تيسير رب العباد إلى شرح لمعة الاعتقاد تيسير رب العباد إلى شرح لمعة الاعتقاد (1) الشيخ عبدالله بن حمود الفريح نبذة مختصرة عن ابن قدامة اسمه ونسبه: هو موفق الدِّين أبو محمد، عبدالله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي، ثم الدِّمَشْقي، وُلِد في بلاد بيت المقدس (فِلَسْطين)، ثم انتقل إلى (دِمَشْق)، وهذا من حيث النسب إلى نشأته وسكناه فيما بعد، وإلاَّ فمِن حيث النسبُ إلى قبيلته فهو يرجعُ قرشيًّا عدويًّا، ومن حيثُ النسب إلى مذهبِه فهو حنبلي، وله مصنَّفات في المذهب الحنبلي، بل إليه المرْجع في عصْرِه في فقه الإمام أحمد؛ فهو ابن قُدامة المقدسي الدِّمَشْقي القرشي العدوي الحنبلي، كان صاحب ورَعٍ وزُهْد، وهيبة ووقار، استفرغ وقته في العلْم والعمَل. مولده: تقدَّم أنه وُلِد في (فِلَسْطين) في بلدة تسمى (جُمَّاعيل)، قرب (نابلس)، وكانتْ ولادتُه في شهْر شعبان سنة 541 هـ، وتوفِّي سنة 620 هـ في دمشق، ودُفِن في مقْبرة مشْهُورة بـ(جبل قاسيون). رحلاته: ارتحل ابن قُدامة من (فِلَسْطين) إلى (دِمَشْق)؛ حينما استولَى الصليبيون على (فِلَسْطين)، وعُمْرُ ابن قدامة حينئذٍ عشر سنوات، فقدم هو وأهله فقرأ القرآن، وحفظ "مختصر الخِرَقِي"، وارتحل إلى بغداد هو وابن خالته - صاحب "عمدة الأحكام"؛ عبدالغني المقدسي سنة 561 هـ، وسمع من مشايخ كثيرين في بغداد، ومكث ابن قدامة في بغداد أربع سنوات؛ طلبًا للعلم، فبرع في الفِقْه والحديث، والنحو واللغة، والحساب والنجوم السيَّارة، وغيرها منَ العلوم، ثم ارتحل إلى (دِمَشْق)، وهناك ذاع صيتُه، وصار يقيم حلقات العلم هناك بالجامع المظفري بـ(دمشق)؛ لنشْر المذهب الحنبلي، ويؤمّ الناس فيه بالصلاة. شيوخه وتلاميذه: لابن قدامة مشايخُ كُثُر، منهم: والده أحمد، وأبو زُرعة طاهر المقْدسي، وناصح الإسلام أبو الفتح نصر بن فتيان، وغيرهم. وله تلاميذ كُثُر أيضًا؛ لكثْرة مَن يأتيه ويسمع منه في الجامع المظفري؛ منهم: سيف الدين أحمد بن عيسى المقدسي، وشمس الدين عبدالرحمن بن محمد بن أحمد بن قدامة المقدسي - وهو ابن أخ صاحب الترجمة ابن قدامة - ولشمس الدين الكتاب المعروف بـ"الشرح الكبير في شرْح المقنع"، وهو مطبوع مع كتاب "المغني"؛ للموفق ابن قدامة. تصانيفه: له كثيرٌ من التصانيف التي لاقتْ قبولاً من العلماء، نذْكُر منها: في الفقه: "المغني"، و"الكافي"، و"العُمْدة". وفي العقيدة: "لُمْعة الاعتقاد"، و"ذم التأويل"، و"القدَر"، و"إثبات صفة العلُو". وفي أصول الفقه: "روضةُ الناظر وجنَّة المناظر". وفي الرقائق والزهد: كتاب "التوَّابين". وفي الحديث: "مختصر عِلل الحديث للخَلاَّل". وله مُصنفات أخرى. عصر المُصَنِّف من حيث الاعتقاد: عصر المُصنف هو النصف الثاني من القرن السادس، ويتمَيَّز من حيث الاعتقاد بأمرَيْن: 1- ظُهُور عقيدة الأشاعرة؛ فهي العقيدة السائدة بين الناس في ذلك الوقت بل الدولة، كان هذا منهجهم، وهي الدولة الأيوبية؛ ولذا من تأمَّل تصانيف ابن قدامة في العقيدة وَجَدَها تدور على توحيد الأسماء والصفات؛ لأنه في هذا النوع من التوحيد خالَف الأشاعرة. 2- وجود الرافضة في عصر المصنِّف، ولكن ليس في (دمشق)، وإنما في مصر، ودولتهم العبيدية التي قضى عليها صلاح الدين الأيوبي، يُضاف إليه وُجُود الصليبيين في فِلَسطين، واستيلاؤُهم عليها؛ ولذا خرج المصنف من (فِلَسْطين) في سنِّ العاشرة. علاقة الاعتقاد السابق برسالة "لُمْعة الاعتقاد": لَمَّا وجد في عصر المصنّف فرقتان خالفتا مذْهب أهل السُّنة والجماعة، وهما: الأشاعرة والرافضة؛ جاءت رسالة "لُمعة الاعتقاد" في بيان المذهب الصحيح فيما خالفت فيه الطائفتان؛ ولذا فإنَّ رسالة "لُمْعة الاعتقاد" في جملتها تناولتْ أمرَيْن: أ- مذهب أهل السنة والجماعة في أسماء الله الحسنى وصفاته العُلَى، وفيه ردٌّ على الأشاعرة. ب- مذهب أهل السنة والجماعة في صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وزوجاته - رضي الله عنهنَّ - وفيه ردٌّ على الرافضة. Ÿ Ÿ Ÿ "لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد" اللمعة: تُطلَق في اللغة على معانٍ عدَّةٍ؛ منها: البُلغة من العيش، واللُّمْعَة هي: البياض والصفاء، و"لُمْعة الاعتقاد": بُلْغَتُه وصفاؤه، وصحته المستمَدَّة من الكتاب والسُّنَّة، وإذا كانتْ هذه العقيدة مستمدُّها الكتاب والسنة، فلا شك أنها طريقة للرَّشَاد في الدنيا بسلوك العقيدة الصحيحة، والبُعد عن البدَع والضلال، والهوى وأهله، وهي طريقة للرَّشَاد في الآخرة؛ فمَن مات على التوحيد الصحيح، أوصلته عقيدته - بفَضْلِ من الله - إلى جنَّات الخُلْد. والمصنِّف قال: "لُمْعة الاعتقاد"؛ أي: إنه لَم يرد بذلك تفصيلٌ، وإنما هي بُلْغَة في الاعتقاد، نسأل الله أن يُثَبِّتَنا على الكتاب والسنة والعقيدة الخالصة. 1- قال المصنف - رحمه الله -: "بسم الله الرحمن الرحيم، الحَمْدُ للهِ، المحمُودِ بِكُلِّ لِسان، المعبودِ في كُلِّ زَمان، الَّذِي لا يَخْلُو مِنْ عِلْمِهِ مَكان، ولا يشغَلُه شان عن شان، جلَّ عَنِ الأشباهِ والأنْداد، وتَنَزَّهَ عَنِ الصَّاحِبَةِ والأولاد، ونفذ حُكمُهُ في جميعِ العباد، لا تُمَثِّلُهُ العقولُ بالتفكير، ولا تَتَوَهَّمُهُ القلوبُ بالتصوير؛ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}[1]، له الأسماءُ الحسنَى، والصفاتُ العُلَى، {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى * لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى * وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى}[2]، {أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا}[3]، وقهر كلَّ مخلوقٍ عِزَّةً وحُكْمًا، ووسِعَ كلَّ شيءٍ رحمةً وعِلمًا، {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا}[4] . الشرح تضمَّنَتْ مُقدِّمة المؤَلِّف عدة أُمُور: • البداءة بالبسملة: بدأ المصنِّف رسالته بـ"بسم الله الرحمن الرحيم"؛ وذلك: 1- اقتداءً بكتاب الله - عزَّ وجلَّ - العظيم. 2- اقتداءً بكتاب نبي الله سليمان - عليه السلام - إلى بلقيس وقومها؛ قال تعالى: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}[5]. 3- اتِّباعًا لسنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد ثبت في "صحيح البخاري"، من حديث أبي سفيان - رضي الله عنه -: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب كتابًا إلى هرقل ابتدأه بـ(بسم الله الرحمن الرحيم)، فالبداءة بالبسملة سُنَّةٌ، ومعناها: أ- (بسم الله)؛ أي: أفعل الشيء - وهنا: أبدأ بتوضيح "لُمعة الاعتقاد" - مستعينًا ومُتَبَرِّكًا بكلِّ اسم من أسماء الله تعالى. ولفظ (الله): اسم من أسماء الله الخاصَّة به؛ ومعناه: المألوه حبًّا وتعظيمًا. (الرحمن): اسم من أسماء الله تعالى الخاصَّة به؛ ومعناه: ذو الرحمة الواسعة. (الرحيم): اسم من أسماء الله تعالى؛ ومعناه: المُوصل رحمته إلى مَن يشاء مِن خلقه، وهو ليس خاصًّا بالله - عزَّ وجلَّ - فقد قال - تعالى - عن رسوله - صلى الله عليه وسلم -: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤوفٌ رَحِيمٌ}[6]. والفرق بين (الرحمن) و(الرحيم): أنَّ الرحمن يُفيد بأن الرحمة وصفٌ له - سبحانه وتعالى - والرحيم يفيد بأن الرحمة فعلٌ له يُوصلها مَن يشاء مِن خلقه. • الثناء على الله بالحمد: البداءة بالحَمْدَلة والثناء عليه سُنة النبي - صلى الله عليه وسلم - أيضًا في خُطبِه؛ لحديث جابر بن سمرة عند مسلم، قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا خطب حَمِدَ اللهَ، وأثنى عليه، قال ابن القيم: "وكان - أي: النبي صلى الله عليه وسلم - لا يخطب خطبة إلا افتتحها بحمد الله"[7]، وأما حديث: ((كلُّ أمر ذي بال لا يُبْدَأ فيه بالحمد لله - وفي رواية: بحمد لله - فهو أقطع))، وفي رواية: ((فهو أبتر))، وفي رواية: ((فهو أجذم))، فهو حديث ضعيف؛ رواه أبو داود، وابن ماجه، وابن حبان، والدارقطني، وضعَّفه الألباني؛ فلا يصح مرفوعًا، والصواب أنه مرسل عن الزهري، وكذلك اللفظ الآخر: ((كلُّ أمرٍ لا يبدأ فيه بـ(بسم الله الرحمن الرحيم)، فهو أبتر))؛ قال عنه الألباني: "ضعيف جدًّا"[8]. معنى (الحمد لله): الاعتراف للمَحْمود بصفات الكمال، مع محبته وتعظيمه، وقولنا: (مع محبته وتعظيمه): قيدٌ يفرق بين الحمد والمدْح، فالمدْح: فيه ذِكْر صفات الممدوح لكن لا يستلزم المحبة والتعظيم. قال ابن القيم: "فالصواب في الفرْق بين الحمد والمدح أن يقال: الإخبار عن محاسن الغير، إما أن يكون إخبارًا مُجَرَّدًا من حبٍّ وإرادة، أو مقرونًا بحبٍّ وإرادته، فإن كان الأول فهو المدح، وإن كان الثاني فهو الحمد"[9]. وهناك فرقٌ آخر وهو: أن الحمد: الثناء بالصفات التي يُتَخلَّق بها: كالعلم، والحلم، والعدل، ونحوها، وأما المدح: فهو الثناء بالصفات التي جُبِل عليها، ولا صنع له فيها؛ كالجمال، والطول، والخلق، ونحو ذلك. ولَمَّا كان الحمدُ يقتضي المحبة والتعظيم؛ افتتحت أعظم سورة بـ{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[10] ، وأُمِرْنا بحمد الله؛ قال تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّه}[11] ، والله - عزَّ وجلَّ - يُحمَدُ على كمالِه وإنعامه، وأمره ونهيه، وخلقه، وكل شيء يستحق الحمْدَ عليه. و(أل) في (الحمد لله): للاستغراق؛ أي: إنَّ جميع المحامِد لله - عزَّ وجلَّ - فلا يستحق الحمد المطلق إلا الله - عزَّ وجلَّ - وحرف الجر (اللام) في (الله) يُفيد الاختصاص، فيُخَصُّ الله بالحمد المطلق. • الحمد من حيث الذِّكر ينقَسِم إلى قسمَيْن: أ- مقيَّد: يُقال في مَواطن وردتْ بها السنة: عند ابتداء الخطبة، وابتداء الدُّعاء، وختام المجلس: ((سبحانك اللهُمَّ وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك))، وفي الرُّكوع والسجود: ((سبحانك اللهم ربنا وبحمدك))، وبعد الرفع من الرُّكوع، وأدبار الصلوات، وعند الاستيقاظ من النوم: ((الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا، وإليه النُّشور))، وبعد الفراغ من الطعام، وغيرها من المواطن الواردة في السنة. ب- مطلَق: وهو أن يحمد العبدُ ربَّه على كل حال، وهو يُحْمَد على كل سرَّاء وضرَّاء، فقد رَوَى ابنُ ماجه، والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي، وقال النووي: إسناده جيِّد، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أصابته السرَّاء قال: ((الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات))، وإن أصابته الضرَّاء قال: ((الحمد لله على كل حال))". • الله - عزَّ وجلَّ - محمودٌ بكل لسان: محمود بكل لسان يشمل أمرَيْن: أ- لسان الحال: فإنه وإن كفر بعضهم، فلا يحمد الله بمقاله، بل ربما ينسب النعم لغير الله - عزَّ وجلَّ - بقوله، ولكن لسان حالهم أنهم معترفون بحاجتهم لله - عزَّ وجلَّ - وأن الفضْل له سبحانه؛ فهو أهلٌ أن يُحمَد، ولو أنكرتْ ذلك أقوالهم. ب- لسان المقال: فهو محمودٌ على جميع الألْسنة، وإن اختلفت اللُّغات. • محمود بكل لسان: يشمل جميع المخلوقات، فكلها تحمده وتسبحه؛ ودليل ذلك: قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ}[12]. وتسبيحُ المخلوقات بحمد الله تسبيحٌ حقيقيٌّ، لا تدركه عقولنا؛ ولذا قال تعالى: {وَلَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ}[13]، وسواء كانتْ هذه المخلوقات حيوانات أو جمادات، فكلُّها تسبِّح بحمد الله تسبيحًا لا نفقهه، فسبحان الله وبحمده. • الله - عزَّ وجلَّ - معبودٌ في كل زمان: العبادة في اللغة: هي الذلُّ والخضوع، وفي الشرْع: اسمٌ جامعٌ لكلِّ ما يُحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، والبراءة مما ينافي ذلك ويضاده. • ومن خلال تعريف العبادة لغةً وشرعًا، يَتَبَيَّن لنا أنَّ عُبُودية الله - عزَّ وجلَّ -على قسمَيْن: القسم الأول: عبودية عامَّة: وهي أن كلَّ الخلْق تحت قهره، فهم مقْهُورون خاضعون لله - سبحانه وتعالى - يفعل فيهم ما يشاء، ويحكم ما يُريد، وهذا النوع منَ العبودية يشمل جميع الخلْق، ولا يخرج منه أحد، ويدل على هذه العبودية: 1- قوله تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا}[14]. 2- قوله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِير}[15]. القسم الثاني: عبوديةٌٌ خاصَّة: وهي عُبُودية الطاعة، وهي التي يَتَميَّز بها المسلمون عن الكفار، ويدل عليها: 1- قوله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا}[16]. 