منتديات شبكة شعاع الدعوية للتعليم عن بعد

منتديات شبكة شعاع الدعوية للتعليم عن بعد (https://hwazen.com/vb/index.php)
-   شعاع اللغة العربية (https://hwazen.com/vb/f97.html)
-   -   أدبيات اللغة العربية (https://hwazen.com/vb/t21807.html)

عطر الجنة 07-01-2021 05:04 AM

رد: أدبيات اللغة العربية
 


https://k.top4top.io/p_2007qrxtc1.png


(٩٧) خطبة سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه

إنَّ لكل شيء آفة، وإنَّ لكل نعمة عاهة، وإنَّ آفة هذه الأمة وعاهة هذه النعمة عيَّابون ظنَّانون، يُظهرون لكم ما تحبُّون، ويُسِرُّون ما تكرهون، يقولون لكم وتقولون، طَغَام مثل النَّعام، يَتْبعون أول ناعق، أحبُّ مواردهم إليهم النازح. لقد أقررتم لابن الخطاب بأكثر مما نقمتم عليَّ، ولكن وَقَمَكم وقَمَعَكم وزَجَرَكم زجْر النعام المُخَزَّمَة، والله إني لأقرب ناصرًا وأعز نفرًا، وأَقْمَن إن قلت هَلُمَّ أن تُجاب دعوتي من عمر. هل تَفْقِدون من حقوقكم شيئًا؟ فما لي لا أفعل في الحق ما أشاء؟ إذن فلِمَ كنتُ إمامًا؟!

(٩٨) ومن كلام سيدنا علي بن أبي طالب — عليه السلام — في التحريض على الحرب كان يقوله لأصحابه في بعض أيام صفِّين


معاشرَ المسلمين، استشعِروا الخشية، وتَجَلْبَبُوا السكينة، وعضُّوا على النَّواجذ؛ فإنه أَنْبَى للسُّيُوف عن الهام، وأَكْمِلوا اللَّأْمَة، وقَلْقِلُوا السيوف في أغمادها قبل سلِّها، والْحَظُوا الخَزْر، واطْعَنُوا الشَّزْر، ونافِحُوا بالظُّبَا، وصِلُوا السيوف بالخُطا، واعلموا أنكم بعين الله،
ومع ابن عم رسول الله — صل الله عليه وآله وسلم — فعاوِدُوا الكرَّ، واسْتَحْيُوا من الفَرِّ،
فإنه عارٌ في الأعقاب، ونارٌ يوم الحساب، وطِيبُوا عن أنفسكم نفسًا، وامشوا إلى الموت مشيًا سُجُحًا، وعليكم بهذا السواد الأعظم، والرواق المُطنَّب، فاضربوا ثَبَجَه؛ فإن الشيطان كامنٌ في كِسْرِه، قد قدَّم للْوَثْبة يدًا، وأخَّر للنكوص رجلًا، فصَمْدًا صمدًا، حتى ينجلي لكم عمود الحق، وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ.


(٩٩) ومن كلامٍ له عليه السلام

وقد قام إليه رجلٌ من أصحابه، فقال: نَهَيْتَنَا عن الحكومة ثم أمرتنا بها، فلم ندر أي الأمرين أرشد؟ فصَفَق عليه السلام إحدى يديه على الأخرى، ثم قال: هذا جَزَاءُ مَنْ تَرَكَ الْعُقْدَةَ، أَمَا وَاللهِ لَوْ أَنِّي حِينَ أَمَرْتُكُمْ بِما أَمَرْتُكُمْ بِهِ حَمَلْتُكُم عَلَى المَكْرُوهِ الَّذِي يَجْعَلُ اللهُ فِيهِ خَيْرًا، فَإِنِ اسْتَقَمْتُم هَدَيْتُكُم، وَإِنِ اعْوَجَجْتُم قَوَّمْتُكُم، وَإِنْ أَبَيْتُم تَدَارَكْتُكُم، لَكَانَتِ الوُثْقَى، وَلكِنْ بِمَنْ وَإِلَى مَنْ؟ أُرِيدُ أَنْ أُدَاوِيَ بِكُم وَأَنْتُم دَائي، كَنَاقِشِ الشَّوكَةِ بِالشَّوكَةِ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ ضِلَعَها مَعَها. اللهُمَّ قَدْ مَلَّتْ أَطِبَّاءُ هذَا الدَّاءِ الدَّوِيِّ، وَكَلَّتِ النَّزْعَةُ بأَشْطان الرَّكِي. أَيْنَ القَوْمُ الذِينَ دُعُوا إِلَى الإسْلاَمِ فَقَبِلُوهُ؟ وَقَرَءُوا القُرْآنَ فَأَحْكَمُوهُ؟ وهِيجُوا إلى القِتَال فَوَلِهُوا وَلَهَ اللِّقَاحِ إلى أوْلَادِهَا، وَسَلَبُوا السُّيوف أغْمَادَها وأخَذُوا بأطراف الأرض زَحْفًا زَحْفًا وصَفًّا صَفًّا؟ بَعْضٌ هَلَكَ وَبَعْضٌ نَجَا، لا يُبَشَّرُون بالأَحْياء، ولا يُعَزَّوْن بالمَوْتى، مُرْهُ العيون من البُكَاء، خُمْص البُطُون مِنَ الصِّيام، ذُبْل الشِّفاهِ من الدُّعاء، صُفْرُ الألوان من السَّهَر، على وجوههم غَبَرة الخَاشعين، أولئك إخْوَانى الذَّاهِبُون،
فَحَقَّ لَنَا أنْ نَظْمَأ إليهم، ونَعَضَّ الأيْدِى على فراقهم. إنَّ الشَّيطانَ يُسَنِّي لكم طُرُقه، ويُريد أن يَحُلَّ دينكم عُقْدةً عقدةً، ويُعْطيَكم بالجماعة الفُرْقة، فاصْدِفُوا عن نَزَغَاته ونَفَثَاته، واقْبَلوا النَّصيحة ممَّن أهْداها إليكم، واعْقلُوها على أنْفُسِكم.

(١٠٠) ومن كلامٍ له — عليه السلام — لعمر بن الخطاب وقد استشاره في غزوة الفرس بنفسه

إنَّ هذا الأمر لم يكن نَصْرُه ولا خِذْلَانُه بكثرةٍ ولا قِلة، وهو دين الله الذي أظْهَرَه، وجُنْدُه الذي أعدَّه وأمدَّه، حتى بلغ ما بلغ وطَلَع حيثما طَلَع، ونحن على موعود من الله، والله مُنْجِزٌ وعده، وناصرٌ جُنْدَه، ومكان القيِّم بالأمر مكان النظام من الخَرَز يجمعه ويضمه، فإذا انقطع النظام تفرَّق الخرز وذهب، ثم لم يجتمع بحذافيره أبدًا، والعرب اليوم — وإن كانوا قليلًا — فهم كثيرون بالإسلام، عزيزون بالاجتماع، فكن قطبًا واستَدِر الرَّحَى بالعرب، وأَصْلِهم دونك نار الحرب، فإنك إن شخصت من هذه الأرض انْتَقَضت عليك العرب من أطرافها وأقطارها حتى يكون ما تدع وراءك من العورات أهم إليك مما بين يديك.

إنَّ الأعاجم إن ينظروا إليك غدًا يقولوا: هذا أصل العرب، فإذا قطعتموه استرحتم، فيكون ذلك أشد لكَلَبهم عليك وطمعهم فيك، فأمَّا ما ذكرت من مسير القوم إلى قتال المسلمين، فإنَّ الله — سبحانه — هو أكره لمسيرهم منك، وهو أقدر على تغيير ما يكره، وأمَّا ما ذكرت من عددهم، فإنَّا لم نكن نقاتل فيما مضى بالكثرة وإنما كنا نقاتل بالنَّصر والمعونة.

https://k.top4top.io/p_2007qrxtc1.png

عطر الجنة 07-01-2021 05:08 AM

رد: أدبيات اللغة العربية
 


https://k.top4top.io/p_2007qrxtc1.png


(١٠١) ومن خطبةٍ له — عليه السلام — خطبها بصفين

أما بعد، فقد جعل الله لي عليكم حقًّا بولاية أمركم، ولكم عليَّ من الحق مثل الذي لي عليكم، فالحق أوسع الأشياء في التَّواصُف، وأضيقها في التناصف، لا يجري لأحدٍ إلا جَرَى عليه، ولا يجري عليه إلا جرى له، ولو كان لأحد أن يجري له ولا يجري عليه لكان ذلك خالصًا لله — سبحانه — دون خلقه؛ لقدرته على عباده، ولعدله في كل ما جرت عليه صُرُوف قضائه، ولكنه جعل حقه على العباد أن يُطيعوه، وجَعَل جزاءهم عليه مضاعفة الثواب تفضُّلًا منه وتوَسُّعًا بما هو من المزيد أهلُه، ثم جعل سبحانه من حقوقه حقوقًا افترضها لبعض الناس على بعض، فجعلها تتكافأ في وجوهها، ويوجب بعضُها بعضًا، ولا يُستوجَب بعضُها إلا ببعض، وأعظم ما افترض سبحانه من تلك الحقوق حق الوالي على الرعية وحق الرعية على الوالي فريضة فرضها سبحانه لكلٍّ على كلٍّ، فجعلها نظامًا لألفتهم، وعزًّا لدينهم، فليست تصلح الرعية إلا بصلاح الولاة، ولا تصلح الولاة إلا باستقامة الرعية، فإذا أدَّت الرعية إلى الوالي حقه وأدَّى الوالي إليها حقها عزَّ الحق بينهم، وقامت مناهج الدين، واعتدلت معالم العدل، وجرت على أَذْلَالها السنن؛ فصلح بذلك الزمان، وطُمِع في بقاء الدولة، ويئست مطامع الأعداء، وإذا غلبت الرعية واليها وأجحف الوالي برعيته، اختلفت هنالك الكلمة، وظهرت معالم الجور، وكثر الإدْغَال في الدين، وتُركت مَحاجُّ السنن؛ فعُمل بالهوى، وعُطِّلت الأحكام، وكثرت علل النفوس؛ فلا يُستوحش لعظيمِ حقٍّ عُطِّل، ولا لعظيم باطل فُعل، فهنالك تذِل الأبرار، وتعِز الأشرار، وتعظم تبعات الله عند العباد، فعليكم بالتناصح في ذلك، وحسن التعاون عليه؛ فليس أحد وإن اشتد على رضاء الله حرصُه وطال في العمل اجتهاده ببالغ حقيقة ما اللهُ أهلُه من الطاعة، ولكن من واجب حقوق الله على العباد النصيحة بمبلغ جُهْدهم والتعاون على إقامة الحق بينهم، وليس امرؤٌ وإن عظمت في الحق منزلته وتقدمت في الدين فضيلته بفَوْق أن يُعان على ما حمَّله الله من حقه، ولا امرؤٌ وإن صغَّرتْه النفوس واقتحمته العيون بدون أن يُعين على ذلك أو يُعان عليه.

فأجابه عليه السلام رجل من أصحابه بكلام طويل يُكثر فيه الثناء عليه ويذكر سمعه وطاعته، فقال عليه السلام: إن من حق من عظم جلال الله في نفسه وجل موضعه من قلبه أن يصغر عنده لعظم ذلك كلُّ ما سواه، وإن أحق من كان كذلك لَمَنْ عظمت نعمة الله عليه ولطف إحسانه إليه، فإنه لم تعظم نعمة الله على أحد إلا ازداد حق الله عليه عظمًا، وإن من أسخف حالات الولاة عند صالح الناس أن يُظَن بهم حُبُّ الفخر ويُوضع أمرهم على الكِبر، وقد كَرهت أن يكون جال في ظنكم أني أحب الإطراء واستماع الثناء، ولست بحمد الله كذلك، ولو كنت أُحب أن يقال ذلك لتركته انحطاطًا لله — سبحانه —
عن تناول ما هو أحق به من العظمة والكبرياء، وربما اسْتَحْلى الناس الثناء بعد البلاء
فلا تُثْنُوا عليَّ بجميل ثناءٍ لإخراجي نفسي إلى الله وإليكم من التَّقِيَّة في حقوق لم أفرغ من أدائها، وفرائض لا بد من إمضائها، فلا تكلِّموني بما تُكَلَّم به الجَبابرة، ولا تتحفظوا مني بما يُتحفظ به عند أهل البادرة، ولا تُخالطوني بالمُصانعة، ولا تظنوا بي استثقالًا في حقٍّ قيل لي، ولا التماس إعظام لنفسي، فإنه من استَثقل الحق أن يقال له أو العدل أن يُعرَض عليه كان العمل بهما أثقل عليه. فلا تكفُّوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل، فإني لست في نفسي بفوق أن أُخطئ، ولا آمنُ ذلك من فِعلي إلا أن يَكفي اللهُ من نفسي ما هو أمْلَك به مني، فإنما أنا وأنتم عبيدٌ مملوكون لربٍّ لا رب غيره، يملك منَّا ما لا نملك من أنفسنا، وأخرجنا مما كنا فيه إلى ما صَلَحْنا عليه، فأبدلنا بعد الضلالة بالهدى، وأعطانا البصيرة بعد العمى.


(١٠٢) ومن وصية له — عليه السلام — وصَّى بها جيشًا بعثه إلى العدوِّ

فإذا نَزلتم بعدوٍّ أو نزل بكم، فليكن مُعسكركم في قبيل الأشراف وسِفاح الجبال أو أثناء الأنهار؛ كيما يكون لكم ردءًا، ودونكم مردًّا، ولتكن مُقاتَلَتُكم من وجهٍ واحدٍ أو اثنين، واجعلوا لكم رُقباء في صَياصي الجبال ومناكب الهضاب؛ لئلا يأتيكم العدو من مكان مخافةٍ أو أمن. واعلموا أن مقدمة القوم عيونهم، وعيون المقدمة طلائعهم. وإياكم والتفرق، فإذا نزلتم فانزلوا جميعًا، وإذا ارتحلتم فارتحلوا جميعًا، وإذا غشيكم الليل فاجعلوا الرماح كَفَّة ولا تذوقوا النوم إلا غِرارًا أو مضمضة.
ومن وصية له عليه السلام كان يكتبها لمن يستعمله على الصدقات، وإنما ذكرنا هنا جُمَلًا منها ليُعلم بها أنه كان يقيم عماد الحق، ويَشْرَع أمثلة العدل في صغير الأمور وكبيرها، ودقيقها وجليلها:

انطلقْ على تقوى الله وحده لا شريك له، ولا تَرُوعنَّ مسلمًا، ولا تجتازنَّ عليه كارهًا،
ولا تأخذنَّ منه أكثر من حق الله في ماله، فإذا قدمت على الحي فانزلْ بمائهم من غير
أن تخالط أبياتهم، ثم امضِ إليهم بالسكينة والوقار حتى تقوم بينهم فتسلم عليهم ولا تَخْدِج
بالتحية لهم، ثم تقول: عباد الله، أرسلني إليكم وليُّ الله وخليفته لآخذ منكم حق الله في أموالكم، فهل لله في أموالكم من حق فَتُؤَدُّوه إلى وليه؟ فإن قال قائل لا، فلا تراجعه، وإن أنعم لك منعمٌ فانطلق معه من غير أن تخيفه وتوعده أو تَعْسِفه أو ترهقه، فخذ ما أعطاك من ذهب أو فضة. فإن كان له ماشية أو إبل فلا تدخلها إلا بإذنه؛ فإن أكثرها له، فإذا أتيتها فلا تدخل عليها دخول متسلطٍ عليه ولا عنيف به، ولا تُنفِّرنَّ بهيمة ولا تُفْزِعنَّها، ولا تَسوءنَّ صاحبها فيها، واصْدَع المال صَدْعَين ثم خَيِّرْه، فإذا اختار فلا تَعَرَّضنَّ لما اختاره، ثم اصدع الباقي صدعين ثم خيره، فإذا اختار فلا تعرَّضنَّ لما اختاره، فلا تزال بذلك حتى يَبْقى ما فيه وفاءٌ لحق الله في ماله، فاقبض حق الله منه، فإن استقالك فأقلْه، ثم اخلطهما، ثم اصنع مثل الذي صنعت أولًا حتى تأخذ حق الله في ماله. ولا تأخذنَّ عَوْدًا ولا هَرِمة ولا مكسورة ولا مَهْلوسة ولا ذات عوارٍ، ولا تأمننَّ عليها إلا من تثق بدينه رافقًا بمال المسلمين حتى يوصله إلى وليهم فيقسمه بينهم، ولا تُوكِّل بها إلا ناصحًا شفيقًا وأمينًا حفيظًا غير مُعنِّف ولا مجحف ولا مُلْغِب ولا متعب.

ثم احْدُر إلينا ما اجتمع عندك نُصيِّرْه حيث أمر الله، فإذا أخذها أمينك فأوعز إليه أن لا يَحُول بين ناقةٍ وبين فصليها، ولا يَمْصُر لَبَنَها فَيَضُر ذلك بولدها، ولا يَجْهَدَنَّها رُكوبًا، وليعدل بين صَواحباتها في ذلك وبينها، وليُرفِّه على اللاغب، ولْيَسْتَأْنِ بالنَّقِب والظالع، وليوردها ما تمر به من الغُدُر، ولا يعدل بها عن نبت الأرض إلى جَوَادِّ الطُّرُق، ولْيُرَوِّحها في الساعات، وليُمْهلها عند النِّطاف والأعشاب، حتى تأتينا بإذن الله بُدْنًا مُنْقِياتٍ غير متعباتٍ ولا مجهودات لنَقْسِمها على كتاب الله وسنة نبيه — صلى الله عليه وآله — فإن ذلك أعظم لأجرك، وأقرب لرشدك إن شاء الله.

