالبيِّنات والأَيْمان.

وإياك والغَلَقَ والضَّجَر، والتَّأذِّي بالخصوم والتَّنكُّر عند الخصومات، فإن الحق في مواطن الحق يُعْظِم اللهُ به الأجر، ويحسن به الذُّخْر. فمن صحَّت نيته، وأقبل على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن تخلَّق للناس بما يعلم الله أنه ليس من نفسه شانَه الله، فما ظنُّك بثواب غير
الله — عز وجل — في عاجل رزقه وخزائن رحمته. والسلام.


(٩٤) خطبة لسيدنا علي

تحدَّث ابن عائشة في إسنادٍ ذكره أن عليًّا — رضي الله عنه — انتهى إليه أن خيلًا لمعاوية وردت الأنبار، فقتلوا عاملًا له يقال له حسَّان بن حسَّان، فخرج مُغْضَبًا يجرُّ ثوبَه حتى أتى النُّخَيْلة، واتَّبعه الناس، فرَقِي رَبَاوَةً من الأرض، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على نبيه ﷺ،
ثم قال: أما بعد، فإن الجهاد بابٌ من أبواب الجنة، فمن تركه رغبةً عنه ألبسه الله الذل، وسِيماء الخسف، ودُيِّث بالصغار. وقد دعوتكم إلى حرب هؤلاء القوم ليلًا ونهارًا، وسرًّا وإعلانًا، وقلت لكم: اغزوهم من قبل أن يغزوكم، فوالذي نفسي بيده، ما غُزِي قومٌ قطُّ في عقر دارهم إلا ذَلُّوا، فتَخَاذَلْتم وتَوَاكَلْتم، وثَقُل عليكم قولي، واتَّخذْتُموه وراءكم ظِهْرِيًّا حتى شُنَّت عليكم الغارات. هذا أخو غامد، قد وردت خيله الأنبار، وقتلوا حسَّان بن حسَّان، ورجالًا منهم كثيرًا ونساءً، والذي نفسي بيده، لقد بلغني أنه كان يُدْخَل على المرأة المسلمة والمُعاهَدة، فَتُنْتَزع أحْجَالُهما ورِ
عَاثُهما ثم انصَرَفُوا موفورين، لم يُكْلَم أَحدٌ منهم منهم كَلْمًا. فلو أن امرأً مسلمًا مات من دون
هذا أسفًا ما كان عندي فيه مَلُومًا، بل كان به عندي جديرًا.

يا عجبًا كلَّ العجب! عجبٌ يُميت القلب، ويشغل الفهم، ويُكثر الأحزان؛ من تضافر هؤلاء
القوم على باطلهم، وفشلِكم عن حقكم، حتى أصبحتم غرضًا تُرْمَوْن ولا تَرْمون، ويُغار عليكم ولا تَغِيرون، ويُعصى الله — عز وجل — فيكم وتَرْضَوْن. إذا قلت لكم: اغزوهم في الشتاء، قلتم: هذا أوان قَرٍّ وصِرٍّ، وإن قلت لكم: اغزوهم في الصيف، قلتم: هذا حَمَّارة القيظ، أَنْظِرنا يَنْصَرِم الحرُّ عنا! فإذا كنتم من الحر والبرد تفرُّون، فأنتم والله من السيف أفَرُّ. يا أشباه الرجال ولا رجال، ويا طَغَام الأحلام، ويا عقول ربَّات الحجال، والله لقد أفسدتم عليَّ رأيي بالعصيان، ولقد ملأتُم جَوْفي غيظًا، حتى قالت قريش: ابن أبي طالب رجلٌ شجاع، ولكن لا رأي له في الحرب. لله دَرُّهم! ومن ذا يكون أعلم بها مني، أو أشد لها مِراسًا؟ فوالله، لقد نهضت فيها وما بلَغت العشرين، ولقد نَيَّفت اليوم على الستين، ولكن لا رأي لمن لا يُطاع. يقولها ثلاثًا. فقام إليه رجل ومعه أخوه (الرجل وأخوه يُعرفان بابنَيْ عفيف من الأنصار)، فقال: يا أمير المؤمنين،
أنا وأخي هذا كما قال الله تعالى: رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي، فمرنا بأمرك، فوالله، لنَنْتَهينَّ إليه ولو حال بيننا وبينه جَمْرُ الغَضَى، وشوك القَتَاد. فدعا لهما بخير، ثم قال لهما:
وأين تقعان مما أريد؟! ثم نزل.