2- قوله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}[17]. ومن خلال قسمَي العبودية، فالله - عزَّ وجلَّ - معبودٌ في كلِّ زمان، وهذا ظاهر في العبودية العامة؛ فكل شيء في هذا الكون إلى قيام الساعة تحت قهره - سبحانه. وأما العبودية الخاصة؛ فدلالة ذلك من وجهَيْن: 1- ما نقل إلينا من أخبار الرُّسُل وعبوديتهم لله - عزَّ وجلَّ - ومن تبعهم من أقوامهم، وأما آدم فقد أُهبِط إلى الأرض وهو على التوحيد، وأما خاتم النبيين محمد - صلى الله عليه وسلم - فقد قال: ((لا تزال طائفةٌ من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرُّهم مَن خذلهم، ولا مَن خالفهم، حتى يأتي أمرُ الله - تبارك وتعالى))، رواه مسلمٌ من حديث ثَوْبَان، وبِنَحْوه عن معاوية في الصحيحَيْن. 2- بقية المخلوقات التي تعبد الله - عزَّ وجلَّ - في كل زمان، ومن ذلك الملائكة؛ قال الله - عزَّ وجلَّ - عنهم: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ}[18]، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - عنهم: ((إني أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون، أطَّت السماء وحُقَّ لها أن تئط؛ ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته لله ساجد))، رواه الترمذي من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه. • الله - عزَّ وجلَّ - لا يخلو من علمه مكان: فالله - عزَّ وجلَّ - يعلم كلَّ شيء؛ قال عن نفسه: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[19]، وقال: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[20]. • الله - عزَّ وجلَّ - لا يشغله شانٌ عنْ شان: فهو - سبحانه - لكمال صفاته؛ لا ينشغل بسماع هذا عن هذا، بل يدعوه مئات الألوف وأكثر في لحظة واحدة، ويسمع دعاءَهم، ويعرف حاجاتهم، لا يختلف عليه شيء في شيء - سبحانه - ولا يخفَى عليه شي من أمْرِهم؛ قال تعالى: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِين}[21]. • الله - عزَّ وجلَّ - جلَّ عن الأشباه والأنداد: الأشباه: جمع (شبيه) وهو: الكُفْء، وجلَّ الله عن ذلك؛ قال تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}[22]. الأنداد: جمع (نِدّ)، وهو: المثيل، وجلَّ الله وتعالى عن ذلك؛ قال تعالى: {فَلاَ تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}[23]. وأعظم ذنب أنْ يجعلَ الإنسان لله ندًّا؛ ويدلُّ على ذلك: ما جاء في الصحيحَيْنِ من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: سألتُ رسولَ الله: أي الذنب أعظم؟ فقال: ((أن تجعل لله ندًّا وهو خلقك)). • الله - عزَّ وجلَّ - مُنَزَّه عن الصاحبة والولد: الصاحبة: الزَّوْجة، والله - عزَّ وجلَّ - مُنَزَّهٌ عن اتِّخاذ زوجة أو ولد؛ وذلك لكماله - سبحانه - وغناه، وإنما يتخذ ذلك المخلوق لضعفه؛ قال تعالى: {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا}[24]، وقال تعالى: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ}[25]، وقال تعالى:{لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّار}[26]، وقال تعالى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا}[27]. •وزَعَم قومٌ أنَّ لله ولدًا وصاحبةً؛ فزعمتِ النصارى أن المسيح ابن الله، وزعمت اليهود أنَّ عُزيرًا ابن الله؛ قال الله - عزَّ وجلَّ -: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ}[28]، وزعم المشركون من أهْل الجاهلية أنَّ الملائكة بنات الله؛ فقال الله - عزَّ وجلَّ -:{وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ}[29]، تعالى الله عما يقولون عُلُوًّا كبيرًا، وما يقوله هؤلاء تَتَفَطَّر له المخلوقات العظيمة، وتنشق وتَخِر؛ قال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا}[30]؛ وذلك لعِظَم شناعة ما قالوه؛ لأنَّ إثبات هذه الأشياء لله يستلزم أنه بحاجة إلى المساند والمُساعِد من الولد أو الصاحبة يعينه عند عجزه، ويساعده عند حاجته، تعالى الله عما يقولون عُلُوًّا كبيرًا؛ فله الكمال المطلَق. ونفي الصاحبة والولد، وقبله نفي الكُفْء والنِّد، ونفي الشريك والظهير - أي: المُعِين - في قوله تعالى: {وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ}[31]، كل هذا يقتضي إثبات صفات الوحْدانية والتفَرُّد لله - جل شأنُه - فهو الواحد الأحد، الذي يصمَد إليه عند الحاجات، ولا يحتاج صاحبةً ولا ولدًا يعينُه؛ فله الكمال المطلق؛ قال تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ}[32] ، وقال تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد}[33] ، فنفي الصاحبة والولد، والكُفْء والظهير، والشريك والنِّد، كل هذا يقتضي ويتضَمَّن إثبات الوحدانية والتفَرُّد، فلا إله إلا هو، الواحد الأحد الصمد، وسيأتي في قواعد الصفات: أنَّ الصفات السلبية التي تُنفَى عن الله - عزَّ وجلَّ - يجب إثبات ضدها على الوَجْه الأكمل؛ لأن النفي لا يكون كمالاً حتى يتضمن ثبوتًا. • الله - عزَّ وجلَّ - نافذٌ حكمُه في جميع العباد: وهذه صفةٌ ثبوتيةٌ، والمصنِّف بعدما ذكرَ صفات سلبيَّة، ذكر صفة ثُبُوتية، وهي: أن الله - عزَّ وجلَّ - نافذٌ حكمُه وأمرُه في جميع العباد؛ قال تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ}[34] . • فلا يَرُدُّ حكمَه أحدٌ إذا أراد شيئًا قال له: كن فيكون؛ قال تعالى: {وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}[35]. • وأمره - سبحانه - لا يُؤَخِّره مُؤَخِّرٌ إذا قضاه؛ قال تعالى: {وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ}[36]؛ لا معقب؛ أي: لا مُؤخِّر. • وأما المخلوق فقد يأمر وليس له حكمٌ أو أمرٌ، وقد يكون له أمرٌ وحكمٌ على غيره ولكن قد يُردُّ حكمه، وقد لا يُردُّ حكمه وأمره ولكنه يؤخَّر، فلا ينفذ بسرعة، ويعتريه النقْص؛ يكون في موطن آمرًا لغيره، وفي موطن آخر مأمورًا، وأما الحكم والأمر المطلق الذي لا يلحقه نقصٌ لله الواحد القهار: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّه}[37]. • الله - عزَّ وجلَّ - لا تمثله العقول بالتفكير، ولا تتوهمه القلوب بالتصوير: وهذه من الصِّفات السلبية، وهي نفْي تصوُّر العقول والقلوب لذاته - سبحانه - وذلك لعجْز المخلوقات عن الإحاطة به - سبحانه - قال تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا}[38]. وقال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}[39]. • الله - عزَّ وجلَّ - مع كمال عظمتِه لَم يأمرْنا في التفكُّر بذاته؛ لعجْز عقولنا وقلوبنا عن تصوُّر ذلك، وأَمَرَنا بالتفكُّر في مخلوقاته وآياته؛ فقال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ}[40]، والآيات كثيرةٌ في هذا الباب. • بل إنَّ عقولنا وقلوبنا تعجز عن تصوُّر ما في الجنة، فكيف تُتَصَوَّر ذات الله تعالى؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((قال الله تعالى: أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عين رأتْ، ولا أذن سَمعتْ، ولا خطر على قلب بشَر، واقرؤوا إن شئتم: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}))[41]. • الله - عزَّ وجلَّ - له الأسماء الحسنى، والصِّفات العُلَى: وأسماءُ الله الحسنى وصفاته العلى موضوعان، يندرج تحتهما قواعد يَحْسُن بالمسلم معرفتُها، ولأن هذا المتن - لُمعة الاعتقاد - فيه نصيب كبيرٌ منَ الكلام على صفات الله تعالى؛ فمِنَ الأفضل معرفة أهمِّ هذه القواعد، قبل الوصول إلى آيات الصفات. أولاً: أسماء الله: فمن القواعد في أسماء الله تعالى ما يلي: القاعدة الأولى: أسماء الله كلها حسنى: ويدل على ذلك قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا}[42]، والمعنى: أنها بالِغة في الحُسن غايته؛ لأنها مُتَضَمِّنة لصفات كاملة لا نقص فيها بوَجْه من الوجوه. مثال ذلك: اسم الله (العليم)، هذا الاسمُ بلَغ في الحسن غايته؛ فهو متضمِّن للعلْم الكامل الذي لَم يسبق بجهل، ولا يلحقه نسيان، بِخلاف الخلْق فقد تجد من الناس من عنده علْم، ولكن علمه يعتريه النقْص، ويسبقه جهْل، ويلحقه نقْص، والله - عزَّ وجلَّ - مُنَزَّه عن ذلك؛ لأن أسماءَه حسنى، تتضمن صفات كاملة لا نقص فيها بأيِّ وجهٍ. القاعدة الثانية: أسماء الله تعالى أعلام وأوصاف: فهي أعلامٌ تدلُّ على ذاته - سبحانه وتعالى - وهي أوصاف تدلُّعلى معانٍ تضمنتها؛ دليل ذلك ومثاله: اسم الله (الرحيم): سمَّى الله - عزَّ وجلَّ - به نفسَه؛ فقال تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}[43]، وبيَّن الله - عزَّ وجلَّ - في آية أخرى ما يدلُّ على أن الرحيم هو المتَّصِف بالرحمة؛ فقال تعالى: {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَة}[44]. مثال آخر: اسم الله (العظيم): هو اسمٌ من أسماء الله تعالى، سَمَّى به نفسه؛ فقال تعالى: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ}[45]، وهذا الاسْمُ مُتضمِّن لصِفة العظَمة. • وتحت هذه القاعدة قاعدتان: الأولى: أنَّ أسماء الله - عزَّ وجلَّ - أعلامٌ مترادِفة، تدل على مسمى واحد، وهو الله - عزَّ وجلَّ - وهي أوصاف، كل وصْف يدلُّ على معنى خاصٍّ تضمَّنه ذلك الاسم؛ مثال ذلك: أسماء الله تعالى: (العليم، الرحمن، الرحيم، الحي، القدير، العزيز، الحكيم، السميع، البصير)... وغيرها من الأسماء الثابتة، كلُّها أسماء لِمسمى واحد وهو الله - سبحانه وتعالى - لكن المعنى الذي تضمَّنه (العليم) غير معنى (الرحمن)، ومعنى (الرحمن) غير معنى (البصير)... وهكذا. الثانية: أنَّ هناك مِن أسماء الله تعالى ما يَتَضَمَّن وصْفًا متعدِّيًا لا بُدَّ من الإيمان به أيضًا. مثال ذلك: اسم الله (الرحمن)، لا بُدَّ حين الإيمان به: 1- أن نؤمن بإثباته اسمًا لله - عزَّ وجلَّ - يدل على ذاته تعالى - كما تقدم بيان هذا - قال تعالى: {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ}[46]. 2- أن نؤمنَ بما تضمَّنه هذا الاسم من معنى أو صفة: وهي الرحمة، وتقدَّم بيان هذا. 3- أن نؤمن بأنه يرحم مَن يشاء؛ لأن هذا وصفٌ مُتَعَدٍّ، يُوصله الله - عزَّ وجلَّ - إلى مَن يشاء مِن عباده؛ قال تعالى: {يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ}[47]. مثال آخر: اسم الله (السميع)، حين الإيمان به فإننا: 1- نؤمن بإثباته اسمًا لله - عزَّ وجلَّ - يدل على ذاته تعالى؛ قال تعالى: {وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ}[48]. 2- نؤمن بما تضمَّنه هذا الاسم من معنى، وهو إثبات صِفة السمْع لله تعالى. 3- نؤمن بِمُقْتَضى ذلك، وهو أنه يسمع ما يشاء؛ فيسمع السِّرَّ والنَّجوى؛ قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ}[49]، مثال على اسمٍ لله غير مُتَعَدٍّ: (العظيم)، وقد تقدَّم الكلامُ عليه. القاعدة الثالثة: أسماء الله تعالى غير محصورة بعدد معين: ويدلُّ على ذلك حديث ابن مسعود، وفيه قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أسألك بكل اسم هو لك، سمَّيت به نفسك، أو أنزلتَهُ في كتابك، أو علَّمْتَهُ أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علْم الغَيْب عندك...))[50] . ووجه الدلالة: أن ما استأثر الله به في علْم الغيب عنده كثيرٌ، لا يُمكن حصْره، ولا إحاطته. إشكالٌ: كيف نجمع بين هذه القاعدة، وبين حديث أبي هريرة مرفوعًا: ((إنَّ لله تسعةً وتسعين اسمًا، مَنْ أحصاها دخل الجنة))[51]؟ الجمع بينهما أن يُقَال: ليس في حديث أبي هريرة ما يدل على حصْر أسماء الله تعالى في تسعة وتسعين اسمًا، وإنما يدل على أنَّ مَن أحصى لله تسعة وتسعين اسمًا من أسمائه دخَل الجنة؛ كمَن يقول عندي مائة درهم أعددتها للصدقة، فلا يمنع أن يكون عنده أكثر من ذلك، ولكن ما أعدَّه للصدقة هو مائة فقط، وأما ما رواه التِّرْمذي، وابن ماجه، في تَعْداد التِّسعة وتسعين اسمًا بعد الحديث السابق، فليست من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - باتفاق أهل المعرفة، كما قال شيخُ الإسلام ابنُ تيمية في "مجموع الفتاوى" (6/ 382)؛ ولهذا قال الألباني في "ضعيف ابن ماجه" عن تعداد الأسماء: "صحيحٌ دون عَدِّ الأسماء"[52]. ملحق هنا |
رد: تيسير رب العباد إلى شرح لمعة الاعتقاد |
رد: تيسير رب العباد إلى شرح لمعة الاعتقاد
|