وقال عليه السلام وقد سمع رجلًا يذم الدنيا: أيُّها الذامُّ للدنيا، المغتر بغرورها، المخدوع بأبَاطِيلها ثم تَذُمها، أتغتر بالدنيا ثم تذمها؟! أنت المُتجرِّم عليها أم هي المتجرمة عليك؟ متى استهوتك أم متى غرتك؟ أبِمَصارع آبائك من البِلَى أم بمضاجع أمهاتك تحت الثرى؟ كم علَّلْت بكفيك! وكم مرَّضت بيديك! تبغي لهم الشفاء، وتستوصف لهم الأطباء، لم ينفع أحدهم إشفاقك، ولم تسعف بطَلِبتك، ولم تدفع عنه بقوتك، قد مثَّلَت لك به الدنيا نفسك، وبمصرعه مصرعك.
إن الدنيا دار صدق لمن صدقها، ودار عافية لمن فهم عنها، ودار غنًى لمن تزوَّد منها، ودار موعظة لمن اتعظ بها، مسجد أحبَّاء الله، ومصلَّى ملائكة الله، ومهبط وحي الله، ومتجر أولياء الله، اكتسبوا فيها الرحمة، وربحوا فيها الجنة، فمن ذا يذمها وقد آذنت ببَيْنِها، ونادت بفراقها، ونعت نفسها وأهلها، فمثَّلت لهم ببلائها البلاء، وشوَّقتهم بسرورها إلى السرور، راحت بعافية، وابْتَكَرت بفجيعة ترغيبًا وترهيبًا وتخويفًا وتحذيرًا، فذمها رجالٌ غداة الندامة، وحمدها آخرون يوم القيامة، ذكَّرتهم الدنيا فتذكروا، وحدَّثتهم فصدَّقوا، ووعظتهم فاتَّعظوا.

https://k.top4top.io/p_2007qrxtc1.png

عطر الجنة 07-01-2021 05:10 AM

رد: أدبيات اللغة العربية
 



https://k.top4top.io/p_2007qrxtc1.png

103) عهد أمير المؤمنين الإمام علي — وجهه ورضي عنه — للأشْتَر النَّخَعي

بسم الله الرحمن الرحيم
هذا ما أَمَر به عبد الله عليٌّ أمير المؤمنين مالكَ بن الحارث الأشْتَر في عهده حين ولاه مصر جِباية خَرَاجها وجهاد عدوِّها، وإصلاح أهلها، وعمارة بلادها. أمره بتقوى الله، وإيثار طاعته، واتِّباع ما أمر به في كتابه من فرائضه وسننه التي لا يَسْعَد إلا باتِّباعها، ولا يشقى إلا مع جحودها وإضاعتها،
وأن ينصر الله — سبحانه — بيده وقلبه ولسانه، فإنه — جل اسمه — قد تكفَّل بنصر من نصره، وإعزاز من أعزَّه. وأمره أن يكسر من نفسه عند الشهوات، ويَزَعَها عند الجَمَحَات؛
فإنَّ النفس أمَّارةٌ بالسوء إلا ما رحم الله. ثم اعلم يا مالك أني قد وجهتك إلى بلاد قد جرت عليها دولٌ قبلك من عدلٍ وجورٍ، وأنَّ الناس ينظرون من أمورك في مثل ما كنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك، ويقولون فيك كما كنت تقول فيهم، وإنما يُستدلُّ على الصالحين بما يُجْري الله لهم على ألسنة عباده، فليكن أحب الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح، فاملك هواك، وشُحَّ بنفسك عما لا يحلُّ لك؛ فإن الشحَّ بالنفس الإنصاف منها فيما أحبَّتْ أو كرهتْ. وأشْعِرْ قلبَك الرحمة للرعية، والمحبة لهم، واللطف بهم، ولا تكوننَّ عليهم سَبُعًا ضاريًا تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان: إما أخٌ لك في الدين، وإما نظيرٌ لك في الخَلْق، يَفْرُط منهم الزَّلل، وتَعْرض لهم العلل، ويُؤْتَى على أيديهم في العمد والخطأ، فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب وترضى أن يعطيك الله من عفوه وصفحه، فإنك فوقهم ووالي الأمر عليك فوقك، والله فوق من ولَّاك، وقد اسْتكفاك أمرهم وابتلاك بهم.


ولا تنْصبنَّ نفسك لحرب الله، فإنه لا يَدَيْ لك بنقمته، ولا غنًى بك عن عفوه ورحمته، ولا تندمنَّ على عفو، ولا تَبجَّحنَّ بعقوبة، ولا تُسرعنَّ إلى بادرة وجدت عنها مندوحة، ولا تقولنَّ: إني مُؤَمَّرٌ آمُرُ فأُطاع، فإن ذلك إدْغال في القلب، ومَنْهَكة للدين، وتقرُّبٌ من الغير. وإذا أحدث لك ما أنت فيه من سلطانك أُبَّهةً أو مَخِيلةً، فانظر إلى عظم مُلْك الله فوقك، وقدرته منك على ما لا تقدر عليه من نفسك، فإن ذلك يُطَامن إليك من طِماحك، ويكف عنك من غَرْبك، ويفيء إليك بما عَزَب عنك من عقلك.


وإياك ومُساماة الله في عظمته والتشبه به في جبروته، فإن الله يُذِلُّ كل جبار، ويهين كل محتال. أنصف الله وأنصف الناس من نفسك ومن خاصَّة أهلك، ومن لك فيه هوًى من رعيتك، فإنك إن لا تفعل تظلم، ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده، ومن خاصمه الله أدحض حجَّته، وكان لله حربًا حتى ينزع ويتوب، وليس شيء أدعى إلى تغيير نعمة الله وتعجيل نقمته من إقامة على ظلم، فإن الله سميعٌ دعوةَ المظلومين، وهو للظالمين بالمرصاد. وليكن أحبُّ الأمور إليك أوسطها في الحقِّ، وأعمَّها في العدل، وأجمعها لرضا الرعية، فإن سُخط العامَّة يُجْحف برضا الخاصَّة، وإنَّ سُخط الخاصة يُغْتفر مع رضا العامة، وليس أحدٌ من الرعيَّة أثقل على الوالي مؤونةً في الرخاء، وأقل مَعُونة في البلاء، وأكْره للإنْصاف، وأسْأل بالإلحاف، وأقل شُكرًا عند الإعطاء، وأبطأ عذرًا عند المنع، وأخف صبرًا عند مُلِمَّات الدهر من أهل الخاصة. وإنما عِمَاد الدين وجِماع المسلمين والعُدَّة للأعداء، العامةُ من الأمة، فليكن صفوُك لهم، وميلُك معهم.

وليكن أبعد رعيتك منك وأشنأهم عندك أطلبهم لمعايب الناس، فإنَّ في الناس عيوبًا الوالي أحق من سَتَرها، فلا تكشفنَّ عما غاب عنك منها، فإنما عليك تطهير ما ظَهَرَ لك، والله يحكم على ما غاب عنك، فاستر العورة ما استطعت يستر الله منك ما تحب ستره من رعيتك. أطلق عن الناس عقدة كلِّ حقدٍ، واقطع عنك سبب كلِّ وَتْر، وتَغَابَ عن كلِّ ما لا يصح لك، ولا تعجلنَّ إلى تصديق ساعٍ، فإن الساعي غاشٌّ وإنْ تشبَّه بالناصحين. ولا تُدخلنَّ في مشورتك بخيلًا يعدل بك عن الفضل ويعدك الفقر، ولا جبانًا يضعفك عن الأمور، ولا حريصًا يزيِّن لك الشَّرَه بالجور؛ فإن البخل والجبن والحرص غرائز شتَّى يجمعها سوء الظنِّ بالله.

إنَّ شرَّ وزرائك من كان قبلك للأشرار وزيرًا، ومن شَرِكهم في الآثام، فلا يكوننَّ لك بطانة فإنهم أعوان الأَثَمة وإخوان الظَّلَمة، وأنت واجدٌ منهم خير الخلف ممن له مثل آرائهم ونفاذهم، وليس عليه مثل آصارهم وأوزارهم، ممن لا يعاون ظالمًا على ظلمه، ولا آثمًا على إثمه، أولئك أخفُّ عليك مؤونةً، وأحسن لك معونةً، وأحنى عليك عطفًا، وأقل لغيرك إلْفًا، فاتَّخذ أولئك خاصةً لخَلَوَاتك وحفلاتك، ثم ليكن آثرهم عندك أقوَلهم لك بمُرِّ الحقِّ، وأقلُّهم مساعدة فيما يكون منك مما كره الله لأوليائه واقعًا ذلك من هواك حيث وقع. والْصَقْ بأهل الورع والصدق ثم رُضْهُم على أن لا يُطْرُوك، ولا يُبجِّحوك بباطل لم تفعله، فان كثرة الإطراء تحدِث الزهو وتدْني من العِزَّة.

ولا يكوننَّ المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء، فإن في ذلك تزهيدًا لأهل الإحسان في الإحسان، وتدريبًا لأهل الإساءة على الإساءة، وألْزِم كُلًّا منهم ما ألزم نفسه، واعلم أنه ليس شيء بأدعى إلى حسن ظنِّ والٍ برعيته من إحسانه إليهم وتخفيفه المؤونات عليهم، وترك استكراهه إياهم على ما ليس له قِبَلهم، فليكن منك في ذلك أمر يجمع لك حُسْن الظنِّ برعيتك، فإن حسن الظنِّ يقطع عنك نَصَبًا طويلًا، وإنَّ أحقَّ مَنْ حَسُنَ ظنُّك به لَمن حسن بلاؤك عنده، وإنَّ أحقَّ من ساء ظنك به لَمن ساء بلاؤك عنده. ولا تَنْقُضْ سُنَّةً صالحةً عَمِل بها صدور هذه الأمة، واجتمعت بها الألفة، وصلحت عليها الرعية، ولا تُحدِثنَّ سُنَّةً تضرُّ بشيء مما مضى من تلك السنن، فيكون الأجر لمن سنَّها، والوزر عليك بما نقضت منها.

وأكثر مُدَارسة العلماء ومناقشة الحكماء في تثبيت ما صلح عليه أمر بلادك، وإقامة ما
استقام به الناس قبلك. واعلم أن الرعية طبقات لا يصلح بعضها إلا ببعض، ولا غنًى ببعضها
عن بعض، فمنها جنود الله، ومنها كتَّاب العامة والخاصة، ومنها قضاة العدل، ومنها عمَّال الإنصاف والرفق، ومنها أهل الجزية والخراج من أهل الذمة ومُسْلِمة الناس، ومنها التجار وأهل الصناعات، ومنها الطبقة السفلى من ذوي الحاجة والمسكنة، وكُلًّا قد سمَّى الله سهمه، ووضع على حدِّه فريضةً في كتابه أو سنة نبيه — صل الله عليه وآله — عهدًا منه عندنا محفوظًا. فالجنود بإذن الله حصون الرعية وزَيْن الولاة وعز الدين وسبل الأمن، وليس تقوم الرعية إلا بهم، ثم لا قِوام للجنود إلا بما يخرج الله — تعالى — لهم من الخراج الذي يَقْوُون
به في جهاد عدوهم، ويعتمدون عليه فيما يصلحهم، ويكون من وراء حاجتهم، ثم لا قوام لهذين الصنفين إلا بالصنف الثالث من القضاة والعمال والكتاب؛ لمَا يُحْكمون من المعاقد، ويجمعون من المنافع، ويُؤْتَمنون عليه من خواصِّ الأمور وعوامِّها، ولا قوام لهم جميعًا إلا بالتجار وذوي الصناعات فيما يجتمعون عليه من مرافقهم ويقيمونه من أسواقهم ويَكْفُونهم بالترفق بأيديهم مما لا يبلغ رفق غيرهم، ثم الطبقة السفلى من أهل الحاجة والمسكنة الذين يحقُّ رِفْدهم ومعونتهم، وفي الله لكلٍّ سَعَة، ولكلٍّ على الوالي حقٌّ بقدر ما يُصلحه، وليس يخرج الوالي من حقيقة ما ألزمه الله من ذلك إلا بالاهتمام والاستعانة بالله وتوطين نفسه على لزومه الحق والصبر عليه فيما خف عليه أو ثقل، فولِّ من جنودك أنصحهم في نفسك لله ولرسوله ولإمامك وأطهرَهم جيبًا، وأفضلهم حلمًا، ممن يبطئ عن الغضب، ويستريح إلى العذر، ويرأف بالضعفاء، وينبو على الأقوياء، ممن لا يثيره العنف، ولا يقعد به الضعف.

ثم الْصقْ بذوي المروءات والأحساب وأهل البيوتات الصالحة والسوابق الحسنة، ثم أهل النجدة والشجاعة والسخاء والسماحة، فإنهم جِماعٌ من الكرم وشُعَب من العُرْف، ثم تفقَّد من أمورهم ما يتفقَّده الوالدان من ولدهما، ولا يَتَفاقَمنَّ في نفسك شيء قوَّيتهم به، ولا تَحْقِرنَّ لطفًا تتعاهدهم به وإن قل، فإنه داعيةٌ إلى بذل النصيحة لك، وحسن الظنِّ بك. ولا تدع تفقُّد لطيف أمورهم اتِّكالًا على جسيمها، فإن لليسير من لطفك موضعًا ينتفعون به، وللجسيم موقعًا لا يستغنون عنه. وليكن آثر رءوس جندك عندك من واساهم في معونته، وأفْضلَ عليهم من جِدَته بما يسعهم ويسع من وراءهم من خُلُوف أهلهم، حتى يكون همهم همًّا واحدًا في جهاد العدوِّ، فإن عطفك عليهم يعطف قلوبهم عليك.

وإن أفضل قرَّة عين الولاة استقامة العدل في البلاد، وظهور مودة الرعية، وإنه لا تظهر مودتهم إلا بسلامة صدورهم، ولا تصح نصيحتهم إلا بحيطتهم على ولاة أمورهم وقلة استثقال دولهم، وترك استبطاء انقطاع مدتهم، فافسحْ في آمالهم وواصلْ في حسن الثناء عليهم، وتعديد ما أبلى ذوو البلاء منهم، فإن كثرة الذكر لحسن فعالهم تهُزُّ الشجاع وتحرِّض النَّاكل إن شاء الله تعالى. ثم اعْرفْ لكل امرئ منهم ما أبلى، ولا تضيفنَّ بلاء امرئ إلى غيره، ولا تقصِّرنَ به دون غاية بلائه، ولا يَدْعُونَّك شرف امرئ إلى أن تعظِّم من بلائه ما كان صغيرًا، ولا ضَعَة امرئ أن تستصغر من بلائه ما كان عظيمًا. واردُدْ إلى الله ورسوله ما يُضلعك من الخطوب، ويشتبه عليك من الأمور، فقد قال الله — سبحانه — لقوم أحبَّ إرشادهم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ، فالرَّدُّ إلى الله الأخذ بمحكم كتابه، والردُّ إلى الرسول الأخذ بسنته الجامعة غير المفرِّقة. ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك ممن لا تضيق به الأمور، ولا تُمَحِّكُه الخصوم، ولا يتمادى في الزَّلَّة، ولا يَحْصَر عن الفيء إلى الحق إذا عرفه، ولا تشرف نفسه على طمع، ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه، أَوْقَفَهم في الشبهات، وآخَذَهم بالحجج، وأقلهم تبرمًا بمراجعة الخصم، وأصبرهم على تكشيف الأمور، وأصرمهم عند اتضاح الحكم، ممن لا يزدهيه إطراء، ولا يستميله إغراء، وأولئك قليل. ثم أكثر تعاهد قضائه، وافسح له في البذل ما يزيح علته، وتقل معه حاجته إلى الناس، وأعطه من المنزلة لديك ما لا يَطمع فيه غيره من خاصتك، لتأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك، فانظر في ذلك نظرًا بليغًا، فإن هذا الدين قد كان أسيرًا في أيدي الأشرار، يُعْمل فيه بالهوى وتُطْلب به الدنيا.

ثم انظر في أمور عمالك فاستعملهم اختبارًا، ولا تولِّهِم محاباةً وأثرةً، فإنهم جِماعٌ من شُعَب الجور والخيانة، وتوخَّ منهم أهل التجربة والحياء من أهل البيوتات الصالحة والقِدَم في الإسلام، فإنهم أكرم أخلاقًا، وأصحُّ أعراضًا، وأقل في المطامع إشرافًا، وأبلغ في عواقب الأمور نظرًا، ثم أسبغ عليهم الأرزاق فإن ذلك قوةٌ لهم على استصلاح أنفسهم، وغنًى لهم عن تناول ما تحت أيديهم، وحُجَّة عليهم إن خالفوا أمرك أو خانوا أمانتك. ثم تَفَقَّدْ أعمالهم، وابعث العيون من أهل الصدق والوفاء عليهم، فإنَّ تعاهدك في السر لأمورهم حَدْوةٌ لهم على استعمال الأمانة والرفق بالرعية. وتحفَّظْ من الأعوان، فإنْ أحدٌ منهم بسط يده إلى خيانة اجتمعت بها عليه عندك أخبار عيونك اكتفيت بذلك شاهدًا، فبسطت عليه العقوبة في بدنه، وأخذته بما أصاب من عمله، ثم نصبته بمقام المذلة، ووسمته بالخيانة، وقلدته عار التهمة.

وتفقَّد أمر الخراج بما يُصْلح أهله، فإن في صلاحه وصلاحهم صلاحًا لمن سواهم، ولا صلاح لمن سواهم إلا بهم، لأن الناس كلهم عيالٌ على الخراج وأهله. وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج، لأن ذلك لا يُدرك إلا بالعمارة، ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد، ولم يستقم أمره إلا قليلًا، فإن شكوْا ثَفْلًا أو علة أو انقطاع شِرْب أو بالَّة أو إحالة أرض اغتَمَرها غرقٌ أو أجحف بها عطشٌ، خفَّفْتَ عنهم بما ترجو أن يصلح به أمرهم. ولا يثقلنَّ عليك شيءٌ خفَّفْتَ به المؤونة عنهم، فإنه ذُخْر يعودون به عليك في عمارة بلدك، وتزيين ولايتك، مع استجلابك حسن ثنائهم، وتبجُّحك باستفاضة العدل فيهم، معتمدًا فضل قوَّتهم بما ذخرت عندهم من إجمامك لهم والثقة منهم بما عودتهم من عدلك عليهم في رفقك بهم، فربما حدث من الأمور ما إذا عُوِّل فيه عليهم من بعدُ احتملوه طيبة أنفسهم به، فإن العمران يحتمل ما حمَّلته، وإنما يأتي خراب الأرض من إعواز أهلها، وإنما يُعْوِز أهلها لإشراف أنفس الولاة على الجمع، وسوء ظنهم بالبقاء، وقلة انتفاعهم بالعبر. ثم انظر في حال كُتَّابك فَوَلِّ على أمورك خيرهم، واخصص رسائلك التي تُدْخل فيها مكائدك وأسرارك بأجمعهم لوجوه صالح الأخلاق ممن لا تُبْطره الكرامة فيجترئ بها عليك في خلافٍ لك بحضرة ملأ، ولا تقصِّر به الغفلة عن إيراد مكاتبات عُمَّالك عليك، وإصدار جواباتها على الصواب عنك، فيما يأخذ لك ويعطى منك، ولا يُضْعف عقدًا اعتقده لك، ولا يعجز عن إطلاق ما عُقد عليك، ولا يجهل مبلغ قدر نفسه في الأمور، فإن الجاهل بقدر نفسه يكون بقدر غيره أجهل. ثم لا يكن اختيارك إياهم على فراستك واستنامتك وحسن الظن منك، فإنَّ الرجال يتعرَّفون لفراسات الولاة بتصنُّعهم وحسن خدمتهم، وليس وراء ذلك من النصيحة والأمانة شيء، ولكن اختبرهم بما وَلُوا للصالحين قبلك، فاعمد لأحسنهم في العامة أثرًا، وأعرفهم بالأمانة وجهًا، فإن ذلك دليلٌ على نصيحتك لله ولمن وليت أمره. واجعل لرأس كلٍّ من أمورك رأسًا منهم لا يقهره كبيرُها ولا يتشتت عليه صغيرُها، ومهما كان في كُتَّابك من عيب فتغابيت عنه أُلْزِمْتَه.