(٩٥) تواضع عمر بن الخطاب رضي الله عنه

بلغ عمر بن الخطاب — رَضِي الله عَنهُ — أَن قومًا يُفضِّلونه على أبي بكر الصدِّيق، رَضِي الله عَنهُ؛ فَوَثَبَ مُغْضَبًا حَتَّى صعِد المِنْبَر، فحمدَ الله وَأثْنَى عليه، وَصلى على نبيه ﷺ، ثمَّ قال:
أيُّها الناس، إنِّي سأخبركم عني وَعَن أبي بكر؛ إنَّه لما تُوُفِّي رَسُول الله ﷺ ارْتَدَّت العَرَب، ومنَعَتْ شَاتهَا وبعيرها، وأجمع رَأْيُنَا كلُّنا — أصْحَابَ مُحَمَّدٍ ﷺ — أن قُلْنَا له: يَا خَليفَة
رَسُول الله، إِن رَسُول الله ﷺ كَانَ يُقَاتل العَرَب بِالوَحْي وَالمَلَائِكَة يُمِدُّه اللهُ بهم،
وَقد انْقَطع ذَلِك اليَوْم، فَالْزَمْ بَيْتَك ومسجدَك، فَإِنَّهُ لَا طَاقَة لَك بقتال العرب.
فَقَالَ أَبُو بكر الصديق: أَوَكلُّكُمْ رَأْيه على هَذَا؟ فَقُلْنَا: نعم. فَقَالَ: وَاللهِ، لَأنْ أخِرَّ من السَّمَاء فتخَطَّفني الطيرُ أحبُّ إليَّ من أَن يكون هَذَا رَأيِي. ثمَّ صعِد المِنْبَر، فَحَمِدَ الله وَكبَّره، وَصلى على نبيه ﷺ، ثمَّ أقبل على النَّاس فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاس، من كَانَ يعبد مُحَمَّدًا فَإِن مُحَمَّدًا قد مَاتَ،
وَمن كَانَ يعبد الله فَإِن الله حيٌّ لَا يَمُوت. أَيها النَّاس، أئن كثر أعداؤكم وَقلَّ عددكم، ركب الشَّيْطَان مِنْكُم هَذَا المركب؟ وَالله، لَيُظْهرَنَّ الله هَذَا الدِّين على الأَدْيَان كلِّهَا وَلَو كرِه المُشْركُونَ، قولُه الحق، ووعدُه الصدق؛ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ، وكَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ. والله أَيُّهَا النَّاس، لَو أُفْرِدتُ من جميعكم لجاهَدْتُهم فِي الله حقَّ جهاده حَتَّى أُبْلِي بنَفسِي عُذْرًا، أَو أقْتَلَ قتلًا. والله أَيُّهَا النَّاس، لَو مَنَعُونِي عِقَالًا لَجَاهدْتُهم عليه، واستعنْتُ عليهم بالله، وهو خير معِين. ثمَّ نزل فَجَاهد فِي الله حق جهاده حَتَّى أذْعَنت العَرَب بِالحَقِّ.

(٩٦) وكتب أبو عبيدة بن الجرَّاح ومعاذ بن جبل إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ينصحانه رضي الله تعالى عنهم

بسم الله الرحمن الرحيم
من أبي عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل إلى عمر بن الخطاب، سلامٌ عليك، فإنَّا نحمد إليك
الله الذي لا إله إلا هو، (أما بعد) فإنا عهِدناك وأمرُ نفسك لك مُهِمٌّ، فأصبحت — وقد وَلِيت أمر هذه الأمَّة أحمرِها وأسودِها — يجلس بين يديك الصديق والعدو، والشريف والوضيع، ولكلٍّ حصَّةٌ من العدل، فانظر كيف أنت يا عمر عند ذلك؟ وإنَّا نُحذِّرك يومًا تَعْنُو فيه الوجوه، وتَجِب له القلوب، وتنقطع فيه الحجج بحجة ملِكٍ قهَرَهم بجبروته، والخلق داخِرون له يرجون رحمته ويخافون عقابه. وإنَّا كنَّا نتحدَّث أن أمر هذه الأمة يرجع في آخر زمانها أن يكون إخوان العلانية أعداءَ السريرة. وإنَّا نعوذ بالله أن تُنْزل كتابنا سوى المنزل الذي نزل من قلوبنا،
فإنَّا إنما كتبنا إليك نصيحةً لك. والسلام.
فكتب إليهما:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عمر بن الخطاب إلى أبي عبيدة عامر بن الجراح ومعاذ بن جبل، سلامٌ عليكما، أحمد إليكما الله الذي لا إله إلا هو، (أما بعد) فقد جاءني كتابكما تَزْعُمان أنه بلغكما أني وَلِيتُ أمر هذه الأمة أحمرِها وأسودِها يجلس بين يديَّ الصديق والعدو، والشريف والوضيع، وكتبتما أن انظر كيف أنت يا عمر عند ذلك، وأنه لا حول ولا قوة لعمر عند ذلك إلَّا بالله، كتبتما تُحَذِّراني ما حُذِّرت
به الأمم قبلنا، وقديمًا كان اختلاف الليل والنهار بآجال الناس يقرِّبان كل بعيد ويُبْلِيان
كل جديد، ويأتيان بكل موعود، حتى يصير الناسُ إلى منازلهم من الجنة أو النار، ثم تُوَفَّى كلُّ نفس بما كسبت إن الله سريع الحساب، كتبتما تزعمان أن أمر هذه الأمة يرجع في آخر زمانها أن يكون إخوان العلانية أعداءَ السريرة، ولستم بذاك، وليس هذا ذلك الزمان، ولكن زمان ذلك حين تظهر الرغبة والرهبة، وكتبتما تعوذان بالله أن أُنْزِل كتابكما مني سوى المنزل الذي نزل من قلوبكما. وإنما كتبتما نصيحة لي، وقد صدقتما، فتعهَّداني منكما بكتاب، ولا غنًى بي عنكما. والسلام عليكما.


https://k.top4top.io/p_2007qrxtc1.png


الساعة الآن 04:27 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
Search Engine Friendly URLs by vBSEO 3.6.1 TranZ By Almuhajir
new notificatio by 9adq_ala7sas
HêĽм √ 3.1 BY: ! ωαнαм ! © 2010
يرحل الجميع ويبقي شعاع بيت العلم والحب(ملك الكلمة)