رد: تيسير رب العباد إلى شرح لمعة الاعتقاد تيسير رب العباد إلى شرح لمعة الاعتقاد (4) الشيخ عبدالله بن حمود الفريح باب ما جاء من آيات الصفات 12- قال المصنِّف - رحمه الله -: فمِمَّا جاءَ مِنْ آياتِ الصِّفاتِ قولُ الله - عزَّ وجلَّ -: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ}[1]. الشرح ذَكَر ابنُ قدامة - رحمه الله - في هذه العقيدة ثماني عشرة صفة من صفات الله - تعالى - ونعرض الصفات التي ذكرها - رحمه الله - على حسب ترتيبه، ومما يُلاحظ أن ابن قدامة لَم يذكر مع هذه الصفات الصفات التي يثبتها الأشاعرة؛ -: 4- 79 لأنه لَم يكن بين أهل السنة الجماعة وبينهم خلاف في إثبات هذه الصفات، وعددها سبع، وهي: صفة العلْم، والحياة، والقُدرة، والكلام، والإرادة، والسمع، والبَصَر. وهي مجموعة في قول الناظم: حَيٌّ عَلِيمٌ قَدِيرٌ وَالكَلامُ لَهُ إِرَادَةٌ وَكَذَاكَ السَّمْعُ وَالبَصَرُ وإنما عرض ما ينكره الأشاعرةُ وغيرُهم من أهل الضلال من صفات، وهي: الصفة الأولى: صفة الوجه: وتحت هذه الصفة عدة مباحث: المبحث الأول: معتَقَد أهل السنة والجماعة في هذه الصِّفَة: أهل السنة والجماعة يثبتون صفة الوجْه لله - تعالى - من غَيْر تكييف ولا تمثيل، ومن غير تَحْريفٍ ولا تعطيلٍ، وهي من الصِّفات الذاتية الخبَرية. المبحث الثاني: صفة الوجه ثابتةٌ بالكتاب، والسنة، والإجماع: فمن الكتاب: ما استدل به المصنف؛ وهو قوله - تعالى -: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرَامِ}[2]. ومن السُّنَّة: حديث سعد بن أبي وقاص: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: ((إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله، إلا أُجِرت عليها))[3]. ومن الإجماع: قال الإمام ابن خزيمة في كتاب "التوحيد"[4]: "فنحن وجميع علمائنا، من أهل الحجاز، وتهامة، واليمن، والعراق، والشام، ومصر – مذهبنا: أنا نُثْبِتُ لله ما أثبته لنفسه، نقرُّ بذلك بألسنتنا، ونصدق ذلك بقلوبنا، من غير أن نُشَبِّه وَجْه خالقنا بوجه أحد من المخلوقين، عَزَّ ربُّنا أن يشبه المخلوقين، وجَلَّ ربُّنا عن مقالة المُعَطِّلِين". المبحث الثالث: المخالفون لأهل السنة: المخالفون لأهل السنة والجماعة من المبتدعة أوَّلوا صفة الوجه بعدة تأويلات: 1- فقالوا المراد بها: (الثواب)، {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ}[5]؛ أي: ويبقَى ثوابُ ربك، {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ}[6]؛ أي: إلا ثوابه، وهذا قول الجهمية. والرد عليهم من وجوه: أوَّلاً: أن في هذا مُخالفة لظاهر لفْظ الآية، فالآيةُ ظاهرها بلفظ الوجه لا الثواب. ثانيًا: أن فيه مخالفة لإجماع السلَف، فلا يُعْرَفُ أحدٌ منهم قال: إنَّ المراد بالوَجْه الثواب. ثالثًا: أنه جاء في الآية بيان صفات عظيمة لهذا الوجه؛ فقال - تعالى -: {ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرَام}[7]، فهل يمكن أن نقول عن الثواب: ذو الجلال والإكرام؟! رابعًا: جاء في حديث أبي موسى- رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((حجابُه النورُ، لو كشفه لأحرقت سُبُحَاتُ وجهِه ما انتهى إليه بصره من خلقه))[8]، فهل يمكن أن يقال: إن الثواب له النور الذي يحرق ما انتهى إليه بصر الله من الخلق؟! خامسًا: جاء في "صحيح البخاري"، من حديث جابر - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما نزل عليه قول الله - تعالى -: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ}[9]، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أعوذ بوجهك))، ولو كان الثواب هو المقصود، فهل يصحُّ أنْ يُستعاذ به؟! وهل يُستَعَاذُ بمخلوق؟! 2- ومنهم مَن قال بأن المراد بها: (الذات)، وهو قول الجهمية أيضًا والمعتزلة، ومَن وافقهم من الرافضة، وهو قول الأشاعرة. والرد عليهم من وُجُوه: أولاً: أن هذا مخالف لظاهر الآية. ثانيًا: أنه مخالف لإجماع السلف، فلا يُعْرَفُ أحدٌ منهم أوَّلها بالذات. ثالثًا: أن الله - عزَّ وجلَّ - وصف وجهه بقوله: {ذُو الجَلالِ وَالْإِكْرَامِ}، ولو كان ذلك وصفًا للذات لقال: (ذي الجلال والإكرام)؛ لأن لفظ (ربك) مجرورةٌ بالإضافة. رابعًا: أن من المعلوم أن العطف يقتضي المُغَايَرَة والاختلافَ، ففي حديث ابن عمرو: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا دخل المسجد قال: ((أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، من الشيطان الرجيم))؛ رواه أبو داود، وهنا عطف الوجه على الله - جل وعلا. تنبيهٌ وبيانٌ: إطلاق الجزء ويراد به الكل أسلوبٌ صحيحٌ معروفٌ في اللغة العربية؛ ولذا تمسَّك به بعض المؤوِّلة لصفة الوجه، فقالوا: إن المراد بها ذات الله - جلَّ وعلا - فأطلق الجزء - وهو الوجه - والمراد به الكل، وهو الذات، فقالوا: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ}؛ أي: ذاته - سبحانه - وقالوا: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ}[10]؛ أي: كل شيء هالك إلا ذاته - سبحانه - والمعنى الذي قالوه صحيحٌ لو أنهم أثبتوا صفة الوجه لله - تعالى - في الآيات السابقة؛ لأنَّ النَّص ورد في صفة الوجه، وهي جزء من الذات، والنص على الوجه يدل على ثبوت الذات، لكن الخطأ الذي وقعوا فيه: أنهم جعلوا المراد بالوجه هو الذات، وهذا تأويل باطل، ولو قال قائل: لماذا نذكر الذات مع إثبات صفة الوجه؟ فالجواب: حتى لا نقع فيما ذهب إليه مَن لا يقدِّرون الله حقَّ قدره؛ حيث قالوا في قوله - تعالى -: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ}، وقوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ}، وقالوا: إن الله يفنى إلا وجهه - تعالى الله عما يقولون عُلُوًّا كبيرًا[11]. المبحث الرابع: وقفةٌ مع آيةٍ اختلف السلَف في تفسيرها: وهي قولُ الله - تعالى -: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّه}[12]. اختلف السلفُ فيها مع إثباتهم لصفة الوجْه، على قولَيْن: القول الأول: أنها ليست من آيات الصفات، وأن المراد هنا الجهة والقبلة، والمعنى: فثم جهة الله؛ أي: فثم الجهة التي يقبل الله صلاتكم فيها، وهذا قول مجاهد، والشافعي، وشيخ الإسلام ابن تيميَّة في الفتاوى عند كلامه عن العقيدة الواسطية، فقال: إنَّ المراد هنا القبْلة؛ لأنَّ الآيات جاءتْ في سياق بيان القبلة. والقول الثاني: أنها من آيات الصفات، وتدل على صفة الوجه، وهذا قول الدارمي، وابن خُزيمة في كتاب: "التوحيد"، واختاره ابن القيم، ونَافَحَ عن هذا القول، وأطال في كتابه: "مختصر الصواعق المرسَلة"[13]، والخلاف محتملٌ ويسير، والمهمُّ أن نعرفَ أنهم جميعًا يُثْبِتُون صفة الوجه لله - تعالى. والأظْهَر - والله أعلم -: أن المراد بالوجْه في الآية وجه الله الحقيقي؛ والمعنى: إلى أي جهة تتوجَّهون فثمَّ وجه الله - سبحانه وتعالى - لأنَّ الله محيطٌ بكلِّ شيءٍ، ففي هذه الآية إثباتُ صفة الوجه لله - تعالى. هذا هو القولُ الأظْهر؛ لعدَّة أمور: 1- لأنه جاء في السُّنَّة ما يوافِق هذا المعنى؛ فقد جاء في الصحيحَيْن: أن المصلي إذا قام يُصَلِّي، فإن الله قِبَل وجهه؛ ولهذا جاء النهيُ عن البصْق جهة القبْلة؛ لأن الله قِبَل وجهه إذا صلى. 2- أن هذا هو المناسب لظاهر الآية، وأن المراد به: الوجْه المضاف إلى الله - تعالى. 3- أن فيه سَدًّا لباب التأويل، وإسكاتًا للمُؤَوِّلة الذين يجدون مثل هذا القول مستمسَكًا لهم على صحَّة تأويل آيات الصفات، كما فعلوا مع ابن تيميَّة، حينما ناظروه في العقيدة الواسطية، قائلين له: وجدنا عند السلف تأويلاً، وقبل أن يذكروه لشيخ الإسلام انقدح في ذهنِه - رحمه الله - هذه الآية، فقال: لعلكم تقصدون قول الله - تعالى -: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّه}[14]، قالوا: نعم نقصد هذه الآية، فردَّ عليهم - رحمه الله - بما يراه، وأن هذه الآية ليستْ من آيات الصفات[15]. المبحث الخامس: الآية التي استدل بها المصنف، وهي: قول الله - تعالى -: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرَامِ}: صفة لوجه الله - تعالى - بدليل أنها جاءت بالرفع (ذو)، ولو كانت صفةً للرب لجاءتْ بالجر (ذي)؛ لأن كلمة: (ربك) وقعتْ مضافًا إليه، و(ذو) صفة، والصفة تتبع الموصوف في الإعراب، وكلمة (وجه) جاءت مرفوعة؛ لأنها وقعت فاعلاً، (الجلال) معناه: العظمة والسلطان، (الإكرام) مصدرٌ من (أكرم، يُكرِم) صالحة للمُكْرَم والمُكْرِم، فالله - سبحانه - مُكرَم، وإكرامه القيامُ بطاعته، ومُكرِم لِمَن يستحق الإكرام مِن خلقه، بما أعدَّ لهم من الثواب[16]. المبحث السادس: الصورة صفة لله - تعالى -: أهل السنة والجماعة يُثْبِتُون صفةَ الصورة لله - تعالى - كما يليق بجلاله وعظمته، من غير تَحْريف ولا تعطيل، ومن غير تمثيل ولا تكييف، وهي صفةٌ ذاتيةٌ. ويدل عليها: 1- الحديث الطويل حديثُ أبي سعيد في رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة، وفيه: ((فيأتيهم الجبارُ في صورته التي رأوه فيها أول مرة، فيقول: أنا ربُّكم، فيقولون: أنت ربنا...))[17]. 2- حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((رأيت ربي في أحسن صورة))[18]. Ÿ Ÿ Ÿ قال المصنف - رحمه الله -: وقولُه - سبحانَهُ وتعالى -: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ}[19]. الشرح الصفة الثانية: صفة اليدين: وتحت هذا الصفة عدة مباحث: المبحث الأول: معتقد أهل السنة والجماعة في هذه الصفة: أهل السنة والجماعة يُثبتون صفة اليدين لله - تعالى - كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه، من غير تكييفٍ ولا تمثيل، ومن غير تحريفٍ ولا تعطيل، وهي من الصفات الذاتية الخبرية. المبحث الثاني: صفة اليدين ثابتةٌ بالكتاب، والسنة، والإجماع: فمن الكتاب: ما استدلَّ به المصنِّف، وهو قول الله - تعالى -: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ}[20]، واستدلال المصنِّف بهذه الآية خصوصًا وجيهٌ؛ لأن فيه إثباتًا أن لله يدين اثنتين. ومن السُّنَّة: حديثُ أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن الله يبسط يده بالليل؛ ليتوبَ مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار؛ ليتوبَ مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها))[21]، وحديث أبي سعيد - رضي الله عنه - مرفوعًا: ((إنَّ الله - عزَّ وجلَّ - يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك وسعديك، والخير في يديك))[22]. ومن الإجماع: قال أبو الحسَن الأشعَري: "وأجمعوا على أنه - عزَّ وجلَّ - يَسْمَعُ ويَرَى، وأن له - تعالى - يدين مبسوطتَيْن"[23]. المبحث الثالث: المخالفون لأهل السنة: المخالفون لأهل السنة والجماعة من المعطِّلة؛ كالجهمية والمعتزلة، يُؤَوِّلُون صفة اليدين، ويقولون: المراد بها: القدرة، أو النعمة، أو القدرة والنعمة، وتقدَّم أن من أَوَّل صفة من الصِّفَات فقد عطَّلها عن معناها الحقيقي؛ ولذا نقول: هم معطِّلة أيضًا، وهذا أشهر تأويلاتهم: أن المراد باليدين النعمة والقدرة، وهناك تأويلاتٌ أخرى لهم فيؤولونها بـ(القوة، والملك، والسلطان، والرزق، والخزائن، والبركة، والكرامة، والعناية)، ولكن كما تقدَّم: أن أشهر تأويلاتهم النِّعمة والقدرة، فهذا قول الجهمية، والمعتزلة، ومتأخري الأشاعرة، ويسمون (الأشاعرة المحضة)، بخلاف متقدمي الأشاعرة فهم يُثْبِتُون صفة اليدين ولا يُؤَوِّلونها. والرد عليهم من وجوه: 1- أن تفسيرَ اليدِ بالقدرة والنعمة مخالفٌ لظاهر لفظ الآية، ولا دليل على هذا التأويل. 2- أنه مخالفٌ لإجماع السلَف، فلا يُعْرَفُ أحدٌ أَوَّلَهَا بالقدرة والنِّعمة. 3- أنَّ تأويلها بالقُدرة والنِّعمة ممتنعٌ في بعضِ الآيات؛ مثال ذلك قوله - تعالى -: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}[24]، اليد جاءت بالتثنية، وتأويلها بالنعمة يلزم أن تكونَ النعمة نعمتين فقط، وهذا ممتنع؛ لأن نعم الله لا تُحْصَى؛ قال - تعالى -: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا}[25]، وأيضًا تأويلها بالقدرة يستلزم أن يكون له - سبحانه - قدرتان، ولا يجوز أن يكون له - سبحانه - قدرتان بإجماع العلماء، فهذا لا يقوله أحدٌ، وكذلك في قوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ}[26]، يلزم أن يكون له قدرتان - تعالى الله عن ذلك عُلُوًّا كبيرًا. 4- أن الله - عزَّ وجلَّ - يقول: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}[27]، ولو كان المراد القدرة، لَم يكن لآدم فضلٌ على غيره؛ لأنَّ الخلْق كلهم خُلِقُوا بقدرة الله، بل لَم يكن لآدم فضلٌ على إبليس في هذه الآية، فإبليس خُلِقَ بقدرة الله - تعالى - والله - عزَّ وجلَّ - في الآية أمره بالسجود لآدم ذاكرًا مزية لآدم: أنه خلق بيديه - سبحانه وتعالى. 