ثم استوص بالتجار وذوي الصناعات، وأوصِ بهم خيرًا، المقيم منهم والمضطرب بماله والمترفق ببدنه، فإنهم موادُّ المنافع، وأسباب المرافق، وجُلَّابها من المباعد والمطارح في برِّك وبحرك، وسهلك وجبلك، وحيث لا يلتئم الناس لمواضعها ولا يجترئون عليها، فإنهم سِلْمٌ لا تُخاف بائقته، وصُلْحٌ لا تُخْشَى غائلته. وتفقَّدْ أمورهم بحضرتك وفي حواشي بلادك، واعلم مع ذلك أن في كثير منهم ضيقًا فاحشًا، وشُحًّا قبيحًا، واحتكارًا للمنافع، وتحكُّمًا في البِياعات، وذلك باب مَضرَّة للعامة، وعيبٌ على الولاة، فامنع من الاحتكار، فإن رسول الله — صلى الله عليه وآله — منع منه. وليكن البيع بيعًا سمحًا بموازين عدلٍ وأسعارٍ لا تجحف بالفريقين من البائع والمُبتاع، فمن قارف حُكْرَةً بعد نهيك إياه، فنكِّلْ به وعاقب في غير إسرافٍ. ثم اللهَ اللهَ في الطبقة السُّفلى من الذين لا حيلةَ لهم والمساكين والمحتاجين وأهل البُؤْسى والزَّمْنى، فإن في هذه الطبقة قانعًا ومعتَرًّا، واحفظ الله ما استحفظك من حقه فيهم، واجعل لهم قِسْمًا من بيت مالك وقِسْمًا من غلَّات صوافي الإسلام في كل بلد، فإن للأقصى منهم مثل الذي للأدنى، وكلٌّ قد استُرْعِيت حقَّه فلا يشغلنَّك عنهم بطر، فإنك لا تُعذَر بتضييعك التافه لإحْكامك الكثير المهم، فلا تُشْخِص همك عنهم، ولا تُصعِّر خدَّك لهم، وتفقَّد أمور من لا يصل إليك منهم ممن تقتحمه العيون وتحتقره الرجال، ففرِّغ لأولئك ثقتك من أهل الخشية والتواضع، فليرفع إليك أمورهم، ثم اعمل فيهم بالإعذار إلى الله — سبحانه — يوم تلقاه، فإن هؤلاء من بين الرعية أحوج إلى الإنصاف من غيرهم، فاعْذِر إلى الله في تأدية حقه إليه. وتعهَّد أهل اليتم وذوي الرقَّة في السنِّ ممن لا حيلة له ولا يَنْصِب للمسألة نفسه، وذلك على الولاة ثقيل، والحقُّ كلُّه ثقيل، وقد يخففه الله على أقوام طلبوا العاقبة فصبَّروا أنفسهم ووثقوا بصدق موعود الله لهم. واجعل لذوي الحاجات منك قسمًا تُفرِّغ لهم فيه شخصك، وتجلس لهم مجلسًا عامًّا فتتواضع فيه لله الذي خلقك، وتُقْعِد عنهم جندك وأعوانك من أحراسك وشُرَطك حتى يكلمك متكلمهم غير مُتَتَعْتع، فإني سمعت رسول الله — صلى الله عليه وآله — يقول في غير موطن: «لن تُقَدَّس أمةٌ لا يُؤْخَذ للضعيف فيها حقُّه من القويِّ غير مُتَتَعْتع.» ثم احتمل الخُرْق منهم والعِيَّ، وسَنِّح عنك الضيق والأَنَف يبسط الله عليك بذلك أكناف رحمته، ويوجب لك ثواب طاعته، وأعطِ ما أعطيت هنيئًا، وامنع في إجمالٍ وإعذارٍ.

ثم أمورٌ من أمورك لا بد لك من مباشرتها، منها إجابة عمَّالك بما يَعْيَأ عنه كتَّابك، ومنها إصدار حاجات الناس عند ورودها عليك مما تَحْرَج به صدور أعوانك. وأمْض لكلِّ يوم عمله فإنَّ لكل يوم ما فيه. واجعل لنفسك فيما بينك وبين الله — تعالى — أفضل تلك المواقيت وأجزل تلك الأقسام، وإن كانت كلها لله إذا صلحت فيها النية، وسلمت منها الرعية. وليكن في خاصة ما تخلص لله به دينك إقامةُ فرائضه التي هي له خاصة، فأعط الله من بدنك في ليلك ونهارك، ووفِّ ما تقرَّبت به إلى الله — سبحانه — من ذلك كاملًا غير مَثْلوم ولا منقوص بالغًا من بدنك ما بلغ. وإذا قمت في صلاتك للناس فلا تكوننَّ منفِّرًا ولا مضيِّعًا، فإن في الناس من به العلة وله الحاجة، وقد سألتُ رسول الله — صلى الله عليه وآله — حين وجَّهني إلى اليمن: كيف أصلي بهم؟ فقال: «صلِّ بهم كصلاة أضعفهم، وكن بالمؤمنين رحيمًا.»

وأمَّا بعد، فلا تُطَوِّلنَّ احتجابك عن رعيتك، فإن احتجاب الولاة عن الرعية شُعْبة من الضيق، وقلة علم بالأمور، والاحتجاب منهم يقطع عنهم علم ما احتجبوا دونه، فيصغر عندهم الكبير، ويعظم الصغير، ويقبح الحسن، ويحسن القبيح، ويُشاب الحقُّ بالباطل، وإنما الوالي بشرٌ لا يعرف ما توارى عنه الناس به من الأمور، وليست على الحق سمات تُعرف بها ضروب الصدق من الكذب، وإنما أنت أحد رجلين: إما امرؤٌ سَخَتْ نفسك بالبذل في الحق، ففيمَ احتجابك من واجب حق تعطيه، أو فعلٍ كريم تُسْديه؟ أو مبتلًى بالمنع، فما أسرع كفَّ الناس عن مسألتك إذا أَيِسُوا من بذْلك! مع أن أكثر حاجات الناس إليك مما لا مُؤْنة فيه عليك من شَكَاة مَظْلمة أو طلب إنصاف في معاملة. ثم إن للوالي خاصةً وبطانة فيهم استئثار وتطاولٌ وقلة إنصافٍ في معاملة، فاحسم مادة أولئك بقطع أسباب تلك الأحوال، ولا تقطعنَّ لأحدٍ من حاشيتك وخاصَّتك قطيعة، ولا يَطْمَعنَّ منك في اعتقاد عقدة تضرُّ بمن يليها من الناس في شِرْبٍ أو عمل مشتركٍ يحملون مؤونته على غيرهم، فيكون مَهْنَأ ذلك لهم دونك وعيبه عليك في الدنيا والآخرة. وألْزِم الحق من لزمه من القريب والبعيد، وكن في ذلك صابرًا محتسبًا واقعًا ذلك من قرابتك وخاصتك حيث وقع، وابتغِ عاقبته بما يَثْقُل عليك منه، فإنَّ مغبَّة ذلك محمودة. وإن ظنت الرعية بك حيفًا فأَصْحِرْ لهم بعذرك، واعدلْ عنك ظنونهم بإصْحارك، فإن في ذلك رياضةً منك لنفسك ورفقًا برعيتك وإعذارًا تبلغ به حاجتك من تقويمهم على الحقِّ.

ولا تدفعنَّ صلحًا دعاك إليه عدوك ولله فيه رضًا، فإن في الصلح دَعَةً لجنودك، وراحةً من همومك، وأمنًا لبلادك، ولكن الحذر كل الحذر من عدوِّك بعد صلحه، فإن العدو ربما قارب ليَتَغَفَّل، فخذ بالحزم، واتَّهم في ذلك حسن الظنِّ. وإن عقدت بينك وبين عدوك عقدة أو ألبسته منك ذمَّة فحُطْ عهدك بالوفاء، وارْعَ ذمَّتك بالأمانة، واجعلْ نفسك جُنَّة دون ما أعطيت، فإنه ليس من فرائض الله شيءٌ الناسُ أشدُّ عليه اجتماعًا مع تفرُّق أهوائهم وتشتت آرائهم من تعظيم الوفاء بالعهود، وقد لزم ذلك المشركون فيما بينهم دون المسلمين؛ لما اسْتَوْبَلُوا من عواقب الغدر، فلا تَغْدِرَنَّ بذمَّتك، ولا تَخِيسَنَّ بعهدك، ولا تَخْتِلَنَّ عدوَّك، فإنه لا يجترئ على الله إلا جاهلٌ شقيٌّ. وقد جعل الله عهده وذمَّته أمنًا أفضاه بين العباد برحمته، وحريمًا يسكنون إلى مَنَعَته، ويستفيضون إلى جواره، فلا إِدْغَال ولا مدالسة ولا خداع فيه. ولا تعقد عقدًا تجوز فيه العِلَل، ولا تعوِّلنَّ على لحن قولٍ بعد التأكيد والتَّوْثِقة. ولا يَدْعُونَّك ضيقُ أمرٍ لزِمك فيه عهد الله إلى طلب انفساخه بغير الحقِّ، فإنَّ صبرك على ضيق أمرٍ ترجو انفراجه وفضلَ عاقبته خيرٌ من غدر تخاف تبعته، وأن تحيط بك فيه من الله طَلِبَةٌ، فلا تستقيل فيها دنياك ولا آخرتك.

إياك والدماء وسفكَها بغير حِلِّها، فإنه ليس شيء أدعى لنقمةٍ، ولا أعظم لتبعةٍ، ولا أحرى بزوال نعمة وانقطاع مدة من سفك الدماء بغير حقها، والله — سبحانه — يتولى الحكم بين العباد فيما تسافكوا من الدماء يوم القيامة، فلا تقوِّينَّ سلطانك بسفك دم حرام، فإن ذلك مما يضعفه ويوهنه بل يزيله وينقله، ولا عذر لك عند الله ولا عندي في قتل العمد، لأنَّ فيه قَوَد البدن، وإن ابتُليت بخطأ وأفرط عليك سوطك أو سيفك أو يدك بعقوبة، فإن في الوكزة فما فوقها مَقْتلة، فلا تطمحنَّ بك نخوة سلطانك عن أن تؤدي إلى أولياء المقتول حقَّهم.

وإياك والإعجاب بنفسك والثقة بما يعجبك منها، وحبَّ الإطراء، فإن ذلك من أوثق فرص الشيطان في نفسه ليمحق ما يكون من إحسان المحسنين. وإياك والمنَّ على رعيتك بإحسانك، أو التزيُّد فيما كان من فعلك، أو أن تعِدهم فتُتْبع موعدك بخُلْفِك، فإن المنَّ يبطل الإحسانَ، والتَّزيُّد يذهب بنور الحقِّ، والخُلْف يوجب المقت عند الله والناس، قال الله سبحانه: كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ. وإياك والعجلة بالأمور قبل أوانها، أو التسقُّط فيها عند إمكانها، أو اللَّجاجة فيها إذا تنكَّرت، أو الوَهْن عنها إذا اسْتَوْضَحت، فضعْ كل أمرٍ موضعه، وأوقعْ كل عمل موقعه. وإياك والاستئثار بما الناس فيه أسوةٌ، والتغابي عما يُعنى به مما قد وضح للعيون فإنه مأخوذٌ منك لغيرك، وعما قليلٍ تنكشف عنك أغطية الأمور، ويُنْتصف منك للمظلوم. امْلِك حميَّةَ أنفك، وسَوْرة حدِّك، وسَطْوَة يدك، وغَرْب لسانك، واحترس من كل ذلك بكفِّ البادرة وتأخير السَّطْوة حتى يسكن غضبك فتملك الاختيارَ، ولن تَحْكم ذلك من نفسك حتى تكثر همومك بذكر المعاد إلى ربك.

والواجب عليك أن تتذكَّر ما مضى لمن تقدَّمك من حكومةٍ عادلةٍ، أو سنَّةٍ فاضلةٍ، أو أثرٍ عن نبينا — صلى الله عليه وآله — أو فريضة في كتاب الله، فتقتدي بما شاهدت مما عملنا به فيها، وتجتهد لنفسك في اتِّباع ما عهدت إليك في عهدي هذا، واسْتَوْثَقت به من الحُجَّة لنفسي عليك، لكيلا يكون لك علة عند تَسَرُّع نفسك إلى هواها. وأنا أسأل الله بسعة رحمته، وعظيم قدرته على إعطاء كلِّ رغبة، أن يوفقني وإياك لما فيه رضاه من الإقامة على العُذر الواضح إليه وإلى خلقه، مع حسن الثناء في العباد وجميل الأثر في البلاد، وتمام النعمة وتضعيف الكرامة، وأن يختم لي ولك بالسعادة والشهادة، إنا إلى الله راغبون، والسلامُ على رسول الله صلى الله عليه وآله الطيبين الطاهرين.

ومن ظريف أخبار ابن أبي عتيق أن عثمان بن حيَّان المُرِّي لما دخل المدينة واليًا عليها اجتمع الأشراف عليه من قريش والأنصار، فقالوا له: إنك لا تعمل عملًا أجدى ولا أولى من تحريم الغناء والرثاء، ففعل وأجَّلهم ثلاثًا، فقدِم ابن أبي عتيق في الليلة الثالثة، فحطَّ رحلَه بباب سلامة الزرقاء، وقال لها: بدأتُ بك قبل أن أصير إلى منزلي، فقالت: أوَمَا تدري ما حدث؟ وأخبرتْه الخبرَ، فقال: أقيمي إلى السَّحَر حتى ألقاه، فقالت: إنَّا نخاف أن لا تُغْني شيئًا ونُنْكَظ (أي نُعْجَل)، فقال: إنه لا بأس عليك، ثم مضى إلى عثمان فأستأذن عليه فأخبره أن أحذَّ ما أقدمه عليه حُب التسليم عليه، وقال له: إن أفضل ما عَمِلت به تحريم الغناء والرثاء، فقال: إن أهلك أشاروا عليَّ بذلك، قال: فإنك قد وُفِّقتَ، ولكني رسول امرأةٍ إليك تقول: قد كانت هذه صناعتي فتبت إلى الله منها، وأنا أسألك أيها الأمير أن لا تحول بينها وبين مجاورة قبر النبي ï·؛، فقال عثمان: إذن أدعها لك، قال: إذن لا يدعها الناس، ولكن تدعو بها فتنظر إليها، فإن كانت ممن يُترك تركتها، قال: فادعُ بها، قال: فأمرها ابن أبي عتيق فتقَشَّفَتْ وأخذت سُبْحة في يدها، وصارت إليه، وحدَّثته عن مآثر آبائه، ففَكِه لها، فقال لها ابن أبي عتيق: اقرئي للأمير، ففعلَتْ، فأُعجب بذلك، فقال لها: فاحدي للأمير، فحرَّكه حُدَاؤها، ثم قال لها: غيِّري للأمير، فجعل يُعْجب بذلك عثمان، فقال له ابن أبي عتيق: فكيف لو سمعتها في صناعتها؟ فقال له: قل لها فلتقل، فأمرها فتغنَّتْ:
سَدَدْنَ خَصَاصَ الخَيْمِ لَمَّا دَخَلْنَهُ
بِكُلِّ لَبَانٍ وَاضِح وَجَبين

فنزل عثمان بن حيَّان عن سريره حتى جلس بين يديها، ثم قال: لا والله، ما مثلك يخرج عن المدينة، فقال له ابن أبي عتيق: إذن يقول الناسُ: أذن لسلامة في المُقام ومنع غيرها، فقال له عثمان: قد أذِنتُ لهم جميعًا.

https://k.top4top.io/p_2007qrxtc1.png

عطر الجنة 07-01-2021 05:14 AM

رد: أدبيات اللغة العربية
 


https://k.top4top.io/p_2007qrxtc1.png


(١٠٤) بعض أخبار الحَجَّاج لمَّا ولي العراق

قال التَّوَّزي: بينما نحن في المَسْجِد الجَامِع بِالكُوفَةِ، وأهل الكوفة يومئذٍ ذَوُو حال حسنة، يخرج الرجل منهم في العشرة والعشرين من مواليه، إِذ أتى آتٍ فقال: هذا الحجَّاج قد قدم أمِيرًا على العراق! فَإِذا به قد دخل المَسْجِد مُعْتمًّا بعمامة قد غطَّى بهَا أَكثر وَجْهه، مُتقلِّدًا سيفًا، متنكِّبًا قوسًا، يؤم المنبر. فقام الناسُ نحوه، حَتَّى صعد المنبر، فَمَكث ساعة لا يتكلم، فقال الناس
بعضهم لبعض: قبَّح الله بني أُميَّة! حيث تستعمل مثلَ هذا على العراق، حَتَّى قال عُمَيْر بن ضابئ البُرْجُميُّ: ألا أحْصِبُه لكم؟ فقَالُوا: أَمْهلْ حَتَّى ننظر. فَلَمَّا رأى عُيُونَ النَّاس إليه حَسَر اللثامَ عَن فيه، ونهض فقال:
أَنَا ابْنُ جَلَا وَطَلَّاع الثَّنَايَا
مَتَى أضَعِ العِمَامَةَ تَعرِفوني


ثم قال: يَا أهل الكُوفَة، إِنِّي لأرى رءوسًا قد أيْنَعتْ، وحان قطافُها، وَإِنِّي لصاحبها، وكَأَنِّي أنظرُ إلى الدِّماء بين العمائم واللِّحى، ثم قال:
هَذَا أوَانُ الشَدِّ فاشْتَدِّي زِيَمْ
قَدْ لَفَّها اللَّيْل بسَوَّاقٍ حُطَمْ
لَيْسَ بِرَاعِي إبلٍ وَلَا غَنَمْ
وَلَا بجَزَّارٍ عَلَى ظَهْرِ وَضَمْ

ثم قال:
قَدْ لَفَّهَا اللَّيْلُ بَعْصَلبِيِّ
أرْوَعَ خَرَّاجٍ مِنَ الدَّوِّىِّ
مُهَاجِر لَيْسَ بِأَعْرَابيِّ


وقال:
قَدْ شَمَّرَتْ عَنْ سَاقها فشُّدُوا
وَجَدَّتِ الحَرْبُ بِكُمْ فَجِدُّوا
وَالقَوْسُ فِيها وتَرٌ عُرُدُّ
مِثْلُ ذِرَاع البَكْر أَو أشَدُّ
لَا بُدَّ مما ليس مِنه بُدُّ


إِنِّي والله يا أهل العراق، مَا يُقَعْقَع لي بالشِّنان، ولا يُغْمَز جَانِبي كتَغْمَاز التِّين، ولَقَد فُرِرتُ
عن ذكاء، وفُتِّشْت عَن تجْربة. وإن أمير المُؤمنِين — أطال الله بقاءه — نَثَر كِنَانَته بين يديه، فَعَجَمَ عيدانَها فوجدني أمَرَّها عُودًا وأصلبها مَكْسَرًا، فرماكم بِي لأنكم طالما أوْضعتم في الفِتْنَة واضطجعتم في مراقد الضلال. والله لأحْزِمنَّكم حَزْم السَّلَمَة، ولأضربنَّكم ضرْب غرائب الإِبل، فإنكم لكأهل قرية كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذَاقَها اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ، وإنِّي والله ما أَقُول إلَّا وَفَّيْتُ، ولَا أهُمُّ إلَّا أمْضيت، ولَا أخلُق إِلا فَرَيْتُ. وإن أمير المُؤمنِينَ أَمرنِي بإعطائكم أُعْطِياتكم، وأن أُوَجِّهكم لمحاربة عدوِّكم مَعَ المُهَلَّب بن أبي صُفْرة. وإني أقسم بالله لا أجد رجلًا تخلف بعد أخْذ عطائه بثلاثة أيام إلا ضربت عُنُقَه. يا غلام، اقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين. فقرأ: «بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله عبد الملك أمير المؤمنين إلى مَن بالكوفة من المسلمين، سلامٌ عليكم. فلم يَقُل أحد منهم شيئًا، فقال الحجاج: اكفُف يا غلام، ثم أقبل على الناس فقال: أسَلَّم عليكم أمير المؤمنين فلم تردوا عليه شيئًا، هذا أدَب ابن نِهْيَة؟ أما والله لأُؤَدِّبنَّكم غير هذا الأدب أو لتَستقيمُنَّ! اقرأ يا غلام كتاب أمير المؤمنين، فلما بلغ إلى قوله سلامٌ عليكم، لم يبق في المسجد أحد إلا قال: وعلى أمير المؤمنين السلام.»

(زَعَم أبو العباس أن «ابن نهية» رجل كان على الشرطة بالبصرة قبل الحجاج.)

ثم نزل فوضع للناس أعطياتهم، فجعلوا يأخذون حتى أتاه شيخ يَرْعَش كبَرًا فقال: أيها الأمير، إني من الضعف على ما ترى، ولي ابْنٌ هو أقوى على الأسفار مني، فتقبله بدلًا مني. فقال له الحجاج: نفعل أيها الشيخ، فلما وَلَّى قال له قائل: أتدري مَن هذا أيها الأمير؟ قال: لا، قال: هذا عُمير بن ضابئ البُرْجُميُّ الذي يقول أبوه:
هَمَمْتُ وَلَمْ أفْعَلْ وَكدتُ ولَيْتَنِي
تَركتُ على عثمان تَبكِي حَلَائلُهْ

ودخل هذا الشيخ على عثمان مقتولًا فوطِئ بطنه، فكسر ضلعين من أضلاعه. فقال: ردوه، فلما رُدَّ قال له الحجاج: أيها الشيخ، هلَّا بعثت إلى أمير المؤمنين عثمان بدلًا يوم الدار، إنَّ في قتلك أيها الشيخ لصلاحًا للمسلمين، يا حرَسَيَّ، اضربا عنقه. فجعل الرجل يضِيق عليه أمرُه فيرتحل، ويأمر وليه أن يلحقه بزاده، ففي ذلك يقول عبد الله بن الزَّبِير الأسَدي:
تَجَهَّزْ فَإمَّا أنْ تَزُورَ ابْنَ ضابئ
عُمَيْرًا وإمَّا أَنْ تَزُورَ المُهَلَّبَا
هُمَا خُطَّتَا خَسْفٍ نَجَاؤُك منهما
رُكُوبُك حَوْلِيًّا من الثَّلْج أَشْهَبَا
فَأَضْحَى ولَو كَانَتْ خُرَاسَانُ دونَه
رآها مكانَ السُّوق أو هي أقْرَبَا


(١٠٥) خطبة طارق قبل فُتُوح الأندلس

لما بلغ طارقًا دُنُوُّ لُذْرِيق قام في أصحابه فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم حثَّ المسلمين على الجهاد ورغَّبهم، ثم قال: أيها الناس، أين المفر؟ البحر من ورائكم، والعدو أمامكم، وليس لكم والله إلا الصدق والصبر، واعلموا أنكم في هذه الجزيرة أضْيَع من الأيتام في مأدبة اللئام. وقد استقبلكم عدوُّكم بجيشه وأسلحته، وأقواته موفورة، وأنتم لا وَزَر لكم إلا سيوفكم، ولا أقوات إلا ما تستخلصونه من أيدي عدوكم. وإن امتدت بكم الأيام على افتقاركم ولم تُنْجزوا لكم أمرًا ذهب ريحكم، وتعوَّضت القلوب من رُعْبها عنكم الجُرْأةَ عليكم. فادفعوا عن أنفسكم خِذْلان هذه العاقبة من أمركم بمناجزة هذا الطاغية، فقد ألقت به إليكم مدينته الحصينة، وإن انتهاز الفرصة فيه لمُمْكن إن سمحتم لأنفسكم بالموت. وإني لم أحذركم أمرًا أنا عنه بنَجْوَةٍ، ولا حَمَلتكم على خطة أرخصُ متاع فيها النفوس، أبدأ بنفسي، واعلموا أنكم إن صبرتم على الأشق قليلًا استمتعتم بالأَرْفَه الألذِّ طويلًا، فلا ترغبوا بأنفسكم عن نفسي فما حظكم فيه بأوفر من حظي، وقد بلغكم ما أنشأت هذه الجزيرة من الخيرات العميمة. وقد انتخبكم الوليد بن عبد الملك أمير المؤمنين من الأبطال عُرْبَانًا، ورضيكم لملوك هذه الجزيرة أصهارًا وأختانًا؛ ثقةً منه بارتياحكم للطِّعَان، واسْتَمَاحكم بمجالدة الأبطال والفرسان، ليكون حظه منكم ثواب الله على إعلاء كلمته وإظهار دينه بهذه الجزيرة، وليكون مغنمها خالصة لكم من دونه ومن دون المؤمنين سواكم، والله — تعالى — وليُّ إنْجادكم على ما يكون لكم ذكرًا في الدارين. واعلموا أني أول مجيب إلى ما دعوتكم إليه، وأني عند ملتقى الجمعين حاملٌ بنفسي على طاغية القوم لُذْرِيق فقاتِلُه
إن شاء الله — تعالى — فاحملوا معي، فإن هلكت بعده فقد كُفيتم أمره، ولم يُعْوِزكم بطل عاقل تسندون أموركم إليه، وإن هلكت قبل وصولي إليه فاخلُفوني في عزيمتي هذه، واحملوا بأنفسكم عليه، واكتفوا الهم من فتح هذه الجزيرة بقتله.


https://k.top4top.io/p_2007qrxtc1.png



عطر الجنة 07-01-2021 05:16 AM

رد: أدبيات اللغة العربية
 


https://k.top4top.io/p_2007qrxtc1.png


(١٠٦) صفة الإمام العادل

كتب عمر بن عبد العزيز — رضي الله عنه — لمَّا وَلِي الخلافة إلى الحسن بن أبي الحسن البصري أن يكتب إليه بصفة الإمام العادل، فكتب إليه الحسن، رحمه الله:

اعلم يا أمير المؤمنين أن الله جعل الإمام العادل قِوام كل مائل، وقَصْد كل جائر، وصلاح كل فاسد، وقوة كل ضعيف، ونَصَفَة كل مظلوم، ومَفْزَع كل ملهوف. والإمام العدل يا أمير المؤمنين كالراعي الشفيق على إبله الرفيق الذي يرتاد لها أطيب المرعى، ويَذُودها عن مراتع المَهْلكة، ويحميها من السباع، ويكنُفُها من أذى الحَرِّ والقَرِّ. والإمام العدل يا أمير المؤمنين كالأب الحاني على ولده، يسعى لهم صغارًا، ويعلمهم كبارًا، يكتسب لهم في حياته، ويدخر لهم بعد مماته. والإمام العدل يا أمير المؤمنين كالأم الشفيقة البَرَّة الرفيقة بولدها؛ حملته كُرْهًا ووضعته كُرْهًا، وربَّته طفلًا، تسهر بسهره، وتسكن بسكونه، ترضعه تارةً وتفطمه أخرى، وتفرح بعافيته، وتغتم بشكايته. والإمام العدل يا أمير المؤمنين وصِيُّ اليتامى، وخازن المساكين، يُربِّي صغيرهم، ويَمُون كبيرهم. والإمام العدل يا أمير المؤمنين كالقلب بين الجوانح، تصلح الجوانح بصلاحه وتفسُد بفساده.

والإمام العدل يا أمير المؤمنين هو القائم بين الله وبين عباده، يسمع كلام الله ويُسْمعهم،
وينظر إلى الله ويُريهم، وينقاد إلى الله ويقودهم. فلا تكن يا أمير المؤمنين فيما ملَّكك الله كعبدٍ ائتمنه سيده واستَحْفَظه مالَه وعياله، فبدَّد المال وشرَّد العيال، فأفقر أهله وفرَّق ماله. واعلم يا أمير المؤمنين أن الله أنزل الحدود ليزجر بها عن الخبائث والفواحش فكيف إذا أتاها من يَليها؟ وأن الله أنزل القصاص حياةً لعباده، فكيف إذا قتلهم من يقتصُّ لهم؟ واذكر يا أمير المؤمنين الموتَ وما بعده، وقلة أشياعك عنده وأنصارك عليه، فتزوَّد له ولما بعده من الفزع الأكبر. واعلم يا أمير المؤمنين أن لك منزلًا غير منزلك الذي أنت فيه؛ يطول فيه ثَواؤُك، ويفارقك أحبَّاؤك، يُسْلمونك في قعره فريدًا وحيدًا، فتزوَّد له ما يصحبك يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ. واذكر يا أمير المؤمنين إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي
الصُّدُورِ فالأسرار ظاهرة، والكتاب لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا. فالآن يا أمير المؤمنين، وأنت في مَهَل قبل حلول الأجل، وانقطاع الأمل، لا تحكم يا أمير المؤمنين في عباد الله بحكم الجاهلين، ولا تسلك بهم سبيل الظالمين ولا تسلِّط المستكبرين على المستضعفين؛ فإنهم لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً فتبوء بأوزارك وأوزار مع أوزارك، وتحمل أثقالك وأثقالًا مع أثقالك. ولا يغرَّنَّك الذين يتنعَّمون بما فيه بؤسك، ويأكلون الطيبات في دنياهم بإذهاب طيباتك في آخرتك.

لا تنظر إلى قدرتك اليوم، ولكن انظر إلى قدرتك غدًا وأنت مأسورٌ في حبائل الموت، وموقوف بين يدي الله في مَجْمَع من الملائكة والنبيين والمرسلين، وقَدْ عَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ. إني يا أمير المؤمنين وإن لم أبلغ بعظتي ما بلغه أولو النُّهى من قبلي، فلم آلُكَ شفقةً ونصحًا، فأنزل كتابي إليك كمداوي حبيبه يسقيه الأدوية الكريهة لمَا يرجو له في ذلك من العافية والصحة. والسلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته.


(١٠٧) وللفرزدق في وصف الإمام زين العابدين رضي الله تعالى عنه

هَذَا الذِي تَعْرِفُ البَطْحَاءُ وَطْأَتَهُ
والبَيْتُ يَعرفُهُ والحِلُّ والحَرَمُ
هَذَا ابنُ خيرِ عبادِ اللهِ كلِّهمُ
هَذَا التَّقِيُّ النَّقِيُّ الطَّاهرُ العَلَمُ
إِذَا رأتهُ قريشٌ قَالَ قَائِلُها
إِلَى مَكَارِم هَذَا يَنْتَهِي الكَرَمُ
يُنْمَى إِلَى ذِرْوَة العِزِّ التِي قَصُرتْ
عَن نَيْلها عَرَبُ الإِسلامِ والعجمُ
يَكَاد يُمْسكه عِرْفانَ رَاحَته
رُكْنُ الحَطيمِ إِذا مَا جَاءَ يَسْتَلِمُ
في كفِّه خَيْزُرانٌ ريحُهُ عَبِقٌ
من كفِّ أرْوعَ في عِرْنِينِهِ شَمَمُ
يُغْضِي حَيَاءً ويُغْضَى من مَهابَتِه
فما يُكَلَّم إِلَّا حينَ يَبْتَسمُ
يَنْشَقُّ نورُ الهدى من نورِ غُرَّته
كَالشَّمْسِ يَنْجابُ عَن إشْراقها القَتَمُ
مُشْتقَّةٌ من كِرامِ القَوْم نَبْعَتُهُ
طابَتْ عَناصِرُهُ والخِيمُ والشِّيَمُ
هَذَا ابنُ فاطمةٍ إنْ كنتَ جاهِلَه
بجَدِّه أنْبِياءُ اللهِ قد خُتِموا
اللهُ شَرَّفَهُ قَدْرًا وعَظَّمَهُ
جَرَى بذاك لَهُ في لَوْحِهِ الْقَلَمُ
ولَيْسَ قَوْلُكَ مَنْ هذا بضائِره
العُرْب تَعْرف مَن أَنْكرتَ والعَجَمُ
كِلْتَا يَدَيْهِ غِيَاثٌ عَمَّ نَفْعُهُما
يُسْتَوْكَفَانِ ولَا يَعْرُوهما عَدَمُ
سَهْلُ الْخَلِيقَةِ لَا تُخْشَى بَوَادِرُهُ
يَزينُهُ اثنَانِ حُسْن الخَلْق والشِّيَمُ
حَمَّالُ أثْقالِ أقْوامٍ إِذا افْتَرَضوا
حُلْوُ الشَّمَائِل يَحْلُو عِنْده نَعَمُ
ما قال لا قَطُّ إلَّا في تَشَهُّدِهِ
لَوْلَا التَّشَهُّدُ كانت لَاؤُه نَعَمُ
عَمَّ البَرِيَّةَ بالإِحسانِ فانْقَشَعَتْ
عَنْها الْغَياهِبُ والإمْلاقُ والعَدَمُ
من معشرٍ حبُّهم دينٌ وبُغْضُهُمُ
كُفْرٌ وقُرْبُهُمُ مَنْجًى وَمُعْتَصَمُ
إِنْ عُدَّ أهلُ التُّقَى كَانُوا أئمَّتهم
أَو قيلَ مَنْ خَيْرُ أهلِ الأَرْض قيل هُمُ
لَا يَسْتَطِيع جوابًا بعد غايتهم
ولَا يُدانيهِمُ قَوْمٌ وإنْ كَرُمُوا
هُمُ الْغُيُوثُ إِذا مَا أَزْمَةٌ أَزَمَتْ
والأُسْدُ أُسْدُ الشَّرَى والبَأْسُ مُحْتَدِمُ
لَا يَنْقُصُ العُسْرُ بَسْطًا من أَكُفِّهِمُ
سِيَّانِ ذَلِكَ إِنْ أَثْرَوْا وإنْ عَدِمُوا
مُقَدَّمٌ بعد ذِكْرِ اللهِ ذِكْرُهُمُ
في كلِّ بَدْءٍ ومَخْتومٍ به الكَلِمُ
يَأْبَى لَهُمْ أَنْ يَحُلَّ الذَّمُّ سَاحَتَهُمْ
خُلْقٌ كَرِيمٌ وأَيْدٍ بالنَّدَى هُضُمُ
أيُّ الخَلَائق ليست في رِقابِهم
لِأَوَّلِيَّة هَذَا أَوْلَهُ نِعَمُ
مَنْ يَعْرِفِ الله يَعْرِفْ أوَّلِيَّة ذَا
فالدِّينُ من بَيتِ هَذَا نَالَهُ الأُمَمُ


https://k.top4top.io/p_2007qrxtc1.png

عطر الجنة 07-01-2021 05:18 AM

رد: أدبيات اللغة العربية
 


https://k.top4top.io/p_2007qrxtc1.png

(١٠٨) وخَطَب واصل بن عطاء وكان أَلْثَغَ بالراء فكان لذلك يتجنَّبُها في كلامه

الحمد لله القديم بلا غاية، والباقي بلا نهاية، الذي علا في دُنُوِّه، ودنا في عُلُوِّه، فلا يحْويه زمان، ولا يحيط به مكان، ولا يؤوده حفظ ما خلق، ولم يخلُقه على مثالٍ سبق، بل أنشأه ابتداعًا، وعدَّله اصطناعًا، فأحسن كل شيء خلَقه، وتمم مشيئته، وأوضح حكمته، فدل على ألوهيته، فسبحانه لا معقب لحكمه، ولا دافع لقضائه، تواضع كل شيء لعظمته، وذلَّ كل شيء لسلطانه، ووسع كلَّ شيء فضلُه، لا يعزب عنه مثقال حبة وهو السميع العليم. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، إلهًا تقدست أسماؤه، وعظمت آلاؤه، علا عن صفات كل مخلوق، وتنزَّه عن شبيه كل مصنوع، فلا تبلغه الأوهام، ولا تحيط به العقول ولا الأفهام، يُعصَى فَيَحْلُم، ويُدعى فيسمع، ويقبل التوبة من عباده، ويعفو عن السيئات، ويعلم ما يفعلون. وأشهد شهادة حق وقولَ صدق، بإخلاص نية وصحة طَوِيَّة، أن محمد بن عبد الله عبده ونبيه، وخالصته وصفيه، ابتعثه إلى خلقه بالبينة والهدى ودين الحق، فبلَّغ مَأْلُكَته، ونصح لأمته، وجاهد في سبيل الله، لا تأخذه في الله لومة لائم، ولا يصده عنه زعم زاعم، ماضيًا على سنَّته، مُوفِيًا على قصده، حتى أتاه اليقين، فصلى الله على محمد وعلى آل محمد أفضل وأزكى، وأتم وأنمى، وأجلَّ وأعلى صلاةٍ صلاها على صفوة أنبيائه، وخالصة ملائكته، وأضعاف ذلك، إنه حميد مجيد. أوصيكم عباد الله مع نفسي بتقوى الله، والعمل بطاعته، والمجانبة لمعصيته، وأحُضُّكم على ما يُدْنيكم منه، ويُزْلفكم لديه، فإن تقوى الله أفضل زاد، وأحسن عاقبة في معاد. ولا تُلْهِينَّكم الحياة الدنيا بزينتها وخَدْعها، وفواتن لذاتها، وشهوات آمالها، فإنها متاع قليل، ومُدَّة إلى حين، وكل شيء منها يزول، فكم عاينْتم من أعاجيبها! وكم نَصَبَت لكم من حبائلها، وأهلكت ممن جنح إليها واعتمد عليها! أذاقتهم حلوًا، ومزجت لهم سُمًّا. أين الملوك الذين بنَوْا المدائن، وشيَّدوا المصانع، وأَوْثقوا الأبواب، وكاثفوا الحجاب، وأعدُّوا الجياد، وملكوا البلاد، واستخدموا التِّلاد؟ قبضَتْهم بمحملها، وطحنَتْهم بكَلْكَلها، وعضَّتهم بأنيابها، وعاضَتْهم من السَّعَة ضيقًا، ومن العزَّة ذلًّا، ومن الحياة فناءً، فسكنوا اللُّحود، وأكَلهم الدود، وأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم، ولا تجد إلا معالمهم، ولا تحس منهم من أحد، ولا تسمع لهم نَبْسًا. فتزوَّدوا عافاكم الله! فإن أفضل الزاد التقوى، واتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون. جعلنا الله وإياكم ممن ينتفع بمواعظه، ويعمل لحظِّه وسعادته، وممن يستمع القول فيتبع أحسنه، أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ. إن أحسن قصص المؤمنين، وأبلغ مواعظ المتقين، كتاب الله، الزكية آياته، الواضحة بيناته، فإذا تُلِي عليكم فأنصتوا له، واسمعوا لعلكم تفلحون، أعوذ بالله القويِّ من الشيطان الغويِّ، إن الله هو السميع العليم، قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ * اللهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ. ثم قال: نفعنا الله وإياكم بالكتاب الحكيم، والوحي المبين، وأعاذنا وإياكم من العذاب الأليم، وأدخلنا وإياكم جنات النعيم!


https://k.top4top.io/p_2007qrxtc1.png


عطر الجنة 07-01-2021 05:20 AM

رد: أدبيات اللغة العربية
 
!

https://k.top4top.io/p_2007qrxtc1.png

(١٠٩) كتاب عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر إلى بعض إخوانه يعاتبه

بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد، فقد عاقني الشك في أمرك عن عزيمة الرأي فيك، وذلك أنك ابتدأْتَني بلطف عن غير خبرة، ثم أعقبتَني جفاءً عن غير جريرة، فأطمعَني أوَّلُك في إخائك، وأَيْأَسَني آخرُك عن وفائك، فلا أنا في اليوم مُجمِعٌ لك اطِّراحًا، ولا أنا في غدٍ وانتظاره منك على ثقة، فسبحان من لو شاء كشف بإيضاح الرأي في أمرك عن عزيمة الشك فيك، فاجتمعنا على ائتلاف أو افترقنا على اختلاف. والسلام.