5- أنَّ اليد التي أثبتها الله لنفسه جاءت في الأدلة مقرونة بأمور كثيرة تدل على أنها يد حقيقية، فجاءت على وجوه يمتنع تأويلها بالقدرة والنعمة، فجاءت مقرونةً بالطَّيِّ، والقبضِ، والبسط، واليمين. قال ابن القيم: "وَرَدَ لفظ اليد في القرآن، والسنة، وكلام الصحابة والتابعين، في أكثر من مائة موضع ورودًا متنوِّعًا، متصرفًا فيه، مقرونًا بما يدل على أنها يدٌ حقيقية، من الإمساك، والطي، والقبض، والبسط، والمصافحة، والحثيات، والنضح باليد، والخلق باليدين، والمباشرة بهما، وكتب التوراة بيده، وغَرَس جنة عدن بيده، وتخمير طينة آدم بيده، ووقوف العبد بين يديه، وكون المقسطين عن يمينه، وقيام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة عن يمينه، وتخيير آدم بين ما في يديه، فقال: ((اخترتُ يمينَ ربي))، وأخذ الصدقة بيمينه يربِّيها لصاحبها، وكتابته بيده على نفسه: أن رحمته تغلب غضبه، وأنه مَسَحَ ظهرَ آدم بيده، ثم قال له - ويداه مقبوضتان -: "اختر"، فقال: ((اخترتُ يمين ربي))، وكلتا يديه يمين مباركة، وأن يمينه ملأى، لا يغيضها نفقة، سَحَّاء الليل والنهار، وبيده الأخرى القسط، يرفع ويخفض، وأنه خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، وأنه يطوي السموات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليُمْنَى، ثم يطوي الأرض باليد الأخرى، وأنه خَطَّ الألواحَ التي كتبها لموسى بيده"[28]. وردَّ ابن القيم على مَن يؤوِّل اليد بالنعمة والقدرة من وُجُوه عديدة، تَصِلُ إلى عشرين وجهًا. المبحث الرابع: أهل السنة والجماعة يثبتون أنَّ لله يدين اثنتَيْن: يعتقد أهلُ السنة والجماعة أن لله يدين اثنتين، كما يليق بجلاله وعظمته - سبحانه - وهذا بإجماع السلف - رحمهم الله - ويدلُّ على ذلك: 1- قول الله - تعالى -: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ}[29]. 2- قول الله - تعالى -: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}[30]، فإنْ قيل: كيف نجمع بين معتقد أهل السنة والجماعة بأن لله يدين اثنتين، وبين ما ورد في بعض الآيات من وُرُود اليد بلفظ المُفْرَد؛ كقوله - تعالى -: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ}[31]، ورودها بلفظ الجمْع؛ كقوله - تعالى -: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ}[32]؟ فالجواب كما يلي: الجواب عن لفظ المفرد بثلاثة أجوبة: الأول: أنه لَم يُسَق اللفظُ لبيان العدد، وإنما لبيان الجنس، ولبيان الجنس يكفي لفظ المفرد؛ لأن اسم الواحد يدل على الجنس المراد. الثاني: أن لفظ المفرد في الآية جاء مضافًا؛ فقوله - تعالى -: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ}، (بيده): اليد مضاف والهاء في محلِّ جر مضاف إليه، وكذلك في الآيات الأخرى؛ كقوله: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ}[33]، فلفْظ اليد مضافٌ، ولفظ (الله) - جلَّ وعلا - إعرابه: مضاف إليه، ومعلوم أن المفرد المضاف يفيد العموم، فيعمُّ كل ما ثبت لله - تعالى - من يد، والثابت لله - تعالى - يدان. الثالث: أن الله قال لبيان سعة عطائه، وكثرة جوده: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ}، فبيَّن أن كثرة العطاء وسعة الجود وبسط النعمة باليدين كلتَيْهِما، رادًّا به على اليهود الذين قالوا: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ}[34] أفردوها؛ لأن اليد الواحدة أقل من عطاء الاثنتين، ووصفوها بأنها مغلولة؛ أي: قليلة العطاء، ولو كانت يدًا واحدة لَرَدَّ عليهم ببيان أن البسط والجود في اليد الواحدة، ولو كانت أكثر من اثنتين لذكرها الله - عزَّ وجلَّ - لأن المقام يقتضي بيان كثرة العطاء بجميع ماله من يد - سبحانه - فقال - تعالى -: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ}؛ ليُبَيِّنَ - سبحانه - أنَّ كل ما لديه من يد فهي مبسوطة، وهما اثنتان. الجواب عن لفظ الجمع بثلاثة أجوبة: الأول: أن المراد بالجمْع هنا ليس بيان العدد، وإنما للتعظيم، وليس المُراد أنَّ لله أكثر مِن اثنتين. الثاني: أن مِن لغة العرب استعمال لفْظ الجمع في الاثنتين، ويدل على ذلك قولُ الله - تعالى -: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا}[35]، والمقصودُ عائشة وحفْصة - رضي الله عنهما - وهما اثنتان، والمتبادَر إلى الذِّهن أن يُقال: (قلباكما)؛ لأنَّ المقصود قَلْبان لعائشة وحفصة - رضي الله عنهما ومع ذلك جاء بصيغة الجمع (قلوبكما)، وهذا دليلٌ على أنَّ استعمال لفْظ الجمع يكونُ للاثنين في لسان العرب. الثالث: أنَّ في لسان العرب: أن المثنى إذا أُضيف إلى ضمير الجمع يجوز جمعُه من أجل خفَّةِ اللفظ، وهنا المثنى أضيف إلى ضمير الجمع: (نا)، فجاز جمعه (أيدينا)، بدلاً من: (يَدَيْنَا)؛ لِخفَّة النُّطق. وبما سبق يزولُ الإشكالُ في وُرُود لفظ اليد مُفردًا ومَجْموعًا. المبحث الخامس: هل توصَف إحدى يدي الله - تعالى - بالشمال: هذه من المسائل التي اختلف فيها أهل العلم - رفع الله قدرهم - على قولَيْن، وقبل ذِكْرِ القولين لا بدَّ من معرفة أنهم متَّفقون على أن يدي الله - تعالى - يمين في البذْل والعطاء، وأن إحداهما يمين في الاسم،. اختلفوا في اسم اليد الأخرى على قولَيْن: القول الأول: أن الأخرى تُوْصَفُ بالشمال، واختار هذا القولَ الدارميُّ، وأبو يَعْلى، والشيخ محمد بن عبدالوهاب في آخر كتاب "التوحيد"، والشيخ عبدالله الغنيمان[36]. واستدلوا: 1- بحديث ابن عمر - رضي الله عنه - مرفوعًا: ((يطوي الله - عزَّ وجلَّ - السموات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليُمنى، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبِّرون؟ ثم يطوي الأرضين بشماله...))[37]. 2- الأحاديث الواردة بإثبات اليمين لله؛ كحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعًا: ((يمين الله ملأى))[38]، وحديث أبي هُريرة - رضي الله عنه - أيضًا مرفوعًا: ((ويطوي السماء بيمينه))[39]، وغيرها من الأدلة التي جاءتْ بِوَصْف إحدى اليدين بأنها يمينٌ؛ وهذا يقْتضي أن إحدى اليدين ليست يمينًا؛ فتكون شمالاً. ووصفها أيضًا الدارميُّ باليسار، والشمال، واستدل بحديث أبي الدرداء عند أحمد؛ وفيه: أن الله - عزَّ وجلَّ - قال للتي في يساره - أي: في يده اليسار -: ((إلى النار، ولا أبالي)). القول الثاني: أن كلتا يدي الله يمينٌ، لا شمال، ولا يسار فيهما، واختار هذا القول الإمام ابن خُزيمة - في كتاب: "التوحيد" - والإمام أحمد، والبيهقي، والألباني[40]. واستدلوا: 1- بحديث عبدالله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - مرفوعًا: ((إنَّ المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن - عز وجل - وكلتا يديه يمين))[41]. 2- حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عند التِّرمذي، وفيه قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((اخترت يمين ربي، وكلتا يدي ربي يمين مباركة)). وناقشوا أدِلَّة القولِ الأول: بأنَّ حديث ابن عمر - رضي الله عنه - وفيه لفظة: (الشمال)، هي لفظةٌ شاذَّةٌ، تفرَّد بها عمر بن حمزة، عن سالم، عن ابن عمر، والحديث عند البخاري من طريق عبيدالله، عن نافع، عن ابن عمر، وعند مسلم من طريق عبيدالله بن مقسم، عن ابن عمر، وليس عندهما لفظة (الشمال)، وأيضًا الحديثُ رواه أبو داود، وقال بدل (بشماله): (بيده الأخرى)، وهذا هو الموافق لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((وكلتا يَدَيْه يمين)). وأما استدلالهم الثاني، فليس بصريح؛ لأنه لا يمنع أن تكونَ اليد الأخرى يمينًا أيضًا؛ وعليه فالاستدلال الأول ليس بصحيح، والثاني ليس بصريح، ونَاقَشَ أصحابُ القول الأول أدلة أصحاب القول الثاني، بأن قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((كلتا يديه يمين))، لا يمنع أنْ تكون إحدى يديه شمالاً في الاسم، وهي يمين في الخَيْر والبَرَكة والعَطاء. والأظهرُ - والله أعلم - أن يُقال: إنَّ صِفات الله - تعالى - توقيفية؛ فنقول كما قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((كلتا يديه يمين))، حتى يصح عندنا خبر أن يده الأخرى تسمى شمالاً أو يسارًا؛ فنقول بهذا الوصف[42]. المبحث السادس: صفة الكَفِّ: أهلُ السنة والجماعة يُثْبِتُون صفة الكف لله - تعالى - كما يليق بجلاله وعظمته، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غَيْر تكْييف ولا تمثيل، وهي صفة ذاتية خبرية. ويدل على ذلك: حديثُ أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعًا: ((ما تَصَدَّق أحدٌ بصدقة من طيِّبٍ - ولا يقبل الله إلا الطيِّبَ - إلا أخذها الرحمن بيمينه، وإن كانت تمرةً، فتربو في كفِّ الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل))[43]. المبحث السابع: صِفة الأصابع: أهل السنة والجماعة يُثبتون صفة الأصابع لله - تعالى - كما يليق بجلاله وعظمته، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، وهي صفة ذاتية خبرية. ويدل على ذلك: 1- حديث عبدالله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما -: أنه سمع رسول الله يقول: ((إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن، كقلبٍ واحدٍ، يُصَرِّفه كيف يشاء))، ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((اللهُمَّ مُصَرِّف القُلُوب، صَرِّفْ قُلُوبنا إلى طاعتك))[44]، وهذا الحديث رواه جمعٌ منَ الصحابة؛ كالنواس بن سمعان، وعائشة، وأبي ذر - رضي الله عنهم أجمعين. 2- حديث ابن مسعود- رضي الله عنه - قال: أتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - رجلٌ من اليهود فقال: يا محمد، إنَّ الله يجعل السموات على إصبع، والأرضين على إصبع، والجبال والشجر على إصبع، فيهزهنَّ، فيقول: أنا الملك، قال: فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى بدت نواجذه؛ تصديقًا لما يقول الرجل، ثم قرأ: (({وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِه}[45]))[46]. وبعض أهلِ العلم يجعل الأصابع تابعة لليد؛ لأن هذا مقتضى اللغة العربية، وفهم العرب، إلا أن الأحْوط في المسألة أن يسكتَ الإنسانُ عن نسبة الأصابع إلى اليد، ويفعل كما يفعل السلف، يُثبتون الأصابع لله، ولا يخصصها بيد الله؛ إذ لا مستند من السنَّة لذلك، وإنما نُثبت صفة الأصابع لله، وهذا أَدَقُّ وأَحْوَط، فنُثبتها على الوَجْه اللائق به - سبحانه - لا يعلم كيفيتها إلا هو؛ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}[47]. وللموضوع تتمة |
رد: تيسير رب العباد إلى شرح لمعة الاعتقاد تيسير رب العباد إلى شرح لمعة الاعتقاد (4) الشيخ عبدالله بن حمود الفريح المبحث الثامن: صفة الأنامل: أهل السنة والجماعة يُثبتون صفة الأنامل لله - تعالى - كما يَلِيق بجلاله، من غَيْر تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، وهي صفة ذاتية خبرية. ويدل على ذلك: حديث معاذ بن جبل - حديث اختصام الملأ الأعلى - وفي الحديث: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((فرأيتُه وضع كفه - أي: الله عزَّ وجلَّ - بين كتفي، حتى وجدت برد أنامله في صدري...))[48]. وأثبت الأنامل استدلالاً بهذا الحديث شيخُ الإسلام ابن تيميَّة، في ردِّه على الرازي في كتابه "نقض أساس التقديس"[49]. المبحث التاسع: وقفة مع آية، وصفة اليد: وهي قول الله - تعالى -: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ}[50]، وهذه الآية ليستْ مِن آيات الصفات، فلا يؤخَذ منها صفة اليد لله - تعالى - لوجهَيْن: الأول: أنها ليست مضافة لله - تعالى - بخلاف آيات الصفات، تجدها مضافةً لله - تعالى - فلا نثبت صفة حتى تكون مضافة لله - تعالى - وهذه قاعدة مهمة، وهنا لَم يقل الله: (بأيدينا)، فلم تُضَف. الثاني: أن (أيد) هنا ليست من اليد، وإنما مصدر آد، يئيد، بمعنى: "قَوِي"، قال الشنقيطي: "قوله - تعالى -: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ}، ليس من آيات الصِّفات المعروفة بهذا الاسم؛ لأن قوله: (بأيد) ليس جمع "يد"، وإنما الأيد القوة... والأيد والآد في لغة العرب بمعنى القوة، ورجل أيِّدٌ: قَوِيٌّ، ومنه قوله - تعالى -: {وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ}[51]؛ أي: قوَّيناه به، فمن ظنَّ أنها جمع يد في هذه الآية فقد غلط غَلَطًا فاحشًا، والمعنى: والسماء بَنَيْناها بقوة"[52]، وكذا قال ابن فارس، والفيروزآبادي في "القاموس المحيط"، وابن دريد في "الجمهرة": أن الأيد: مصدر آد يئيد، والأيد القوة، فلا مستمسك بها لأهل التحريف. Ÿ Ÿ Ÿ قال المصنف - رحمه الله -: "وقولُهُ - تعالى - إخْبارًا عنْ عيسى - عليه السلام -: أنَّه قال: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ}[53]. الشرح الصفة الثالثة: صفة النَّفْس (بسكون الفاء): وتحت هذه الصِّفة عدة مباحث: المبحث الأول: معتَقَد أهلِ السنة والجماعة في هذه الصفة: أهل السنة والجماعة يُثْبِتُون لله نفسًا إثباتًا يليق بجلاله وعظمته، من غير تكييف ولا تحريف، ومن غير تمثيل ولا تعطيل. المبحث الثاني: دلَّ الكتاب، والسُّنَّة، والإجماع على أن لله نَفْسًا: فمن الكتاب: قوله - تعالى - عن عيسى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ}[54]، وهو ما استَدَلَّ به المُصَنِّفُ، وقوله تعالى: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي}[55]. ومن السُّنَّة: حديثُ أبي ذرٍّ - رضي الله عنه - عند مسلم، وفيه: قال الله تعالى: ((يا عبادي، إنِّي حرَّمْتُ الظُّلْمَ على نفسي))، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: ((يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه، ذكرته في نفسي)). وإجماع السلَف على أن لله - تعالى - نَفْسًا تليق به - سبحانه - من غير تحريف ولا تكييف، ومن غير ثَمْثيل ولا تعطيل. فائدة: قد يقول قائلٌ: ما الدليلُ على أن السلفَ مُجمعون على هذا؟ وكذلك ما تقدَّم ذكره من إجماع للسلَف في الرَّد على مَنْ أوَّل بعض الصفات، ما الدليل على إجماع السلف؟ الجواب: أنَّ إثبات السلف بأن لله نفسًا ولا يُعرف من ينكر ذلك، ولَم يُنكر ذلك إلا أهلُ البدَع - هو دليلٌ على إجماعهم - رحمهم الله - وكذلك في الرد على من أوَّل بعض الصفات، نقول لهم: خالفتُم إجماع السلَف، فإن قالوا: أين الدليلُ على إجماعهم؟ هات لي قولاً لأحد الصحابة، أو السلف، ينقل الإجماع، أو يقول بأنَّ المراد باليدين لله تعالى، والوجه، وغيرها من الصفات أنها صفات حقيقية لا تُؤوَّل. نقول: إنَّ السلَف - رحمهم الله - لو كان عندهم معنى آخر يُخالف ظاهر الآية، والمعنى الحقيقي الذي دلت عليه الآية، لنُقِلَ إلينا عنهم، فلمَّا لَم يُنقَلْ شيء عُلِمَ أنهم يأخذون بظاهر اللفظ، ولا يُؤَوِّلون، فهذا كالإجماع؛ حيث لا يُعلم مخالف لذلك، وأنتم أعطونا قولاً لأحد الصحابة والتابعين يؤوِّل صفة الوجه بالثواب، وصفة اليدين بالنِّعمة والقدرة، فلن تجد لهم قولاً، وهذا يدلُّ على أنهم يأخذون - رحمهم الله، ورضي عنهم - بظاهر اللفظ، ولا يؤوِّلون[56]. المبحث الثالث: هل (النَّفْس) هي ذات الله - تعالى؟ وهذا مما اختلف فيه السلَف - رحمهم الله - على قولَيْن: القول الأول: أنَّ النفْس بمعنى الذات، فليست صفة، بل هي ذاته - سبحانه - المُتَّصِفَة بصفاته، واختار هذا القولَ شيخُ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله - وقال: هو قول جُمهور العلماء، وهو اختيارُ الشيخ ابن باز - رحمه الله[57]. وعلَّلُوا ذلك: بأنَّ هذا هو المعروف من لغة العرب، فأنت تقول: جاء زيد عينه ونفسه؛ أي: ذاته، وسقط الجدار نفسه؛ أي: ذاته، قال شيخ الإسلام ابن تيمية عن نفس الله تعالى: "ونفسه هي ذاته المقدَّسة"[58]، وقال أيضًا[59]: "ويُرَادُ بنَفْس الشيء: ذاتُه وعينه، كما يقال: رأيت زيدًا نفسَه وعينَه، وقد قال تعالى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ}[60]، فهذه المواضع المرادُ فيها بلفظ النَّفْس عند جمهور العلماء: الله نفسه، التي هي ذاته، المُتَّصِفَة بصفاته، ليس المراد بها ذاتًا مُنْفَكَّة عن الصفات، ولا المراد بها صفة للذات". والقول الثاني: أن النَفْس صفةٌ لله - عزَّ وجلَّ - وليس المقصود بها الذات التي لها الصفات، واختار هذا القولَ ابنُ خزيمة في كتاب "التوحيد"[61]، وعبدالغني المقدسي في عقيدته[62]، والمصنِّف ابن قدامة المقدسي في هذه العقيدة؛ حيث أوردها مع الصفات؛ ولذا قولنا في أول الكلام عن النفس: (صفة النفس)، تَمَشِّيًا مع مقصود المصنف، وأيضًا إثباتًا يليق بجلاله – سبحانه - والخلافُ في هذه المسألة يسيرٌ، فأصحاب القولين يُثبتون أن لله نفسًا - جلَّ وعلا - والخلافُ هل النفس هي الذات التي لها الصفات، أو أن النفس صفة من الصفات؛ كالسمع، والبصر، والحياة، وغيرها من الصفات؟ وتحت هذا الخلاف تنبيهان: الأول: القائلون بأن النفس هي ذاته - سبحانه - لا يقولون بأنها ذات مجرَّدة عن الصفات، كما يقوله أهلُ البدع - تعالى الله عن هذا القول عُلُوًّا كبيرًا - وبهذا افترقوا عن أهل البدع فتنبَّه، فما قاله أهل البدع هو الذي يُعَدُّ تأويلاً. الثاني: القائلون بأن النفس صفةٌ من الصفات يثبتونها لله - تعالى - على الوجه اللائق به - سبحانه - فهي ليست كأنفس المخلوقين، فمُجَرَّد اتِّفاق الاسم لا يستلزم الاتفاق في الكيفية، فليس كما يُقال بالنسبة للمخلوق الذي له جسد وله روح تسمى نفسًا، فيقولون: خرجت نفسه؛ يعني: خرجت روحه - تعالى الله عن الشبيه والنظير -: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}[63]. المبحث الرابع: المخالفون لأهل السنة: المخالفون لأهل السنة والجماعة من المعطلة؛ كالجهمية، والمعتزلة، وغيرهم - يؤوِّلون، ويقولون: إن المراد بالنفس هي الذات المجرَّدة عن الصفات. والرد عليهم من وجوهٍ أشهرها: 1- أن تأويلهم مخالفٌ لطريقة السلف - رحمهم الله. 2- أنه لا يوجد ذاتٌ مُجردةٌ عن الصفات - فتعالى الله عما يقولون عُلُوًّا كبيرًا. 3- أن الذات المجردة عن الصفات ذاتٌ ناقصة، فلا يوجد ذاتٌ كاملةٌ مُجَرَّدةٌ عن الصفات - فتعالى الله جلَّ شأنُه. 4- أن هذا التأويل يقتضي تعطيلَ نصوص الصفات عن معناها الحقيقي، وتحريفها إلى معانٍ غير مرادة، فهو مخالف لظاهر النصوص، ولا دليل على هذا التأويل. Ÿ Ÿ Ÿ قال المصنِّف - رحمه الله -: وقوله - سبحانه -: {وَجَاءَ رَبُّكَ}[64]، وقوله - تعالى -: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمْ اللَّهُ}[65]. الشرح الصفة الرابعة والخامسة: المجيء والإتيان: وتحت هاتَيْن الصِّفَتَيْن عدَّة مباحث: المبحث الأول: معتَقد أهل السُّنَّة والجماعة في هاتَيْن الصفتين: أهل السنة والجماعة يُثبتون صفَتي المجيء والإتيان لله - تعالى - وأنه يجيء ويأتي بنفسه – سبحانه - مِن غير تكييف ولا تمثيل، ومِن غير تحريف ولا تعطيل، وهما من الصِّفات الفعليَّة الخبرية، وتقَدَّم في قواعد الصفات: أن الصفات الفعلية هي التي يتَّصف بها الله - تعالى - إذا شاء، وليس على الدَّوام، بل يتَّصف بها - سبحانه - في وقتٍ دون وقت. المبحث الثاني: صفتا المجيء والإتيان ثابتتان بالكتاب، والسنة، والإجماع: فمِنَ الكتاب: ما استدلَّ به المصنِّف؛ قوله - تعالى -: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا}[66]. وقوله - تعالى -: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ}[67]. ومن السنة: حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعًا: قال الله - تعالى -: ((وإن تقرَّب إليَّ ذراعًا، تقَرَّبْتُ إليه باعًا، وإن أتاني يَمْشي أتيتُه هرولة))[68]، وفي رواية لمسلم: ((وإذا تلقاني بباعٍ، جئتُه - وفي رواية -: جئته؛ أتيته بأسرع)). وإجماع السلف على ذلك: قال أبو حسن الأشعري: "وأجْمَعُوا على أنه - عزَّ وجل - يَجِيء يوم القيامة والملك صفًّا صفًّا"[69]. المبحث الثالث: المخالِفون لأهل السُّنَّة: المخالفون لأهل السنة والجماعة مِن المعطِّلة؛ كالجَهْمِيَّة، والمعتزِلة، والأشاعرة، يُؤَوِّلُون المجيء والإتيان لله، فيُقَدِّرون محذوفًا، ويقولون: "جاء أمر ربك، وأتى أمر ربك"، فلا يثبتون المجيء والإتيان لله بنفسه، ويقولون في قوله - تعالى -: {وَجَاءَ رَبُّكَ}؛ أي: أمْرُ ربك، وفي قوله {أَوْ يَأْتِي رَبُّكَ}؛ أي: أمْرُ ربك، مستدلِّين بقَوْلِه - تعالى -: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ}[70]، وهذا تأويلٌ باطلٌ، وصَرْف للنَّصِّ عنْ ظاهرِه. والرد عليهم: 1- أنَّ هذا التأويل مخالفٌ لطريقة السلَف - رحمهم الله. 2- أن تأويلَكم هذا مخالفٌ لظاهر النُّصوص، ولا دليل على هذا التأويل. 3- أنَّ قولكم بأن المراد: "جاء أمر الله، وأتى أمر الله"، واستدلالكم بقوله - تعالى -: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ}[71]، هو استدلال عليكم لا لكم؛ لأنَّ فيه بيانًا بأنَّ الله - عزَّ وجل - لو أراد هذا المعنى لذَكَرَهُ في بقيَّة الآيات، كما ذكَرَهُ هنا، بل أصرح من ذلك: أنَّ الله - تعالى - في آية واحدة بيَّن صفة الإتيان لنفسه، والإتيان لغيره؛ فقال - تعالى -: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ}[72]، وهذا التَّقْسيم والبيان لإتيان الملائكة، وإتيانه - سبحانه - وإتيان بعض آياته - تقْسيمٌ يبعد معه التقدير؛ لأنه لو أراد أمْرَه - سبحانه - كما تزْعمُون، لَذَكَرَهُ في هذه الآية، فليس هناك ما يمنع ذِكْره. تنْبيه: بعضُ المفَسِّرين المُتَأثِّرين بمذْهب الأشاعِرة في إثبات بعضِ الصفات، ينقلون إجماعًا وكلامًا عنِ السلَف لا يصِح، فمِمَّا نقلوه ونسبوه للسلَف: تنْزيه الله - تعالى - عن صفَتي المجِيء والإتيان، وأنَّ السلَف كانوا يسكتون ولا يعتَقِدون أنَّ لله - تعالى - مجيئًا حقيقيًّا، بل يقولون: لا نتكلَّم، ولا ندري ما معناها، ولا نبحث في دلالتها، وهذا القول نسْبتُه للسلَف غير صحيحة، بل السلَف - رحمهم الله - يُثبتون صفَتي المجيء والإتيان لله - تعالى - كما يليق بجلاله وعظمته - سبحانه - ولا يبحثون عن كيفية مجيئه وإتيانه - سبحانه - كما يثبتونها من غير تكييف ولا تحريف، ومن غير تعطيل ولا تمثيل[73]. فائدة: كلُّ مَن سلك طريق التأويل في صفات الله - تعالى - اضْطربَ وتناقَض، وحار في أمرِه ومعتقده ذلك؛ فهُمْ أنكروا وعَطَّلُوا كثيرًا من الصفات؛ ليفِرُّوا بزَعْمهم من مُشابهة الخالق بالمخلوق، فعَطَّلُوا صفاتٍ كثيرة؛ كاليدين، والوجه، والمجيء، والإتيان، والرضاء، والمحبة، وغيرها من الصفات الذاتية والفعلية؛ لئلاَّ يشبهوا الخالق بالمخلوق، وبزَعْمهم أنهم لو أثبتوا هذه الصفات وقعوا في المحذور الذي منه يفرُّون. ويُقال لهم: ماذا تقولون: هل الله موجود، أو غير موجود؟ فإن قالوا: غير موجود، فقد كفَروا، وإن قالوا: موجود، يُقال لهم: وقعتم بالذي منه تفرُّون، فالمخلوق أيضًا موجود، فأثبتُّم للخالق والمخلوق صفة الوجود، فإن قالوا: نحن نثبت وجود الله - تعالى - ولكن ليس كوجود المخلوق، الذي هو قابل للعدَم والنقْص، والله - عز وجل - له وجودٌ يليق بجلاله، فيقال لهم: ونحن كذلك نقول في صفات الله - تعالى - الثابتة في كتابه وسنة رسوله: نثبتها له كما يليق بجلالِه وعظمته، مِن غير تمثيلٍ وتشبيه بالمخلوق، فهو القائل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}[74]، ومن غير تكييف، ولا تحريف، ولا تعطيل، فهذا اعتقادُنا في صفة الوُجُود، وفي جميع الصفات، نُثبتها كما يليق به - سبحانه. Ÿ Ÿ Ÿ قال المُصَنِّف - رحمه الله -: وقولُه - تعالى -: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ}[75]. الشرح الصفة السادسة: صفة الرضا: وتحت هذه الصفة عدة مباحث: المبحث الأول: مُعتَقد أهل السنة والجماعة في صفة الرضا: أهل السنة والجماعة يُثبتون صفة الرضا لله - سبحانه وتعالى - مِن غير تكييف ولا تعطيل، ومن غير تمثيل ولا تحريف. وهي من الصِّفات الفعليَّة الخَبَريَّة؛ فالله - عز وجل - يتَّصِف بها متى شاء، فليسَتْ صفة ذاتية، أي: ملازمة للذات، لا تنفصل عنه - سبحانه - بل هي صفة فعلية، يتَّصف بِها الله - تعالى - متى شاء، وتَقَدَّم في قواعد الصفات: تقسيم الصفات إلى: ذاتية، وفعلية، وبيان الفرْق بينهما بالأمثلة. المبحث الثاني: صفة الرضا دلَّ عليها الكتاب، والسنة، والإجماع: فمِن الكتاب: ما استدل به المصنِّف، قوله - تعالى -: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ}[76]. ومن السنة: حديث عائشة - رضي الله عنها - عند مسلم مرفوعًا: ((اللهم إنِّي أعوذ برضاك مِن سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك)). وإجماع السلف على ذلك: حيث لا يُعلم فيهم مخالِف - رحمهم الله، ورضي عنهم. قال أبو إسماعيل الصابوني: "وكذلك يقولون - أي: يثبتون - في جميع الصفات التي نزل بذِكْرها القرآن، ووردت بها الأخبار الصحاح؛ من: السمع، والبصر، والعين... والرضا، والسخط"[77]. المبحث الثالث: المخالفون لأهل السُّنَّة: المخالفون لأهْل السنة والجماعة منَ المعَطِّلة؛ كالجهميَّة، والمعتزلة، والأشاعرة، وغيرهم - يُؤَوِّلون صفة الرضا بإرادة الثواب، فيقولون - رضي الله عنهم -: أي: أثابهم الله - تعالى. والرد عليهم: 1- أنَّ هذا مخالِف لطريقة السلف. 