(١١٠) وكتب وهو في السجن إلى أبي مسلم صاحب الدعوة يستعطفه

بسم الله الرحمن الرحيم
من الأسير في يديه بلا ذنب إليه ولا خلافٍ عليه، (أما بعد) فآتاك الله حفظ الوصية، ومنحك نصيحة الرعية، وألهمك عدل القضية، فإنك مستودَع الودائع، ومُولِي الصَّنائع، فاحفظ ودائعك بحسن صنائعك، فالودائع عَارِيَّة والصنائع مَرعيَّة، وما النِّعم عليك وعلينا فيك بمَنْزُورٍ نداها، ولا بمَبْلُوغ مداها، فنبِّه للتفكير قلبك، واتق الله ربك، وأعطِ من نفسك من هو تحتك ما تحب أن يعطيك من هو فوقك من العدل والرأفة والأمن من المخافة، فقد أنعم الله عليك بأن فوَّض أمرنا إليك، فاعرف لنا لِين شكر المودة، واغتفار مس الشدة، والرضا بما رضيتَ، والقناعة بما هَوِيتَ، فإن علينا من سَمْك الحديد وثِقْله أذى شديدًا، مع معالجة الأغلال، وقلة رحمة العمال، الذين تسهيلُهم الغِلظة، وتيسيرهم الفظاظة، وإيرادهم علينا الغموم، وتوجيههم إلينا الهموم، زيارتهم الحراسة، وبشارتهم الإياسة. فإليك بعد الله نرفع كربة الشكوى، ونشكو شدة البلوى، فمتى تُمِلْ إلينا طرفًا، وتُولِنا منك عطفًا، تجدْ عندنا نصحًا صريحًا، ووُدًّا صحيحًا، لا يضيِّع مثلُك مثلَه، ولا ينفي مثلُك أهلَه، فارْعَ حرمة من أدركْتَ بحرمته، واعرف حجة من فَلَجْت بحجته، فإن الناس من حوضك رِوَاء، ونحن منه ظِماء، يمشون في الأَبْرَاد، ونحن نَحْجِل في الأَقْياد، بعد الخير والسَّعَة، والخفض والدَّعَة، والله المستعان، وعليه التُّكْلان. صريح الأخبار، مَنْجَى الأبرار، الناس من دولتنا في رخاء، ونحن منها في بلاء، حين أمِن الخائفون، ورجع الهاربون. رزقنا الله منك التَّحَنُّن، وظَاهَرَ علينا من التَّمَنُّن، فإنك أمينٌ مُسْتودَع، ورائدٌ مصطنَع. والسلام ورحمة الله.


https://k.top4top.io/p_2007qrxtc1.png

عطر الجنة 07-01-2021 05:22 AM

رد: أدبيات اللغة العربية
 


https://k.top4top.io/p_2007qrxtc1.png


(١١١) رسالة عبد الحميد الكاتب التي أوصى فيها الكُتَّاب

بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد، حفظكم الله يا أهل صناعة الكتابة، وحاطكم ووفقكم وأرشدكم، فإن الله عز وجل جعل الناس بعد الأنبياء والمرسلين — صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين — ومن بعد الملوك المكرَّمين أصنافًا، وإن كانوا في الحقيقة سواءً، وصرَّفهم في صنوف الصناعات، وضروب المحاولات إلى أسباب معاشهم، وأبواب أرزاقهم، فجعلكم معشرَ الكُتَّاب في أشرف الجهات، أهل الأدب والمُرُوَّات، والعلم والرزانة، بكم تنتظم للخلافة محاسنُها، وتستقيم أمورها، وبنصائحكم يُصلِح الله للخلق سلطانهم، وتعْمُر بلدانُهم، لا يستغني الملك عنكم، ولا يوجد كافٍ إلَّا منكم، فموقعُكم من الملوك موقعُ أسماعهم التي بها يسمعون، وأبصارِهم التي بها يبصرون، وألسنتِهم التي بها ينطقون، وأيديهم التي بها يَبْطِشون، فأَمْتَعَكم الله بما خصكم من فضل صناعتكم، ولا نزع عنكم ما أضفاه من النعمة عليكم!

وليس أحدٌ من أهل الصناعات كلها أحوج إلى اجتماع خِلال الخير المحمودة وخِصال الفضل المذكورة المعدودة منكم أيُّها الكُتَّاب، إذا كنتم على ما يأتي في هذا الكتاب من صفتكم، فإن الكاتب يحتاج في نفسه، ويحتاج منه صاحبه الذي يثق به في مهمات أموره، أن يكون حليمًا في موضع الحِلْم، فَهِيمًا في موضع الحُكْم، مِقْدامًا في موضع الإقدام، مِحْجَامًا في موضع الإحجام، مُؤْثرًا للعفاف، والعدل والإنصاف، كتومًا للأسرار، وفيًّا عند الشدائد، عالِمًا بما يأتي من النوازل، يضع الأمور مواضعها، والطَّوَارق في أماكنها، قد نظر في كل فنٍّ من فنون العلم فأحكَمَه، وإنْ لم يُحْكِمه أخذ منه بمقدار ما يَكْتَفي به، يعرف بغريزة عقله وحسن أدبه وفضل تجربته ما يَرِد عليه قبل وروده، وعاقبة ما يصدر عنه قبل صدوره، فيُعِدُّ لكل أمرٍ عدته وعتاده، ويهيئ لكلِّ وجهٍ هيئته وعادته. فتنافسوا يا معشر الكُتَّاب في صنوف الآداب، وتفهَّموا في الدين، وابدءوا بعلم كتاب الله — عز وجل — والفرائض، ثم العربية فإنها نَفَاق ألسنتكم، ثم أَجيدوا الخط فإنه حِلْية كُتُبكم، وارْوُوا الأشعار، واعرفوا غريبها ومعانيها، وأيام العرب والعجم، وأحاديثها وسِيَرها، فإن ذلك معين لكم على ما تسمو إليه هممكم، ولا تضيِّعوا النظر في الحساب فإنه قوام كُتَّاب الخراج، وارغبوا بأنفسكم عن المطامع سَنيِّها ودنيِّها، وسَفْساف الأمور ومحاقرها فإنها مَذَلَّة للرقاب، مَفْسَدة للكُتَّاب، ونَزِّهوا صناعتكم عن الدناءة، وارْبَئُوا بأنفسكم عن السِّعاية والنميمة وما فيه أهل الجهالات، وإياكم والكبر والسُّخْف والعظمة فإنها عداوة مُجْتَلَبَة من غير إحْنةٍ، وتحابُّوا في الله — عز وجل — في صناعتكم، وتواصوْا عليها بالذي
هو أليق لأهل الفضل والعدل والنُّبْل من سَلَفِكم.

وإنْ نَبَا الزمانُ برجل منكم فاعطفوا عليه وواسُوه، حتى يرجع إليه حاله، ويَثُوب إليه أمره، وإنْ أَقعد أحدًا منكم الكبر عن مكسبه ولقاء إخوانه، فزوروه وعظموه وشاوروه، واسْتَظْهروا بفضل تجربته وقديم معرفته، وليكن الرجل منكم على من اصطنعه واستظهر به ليوم حاجته إليه أحوطَ منه على ولده وأخيه، فإن عرَضَت في الشُّغْل مَحْمَدةٌ فلا يصرفْها إلَّا إلى صاحبه، وإن عرضت مَذَمَّة فليحمِلْها هو من دونه، وليحذَرِ السَّقطة والزَّلَّة، والملل عند تغير الحال، فإن العيب إليكم معشرَ الكتاب أسرع منه إلى الفِراء، وهو لكم أفسد منه لها، فقد علمتم أن الرجل منكم إذا صحبه من يبذل له من نفسه ما يجب له عليه من حقه، فواجبٌ عليه أن يعتقد له من وفائه، وشكره، واحتماله، ونصيحته، وكتمان سره، وتدبير أمره، ما هو جزاءٌ لحقه، ويُصدِّق ذلك فعلُه عند الحاجة إليه، والاضطرار إلى ما لديه. فاستشعروا ذلك — وفقكم الله — من أنفسكم في حالة الرخاء والشدة والحرمان والمواساة والإحسان والسراء والضراء، فنِعْمَت الشِّيمة هذه لمن وُسِم بها من أهل هذه الصناعة الشريفة! وإذا وَلِي الرجل منكم، أو صُيِّر إليه من أمر خلق الله وعياله أمرٌ، فليراقب الله — عز وجل — وليُؤْثِر طاعته، وليكن على الضعيف رفيقًا، وللمظلوم منصفًا، فإن الخلق عيال الله، وأحبهم إليه أرفقهم بعياله. ثم ليكن بالعدل حاكمًا، وللأشراف مُكرِمًا، وللْفيء موفِّرًا، وللبلاد عامرًا، وللرعية متألِّفًا، وعن أذاهم متخلِّفًا، وليكن في مجلسه متواضعًا حليمًا، وفي سجلات خراجه واستقضاء حقوقه دقيقًا. وإذا صحب أحدكم رجلًا فليختبر خلائقه، فإذا عرف حَسَنَها وقبيحها أعانه على ما يوافقه من الحَسَن واحتال على صرفه عما يَهْواه من القبيح بألطف حيلة، وأجمل وسيلة. وقد علمتم أن سائس البهيمة إذا كان بصيرًا بسياستها التمس معرفة أخلاقها، فإن كانت رَمُوحًا لم يَهِجْها إذا ركبها، وإن كانت شَبُوبًا اتَّقاها من بين يديها، وإن خاف منها شُرُودًا تَوَقَّاها من ناحية رأسها، وإن كانت حَرُونًا قَمَع بِرِفْقٍ هواها في طُرُقها، فإن استمرت عطفها يسيرًا فيَسْلَس له قِيَادها، وفي هذا الوصف من السياسة دلائل لمن ساس الناس وعاملهم، وجرَّبهم وداخلهم.

والكاتب — لفضل أدبه، وشريف صنعته، ولطيف حيلته، ومعاملته لمن يحاوله من الناس ويناظره، ويفهم عنه أو يخاف سطوته — أوْلى بالرفق لصاحبه ومداراته وتقويم أَوَده من سائس البهيمة التي لا تُحِير جوابًا، ولا تعرف صوابًا، ولا تفهم خطابًا، إلِّا بقدر ما يصيِّرها إليه صاحبها الراكب عليها. ألَا فارْفُقوا — رحمكم الله — في النظر، وأَعْمِلوا ما أمكنكم فيه من الرَّوِيَّة والفكر تأمنوا بإذن الله ممن صحبتموه النَّبْوة والاستثقال والجفوة، ويصير منكم إلى الموافقة، وتصيروا منه إلى المؤاخاة والشفقة، إن شاء الله. ولا يُجاوزنَّ الرجل منكم في هيئة مجلسه، وملبسه، ومركبه، ومطعمه، ومشربه، وخَدَمه وغير ذلك من فنون أمره؛ قدر حقه، فإنكم مع ما فضَّلكم الله به من شرف صنعتكم خَدَمةٌ لا تُحْمَلون في خدمتكم على التقصير، وحَفَظَةٌ لا تُحْتمل منكم أفعال التضييع والتبذير. واستعينوا على أفعالكم بالقصد في كل ما ذكرته لكم، وقصصته عليكم، واحذروا مَتَالف السَّرَف، وسوء عاقبة الترف، فإنهما يُعْقبان الفقر، ويُذِلَّان الرِّقاب، ويفضحان أهلهما، ولا سيما الكتَّاب، وأرباب الآداب.

وللأمور أشباه، وبعضها دليل على بعض، فاستدِلُّوا على مُؤْتَنَف أعمالكم بما سبقت إليه تجربتكم، ثم اسلكوا من مسالك التدبير أوضحها مَحَجَّة وأصدقها حجة وأحمدها عاقبة. واعلموا أن للتدبير آفةً مُتْلفة، وهو الوصف الشاغل لصاحبه عن إنفاذ علمه ورَوِيَّته، فليقصد الرجل منكم في مجلسه قصد الكافي في منطقه، وليوجز في ابتدائه وجوابه، وليأخذ بمجامع حججه، فإن ذلك مصلحة لفعله، ومَدْفَعة للشاغل عن إكثاره، وليضرع إلى الله في صلة توفيقه وإمداده بتسديده، مخافة وقوعه في الغلط المضر ببدنه وعقله وأدبه، فإنه إن ظن منكم ظانٌّ أو قال قائل إن الذي برز من جميل صَنْعته وقوة حركته إنما هو بفضل حيلته وحسن تدبيره، فقد تعرض بحسن ظنه أو مقالته إلى أن يَكِلَه الله — عز وجل — إلى نفسه، فيصير منها إلى غير كافٍ، وذلك على من تأمله غير خافٍ. ولا يقل أحدٌ منكم إنه أبصر بالأمور وأحمل لأعباء التدبير من مُرافِقه في صناعته ومُصاحبه في خدمته، فإن أعقل الرجلين عند ذوي الألباب من رَمَى بالعُجْب وراء ظهره ورأى أن أصحابه أعقل منه وأجمل في طريقته، وعلى كل واحد من الفريقين أن يعرف فضل نعم الله — جل ثناؤه — من غير اغترار برأيه، ولا تزكية لنفسه، ولا يُكاثر على أخيه أو نظيره، وصاحبه وعشِيره.

وحمد الله واجبٌ على الجميع، وذلك بالتواضع لعظمته والتذلل لعزته، والتحدث بنعمته. وأنا أقول في كتابي هذا ما سبق به المثل: مَنْ تَلْزَمه النصيحة يَلْزَمه العمل، وهو جوهر هذا الكتاب وغُرَّة كلامه بعد الذي فيه من ذكر الله — عز وجل — فلذلك جعلته آخره، وتمَّمته به، تولَّانا الله وإياكم يا معشر الطلبة والكَتَبَة بما يتولى به من سبق علمُه بإسعاده وإرشاده، فإن ذلك إليه وبيده! والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

https://k.top4top.io/p_2007qrxtc1.png


عطر الجنة 07-01-2021 06:00 AM

رد: أدبيات اللغة العربية
 


https://k.top4top.io/p_2007qrxtc1.png



(١١٢) مُشاورة المهدي لأهل بيته في حرب خُراسان


قال ابن عبد ربه في «العِقد الفريد»:
هذا ما تراجع فيه المهدي ووزراؤه، وما دار بينهم من تدبير الرأي في حرب خراسان أيامَ تَحَامَلَت عليهم العمال وأَعْنَفت، فحملتهم الدالَّة وما تقدم لهم من المكانة على أن نكثوا بيعتهم، ونقضوا مَوْثِقَهم، وطردوا العمال، والْتَوَوْا بما عليهم من الخراج. وحمل المهدي ما يحب من مصلحتهم ويكره من عَنَتِهم على أن أقال عثرتهم، واغتفر زلتهم، واحتمل دالَّتَهم؛ تطوُّلًا بالفضل، واتساعًا بالعفو، وأخذًا بالحجة، ورفقًا بالسياسة، ولذلك لم يزل مُذْ حمَّله الله أعباء الخلافة وقلده أمور الرعية رفيقًا بمَدار سلطانه، بصيرًا بأهل زمانه، باسِطًا للْمَعْدَلة في رعيته، تسكن إلى كنفه، وتأنس بعفوه، وتثق بحلمه، فإذا وقعت الأقضية اللازمة والحقوق الواجبة، فليس عنده هوادة ولا إغضاء ولا مداهنة؛ أَثَرَةً للحق، وقيامًا بالعدل، وأخذًا بالحزم.

فدعا أهلَ خُراسان الاغترارُ بحلمه والثقة بعفوه أن كسَّروا الخراج، وطردوا العمال،
وسألوا ما ليس لهم من الحق، ثم خلطوا احتجاجًا باعتذار، وخصومةً بإقرار، وتنصُّلًا باعتلال، فلما انتهى ذلك إلى المهدي خرج إلى مجلس خلائه، وبعث إلى نفرٍ من لُحْمته ووزرائه،
فأعلمهم الحال، واستفهم للرعية، ثم أمر المَوَالِي بالابتداء، وقال للعباس بن محمد: أي عم، تَعَقَّبْ قولنا، وكن حَكَمًا بيننا.

وأرسل إلى ولديه موسى وهارون فأحضرهما الأمر، وشاركهما في الرأي، وأمر محمد بن الليث بحفظ مراجعتهم وإثبات مقالتهم في كتاب.

فقال «سلَّام» صاحب المَظَالم: أيها المهدي، إن في كل أمر غاية، ولكل قوم صناعة استفرغت رأيهم، واستغرقت أشغالهم، واستنفدت أعمارهم، وذهبوا بها وذهبت بهم، وعُرِفوا بها وعُرِفت بهم، ولهذه الأمور التي جعلْتنا فيها غاية وطلبتْ معونتنا عليها أقوام من أبناء الحرب، وساسة الأمور، وقادة الجنود، وفرسان الهَزَاهِز، وإخوان التَّجارب، وأبطال الوقائع، الذين رشَّحتْهم سجالُها، وفيَّأتْهم ظلالُها، وعضَّتهم شدائدها، وقَرَمَتْهم نواجذُها، فلو عَجَمْت ما قِبلهم، وكشفت ما عندهم، لوجدت نظائر تؤيد أمرك، وتجارب توافق نظرك، وأحاديث تقوِّي قلبك. فأما نحن معاشرَ عمالك وأصحاب دواوينك فحسنٌ بنا وكثيرٌ منا أن نقوم بثِقْل ما حمَّلتنا من عملك، واستودعتنا من أمانتك، وشغلتنا به من إمضاء عدلك وإنفاذ حكمك، وإظهار حقك.