2 - أن هذا التأويل مخالف لظاهر النصوص، ولا دليل على هذا التأويل. 3- أن إرادة الثواب ثَمَرة من ثمرات الرِّضا، وليس هو الرِّضا، ففَرْق بين الصفة وثمراتها. المبحث الرابع: منَ الأعمال التي ينال بها المسلمُ رضا الله - تعالى: 1- الإيمان بالله، والعمل الصالح؛ لقوله - تعالى -: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ * جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ}[78]. 2- نفَقة المال طلبًا لرضا الله - جل وعلا - لقوله - تعالى -: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ}[79]. 3- الرضا بالبلاء؛ لحديث أنس - رضي الله عنه -: ((إنَّ عِظَم الجزاء مع عِظَم البلاء، وإنَّ الله إذا أحب قومًا ابتلاهُم، فمن رضي فله الرضا، ومن سَخِطَ فله السخط))[80]. 4 - حَمْد الله على الأكْل والشُّرْب؛ لحديث أنس - رضي الله عنه - مرفوعًا: ((إنَّ الله ليرضَى عن العبد أن يأكلَ الأكلة فيحمده عليها، أو يشرب الشربة فيحمده عليها))[81]. 5- السواك؛ لحديث عائشة - رضي الله عنها - مرفوعًا: ((السواك مطْهرة للفَم، مرْضاة للرَّبِّ))[82]. قال المصنف - رحمه الله -: "وقولُه - تعالى -: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}[83] الشرح الصفة السابعة: صفة المحبة: وتحت هذه الصفة عدة مباحث: المبحث الأول: مُعتقد أهل السنة والجماعة في صفة المحبة: أهل السنة والجماعة يُثبتون صفة المحبة لله - تعالى - كما يليق بجلاله وعظمته، من غير تكييف ولا تعطيل، ومن غير تَمْثيل ولا تحريف، وهي من الصِّفات الفعلية الخبَريَّة. المبحث الثاني: صفة المحبة دلَّ عليها الكتابُ والسنة والإجماع: فمن الكتاب:ما استدل به المصنِّف؛ قوله - تعالى -: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}. من السنة:حديث سهل بن سعد - رضي الله عنه - مرفوعًا: ((لأعطين الراية غدًا رجلاً يفتح الله على يديه، يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله))[84]، وفي الحديث: أنه - صلى الله عليه وسلم - أعطاها عليًّا. وإجماع السلف على ذلك: قال شيخُ الإسلام ابن تيميَّة: "إن الكتاب والسنة وإجماع المسلمين أثبتتْ محبة الله لعبادِه المؤمنين ومحبتهم له"[85]. المبحث الثالث: المخالفون لأهل السنة: المخالفون لأهل السنة والجماعة منَ المعَطِّلة أنْكَرُوا صفة المحبة، وقالوا: لأنَّ المحبة لا تكون إلاَّ بين اثنين مُتجانسَيْن، فلا تكون بين الربِّ والمخلوق أبدًا، فهي تكون بين المخلوقات فقط، هذا هو زعمُهم، وأَوَّلُوا نصوص إثبات صفة المحبة بإرادة الثواب، فمَحَبَّة الله للمؤمنين إثابتهم؛ وهذا قول الأشاعرة وغيرهم من أهل التحْريف. والرد عليهم: 1- أن هذا مخالِف لطريقة السلَف - رحِمهم الله. 2- أن هذا التأويل مخالف لظاهر القرآن، ولا دليل على هذا التأويل. 3- أن إرادة الثواب ثمرة من ثمرات المحبَّة، وليستْ هي المحبة، ففرْق بين الصِّفة وثمرتها. 4- أن قولكم: إنَّ المحبة لا تكون إلاَّ بين المتجانسَيْن، فلا تكون إلا بين المخلوقات - هي دعوى لا دليل عليها. المبحث الرابع: أقوى أنواع المحبَّة هي الخُلَّة: وصفة الخلَّة صفَة ثابتة لله - تعالى - بـ: الكتاب والسنَّة والإجماع، فمُعتَقد أهل السنة والجماعة إثبات صفة الخُلَّة لله - تعالى - بلا تكييف، ولا تمثيل، وبلا تعطيل، ولا تحريف، وهي صفة فعليَّة خبريَّة. ويدل عليها: من الكتاب: قوله - تعالى -: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً}[86]. ومن السُّنَّة: ما جاء في "صحيح مسلم": أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ولقد اتَّخذ الله صاحبكم خليلاً))؛ يعني: نفسه - صلى الله عليه وسلم. وإجماع السلف على إثبات هذه الصفة. وتحت هذه الصفة عِدة فوائد: الأولى: صفة الخلَّة لله - تعالى - صفة توقيفية، فلا يجوز أن نثبت لأحد من البشر أنه خليل لله - تعالى - ولو كان نبيًّا، إلا بدليل، ولَم يدل الدليل إلا على نبيَّيْن: إبراهيم، ومحمد - عليهما الصلاة والسلام - فلا نثبتها إلا لهما، وتقَدَّم الدليل على ذلك، بخِلاف المحبة؛ فهي تكون لكثيرٍ من الناس، ولها أسباب سيأتي بيانُ بعضِها. الثانية: الخلَّة هي نهاية المحبة وكمالها وأعلى أنواعِها، وسُمِّيَتْ بذلك؛ لأنَّها تخالل شغاف القلب، وتصل إلى السوَيْداء، ولذا هي عند المخلوق لا يتَّسع القلبُ لأكثر من خليل واحد، بخلاف المحبة فهي تسَع لكثير من الناس، ولهذا امتلأ قلْب النبي - صلى الله عليه وسلم - بخلَّة الله - تعالى - فلم يتَّسِع لأحد حتى أحب الناس إليه، فقد قال نبيُّنا - صلى الله عليه وسلم -: ((لو كنتُ متخذًا مِن أمتي خليلاً، لاتَّخذْت أبا بكر خليلاً))، وأما حبُّه - صلى الله عليه وسلم - فكان لكثيرٍ منَ الناس؛ منهم: أبو بكر، وابنته عائشة، وزيد بن حارثة، وابنه أسامة، وعمرو بن العاص - رضي الله عنهم - وغيرهم. الثالثة: أول مَن أنكر المخالة هو رأسُ المعطِّلة الجهمية: الجعد بن درهم؛ فأنْكَرَ اتِّخاذ الله إبراهيم - عليه السلام - خليلاً، وأنكر تكليم الله لِموسى - عليه السلام - فقتله خالد بن عبدالله القسري؛ حيث خرج به موثقًا في يوم الأضحى، وخطب الناس، فقال: "أيها الناس، ضحوا تقبَّل الله ضحاياكم، فإنِّي مُضَحٍّ بالجَعْد بن درهم؛ لأنه زعَم أنَّ الله لَمْ يتَّخذ إبراهيم خليلاً، ولم يُكلِّم موسى تكليمًا، ثم نزل فذبحه، وفي هذا يقول ابن القيم - رحمه الله - في نونيته: وَلِأَجْلِ ذَا ضَحَّى بِجَعْدٍ خَالِدُ الْ قِسْرِيُّ يَوْمَ ذَبَائِحِ الْقُرْبَانِ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لَيْسَ خَلِيلَه كَلاَّ وَلاَ مُوسَى كَلِيمُ الدَّانِي شَكَرَ الضَّحِيَّةَ كُلُّ صَاحِبِ سُنَّةٍ لِلَّهِ دَرُّكَ مِنْ أَخِي قُرْبَان الرابعة: قوله - تعالى -: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ}[87]: اسم الله "الودود"، يؤخَذ منه صِفة الودِّ لله - تعالى - نُثبتها لله - تعالى - من غير تحريف، ولا تكييف، ومن غير تمثيل، ولا تعطيل، والودُّ هو: خالص المحبة، فصارتِ الصفةُ تحت هذا الباب ثلاثة: المحبة، والخُلَّة، والودّ. وللموضوع تتمة Ÿ Ÿ Ÿ |
رد: تيسير رب العباد إلى شرح لمعة الاعتقاد تيسير رب العباد إلى شرح لمعة الاعتقاد (5) الشيخ عبدالله بن حمود الفريح قال المصنف - رحمه الله -: "ومِنَ السُّنَّةِ قَوْلُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: ((يَنزِلُ ربُّنا - تباركَ وتعالى - كلَّ ليلةٍ إلى سماءِ الدّنيا))، وقولُه: ((يَعْجَبُ رَبُّكَ مِنَ الشَّابِّ لَيْسَتْ لَهُ صَبْوَة))، وقوله: ((يَضحَكُ اللهُ إلى رجُلَين يَقُتلُ أحدُهما الآخرَ يَدخُلانِ الجنَّة)). الشرح الصفة الحادية عشرة: صفة النزول: ما تقدَّم من صفاتٍ استدل عليها المصنف من كتاب الله - جل وعلا - وما سيأتي من صفات استدل عليها المصنف من السنة النبوية، وهو يريد بهذا أن يبيِّن أنَّ نُصُوص الصفات تؤخَذ من الكتاب والسنة، وبدأ بصفة النزول، وتحت هذه الصفة عدةُ مباحث: المبحث الأول: معتَقَد أهل السُّنَّة والجماعة في صفة النُّزول: أهل السنة والجماعة يُثبتون صفة النُّزول لله - جلَّ وعلا - كما يليق بجلاله وعظمته، من غير تكييف ولا تحريف، ومن غير تمثيل ولا تعطيل، وهي من الصفات الفعلية الخبَرية. المبحث الثاني: صفة النزول دلَّ عليها السنة النبوية والإجماع: Ÿ فمن السنة: حديث النزول المشهور، وهو حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعًا: ((ينزل ربُّنا إلى السماء الدنيا كل ليلة، حين يبقى ثلثُ الليل الآخر...))[1]. - وأجْمَعَ السلَف - رحمهم الله - على إثبات صفة النُّزول لله - تعالى - كما يَليق به - سبحانه. المبحث الثالث: المخالفون لأهل السُّنَّة: المخالفون لأهل السنة والجماعة من المبتدعة المُعَطِّلَة؛ كالمعتزلة، والجهمية، والأشاعرة، وغيرهم - يؤوِّلون صفة النزول لله - تعالى – ويقولون: المراد بها نزول رحمته، أو أمره، أو ملائكته، ولا شك أنَّ هذا تأويلٌ باطلٌ. والرد عليهم: 1- أن هذا مخالفٌ لإجماع السلف، أو لطريقة السلف - رحمهم الله. 2- أنه مخالفٌ لظاهر النصوص، ولا دليل على هذا التأويل. 3- أنَّ تأويلَكم بأنَّ المراد نُزول الرحمة تأويلٌ باطل؛ لأنَّ الرحمة نازلة على العباد في كلِّ حين، وكذلك أمره ينزل في كل وقت، وليست الرحمة خاصَّة بالثلُث الأخير من الليل، بل إن العباد لا يستغنون عن رحمة الله - عز وجل - ولو كانتْ لا تنزل عليهم إلا في الثلُث الآخر من الليل، لفسدت معيشتهم، وهلَكَتْ أنفسُهم في الأوقات الأخرى. 4- أن تأويلكم بأن المراد نُزُول أمره أو ملائكته يردُّه آخر الحديث؛ ففي آخره أن الله - عز وجل - يقول: ((مَن يدْعوني فأستجيب له؟ مَن يسألني فأعطيه؟ مَن يستغفرني فأغفر له؟))، فهل يُعقل أن تقول الرحمة أو الأمر أو الملائكة هذا القول؟! هذا لا يمكن أن يقوله إلا الله - عز وجل - وهذا يدلُّ على أنه - سبحانه - هو الذي ينزل إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر لا غيره. المبحث الرابع: حديث النُّزول، والرد على إشكال: حديث النزول هو حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - قال: ((ينزل ربنا - تبارك وتعالى - كل ليلة إلى السماء الدنيا، حين يبقى ثلث الليل الآخر، يقول: مَن يدعوني فأستجيب له؟ مَن يسألني فأعطيه؟ مَن يستغفرني فأغفر له؟))[2]، وفي رواية لمسلم: ((فيقول: أنا الملك، أنا الملك، مَن ذا الذي يدعوني فأستجيب له؟ مَن ذا الذي يسألني فأعطيه؟ مَن ذا الذي يستغفرني فأغفر له؟ فلا يزال كذلك حتى يُضيء الفجر))، وفي رواية أخرى لمسلم: ((مَن يدعوني فأستجيب له؟ أو يسألني فأعطيه؟ ثم يقول: مَن يُقرِض غير عديم ولا ظلوم؟))، وهذا الحديث حديثٌ عظيم، ولشيخ الإسلام ابن تيميَّة رسالةٌ مستقلَّة فيه بعنوان: "شرح حديث النزول"، وتحت هذا الحديث إشكالٌٌ، وعدة فوائد عقدية. أولاً: الإشكال: بعض الناس يستشكل في نزول الله - عز وجل - حين يبقى ثلث الليل الآخر، كيف ينزل في ثلث الليل الآخر، والليل يختلف باختلاف البلاد؟ فقد يكون ثلث الليل الآخر في بلدنا مثلاً المملكة العربية السعودية، بينما البلاد الأخرى لَم يأتهم الثلث الآخر من الليل، وبعد ساعات ينتقل إليهم ثلث الليل الآخر، ثم إلى دولة أخرى، وهكذا، وهذا يقتضي أنَّ الله - جل وعلا - نازلٌ في كل وقت؟ والجواب على هذا الإشكال من ثلاثة وجوه: أولاً: يقال: لا بدَّ للإنسان أن يؤمن بأن الله - تعالى - له نزول يليق بجلاله في هذا الوقت المعين، فهي صفةٌ من صفاته الفعلية - سبحانه - وأهل السنة والجماعة يؤمنون بالصفة وبمعناها من غير تكييف، فلا يسألون، ويقولون: كيف؟ وكيف؟ بل يؤمنون بها، ويثبتونها على الوجه اللائق به - سبحانه - وأن الله - عز وجل - ينزل حين يبقى ثلثُ الليل الآخر في بلدنا، وإذا انتقل الثلثُ الآخر لبلد آخر، فإننا نؤمن بأن الله - تعالى - ينزل فيه أيضًا، وإذا طلع الفجر في أي مكان انتهى وقت النزول فيه. ثانيًا: أن مثل هذا الإشكال لَم يسأل عنه الصحابة - رضي الله عنهم - الذين عاصروا زمن الرسالة، ولا مَن اقتفى أثرهم منَ السلَف الصالح - رحمهم الله - لأنهم جمعوا في عقيدتهم الإيمان والتسليم، ولنا فيهم أسوة. ثالثًا: أنَّ مثل هذه الخواطر والإشكالات ناشئةٌ مِن توَهُّم مشابَهة صفات الله - تعالى - بصفات المخلوقين، والله - عز وجل - قال عن نفسه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}[3]، فلا يُقاس الله - عز وجل - بخلقه؛ لأن مثل ذلك يقتضي أن يقولَ إنسان في صفة أخرى إشكالاً كهذا الإشكال، فيقول مثلاً: كيف يسمع الله - عز وجل - دعاءَ جميع الداعين في لحظةٍ واحدة؟ وكيف يحاسب الله - عز وجل - جميع الأمم في وقت واحد؟ وهكذا، وهذا لا شك أنه نشأ من هذا المنطلق، وهو مشابَهة الله - عز وجل - بخلقه - تعالى الله عن ذلك عُلُوًّا كبيرًا - فمن تعظيم الله - عز وجل - الإيمان بصفاته، وعدم تصوُّر كيفيتها، تأمل قول الله - عز وجل -: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِه}[4]، تأمل الأرض جميعًا أين هي يوم القيامة؟ والسموات في ذلك اليوم أين هي؟ إنهما في صفتَيْن من صفاته - جل وعلا - لتعلم أنه - سبحانه - كما قال عن نفسه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}[5]، ثم تأمَّل كيف قرن الله - عز وجل - ذلك الوصف يوم القيامة بتعظيمه؛ فقال: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ}، وهكذا المؤمن، فمن تعظيمه لله - جلَّ وعلا - إيمانُه بأنه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}. المبحث الخامس: فوائد عقدية في حديث النُّزول: من الفوائد العقدية في حديث النزول ما يلي: أولاً: إثبات الصِّفات الفعلية لله - جل وعلا - ووجه ذلك: أن الله - عز وجل - ينزل إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، وصفة النزول من الصفات الفعلية التي يفعلها - عزَّ وجلَّ - متى شاء، كيف شاء. ثانيًا: في الحديث إثبات صفة العُلُو لله - تعالى - وهذا يؤخذ من قوله: ((ينزل)). ثالثًا: في الحديث إثبات القول لله - تعالى - وصفة الكلام، وهذا يؤخذ من قوله: ((يقول)). رابعًا: في الحديث إثبات أن صفة الكلام من الصفات الفعلية له - سبحانه - وهي أيضًا من الصفات الذاتية، وسيأتي الحديث عن هذه الصفة قريبًا. خامسًا: فيه الرد على الجهمية، والمعتزلة، والأشاعرة، وغيرهم، الذين أنكروا صفة النزول له - سبحانه. سادسًا: فيه الرد على الجهمية وأمثالهم الذين يقولون بأن الله - تعالى - في كل مكان بذاته، ولو كان الله - عز وجل - بذاته في كل مكان، لَم يقل: ((ينزل ربنا)). سابعًا: الإيمان بأن نزول الله - تعالى - يكون في ثلث الليل الآخر، وينتهي بطُلُوع الفجر؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((فلا يزال كذلك حتى يضيء الفجر)). ثامنًا: في الحديث الرَّدُّ على جهَلة الصوفية، الذين يقولون: الدعاء لا ينفع الداعي، والله - عز وجل - يقول: ((مَن يدعوني فأستجيب له؟))، بل دلَّ الكتاب والسنة والعقل على نفْع الدعاء. هذه جملةٌ منَ الفوائد العقدية، وأما الفوائد التربويَّة من هذا الحديث فليس هذا محل بسْطِها، وأجلُّها بيان كرم الله - تعالى - على عبده؛ حيث يبسط الله - عز وجل - ما عنده في هذه الساعة المباركة؛ من مغفرةٍ وعطاءٍ لمن يسأله، وإجابة لمن يدعوه في أيِّ حاجة من الحاجات، فما أكثر حاجاتنا! وما أعظم غفلتنا عن هذه الساعة المباركة! ففيها مغفرة وإجابة دعاء، وأيضًا يقول فيها: ((من يقرضُ غير عديم ولا ظلوم؟))، ولسعة ما عنده - سبحانه - قال: ((غير عديم))؛ والعديم - كما يقول أهل اللغة -: أعدم الرجل إذا افتقر، وفي هذا بيان كمال الغنى لله - سبحانه - وهو غير ظلوم، فلن ينقص العامل أجر عملٍ عَمِله لوجْهه - سبحانه - فله العدلُ الكاملُ، وقوله: ((مَنْ يُقرض))، سمَّاه - سبحانه وتعالى - قرضًا ملاطفةً لعباده، وتحريضًا لهم على المبادَرة إلى الطاعة وتفضُّلاً منه عليهم - سبحانه - وانظر كلام النووي في شرحه لهذا الحديث. Ÿ Ÿ Ÿ قال المصنف - رحمه الله -: وقولُه: ((يَعْجَبُ رَبُّكَ مِنَ الشَّابِّ لَيْسَتْ لَهُ صَبْوَةٌ)). الشرح الصِّفة الثانية عشرة: صفة العَجَب: وتحت هذه الصفة عدة مباحث: المبحث الأول: معتقد أهل السنة والجماعة في صفة العَجَب: أهل السنة والجماعة يُثبتون صفة العَجَب لله - تعالى - كما يليق بجلاله وعظمته، من غير تكييف ولا تعطيل، ومن غير تحريف ولا تمثيل، وهي من الصفات الفعلية والخبرية. المبحث الثاني: صفة العَجَب دلَّ عليها الكتاب والسنة والإجماع: فمن الكتاب: {بَلْ عَجِبْتُ وَيَسْخَرُونَ}[6]، بضَمِّ التاء، وسيأتي بيان هذه القراءة. وقوله - تعالى -: {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ}[7]، قال ابنُ جرير الطبَري في تفسيره: "قوله: {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ}؛ إن عجبت يا محمد، فَعَجب قولهم: {أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ}[8]، عجب الرحمن - تبارك وتعالى - من تكذيبهم بالبعث بعد الموت. من السنة: حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعًا: ((قد عجب الله من صنيعكما بضيفيكما الليلة))[9]، وحديث أبي هريرة - رضي الله عنه. عند البخاري مرفوعًا: ((عجب الله من قوم يدخلون الجنة في السلاسل))، والحديث الذي استدل به المصنف: ((يعجب ربك من الشاب ليست له صبوة))[10]، ومعناه: أن الله - عز وجل - يعجب من شاب في قوته ونشاطه وشهواته لا تكون له صبوة؛ أي: لا يكون له ذنب، ولا يرْتَكِب كبيرة. وأجمع السلَف - رحمهم الله - على إثبات صفة العَجَب لله - تعالى - على الوجه اللائق به - سبحانه. المبحث الثالث: المخالفون لأهل السنة: المخالفون لأهل السنة والجماعة من المعطِّلة؛ كالمعتزلة، والجهمية، والأشاعرة - يؤوِّلون صفة العَجَب لله - تعالى - ويقولون: المراد بها إرادة الثواب والمجازاة، وهذا تأويل باطلٌ. والرد عليهم: 1- أن هذا مخالف لطريقة السلف - رحمهم الله. 2- أن هذا مخالف لظاهر النَّص. 3- أنه لا دليل على تأويلكم هذا. المبحث الرابع: العَجَب نوعان: الأول: عجبٌ ناشئٌ عن جهل: وهو عجبُ الذهول عن السبب؛ لجهله وخفاء السبب على المتعجب، كأن يأتيه الأمر بغتةً، ولَم يتوقع حصول أمرٍ ما تعجب منه، وهذا النوع مستحيلٌ على الله - تعالى - لأنَّ الله بكلِّ شيء عليم. الثاني: عجب ناشئ عن علم، فالمتعجب لَم يخفَ عليه الأمرُ والسبب؛ ولكن لأن هذا الأمر خرج عن نظائره تعجب منه، فسبب التعجب هو أن المتعجب منه جاء على خلاف المعهود، لا عن جهل، وهذا النوع هو المراد في صفة التعجب لله - جل وعلا. فائدة: قوله - تعالى -: {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ}: (عجبت) فيها قراءتان سبعيَّتان مشهورتان: الأولى: بالفتح (عَجِبْتَ)؛ والمعنى: عجبتَ أنت يا محمد، ويسخرون من هذا القرآن. الثانية: بالضم (عَجِبْتُ) وهي قراءةٌ قرأ بها الكسائيُّ، وحمزةُ، وثبت أن ابن مسعود - رضي الله عنه - قرأ بها كما روى الحاكم في "مُستدركه"، وهي على هذه القراءة يكون الاستدلال بها من القرآن على إثبات صفة العَجَب لله - تعالى. Ÿ Ÿ Ÿ قال المصنف - رحمه الله -: وقولُه: ((يَضحَكُ اللهُ إلى رجُلَين، يَقُتلُ أحدُهما الآخرَ يَدخُلانِ الجنّة)). الشرح الصفة الثالثة عشرة: صفة الضَّحِك: وتحت هذه الصفة عده مباحث: المبحث الأول: معتَقَد أهل السنة والجماعة في صفة الضحك: أهل السنة والجماعة يُثبتون صفة الضحك لله - تعالى - كما يليق بعظمته وجلاله، من غير تحريف ولا تكييف، ومن غير تعطيل ولا تمثيل، وهي صفة فعلية خبرية. المبحث الثاني: صفة الضَّحِك دلَّ عليها السنة والإجماع: Ÿ فمن السنة: ما استدل به المصنف، وهو حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر، كلاهما يدخل الجنة))[11]. وهذا الحديث فُسِّر بأن أحدهما كافر يقتل المسلم، فالمسلم شهيد، والشهيد في الجنة، ثم يسلم الكافر، والمسلم مآله إلى الجنة، فصار كلاهما يدخل الجنة. Ÿ أجمع السلف - رحمهم الله -: على إثبات صفة الضَّحك لله - تعالى - على الوجه اللائق به - سبحانه - قال الإمام ابن خزيمة في كتاب "التوحيد"[12]: باب ذكر إثبات ضحك ربنا - عز وجل - بلا صفة تصف ضحكه؛ أي: بلا تكييف لضحكه - جلَّ ثناؤه - ولا يُشبه ضحكه بضحك المخلوقين، وضحكهم كذلك، بل نؤمن بأنه يضحك، كما أعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - ونسكت عن صفة ضحكه - جل وعلا - إذ الله - عز وجل - استأثر بصفة ضحكه، لَم يطلعنا على ذلك، فنحن قائلون بما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - مصدِّقون بذلك بقلوبنا، منصتون عمَّا لَم يبيِّن لنا مما استأثر الله بعمله". المبحث الثالث: المخالفون لأهل السنة: المخالفون لأهل السنَّة والجماعة منَ المبتدعة؛ كالجهميَّة، والمعتزلة، والأشاعرة - يُفَسِّرون صفة الضَّحِك بالقَبول والثواب، وهو تأويل باطل. والرد عليهم: 1- أن هذا مخالفٌ لطريقة السلَف - رحمهم الله. 2- أن هذا مخالف لظاهر النصوص التي فيها إثبات لهذه الصِّفة. 3- أنَّ تأويلكم هذا لا دليل عليه. Ÿ Ÿ Ÿ وللموضوع تتمة |
رد: تيسير رب العباد إلى شرح لمعة الاعتقاد 14- قال المصنِّف - رحمه الله -: فهذا وما أشْبَهه مما صَحَّ سَنَدُهُ، وعُدِّلت رواته، نُؤْمِنُ بِهِ، ولا نرده، ولا نَجْحَده، ولا نَتَأَوَّله بِتَأْوِيلٍ يُخالِفُ ظاهِرَه، ولا نُشَبِّهه بصفات المخلوقين، ولا بسمات المحدثين، ونعلَم أنَّ اللهَ - سبحانَه وتعالى - لا شبيه له ولا نظير؛ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}[13]، وكلُّ ما تُخُيِّلَ في الذِّهن، أوْ خَطَرَ بالبَال، فإنَّ اللهَ - تعالى - بخلافه. الشرح المصنِّف - رحمه الله - بعدما سرد آيات وأحاديث الصفات التي تقدَّم بيانُها، رجع مرة أخرى ليُذَكِّر بطريقة السلَف - رحمهم الله - مع هذه الصفات، وأن الأحاديث الواردة في الصفات إذا صحَّ سندُها، وكان رواتها ثقاتٍ عدولاً؛ فإننا نؤمن بما جاء في هذه الأحاديث، قال: "ولا نرده، ولا نجحده"؛ أي: بلا تعطيل، "ولا نتأوله بتأويل يخالف ظاهره"؛ أي: بلا تحريف عن ظاهر النص، "ولا نشبهه بصفات المخلوقين"؛ أي: بلا تمثيل أيضًا، فالله - عز وجل - لا شبيه له ولا نظير، هو القائل عن نفسه - جل وعلا -: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}، وبِنَاءً على هذا ذكر المصنف قاعدةً عظيمة، وهي: أن كل ما يتخيَّله الذهن أو يخطر على البال، فإن الله - تعالى - بخلافه؛ لماذا؟ لأنه سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}، والإنسان لا يستطيع أن يتخيَّل شيئًا ويتصوَّره ويكون قريبًا مما يخطر بباله، إلا إذا رأى هذا الشيء، أو رأى مثيله، أو وصفت له كيفيَّتُه، وكل هذا ممتَنع في حقِّ الله - جل وعلا. فائدة: قول الله - تعالى -: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} فيه عدَّة فوائد: الأولى: هذه الآية منَ الأدلة على قاعدة عقدية معروفة في صفات الله - تعالى -: "أن النفي في الغالب يكون مجملاً، والإثبات مفصَّلاً"، ووجْه ذلك: أنَّ الله - عز وجل - حين النفي قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}، وهذا النفْي مُجمَل ليس فيه تفصيلٌ في نفي صفات معينة، وحين الإثبات قال: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}، فأثبت السمع والبصر بأن ذكرهما في هذه الآية، وذكر بقية الصفات في نصوص أخرى، فالإثبات فيه تفصيل. الثانية: هذه الآية فيها ردٌّ على طائفتين ضالَّتين، ففيها ردٌّ على المشبهِّة وذلك بقوله - تعالى -: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}، وفيها ردٌّ على المعطلة الذين عطَّلوا صفات الله وأنكروها، وذلك بقوله - تعالى -: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}. الفائدة الثالثة: قوله - تعالى -: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}، معلومٌ في اللغة العربية أن الكاف حرفٌ يفيد التشبيه، وكلمة (مثل) أيضًا تفيد التشبيه، وسُبِقَتَا بنفيٍ، فصار المعنى نفي المثيل لله - تعالى - واختلف في (الكاف) هنا؛ لأنها هي و(مثل) بمعنى واحد: فقيل: هي زائدة؛ أي: زائدة لفظًا، وإلا من حيث المعنى فإنها تفيد التوكيد، فذكرها له فائدة التوكيد، وهذا معروفٌ عند العرب، أنهم يزيدون حرفًا أو كلمة من أجل تأكيد الجملة، وهذا مثل قوله - تعالى -: {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ}[14]، (لا) هنا زائدة، تُفيد معنى تأكيد القسم، والمعنى: أقسم بيوم القيامة، أقسم بيوم القيامة. وقيل: إن الكاف هنا حرفٌ بمعنى: (مثل)، فيكون المعنى: ليس مِثلَ مثله شيء، وهذا يقْتَضي المبالَغة في نفي المثيل. الفائدة الرابعة: قوله - تعالى -: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}، قيل: منَ الحكَم النَّصُّ على صفَتي السمع والبصر في هذه الآية؛ لأن كثيرًا من المخلوقات تشترك في هاتين الصفتين، والمتأمِّل لهذه المخلوقات يجدها تتفاوَت في قوة وضعف هاتين الصفتين، فسَمْعُ الهِرَّة ليس كسمع الإنسان، وكذا البصر، وبصر الذباب ليس كبصر الكلب، وهكذا في بقيَّة المخلوقات، فإذا كان هذا التفاوت يكون بين المخلوقات التي فيها من النقص في حواسِّها وصفاتها الشيء الكثير، فكيف بما لله - جلَّ وعلا - من الصفات؟! فلا مثيل له - سبحانه - ولا يعلم كيفية صفاته إلا هو - سبحانه - فنثبت له سمعًا وبصرًا يليقان بجلاله وعظمته - سبحانه. Ÿ Ÿ Ÿ 15- قال المصنف - رحمه الله -: "ومِنْ ذَلكَ قولُه - تعالى -: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}[15]، وقولُه - تعالى -: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ}[16]، وقولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: ((رَبُّنَا الله الذِي في السَّماءِ تَقَدَّسَ اسْمُكَ))، وقال للجارية: ((أيْنَ الله؟))