فأجابه المهدي: إن في كل قومٍ حكمة، ولكلِّ زمانٍ سياسة، وفي كل حال تدبيرًا يبطل الآخِرُ الأوَّل، ونحن أعلم بزماننا وتدبير سلطاننا.

قال: نعم، أيها المهدي، أنت مُتَّبع الرأي، وثيق العُقدة، قوي المُنَّة، بليغ الفطنة، معصوم النية، محضور الرَّويَّة، مؤيَّد البديهة، موفَّق العزيمة، مُعَان بالظَّفَر، مهديٌّ إلى الخير، إنْ هممتَ ففي عزمك مواقع الظن، وإنِ اجتمعتَ صَدَع فعلُك مُلْتبسَ الشك، فاعزم يهدِ الله إلى الصواب قلبك، وقل يُنْطِق الله بالحق لسانك، فإن جنودك جمة، وخزائنك عامرة، ونفسك سخية، وأمرك نافذ.

فأجابه المهدي: إن المشاورة والمناظرة بابا رحمة ومِفتاحَا بركة، لا يَهْلك عليهما رأيٌ، ولا يَتَغَيَّل معهما حزم، فأشيروا برأيكم، وقولوا بما يَحْضُرُكم، فإني من ورائكم، وتوفيق الله من وراء ذلك.

قال الربيع: أيها المهدي، إن تصاريف وجوه الرأي كثيرة،
وإن الإشارة ببعض معاريض القول يسيرة، ولكن خراسان أرضٌ بعيدة المسافة، متراخية الشُّقَّة، متفاوتة السبيل، فإذا ارتأيتَ من محكم التدبير، ومُبْرَم التقدير، ولباب الصواب رأيًا قد أحكمه نظرك، وقلَّبه تدبيرك، فليس وراءه مذهب طاعن، ولا دونه مَعْلَقٌ لخصومة عائب، ثم أجبْتَ البُرُد به، وانطوت الرسل عليه؛ كان بالْحَرَى ألَّا يصل إليهم مُحْكَمُه إلَّا وقد حدث منهم
ما ينقضه، فما أيسر أن ترجع إليك الرسل وتَرِد عليك الكتب بحقائق أخبارهم، وشوارد
آثارهم، ومصادر أمورهم، فتُحدث رأيًا غيره، وتبتدع تدبيرًا سواه. وقد انفرجت الحِلَق
وتحلَّلت العقد، واسترخى الحِقَاب وامتد الزمان، ثم لعلَّما موقع الآخرة كمصدر الأولى، ولكن الرأي لك أيها المهدي — وفقك الله — أن تصرف إجالة النظر وتقليب الفِكَر فيما جمعتنا له واستشرتنا فيه من التدبير لحربهم والحِيَل في أمرهم، إلى الطلب لرجلٍ ذي دين فاضل، وعقل كامل، وورع واسع، ليس موصوفًا بهوًى في سواك، ولا متَّهمًا في أَثَرَة عليك، ولا ظَنِينًا على دُخْلةٍ مكروهة، ولا منسوبًا إلى بدعة محذورة، فيقدح في مُلكك، ويُريض الأمور لغيرك. ثم تُسْند إليه أمورهم، وتفوِّض إليه حربهم، وتأمره في عهدك ووصيتك إياه بلزوم أمرك ما لَزِمه الحزم، وخلاف نهيك إذا خالفه الرأي عند استحالة الأمور واشتداد الأحوال، التي يَنْقضُّ أمر الغائب عنها، ويثبُت رأي الشاهد لها. فإنه إذا فعل ذلك فواثَب أمرهم من قريب، وسقط عنه ما يأتي من بعيد، تمت الحيلة، وقويَت المكيدة، ونَفَذ العمل، وأُحِدَّ النظر إن شاء الله.

قال الفضل بن العباس: أيها المهدي، إن وليَّ الأمور،
وسائس الحروب، ربما نحَّى جنوده، وفرَّق أمواله في غير ما ضِيق أمر حَزَبَه، ولا ضَغْطة
حالٍ اضطرته، فيقعد عند الحاجة إليها وبعد التفرقة لها عديمًا منها، فاقدًا لها، لا يثق بقوة،
ولا يصول بعُدَّة، ولا يفزع إلى ثقة. فالرأي لك أيها المهدي — وفقك الله — أن تُعْفي خزائنك من الإنفاق للأموال، وجنودك من مكابدة الأسفار، ومقارعة الأخطار، وتغرير القتال،
ولا تسرع للقوم في الإجابة إلى ما يطلبون والعطاء لما يسألون، فيفسُد عليك أدبُهم، وتجرِّئ
من رعيتك غيرهم، ولكن اغْزُهم بالحيلة، وقاتلهم بالمكيدة، وصارِعْهم باللِّين، وخاتِلْهم بالرفق، وأبرق لهم بالقول، وأرْعِد نحوهم بالفعل، وابعث البعوث، وجنِّد الجنود، وكَتِّب الكتائب، واعقد الألوية، وانصِب الرايات، وأَظْهِر أنك موجِّه إليهم الجيوش مع أحنق قوَّادك عليهم، وأسوئهم أثرًا فيهم، ثم ادسُس الرسل، وابثُث الكتب، وضَعْ بعضهم على طمع من وعدك، وبعضًا على خوف من وعيدك، وأوْقد بذلك وأشباهه نيران التحاسد فيهم، واغرس أشجار التنافس بينهم، حتى تملأ القلوب من الوحشة، وتنطوي الصدور على البِغْضة، ويدخل كلًّا من كلٍّ الحذر والهيبة، فإن مرام الظَّفَر بالغِيلة، والقتال بالحيلة، والمُناصبة بالكتب، والمُكايدة بالرُّسل، والمُقارعة بالكلام اللطيف المُدْخَل في القلوب، القويِّ الموقع من النفوس، المعقود بالحجج، الموصول بالحيل، المبني على اللين، الذي يستميل القلوب، ويسترقُّ العقول والآراء، ويستميل الأهواء، ويستدعي المُواتاة؛ أنفذُ من القتال بظُبَات السيوف وأسنَّة الرماح. كما أن الوالي الذي يستنزل طاعة رعيته بالحيل، ويُفرِّق كلمة عدوه بالمكايدة، أحكمُ عملًا وألطف منظرًا وأحسن سياسةً من الذي لا ينال ذلك إلا بالقتال، والإتلاف للأموال، والتغرير والخِطَار. وليعلم المهدي أنه إن وجَّه لقتالهم رجلًا، لم يسِرْ لقتالهم إلا بجنود كثيفة تخرج عن حال شديدة، وتُقدم على أسفارٍ ضيقة، وأموالٍ متفرقة، وقواد غَشَشَة، إنِ ائْتمنهم استنفدوا ماله، وإنِ استنصحهم كانوا عليه لا له.

قال المهدي: هذا رأيٌ قد أسفر نوره، وأبرق ضَوْءُه، وتمثَّل صوابه للعيون، ومَجُد حقُّه في القلوب، ولكن فوق كل ذي علم عليم. ثم نظر إلى ابنه علي فقال: ما تقول؟

قال علي: أيها المهدي، إن أهل خراسان لم يخلعوا عن طاعتك، ولم يَنْصِبوا من دونك أحدًا يقدح في تغيير ملكك، ويُريض الأمور لفساد دولتك، ولو فعلوا لكان الخطب أيسر، والشأن أصغر، والحال أدلَّ؛ لأن الله مع حقه الذي لا يَخْذُله، وعند موعده الذي لا يُخْلفه، ولكنهم قوم من رعيتك، وطائفة من شيعتك، الذين جعلك الله عليهم واليًا، وجعل العدل بينك وبينهم حاكمًا، طلبوا حقًّا، وسألوا إنصافًا، فإن أَجبت إلى دعوتهم، ونفَّست عنهم قبل أن يتلاحم منهم حال، أو يحدث من عندهم فَتْق، أطعت أمر الرب، وأطفأت ثائرة الحرب، ووفَّرت خزائن المال، وطرحت تغرير القتال، وحَمَل الناس محمل ذلك على طبيعة جودك وسجية حلمك، وإسْجَاح خليقتك، ومَعْدَلة نظرك، فأَمِنْت أن تُنْسَب إلى ضُعْف، وأن يكون ذلك فيما بقي دُرْبَةً. وإنْ منعتهم ما طلبوا، ولم تجبهم إلى ما سألوا، اعتدلتْ بك وبهم الحال، وساويتهم في ميدان الخطاب. فما أرَبُ المهدي أن يَعْمِد إلى طائفةٍ من رعيته، مقرِّين بمَمْلكته، مذعنين بطاعته، لا يُخرجون أنفسهم عن قدرته، ولا يُبَرِّئونها من عبوديته، فيُمَلِّكهم أنفسهم، ويخلع نفسه عنهم، ويقف على الحيل معهم، ثم يجازيهم السوء في حدِّ المنازعة، ومضمار المخاطرة؟ أيريد المهدي — وفقه الله — الأموال؟ فلعمري لا ينالها ولا يظفر بها إلا بإنفاق أكثر منها مما يطلُب منهم، وأضعاف ما يدَّعي قِبلهم، ولو نالها فحُملت إليه، أو وُضِعت بخرائطها بين يديه، ثم تجافى لهم عنها، وطال عليهم بها؛ لكان مما إليه يُنسَب وبه يُعرف من الجود الذي طبعه الله عليه، وجعل قرَّة عينه ونَهْمَة نفسه فيه.

فإن قال المهدي: هذا رأيٌ مستقيم سديد في أهل الخراج الذين شَكَوْا ظلم عُمَّالنا وتحامُل وُلاتنا، فأما الجنود الذين نقضوا مواثيق العهود، وأنطقوا لسان الإرجاف، وفتحوا باب المعصية، وكسَّروا قيد الفتنة، فقد ينبغي لهم أن أجعلهم نكالًا لغيرهم، وعظةً لسواهم؛ فيعلم المهدي أنه لو أُتِى بهم مَغْلولين في الحديد، مُقرَّنين في الأصفاد، ثم اتَّسع لحقن دمائهم عفوُه، ولإقالة عثرتهم صفحُه، واستبقاهم لما هم فيه من حزْبه، أو لمن بإزائهم من عدوِّه، لمَا كان بِدْعًا من رأيه، ولا مُسْتَنْكرًا من نظره. لقد علمت العرب أنه أعظم الخلفاء والملوك عفوًا، وأشدُّها وقعًا، وأصدقها صولة، وأنه لا يتعاظمه عفو ولا يَتَكَاءَدُه صفح، وإنْ عظم الذنب وجلَّ الخطب؛ فالرأي للمهدي — وفقه الله تعالى — أن يَحُلَّ عقدة الغيظ بالرجاء لِحُسن ثواب الله في العفو عنهم، وأن يذكر أُولَى حالاتهم وضَيْعَة عِيالاتهم، بِرًّا بهم، وتَوَسُّعًا لهم، فإنَّهم إخوان دولته، وأركان دعوته، وأساس حقه، الذين بعزتهم يصول، وبحجتهم يقول. وإنما مَثَلُهم فيما دخلوا فيه من مساخِطِه، وتعرَّضوا له من معاصيه، وانْطَوَوْا فيه عن إجابته، ومَثَلُه في قلَّة ما غيَّر ذلك من رأيه فيهم، أو نُقِل من حاله لهم، أو تغيَّر من نعمته بهم؛ كمَثَل رجلين أخوين متناصرين متوازرين، أصاب أحدهما خَبْلٌ عارض، ولهوٌ حادث، فنهض إلى أخيه بالأذى، وتحامل عليه بالمكروه، فلم يزْدد أخوه إلا رِقَّةً له، ولُطْفًا به، واحتيالًا لمداواة مرضه، ومراجعة حاله، عطفًا عليه، وبِرًّا به، ومَرْحَمة له.

فقال المهدي: أمَّا عليٌّ فقد كَوَى سمت اللَّبَان، وفض القلوب في أهل خراسان، ولكل نبأ مستقر. فقال: ما ترى يا أبا محمد؟ يعني موسى ابنه.

فقال موسى: أيها المهدي، لا تسكُنْ إلى حلاوة ما يجري من القول على ألسنتهم، وأنت ترى الدماء تسيل من خَلَل فعلهم. الحال من القوم يُنادي بمَضْمَرة شر، وخفِيَّة حقد، قد جعلوا المعاذير عليها سترًا، واتخذوا العلل من دونها حجابًا؛ رجاء أن يُدَافعوا الأيام بالتَّأخير، والأمور بالتطويل، فيكسِروا حيل المهدي فيهم، ويُفنُوا جنوده عنهم حتى يتلاحم أمرهم، وتتلاحق مادَّتهم، وتَسْتَفحل حربهم، وتستمر الأمور بهم، والمهديُّ من قولهم في حال غِرَّة، ولباس أَمَنَة، قد فَتَرَ لها، وأَنِس بها، وسكن إليها. ولولا ما اجتمعتْ به قلوبهم، وبَرَدَت عليه جلودهم من المُنَاصبة بالقتال، والإضمار للْقِراع عن داعية ضلال أو شيطان فساد؛ لَرَهِبوا عواقب أخبار الوُلَاة، وغِبَّ سكون الأمور، فلْيَشدُدِ المهدي — وفقه الله — أزْرَه لهم، ويُكتِّب كتائبه نحوهم، وليضع الأمر على أشد ما يحضره فيهم، وليوقن أنه لا يعطيهم خطةً يريد بها صلاحهم إلا كانت دُربة إلى فسادهم، وقوةً على معصيتهم، وداعيةً إلى عودتهم، وسببًا لفساد من بحضرته من الجنود، ومن ببابه من الوفود الذين أقرَّهم وتلك العادة، وأجراهم على ذلك الأَرَب، ولم يَبْرح في فتق حادث، وخلاف حاضر، لا يصلُح عليه دين، ولا تستقيم به دنيا. وإن طلب تغييره بعد استحكام العادة، واستمرار الدُّرْبَة، لم يصل إلى ذلك إلَّا بالعقوبة المُفْرطة، والمُؤْنة الشديدة. والرأي للمهدي — وفقه الله — أن لا يُقيل عثرتهم، ولا يقبل معذرتهم، حتى تطأهم الجيوش، وتأخذهم السيوف، ويَسْتَحِرَّ بهم القتل، ويُحْدِق بهم الموت، ويحيط بهم البلاء، ويُطْبِق عليهم الذل، فإن فعل المهدي بهم ذلك كان مَقْطَعَةً لكل عادة سوء فيهم، وهزيمةً لكل بادرة شرٍّ فيهم، واحتمال المهدي في مؤونة غزوتهم هذه تضع عنه غزواتٍ كثيرة ونفقات عظيمة.

قال المهدي: قد قال القوم، فاحكم يا أبا الفضل.

فقال العباس بن محمد: أيها المهدي، أما «المَوَالِي» فأخذوا بفروع الرأي، وسلكوا جنبات الصواب، وتعدَّوْا أمورًا قصَّر بنظرهم عنها أنه لم تأت تجاربهم عليها. وأما «الفضل» فأشار بالأموال ألَّا تُنفق، والجنود ألَّا تفرَّق، وبأن لا يعطى القوم ما طلبوا، ولا يُبْذل لهم ما سألوا، وجاء بأمرٍ بين ذلك، استصغارًا لأمرهم واستهانةً بحربهم، وإنما يَهِيج جَسيمات الأمور صغارُها. وأما «عليٌّ» فأشار باللين وإفراط الرفق. وإذا جرَّد الوالي لمن غَمِط أمره وسفِه حقَّه اللِّين بحتًا والخير محضًا، لم يخلطهما بشدة تعطف القلوب عن لينه، ولا بشَرٍّ يحبسهم إلى خيره؛ فقد ملَّكهم الخلع لعذرهم ووسَّع لهم الفُرجة لثَنْى أعناقهم. فإن أجابوا دعوته وقبلوا لينه من غير خوف اضطرهم ولا شدة، فَنَزْوَةٌ في رءوسهم، يستدعون بها البلاء إلى أنفسهم، ويستصرخون بها رأي المهدي فيهم. وإن لم يقبلوا دعوته ويسرعوا لإجابته باللِّين المحض والخير الصُّراح، فذلك ما عليه الظن بهم والرأي فيهم وما قد يشبه أن يكون من مِثْلهم؛ لأن الله — تعالى — خلق الجنة وجعل فيها من النعيم المقيم والمُلْك الكبير ما لا يخطر على قلب بشر، ولا تدركه الفِكَر، ولا تعلمه نفس، ثم دعا الناس إليها ورغَّبهم فيها، فلولا أنه خلق نارًا جعلها لهم رحمةً يسوقهم بها إلى الجنة، لمَا أجابوا ولا قبِلوا.

وأما «موسى» فأشار بأن يُعْصَبوا بشدةٍ لا لين فيها، وأن يُرْمَوْا بشرٍّ لا خير معه. وإذا أضمر الوالي لمن فارق طاعته وخالف جماعته الخوفَ مفردًا والشر مجردًا ليس معهما طمع ولا لين يثنيهم، اشتدت الأمور بهم، وانقطعت الحال منهم إلى أحد أمرين: إما أن تدخلهم الحميَّة من الشدة، والأَنَفَة من الذِّلَّة، والامتعاض من القهر، فيدعوهم ذلك إلى التمادي في الخلاف، والاستبسال في القتال، والاستسلام للموت، وإما أن ينقادوا بالكُره، ويُذعنوا بالقهر، على بِغْضةٍ لازمة، وعداوة باقية، تورث النفاق، وتُعْقِب الشقاق، فإذا أمكنتهم فرصة، أو ثَابَتْ لهم قدرة، أو قَوِيت لهم حالٌ، عاد أمرهم إلى أصعب وأغلظ وأشد مما كان.

وقال في قول الفضل: أيها المهدي، أكْفَى دليل، وأوضح برهان، وأبين خبر بَانَ، قد أجمع رأيه، وحَزُم نظره على الإرشاد ببعثة الجيوش إليهم، وتوجيه البعوث نحوهم، مع إعطائهم ما سألوا من الحق، وإجابتهم إلى ما سألوه من العدل.

قال المهدي: ذلك رأيٌ.

قال هارون: ما خُلطت الشدة — أيها المهدي — باللِّين فصارت الشدة أمرَّ فِطامٍ لمَا تكره، وعاد اللين أهدى قائد إلى ما تحب، ولكن أرى غير ذلك.

قال المهدي: لقد قلت قولًا بديعًا، وخالفت فيه أهل بيتك جميعًا، والمرء مؤتمَن بما قال وظَنِين بما ادَّعى، حتى يأتي ببينة عادلة، وحجة ظاهرة، فاخرُج عما قلت.

قال هارون:
أيها المهدي، إن الحرب خُدعة، والأعاجم قومٌ مَكَرة، وربما اعتدلت الحال بهم، واتفقت الأهواء منهم، فكان باطن ما يُسِرُّون على ظاهر ما يعلنون، وربما افترقت الحالان، وخالف القلبَ اللسان، فانطوى القلب على محجوبة تُبْطن، واستسرَّ بمدْخولة لا تُعلن، والطبيب الرفيق بطبِّه، البصير بأمره، العالم بمُقَدَّم يده، وموضع مِيسمه، لا يتعجل بالدواء حتى يقع على معرفة الداء. فالرأي للمهدي — وفقه الله — أن يَفِرَّ باطن أمرهم فَرَّ المُسِنَّة، ويَمْخَض ظاهر حالهم مَخْض السِّقاء، بمتابعة الكتب، ومظاهرة الرسل، وموالاة العيون، حتى تُهتك حُجُب عيونهم، وتُكشف أغطية أمورهم. فإن انفرجت الحال وأفضت الأمور به إلى تغيير حال أو داعية ضلال، اشتملت الأهواء عليه وانقاد الرجال إليه، وامتدَّت الأعناق نحوه بدين يعتقدونه وإثم يستحلُّونه؛ عَصَبَهم بشدةٍ لا لين فيها، ورماهم بعقوبة لا عفو معها، وإنِ انفرجت العيون، واهتُصرت السُّتور، ورُفعت الحُجُب، والحال فيهم مَرِيعة، والأمور بهم معتدلة في أرزاق يطلبونها، وأعمال ينكرونها، وظُلَامات يَدَّعُونها، وحقوقٍ يسألونها بماتَّة سابقتهم ودالَّة مُناصحتهم؛ فالرأي للمهدي — وفقه الله — أن يتسع لهم بما طلبوا، ويتجافى لهم عما كرهوا، ويَشْعَب من أمرهم ما صدعوا، ويَرْتُق من فتقهم ما قطعوا، ويُولِّي عليهم من أحبُّوا، ويداوي بذلك مرض قلوبهم، وفساد أمورهم، فإنما المهدي وأمته وسواد أهل مملكته بمنزلة الطبيب الرفيق، والوالد الشفيق، والراعي المُجرِّب الذي يحتال لمرابض غنمه، وضوالِّ رعيته، حتى يُبرئ المريضة من داء علتها، ويرد الصحيحة إلى أُنْس جماعتها.

ثم إن خراسان بخاصة الدين لهم دالَّة محمولة، وماتَّة مقبولة، ووسيلة معروفة، وحقوق واجبة؛ لأنهم أيدي دولته، وسيوف دعوته، وأنصار حقه، وأعوان عدله، فليس من شأن المهدي الاضطِغان عليهم، ولا المؤاخذة لهم، ولا التَّوْغِير بهم، ولا المكافأة بإساءتهم؛ لأن مبادرة حسم الأمور ضعيفة قبل أن تقوى ومحاولة قطع الأصول ضئيلة قبل أن تغلُظ، أحزمُ في الرأي وأصح في التدبير من التأخير لها والتهاون بها حتى يلتئم قليلها بكثيرها وتجتمع أطرافها إلى جمهورها.

قال المهدي: ما زال هارون يقع وقع الحيا حتى خرج خروج القِدْح من الماء، وانسلَّ انسلال السيف فيما ادَّعى، فدَعُوا ما سبق موسى فيه أنه هو الرأي، وثنَّى بعده هارون، ولكن من لأعنَّة الخيل وسياسة الحرب وقادة الناس، إن أمعن بهم اللَّجَاج وأفرطت بهم الدالَّة؟

قال صالح: لسنا نبلغ — أيها المهدي — بدوام البحث وطول الفكر أدنى فراسة رأيك وبعض لحظات نظرك، وليس ينفضُّ عنك من بيوتات العرب ورجال العجم ذو دين فاضل ورأي كامل، وتدبير قوي، تقلِّده حربك، وتستودعه جندك، ممن يحتمل الأمانة العظيمة، ويضطلع بالأعباء الثقيلة. وأنت — بحمد الله — ميمون النقيبة، مبارك العزيمة، مَخْبور التجارب، محمود العواقب، معصوم العزم، فليس يقع اختيارك ولا يقف نظرك على أحد تولِّيه أمرك وتُسند إليه ثغرك إلا أراك الله ما تحب وجمع لك منه ما تريد.

قال المهدي: إني لأرجو ذلك؛ لقديم عادة الله فيه، وحسن معونته عليه، ولكن أحب الموافقة على الرأي، والاعتبار للمشاورة في الأمر المهم.

قال محمد بن الليث: أهل خراسان — أيها المهدي — قومٌ ذَوُو عزة ومنعة، وشياطين خَدَعة، زُروع الحمية فيهم نابتة، وملابس الأَنَفَة عليهم ظاهرة، فالرَّوِيَّة عنهم عازبة، والعَجَلَة عنهم حاضرة، تسبق سيولُهم مطرَهم، وسيوفُهم عَذَلَهم؛ لأنهم بين سِفْلَة لا يعدو مبلغ عقولهم منظر عيونهم، وبين رؤساء لا يُلْجَمون إلَّا بشدة ولا يُفْطمون إلَّا بالمُرِّ، وإنْ ولَّى المهدي عليهم وضيعًا لم تَنْقَدْ له العظماء، وإنْ ولَّى أمرهم شريفًا تحامل على الضعفاء، وإنْ أخَّر المهديُّ أمرهم ودافع حربهم حتى يصيب لنفسه من حشمه ومواليه أو بني عمه أو بني أبيه، ناصحًا يتفق عليه أمرهم، وثقةً تجتمع له أَمْلَاؤهم، بلا أنفة تلزمهم، ولا حمية تَدْخُلهم، ولا مصيبة تُنفِّرهم؛ تنفَّست الأيام بهم، وتراخت الحال بأمرهم، فدخل بذلك من الفساد الكبير والضياع العظيم ما لا يتلافاه صاحبُ هذه الصفة وإن جَدَّ، ولا يستصلحه وإن جَهَد، إلا بعد دهر طويل، وشر كبير.

وليس المهدي — وفقه الله — فاطمًا عاداتهم ولا قارعًا صَفَاتَهم بمثل أحد رجلين لا ثالث لهما، ولا عِدْل في ذلك بهما: أحدهما لسانٌ ناطق موصول بسمعك، ويدٌ ممثِّلة لعينك، وصخرة لا تُزَعْزع، وبُهْمَة لا تُثْنَى، وبازِلٌ لا يُفزعه صوت الجُلْجُل، نقي العِرض، نزيه النفس، جليل الخطر، قد اتَّضعت الدنيا عن قدره، وسما نحو الآخرة بهمَّته، فجعل الغرض الأقصى لعينه نُصْبًا، والغرض الأدنى لقدمه موطئًا، فليس يَقْبل عملًا ولا يتعدَّى أملًا، وهو رأس مواليك، وأنصح بني أبيك، رجل قد غُذِّي بلطيف كرامتك، ونبت في ظل دولتك، ونشأ على قوائم أدبك، فإن قَلَّدته أمرهم، وحمَّلته ثِقْلهم، وأسندت إليه ثغرهم؛ كان قُفْلًا فتحه أمرك، وبابًا أغلقه نَهْيُك، فجعل العدل عليه وعليهم أميرًا، والإنصاف بينه وبينهم حاكمًا.

وإذا حكم المَنْصَفة وسلك المَعْدَلة فأعطاهم ما لهم وأخذ منهم ما عليهم، غرس في الذي لك بين صدورهم، وأسكن لك في السُّويداء داخل قلوبهم طاعةً راسخة العروق، باسقة الفروع، متماثلةً في حواشي عَوَامِّهم، متمكنة من قلوب خواصِّهم، فلا يبقى فيهم ريبٌ إلَّا نَفَوْه، ولا يلزمهم حق إلَّا أدُّوه، وهذا أحدهما. والآخر عُودٌ من غَيْضَتك، ونَبْعَةٌ من أُرُومَتك، فتيُّ السن، كهل الحِلْم، راجح العقل، محمود الصَّرَامة، مأمون الخلاف، يجرِّد فيهم سيفه، ويبسط عليهم خيره بقدر ما يستحقون، وعلى حسب ما يستوجبون، وهو فلان أيها المهدي، فسلِّطْه — أعزك الله — عليهم، ووجِّهْه بالجيوش إليهم، ولا تمنعْك ضراعة سِنِّه وحداثة مولده؛ فإنَّ الحِلْم والثقة مع الحداثة خيرٌ من الشك والجهل مع الكهولة. وإنما أحداثكم — أهلَ البيت — فيما طبعكم الله عليه واختصَّكم به من مكارم الأخلاق، ومحامد الفعال، ومحاسن الأمور، وصواب التدبير، وصرامة الأنفس؛ كفِراخِ عِتاق الطير المحكِمة لأخذ الصيد بلا تدريب، والعارفة لوجوه النفع بلا تأديب، فالحِلْم والعلم والعزم والحزم والجود والتُّؤدة والرفق ثابتٌ في صدوركم، مزروع في قلوبكم، مُسْتحكِم لكم، متكامل عندكم، بطبائع لازمة وغرائز ثابتة.

قال معاوية بن عبد الله: فِتَاءُ أهل بيتك — أيها المهدي — في الحلم على ما ذُكر، وأهل خراسان في حال عز على ما وُصف، ولكن إن ولَّى المهديُّ عليهم رجلًا ليس بقديم الذِّكر في الجنود، ولا بنَبِيه الصوت في الحروب، ولا بطويل التجربة للأمور، ولا بمعروف السياسة للجيوش والهيبة في الأعداء؛ دخل ذلك أمران عظيمان وخطران مَهُولان: أحدهما أن الأعداء يَغْتَمزونها منه، ويحتقرونها فيه، ويجترئون بها عليه في النهوض به والمقارعة له والخلاف عليه، قبل الاختبار لأمره والتكشُّف لحاله والعلم بطباعه. والأمر الآخر أن الجنود التي يقود، والجيوش التي يسوس، إذا لم يختبروا منه البأس والنجدة ولم يعرفوه بالصِّيت والهيبة، انكسرت شجاعتهم، وماتت نجدتهم، واستأخرت طاعتهم إلى حين اختبارهم ووقوع معرفتهم، وربما وقع البوار قبل الاختبار. وبباب المهدي — وفقه الله — رجل مَهيب نَبِيه حَنيك صَيِّتٌ، له نسب زاكٍ وصوت عالٍ، قد قاد الجيوش وساس الحروب، وتألَّف أهل خراسان واجتمعوا عليه بالمِقَة ووثقوا به كل الثقة، فلو ولَّاه المهدي أمرَهم لكفاه الله شرهم.

قال المهدي: جانبت قصد الرَّميَّة، وأبيت إلَّا عصبية، إذْ رأي الحَدَث من أهل بيتنا كرأي عشرة حُلماء من غيرنا، ولكن أين تركتم ولي العهد؟

قالوا: لم يمنعنا من ذكره إلا كونه شبيه جَدِّه، ونسيج وَحْدِه، ومن الدين وأهله بحيث يقصر القول عن أدنى فضله، ولكن وجدنا الله — عز وجل — حجب عن خلقه وستر من دون عباده علم ما تختلف به الأيام، ومعرفة ما تجري عليه المقادير من حوادث الأمور، وريب المنون المُخْتَرِمة لخوالي القرون ومواضي الملوك، فكرِهنا شُسُوعه عن مَحَلَّة المُلْك ودار السلطان، ومقر الإمامة والولاية، وموضع المدائن والخزائن، ومستقر الجنود، ومعدِن الجود، ومَجْمَع الأموال، التي جعلها الله قطبًا لمدار المُلك، ومِصْيَدَة لقلوب الناس، ومثابة لإخوان الطمع، وثوَّار الفتن، ودواعي البدع، وفرسان الضلال، وأبناء الموت، وقلنا: إن وجَّه المهدي ولَّى عهده فحدث في جيوشه وجنوده ما قد حدث بجنود الرسل من قبله، لم يستطع المهدي أن يُعْقبهم بغيره، إلَّا أنْ يَنْهَدَ إليهم بنفسه، وهذا خطر عظيم وهول شديد إن تنفست الأيام بمقامه، واستدارت الحال بإمامه، حتى يقع عوض لا يُسْتَغْنى عنه، أو يحدث أمر لا بد منه، صار ما بعده مما هو أعظم هولًا وأجل خطرًا له تبعًا وبه متصلًا.

قال المهدي: الخطب أيسر مما تذهبون إليه، وعلى غير ما تصفون الأمر عليه، نحن أهل البيت نجري من أسباب القضايا ومواقع الأمور على سابقٍ من العلم ومحتوم من الأمر، قد أنْبأت به الكتب، ونبَّأَت عليه الرسل، وقد تناهى ذلك بأجمعه إلينا، وتكامل بحذافيره عندنا، فبه نُدبِّر، وعلى الله نتوكل. إنه لا بد لوليِّ عهدي، ووليِّ عهد عَقِبي بعدي، أن يقود إلى خراسان البعوث، ويتوجَّه نحوها بالجنود. أما الأول فإنه يُقدم إليهم رسله، ويُعمل فيهم حيله، ثم يخرج نَشِطًا إليهم حَنِقًا عليهم، يريد ألَّا يدع أحدًا من إخوان الفتن ودواعي البدع وفرسان الضلال، إلَّا تَوَطَّأه بحَرِّ القتل، وألبسه قناع القهر، وقلَّده طوق الذل، ولا أحدًا من الذين عملوا في قصِّ جناح الفتنة وإخماد نار البدعة ونصرة ولاة الحق، إلَّا أجْرَى عليهم دِيَم فضله، وجداول نَهْلِه، فإذا خرج مُزْمِعًا به مُجْمِعًا عليه لم يسِرْ إلا قليلًا حتى تأتيه أنْ قد عَمِلت حِيَلُه، وكَدَحت كتبه، ونَفَذت مكايده، فهدأت نافرة القلوب، ووقعت طائرة الأهواء، واجتمع عليه المختلفون بالرضا، فيميل نظرًا لهم، وبرًّا بهم، وتعطُّفًا عليهم، إلى عدوٍّ قد أخاف سبيلهم، وقطع طريقهم، ومنع حُجَّاجهم بيتَ الله الحرام، وسلب تُجَّارهم رزق الله الحلال.

وأما الآخر فإنه يوجِّه إليهم، ثم تُعْتقد له الحجة عليهم بإعطاء ما يطلبون، وبذل ما يسألون، فإذا سمحت الفِرَق بقَرَاباتها له، وجنح أهل النواحي بأعناقهم نحوه، فأصغت إليه الأفئدة، واجتمعت له الكلمة، وقدِمت عليه الوفود؛ قصد لأول ناحية نجعَت بطاعتها، وألقت بأَزِمَّتها، فألبسها جَنَاح نعمته، وأنزلها ظل كرامته، وخصَّها بعظيم حِبائه، ثم عم الجماعة بالمَعْدَلة، وتعطَّف عليهم بالرحمة، فلا تبقى فيهم ناحيةٌ دانية ولا فرقة قاصية إلا دخلت عليها بركته، ووصلت إليها منفعته، فأغنى فقيرها، وجبر كسيرها، ورفع وضيعها، وزاد رفيعها، ما خلا ناحيتين: ناحية يغلب عليها الشقاء وتَسْتَمِيلهم الأهواء، فتستخف بدعوته، وتبطئ عن إجابته، وتتثاقل عن حقه، فتكون آخر من يبعث، وأبطأ من يوجِّه، فيصطلي عليها مَوْجودَه، ويبتغي لها علة، لا يلبث أن يَجِدَّ بحق يلزمهم، وأمرٍ يجب عليهم، فتَسْتَلْحِمهم الجيوش، وتأكلهم السيوف، ويستحِرُّ بهم القتل، ويحيط بهم الأسر، ويفنيهم التتبُّع، حتى يخرِّب البلاد، ويُوتِم الأولاد. وناحية لا يبسط لهم أمانًا، ولا يقبل لهم عهدًا، ولا يجعل لهم ذمة؛ لأنهم أول من فتح باب الفُرقة، وتَدَرَّع جلبابَ الفتنة، ورَبَض في شَقِّ العصا، ولكنه يقتل أعلامهم، ويأسر قُوَّادهم، ويطلب هُرَّابهم في لُجَج البحار، وقُلَل الجبال، وحَميل الأودية، وبطون الأرض، تقتيلًا وتغليلًا وتنكيلًا، حتى يدع الديار خرابًا، والنساء أَيَامَى. وهذا أمرٌ لا نعرف له في كتبنا وقتًا، ولا نصحح منه غير ما قلنا تفسيرًا.

وأما موسى وليُّ عهدي فهذا أوان توجُّهه إلى خراسان، وحُلُوله بجُرْجان، وما قضى الله له من الشُّخوص إليها والمُقام فيها خيرٌ للمسلمين مغبَّةً له بإذن الله عاقبةً من المقام، بحيث يغمر في لجج بحورنا ومدافع سيولنا ومجامع أمواجنا، فيتصاغر عظيم فضله، ويتدأَّب مشرق نوره، ويتقلل كثير ما هو كائن منه، فمن يصحبه من الوزراء ويُختار له من الناس؟

قال محمد بن الليث: أيها المهدي، إن وليَّ عهدك أصبح لأُمَّتك وأهل ملتك علَمًا قد تثنَّت نحوه أعناقها، ومدَّتْ سمْتَه أبصارَها، وقد كان لقرب داره منك ومحل جواره لك، عُطْل الحال، غُفْل الأمر، واسع العذر، فأما إذا انفرد بنفسه، وخلا بنظره، وصار إلى تدبيره، فإن من شأن العامة أن تتفقَّد مخارج رأيه، وتَسْتَنصت لمواقع آثاره، وتسأل عن حوادث أحواله: في برِّه ومرحمته، وإقساطه ومعدلته، وتدبيره وسياسته، ووزرائه وأصحابه، ثم يكون ما سبق إليهم أغلب الأشياء عليهم، وأملك الأمور بهم، وألزمها لقلوبهم، وأشدَّها استمالةً لرأيهم وعطفًا لأهوائهم. فلا يفتأ المهدي — وفقه الله — ناظرًا له فيما يقوي عمد مملكته، ويسدد أركان ولايته، ويستجمع رضاء أمته بأمر هو أَزْيَن لحاله، وأظهر لجماله، وأفضل مغَبَّة لأمره، وأجلُّ موقعًا في قلوب رعيته، وأحمد حالًا في نفوس أهل ملته. ولا أدفع مع ذلك باستجماع الأهواء له، وأبلغ في استعطاف القلوب عليه من مرحمة تظهر من فعله، ومعدلة تنتشر عن أثره، ومحبة للخير وأهله، وأن يختار المهدي — وفقه الله — من خيار أهل كل بلدة وفقهاء أهل كل مصر أقوامًا تسكن العامة إليهم إذا ذكروا، وتأنس الرعية بهم إذا وصفوا، ثم تسهل لهم عمارة سبل الإحسان، وفتح باب المعروف كما قد كان فُتح له وسُهِّل عليه.

قال المهدي: صدقت ونصحت. ثم بعث في ابنه موسى، فقال: أي بني، إنك قد أصبحت لسَمْت وجوه العامة نُصْبًا، ولمَثْنَى أعطاف الرعية غايةً، فحسَنتك شاملة، وإساءتك نائية، وأمرك ظاهر، فعليك بتقوى الله وطاعته، فاحتمل سُخط الناس فيهما، ولا تطلب رضاهم بخلافهما، فإن الله — عز وجل — كافيك مَن أسخطه عليك إيثارُك رضاه، وليس بكافيك من يُسخطه عليك إيثارُك رضا من سواه. ثم اعلم أن لله — تعالى — في كل زمان فترةً من رسله، وبقايا من صفوة خلقه، وخبايا لنصرة حقه، يجدِّد حبل الإسلام بدعواهم ويشيد أركان الدين بنصرتهم، ويتخذ لأولياء دينه أنصارًا، وعلى إقامة عدله أعوانًا، يسدون الخلل، ويقيمون المَيَل، ويدفعون عن الأرض الفساد، وأن أهل خراسان أصبحوا أيدي دولتنا، وسيوف دعوتنا، الذين نستدفع المكاره بطاعتهم، ونستصرف نزول العظائم بمُناصَحَتهم، وندافع ريب الزمان بعزائمهم، ونزاحم ركن الدهر ببصائرهم، فهم عماد الأرض إذا أرجفت لُفَفُها، وخوف الأعداء إذا برزت صفحتها، وحصون الرعية إذا تضايقت الحال بها، قد مضت لهم وقائع صادقات، ومواطن صالحات أخمدت نيران الفتن، وقسمت دواعي البدع، وأذلَّت رقاب الجبارين، ولم ينفكُّوا كذلك ما جروْا مع ريح دولتنا، وأقاموا في ظل دعوتنا، واعتصموا بحبل طاعتنا التي أعز الله بها ذاتهم، ورفع بها ضعتهم، وجعلهم بها أربابًا في أقطار الأرض، وملوكًا على رقاب العالمين، بعد لباس الذل، وقناع الخوف، وإطباق البَلَا، ومُحالفة الأسى، وجَهْد البأس والضُّرِّ. فظاهر عليهم لباس كرامتك، وأنزلهم في حدائق نعمتك، ثم اعرف لهم حق طاعتهم، ووسيلة دالَّتهم، وماتَّة سابقتهم، وحُرمة مُناصَحتهم، بالإحسان إليهم، والتوسعة عليهم، والإثابة لمُحسنهم، والإقالة لمُسيئهم.

أي بُنيَّ، ثم عليك العامة، فاستدع رضاها بالعدل عليها، واستجلب مودتها بالإنصاف لها، وتحسَّن بذلك لربك، وتوثَّق به في عين رعيتك، واجعل عمَّال العُذر ووُلاة الحجج مقدمةً بين عملك، ونَصَفَةً منك لرعيتك، وذلك أن تأمر قاضي كل بلد وخيار أهل كل مصر أن يختاروا لأنفسهم رجلًا تولِّيه أمرهم وتجعل العدل حاكمًا بينه وبينهم، فإن أحسن حُمدت، وإن أساء عُذرت. هؤلاء عمال العذر، وولاة الحجج، فلا يسقطنَّ عليك ما في ذلك إذا انتشر في الآفاق وسبق إلى الأسماع، من انعقاد ألسنة المرجفين، وكبت قلوب الحاسدين، وإطفاء نيران الحروب، وسلامة عواقب الأمور. ولا ينفكنَّ في ظل كرامتك نازلًا وبِعُرى حبلك متعلقًا رجلان: أحدهما كريمة من كرائم رجالات العرب وأعلام بُيُوتات الشرف، له أدب فاضل، وحلم راجح، ودين صحيح، والآخر له دين غير مغموز، وموضع غير مَدْخول، بصيرٌ بتقليب الكلام، وتصريف الرأي، وأنحاء العرب، ووضع الكتب، عالم بحالات الحروب وتصاريف الخطوب، يضع آدابًا نافعة وآثارًا باقية من محاسنك، وتحسين أمرك، وتحلية ذكرك، فتستشيره في حربك، وتُدْخله في أمرك، فرجلٌ أصبته كذلك فهو يأوى إلى مَحَلَّتي، ويرعى في خضرة جناني، ولا تدع أن تختار لك من فقهاء البلدان وخيار الأمصار أقوامًا يكونون جيرانك وسمَّارك، وأهل مشاورتك فيما تُورد وأصحاب مناظرتك فيما تُصدِر. فسر على بركة الله، أَصْحَبك الله من عونه وتوفيقه دليلًا يهدي إلى الصواب قلبك، وهاديًا يُنْطق بالخير لسانك.

وكتب في شهر ربيع الآخِر سنة سبعين ومئة ببغداد.

https://k.top4top.io/p_2007qrxtc1.png

عطر الجنة 07-01-2021 06:03 AM

رد: أدبيات اللغة العربية
 


https://k.top4top.io/p_2007qrxtc1.png




(١١٣) وقال إبراهيم بن المهدي يرثي ابنه وكان مات بالبصرة


نأَى آخِرَ الأيَّام عنك حَبِيبُ
فَلِلعَينِ سَحٌّ دائِمٌ وغُروبُ
دَعَتْهُ نَوًى لا يُرْتَجَى أوْبَةٌ لها
فَقَلْبُك مَسْلُوبٌ وأنتَ كئيبُ
يَؤُوبُ إلى أوْطانِهِ كُلُّ غائبٍ
وأَحْمَدُ فِي الغُيَّابِ لَيْسَ يَؤُوبُ
تَبَدَّلَ دارًا غَيْرَ دارِي وَجِيرةً
سِوايَ وَأَحْداثُ الزَّمانِ تَنُوبُ
أَقامَ بِها مُسْتَوْطِنًا غَيْرَ أَنَّهُ
عَلَى طُولِ أَيَّامِ المُقَامِ غَرِيبُ
كَأَنْ لَمْ يَكُنْ كالغُصْنِ فِي مَيْعَةِ الضُّحَى
سَقَاهُ النَّدى فَاهْتَزَّ وَهْوَ رَطيبُ
كَأَنْ لَمْ يَكُنْ كالدُّرِّ يَلْمَعُ نُورُه
بأصْدافه لَمَّا تَشِنْه ثُقُوب
كَأَنْ لَمْ يَكُنْ زَيْن الفِناء ومَعْقِل النـِّ
ـساء إذا يومٌ يكونُ عَصِيبُ
ورَيْحان صَدْرِي كانَ حِينَ أَشُمُّهُ
ومُؤْنِس قَصْرِي كانَ حِينَ أَغيبُ
وَكَانَتْ يَدِي مَلْأَى بِهِ ثُمَّ أَصْبَحَتْ
بِحَمْدِ إِلَهِي وَهْيَ مِنْهُ سَلِيبُ
قَلِيلًا مِنَ الأَيَّامِ لَمْ يُرْوَ نَاظِرِي
بِها مِنْهُ حَتَّى أعْلَقَتْهُ شَعُوبُ
كَظِلِّ سَحَابٍ لَمْ يُقِمْ غَيْرَ سَاعَةٍ
إلى أَنْ أَطَاحَتْهُ فَطَاحَ جَنُوبُ
أَو الشَّمْس لمَّا مِنْ غَمَامٍ تَحَسَّرَتْ
مَسَاءً وَقَدْ وَلَّتْ وحَانَ غُرُوبُ
سَأَبْكِيكَ مَا أَبْقَتْ دُمُوعِي والْبُكَا
بِعَيْنَيَّ مَاءً يَا بُنيَّ يُجِيبُ
وَمَا غَارَ نَجْمٌ أو تَغَنَّتْ حَمَامَةٌ
أو اخْضَرَّ فِي فَرْعِ الْأَرَاكِ قَضِيبُ
حَيَاتِيَ مَا دَامَتْ حَيَاتِي فإنْ أَمُتْ
ثَوَيْتُ وفي قَلْبِي عَلَيْكَ نُدُوبُ
وأُضْمِرُ إنْ أَنْفَدْتُ دَمْعِيَ لَوْعَةً
عَلَيْكَ لَها تَحْتَ الضُّلُوعِ وَجِيبُ
دَعَوْتُ أَطِبَّاءَ العِراق فَلَمْ يُصِبْ
دَواءَكَ مِنْهُمْ في البِلادِ طَبِيبُ
وَلَمْ يَمْلِكِ الْآسُونَ دَفْعًا لِمُهْجَةٍ
عَلَيْها لأَشراكِ المَنُونِ رَقِيبُ
قَصَمْتَ جَنَاحِي بَعْدَمَا هَدَّ مَنْكِبي
أَخُوكَ فَرَأْسِي قد عَلاه مَشيبُ
فَأَصْبَحْتُ في الهُلَّاكِ إلَّا حُشَاشَةً
تُذَابُ بِنَارِ الحُزْنِ فَهْيَ تَذُوبُ
تَوَلَّيْتُما في حِقْبَةٍ فَتَرَكْتُمَا
صَدًى يَتَوَلَّى تَارَةً وَيَثُوبُ
فَلَا مَيْتَ إلَّا دونَ رُزْئِكَ رُزْؤُهُ
وَلَوْ فُتِّتَتْ حُزْنًا عَلَيه قُلُوبُ
وَإنِّي وَإنْ قَدَّمْتَ قَبْلِي لَعَالِمٌ
بِأَنِّي وَإنْ أَبْطَأْتُ مِنْكَ قَرِيبُ
وَإنَّ صَبَاحًا نَلْتَقِي فِي مَسَائِهِ
صَبَاحٌ إلى قَلْبِي الغَدَاةَ حَبيبُ



(١١٤) المأمون وراثي البرامكة


قال خادم المأمون: طلبني أمير المؤمنين ليلةً وقد مضى من الليل ثلثه فقال لي: خذ معك فلانًا وفلانًا — وسمَّاهما لي، أحدهما علي بن محمد، والآخر دينار الخادم — واذهب مسرعًا لما أقول لك؛ فإنه بلغني أن شيخًا يحضر ليلًا إلى آثار دُور البرامكة وينشد شعرًا ويذكرهم ذكرًا كثيرًا ويندُبهم ويبكي عليهم ثم ينصرف. فامض أنت وعليٌّ ودينارٌ حتى تردوا تلك الخَرِبات فاستتروا خلف بعض الجُدُر، فإذا رأيتم الشيخ قد جاء وبكى وندب وأنشد أبياتًا فَأْتوني به. قال: فأخذتهما ومضينا حتى أتينا الخربات، فإذا نحن بغلام قد أتى ومعه بساطٌ وكرسي حديدٌ، وإذا شيخٌ قد جاء وله جَمَالٌ وعليه مهابةٌ ولُطْفٌ، فجلس على الكرسي وجعل يبكي وينتحب، ويقول هذه الأبيات:

ولَمَّا رَأَيْتُ السَّيْفَ جَنْدَلَ جَعْفَرًا
ونَادَى مُنَادٍ للْخَلِيفَةِ في يَحْيَى
بَكَيْتُ عَلَى الدُّنْيَا وزَادَ تَأَسُّفِي
عَلَيْهِمْ وقُلْتُ الآنَ لَا تَنْفَعُ الدُّنْيَا


مع أبياتٍ أطالها. فلما فرغ قبضنا عليه، وقلنا له: أجب أمير المؤمنين، ففزع فزعًا شديدًا، وقال: دعوني حتى أوصي بوصية فإني لا أوقن بعدها بحياةٍ. ثم تقدم إلى بعض الدكاكين واستفتح وأخذ ورقةً وكتب فيها وصية وسلَّمها إلى غلامه، ثم سرنا به فلما مَثَل بين يدي أمير المؤمنين قال حين رآه: من أنت؟ وبمَ اسْتَوْجَبَتْ منك البرامكة ما تفعله في خرائب دورهم؟ قال الشيخ: يا أمير المؤمنين، إن للبرامكة أيادي خضِرةً عندي، أفتأذن لي أن أحدثك بحالي معهم؟ قال: قل، فقال: يا أمير المؤمنين، أنا المنذر بن المغيرة من أولاد الملوك، وقد زالت عني نعمتي كما تزول عن الرجال، فلما ركبني الدَّيْن واحتجت إلى بيع ما على رأسي ورءوس أهلي وبيتي الذي وُلِدت فيه، أشاروا عليَّ بالخروج إلى البرامكة، فخرجت من دِمَشْق ومعي نَيِّفٌ وثلاثون رجلًا من أهْلي ووَلَدي وليس معنا ما يُبَاع ولا ما يُوهَب، حتى دَخَلنا بغداد ونَزَلْنا في بعض المساجد، فَدَعوت ببعض ثيابٍ كنت أعددتُها لأسْتتر بها، فَلَبِستُها وخَرَجتُ، وتَركتُهم جِياعًا لا شيء عندهم، ودخلت شوارع بغداد سائلًا عن البرامكة، فإذا أنا بمسجدٍ مزخرفٍ وفي جانبه شيخٌ بأحسن زيٍّ وزينةٍ، وعلى الباب خادمان وفي الجامع جماعةٌ جلوسٌ، فطمعت في القوم ودخلت المسجد وجلست بين أيديهم، وأنا أقدم رِجلًا وأؤخر أخرى، والعرق يسيل مني لأنها لم تكن صناعتي، وإذا الخادم قد أقبل ودعا القوم فقاموا وأنا معهم، فدخلوا دار يحيى بن خالد فدخلت معهم، وإذا يحيى جالسٌ على دكة له وسط بستان فسلَّمْنا وهو يعدُّنا مئة وواحدًا، وبين يده عشرةٌ من ولده، وإذا بمئة واثني عشر خادمًا قد أقبلوا، ومع كل خادم صينيةٌ من فضةٍ على كل صينيةٍ ألف دينار، فوضعوا بين يدي كل رجلٍ منا صينيةً، فرأيت القاضي والمشايخ يضعون الدنانير في أكمامهم ويجعلون الصينيات تحت آباطهم ويقوم الأول فالأول، حتى بقِيتُ وحدي لا أجسر على أخذ الصينية، فغمزني الخادم فجسرت وأخذتها، وجعلت الذهب في كمي والصينية في يدي وقمت، وجعلت أتلفَّت إلى ورائي مخافة أن أُمْنَع من الذهاب، فوصلت وأنا كذلك إلى صحن الدار ويحيى يلاحظني فقال للخادم: ائتني بهذا الرجل، فأتاني فقال: ما لي أراك تتلفت يمينًا وشمالًا؟ فقصصت عليه قصتي، فقال للخادم: ائتني بولدي موسى، فأتاه به، فقال له: يا بني، هذا رجلٌ غريبٌ فخذه إليك واحفظه بنفسك ونعمتك، فقبض موسى ولده على يدي وأدخلني إلى دار من دوره فأكرمني غاية الإكرام، وأقمت عنده يومي وليلتي في ألذِّ عيشٍ وأتمِّ سرورٍ،
فلما أصبح دعا بأخيه العباس، وقال له: الوزير أمرني بالعطف على هذا الفتى، وقد علمتَ اشتغالي في بيت أمير المؤمنين فاقبضه إليك وأكرمه، ففعل ذلك وأكرمني غاية الإكرام، ثم لما كان من الغد تسلَّمني أخوه أحمد. ثم لم أزل في أيدي القوم يتداولونني مدة عشرة أيام لا أعرف خبر عيالي وصبياني أفي الأموات هم أم في الأحياء.

فلما كان اليوم الحادي عشر جاءني خادمٌ ومعه جماعةٌ من الخدم، فقالوا: قم فاخرج إلى عيالك بسلام، فقلت: وَاوَيْلاه! سُلِبْت الدنانير والصينية وأُخرَج على هذه الحالة! إنا لله وإنَّا إليه راجعون! فرُفِع السِّتر الأول ثم الثاني ثم الثالث ثم الرابع، فلما رفع الخادم الستر الأخير قال لي: مهما كان لك من الحوائج فارفعها إليَّ فإني مأمورٌ بقضاء جميع ما تأمرني به. فلما رُفِع الستر الأخير رأيت حجرةً كالشمس حسنًا ونورًا، واستقبلني منها رائحة النَّدِّ والعود ونفحات المسك، وإذا بصبياني وعيالي يتقلَّبون في الحرير والديباج، وحُمِل إليَّ مئة ألف درهم وعشرة آلاف دينار، ومنشورٌ بضَيْعتين وتلك الصينية التي كنت أخذتها بما فيها من الدنانير والبنادق. وأقمت يا أمير المؤمنين مع البرامكة في دورهم ثلاث عشرة سنةً، لا يعلم الناس أمن البرامكة أنا أم رجلٌ غريبٌ، فلما جاءتهم البليَّة ونزل بهم يا أمير المؤمنين من الرشيد ما نزل، أجْحَفني عمرو بن مَسْعدة، وألزمني في هاتين الضيعتين من الخراج ما لا يفي دخلُهما به، فلما تحامل عليَّ الدهر، كنت في آخر الليل أقصد خَرِبات دُورهم فأَنْدُبهم وأذكر حسن صُنعهم إليَّ وأبكي على إحسانهم. فقال المأمون: عليَّ بعمرو بن مسعدة، فلما أُتِي به قال له: تعرف هذا الرجل؟ قال: يا أمير المؤمنين، هو بعض صنائع البرامكة، قال: كم ألزمته في ضَيْعتيه؟ قال: كذا وكذا، فقال له: رُدَّ إليه كل ما أخذتَه منه في مدته وأفرغهما له ليكونا له ولعَقِبه من بعده.

قال: فعلا نحيب الرجل، فلما رأى المأمون كثرةَ بكائه قال له: يا هذا، قد أحسنَّا إليك فما يبكيك؟! قال: يا أمير المؤمنين، وهذا أيضًا من صنيع البرامكة، لو لم آت خرباتهم فأبكيهم وأندبهم حتى اتَّصل خبري إلى أمير المؤمنين ففعل بي ما فعل، من أين كنت أصل إلى أمير المؤمنين؟ قال إبراهيم بن ميمون: فرأيت المأمون وقد دمعت عيناه وظهر عليه حزنه، وقال: لَعَمْري، هذا من صنائع البرامكة، فعليهم فَابْكِ، وإيَّاهم فاشكر، ولهم فأَوْفِ، ولإحسانهم فاذكر.


https://k.top4top.io/p_2007qrxtc1.png


الساعة الآن 03:05 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
Search Engine Friendly URLs by vBSEO 3.6.1 TranZ By Almuhajir
new notificatio by 9adq_ala7sas
HêĽм √ 3.1 BY: ! ωαнαм ! © 2010
يرحل الجميع ويبقي شعاع بيت العلم والحب(ملك الكلمة)