، قالتْ: في السَّماءِ، قال: ((أَعْتِقْهَا؛ فَإِنَّهَا مُؤْمِنَة))[17]. 16- وقالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لِحُصَيْنٍ: ((كَمْ إلهًا تَعْبُدُ؟))، قال: سبْعة: سِتَّة في الأرض، وواحدًا في السَّماء، قال: ((مَنْ لِرَغْبَتِكَ وَرَهْبَتِك؟))، قالَ: الذي في السَّماء، قال: ((فَاتْرُك السِّتَّة، وَاعْبُد الذي في السَّماء، وَأَنَا أُعَلِّمُكَ دَعْوَتَيْن))، فَأَسْلَمَ، وَعَلَّمَهُ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَقُول: ((اللَّهُمَّ ألْهِمْني رُشْدِي، وَقِني شَرَّ نَفْسِي)). 17- وَفيمَا نُقِلَ مِنْ عَلاماتِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَأصحابِه في الكُتُبِ المتقدِّمةِ: أنَّهم يَسْجُدون بالأرْضِ، ويَزْعُمون أنَّ إلههم في السَّماءِ". الشرح الصفة الرابعة عشرة: صفة الاستواء: ومن هذه الصفة وما بعدها؛ كصفة الكلام، والعلو، وأن الله فعَّالٌ لما يريد، وأيضًا إثبات الرؤية، هي من الأمور التي أطال فيها المصنف؛ لأنها تحديدًا هي التي كثر النزاع والكلام عليها في زمن المصنف، لا سيما وقد كان يعيش - رحمه الله - في وسط الأشاعرة؛ ولذا أكثَرَ الاستدلالَ لهذه الأمور، بخلاف ما تَقَدَّمَ، فإنَّه اكتفى بدليلٍ واحد من الكتاب أو السنة، وأوَّلُ صفة أطال فيها صفةُ العُلُو والاستواء، وتحت هذه الصِّفة عدة مباحث: المبحث الأول: معتَقَد أهل السنَّة والجماعة في صفة الاستواء: أهلُ السنَّة والجماعة يُثبتون صفة الاستواء على العرْش لله - تعالى - كما يليق بعظمته وجلاله، من غير تَحْريف ولا تكييف، ومن غير تمثيل ولا تعطيل، وهي صفة فعليَّة خبرية. المبحث الثاني: صفة الاستواء على العرش دلَّ عليها الكتاب والسنة والإجماع: Ÿ فمن الكتاب: ما استدل به المصنف، وهو قوله - تعالى -: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}[18]، وجاء إثباتُ صفة الاستواء على العرْش في سبعِ آياتٍ مِنْ كتاب الله - تعالى. Ÿ ومن السنة: حديث قتادة بن النعمان - رضي الله عنه - قال: سمعتُ رسولَ الله يقول: ((لما فرغ الله من خلقه، استوى على عرشه))[19]. وأمَّا ما أَوْرَدَهُ المصنِّف من حديثٍ رواه أبو داود: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إنَّ ما بين سماء إلى سماء مسيرة كذا وكذا))، وذكر الخبَر إلى قوله -: ((وفوق ذلك العرْش، والله - سبحانه - فوق ذلك))، فهو حديثٌ رواه أبو داود، والترمذي، وقال: حسَن غريب، وضعَّفه الألباني[20]. Ÿ Ÿ Ÿ 18- قال المصنف - رحمه الله -: فَهَذَا وَمَا أشْبَهه مِمَّا أَجْمَعَ السَّلَفُ - رَحِمَهم اللهُ - على نَقْلِهِ وقَبُولِه، ولَم يَتَعَرَّضُوا لِرَدِّهِ ولا تَأْويله، ولا تشبيهه ولا تمثيله. الشرح وأجمع السلف على إثبات صفة الاستواء لله - تعالى -: ونقل الإجماعَ المُصَنِّفُ في هذه العقيدة؛ حيث قال بعد إيراده الحديث السابق: "فهذا وما أشبهه مما أجْمَع السلَف - رحمهم الله - على نقله وقبوله...". ونقل الإجماعَ غيرُ واحدٍ من أهل العلم على ذلك؛ منهم الأئمة الأربعة في عصر تابعي التابعين وهم: "مالك" إمام أهل الحجاز، و"الأوزاعي" إمام أهل الشام، و"اللَّيث" إمام أهل مصر، و"الثَّوْري" إمام أهل العراق[21]. قال شيخُ الإسلام ابن تيميَّة: "مع أنَّ أصلَ الاستواء على العرش ثابتٌ بالكتاب والسنة، واتِّفاق سلَف الأمة، وأئمة السنة، بل ثابت في كلِّ كتاب أنزل على كل نبي أرسل"[22]. المبحث الثالث: معنى الاستواء: الاستواء في اللغة: العُلُو والاستقرار[23]. وجاء معنى الاستواء في كلام السلَف - رحمهم الله - على أربعة معانٍ: العلو، والارتفاع، والصعود، والاستقرار، والمعاني الثلاث الأُول - وهي: العلو، والارتفاع، والصعود - بمعنى واحد، وأما الاستقرار: فهو يختلف عنها، فيتحصل مما سبق أن الاستواء هو العُلُو والاستقرار. Ÿ قال الله - عز وجل -: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ}[24]، قال بعض السلَف: إن معنى (استوى) هنا: (قصد)، وهذا التفسير يُسمى تفسير باللازم؛ فإنه - سبحانه - في قوله: {اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ}، مع ما أفادَه لفظ (استوى) من العلُو، فإنه مُتَضمِّنٌ للقَصْد أيضًا، والمعاني الأربعة السابقة هي المشهورةُ عند السلَف، وهناك معانٍ أخرى قال بها بعضُ السلَف، وكلها تُفيد العُلُو والاستقرار. Ÿ Ÿ Ÿ 19- قال المصنف - رحمه الله -: "وروى أبو داود في سُننه: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إنَّ مَا بَيْنَ سمَاءٍ إلىَ سَمَاءٍ مَسِيرَة كذا وكذا - وذَكَرَ الخَبَرَ إلى قَوْلهِ -: وَفوق ذلك العَرْشُ، وَالله - سُبْحَانَه - فَوْقَ ذَلِكَ))". الشرح المبحث الرابع: معنى العرش: العرش في اللغة: هو سرير الملك[25]؛ قال - تعالى - عن يوسف: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ}[26]، وقال عن ملكة سبأ: {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ}[27]. وعرش الرحمن: مَخْلوقٌ عظيمٌ، له قوائمُ تحمله الملائكة، وهو أعظمُ المخْلوقات، فهو سقفُ العالم؛ لأنه محيطٌٌ بالمخْلوقات، خلَقَهُ الله - جلَّ وعلا - ثم استوى عليه، ولَم يبيِّن اللهُ - جل وعلا - ممَّا خُلق هذا العرْش، ولم يَرِد دليلٌ صحيح عنِ النبي - صلى الله عليه وسلم - يبيِّن ذلك؛ فالله أعلم بذلك، والكرسي غير العرش؛ لأن العرش هو ما استوى عليه الله - جل وعلا - والكرسي موْضع القدَمَيْن؛ كما صَحَّ موقوفًا على ابن عباس عند الحاكم في "مستدركه"، والكرسيُّ خلق صغير بالنسبة للعرش، والله أخبرنا عن كرسيه فقال: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ}[28]، فهو أعظمُ منَ السموات والأرض، فكيف بالعرش ووصفه؟! وتحت هذا المبحث عدة فوائد: أولاً: وُصِف هذا العرْش بأنه عظيم؛ قال - تعالى -: {وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}[29]، وبأنه كريم؛ قال - تعالى -: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ}[30]. ثانيًا: مدح الله نفْسه بأنه ذو العرْش؛ فقال - تعالى -: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ}[31]. ثالثًا: أخبَرَ الله - عز وجل - أنَّ للعرش حَمَلَة، وأن عددهم ثمانية؛ فقال: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ}[32]. رابعًا: أخبر الله - سبحانه - أنَّ عرْشَه كان على الماء قبل خلْق السموات الأرض؛ فقال - تعالى -: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ}[33]، وجاء في "صحيح البخاري"، من حديث عمران بن حصين: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((كان الله ولَم يكن شيء غيره، وكان عَرْشه على الماء)). خامسًا: أخْبَرَ النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّ للعرش قوائمَ؛ فعن أبي سعيد الخدري: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا تخيِّروني من بين الأنبياء، فإن الناس يُصْعَقُون يوم القيامة؛ فأكون أول من يُفيق، فإذا أنا بموسى آخذٌ بقائمة من قوائم العرش...))[34]. سادسًا: أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّ العرش فوق الفِرْدَوْس؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس؛ فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن...))[35]. سابعًا: أخبر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: أن الشمس كلما غربتْ تسجد تحت العرْش؛ فعن أبي ذر- رضي الله عنه - قال: "قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي ذر حين غربت الشمس: ((أتدري أين تذهب؟))، قلتُ: الله ورسوله أعلم، قال: ((فإنها تذهب حتى تسجدَ تحت العرش، فتستأذن فيؤذَن لها))[36]. المبحث الخامس: المخالفون لأهل السُّنَّة: المخالفون لأهل السنة من المبتدعة؛ كالجهمية، والمعتزلة، ومتأخري الأشاعرة - يؤوِّلون صفة الاستواء بالاستيلاء، ويفَسِّرون العرش بالملك، فيقولون: (استوى على العرش)؛ أي: استولى على الملك، وهذا تأويل باطل. واستدلوا ببيتٍ نسبوه للأخطل النصراني، وليس هذا البيت بمشهورٍ عنه، بل قُدِحَ في هذا البيت، وأنه مختلق مصْنوع لا يُعرف في اللغة، وهذا البيت هو قول الشاعر - إن صح -: [size=px"px"5""]قَدِ اسْتَوَى بِشْرٌ عَلَى الْعِرَاْقِ مِنْ غَيْرِ سَيْفٍ أَوْ دَمٍ مُهْرَاقِ[/size] فقالوا: استوى هنا بمعنى استولى بِشْر، وهو الملك على العراق، وليس المعنى: أن بشْرًا اعتلى وارتفع على العراق، كما يظن مَن يُفَسِّر الاستواء بالعلُو والارتفاع، فقالوا: هذا بيتٌ عربيٌّ دلَّ على معنى الاستيلاء، فنحن نستدلُّ بلغة العرب، هذا البيت هو حجتهم. والرد عليهم من عده وجوه منها: 1- أن تأويلَكم مخالف لطريقة السلف وإجماعهم. 2- أنه مخالفٌ لظاهر النصوص. 3- أنه لا دليل عليه، فقد جاء إثبات الاستواء في سبع آيات من القرآن، ليس في واحدة منها أن استوى بمعنى استولى، ولو كان كذلك لبيَّن الله - عزَّ وجل - ذلك، ولو في آية واحدة. 4- أن استدلالكم في البيت نوقش بعدة أمور منها: أ- أن هذا البيت مصنوعٌ ومختلقٌ على اللغة؛ فلا يعرف له سنَدٌ يَثْبُت، وهو غير معروفٍ في ديوان الأخْطل، وأنكره غيرُ واحد من أئمة اللغة، كما قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة[37]. ب- أنه لو صحَّ فيحتمل أن يكون قيل بعد تغيُّر اللسان العربي، وشيوع اللحن فيه؛ وحينئذ لا يصلح أن يكونَ حجة في لغة العرب، ودخل اللحن في اللغة بعدما اتسعت الفتوح، ودخل الأعاجم في الإسلام، واختلطوا مع المسلمين. ج - أنه لو صح قوله قبل شيوع اللحن، فإنَّ القرينة في البيت تعضد أن يكون "استوى" بمعنى "استولى"؛ لأنه ليس من الممكن أن يكون بشْر اعتلى العراق وصعد فوقها. 4- أنه لو جاز تفسير "الاستواء" بـ"الاستيلاء"، لجاز أن نقول: إن الله - عز وجل - مستوٍ على السموات والأرض، وأنه مستوٍ على الهواء والبحار والجبال والإنسان والبعير وغيره من الحيوانات؛ لأن الله مستولٍ عليها؛ فهي تحت قهره وأمره، ولا شك أن المؤولة لا يقولون بهذا الاستواء - فتعالَى الله عمَّا يَقُولون عُلُوًّا كبيرًا. 5- أنَّ تفسير الاستواء بالاستيلاء يدلُّ على أن هناك مغالبة ومنازَعة في الاستيلاء على العرش، إذ يفهم منه أنَّ العرش قبل ذلك ليس تحت ملك الله - تعالى - ثم إنَّ الله - تعالى - استولى عليه وملكه، ولا يقول هذا عاقل - فتعالى ربُّنا عما يقولون. 6- أنه لا يُعرف في اللغة أن استوى بمعنى استولَى، فلم يَقُلْه أحد من أئمة اللغة المعتبَرين؛ قال ابن القيِّم: "ولفظ الاستواء في كلام العرب الذي خاطبنا الله به وأنزل به كلامه نوعان: مُطلقٌ، ومقيَّدٌ؛ فالمطلق: ما لَم يوصل معناه بحرْف؛ مثل قوله: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا}[38]، وهذا معناه: كَمُلَ وتَمَّ، يُقال: استوى الزَّرع، واستوى الطعام. وأما المقَيَّد: فثلاثة أَضْرُبٍ: أحدها: مقيد بـ(إلى)؛ كقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ}[39]، وهذا بمعنى: العُلُو والارتفاع بإجماع السلَف. الثاني: مقيد بـ(على)؛ كقوله - تعالى -: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ}[40]، وقوله: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ}[41]، وقوله: {فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ}[42]، وهذا معناه أيضًا: العُلُو والارتفاع والاعتدال، بإجماع أهل اللغة. الثالث: المقرون بواو المعية التي تُعَدِّي الفعْل إلى المفعول معه؛ نحو: استوى الماء والخشَبة، بمعنى: ساواها. فهذه معاني الاستواء المعقولة في كلامهم، ليس فيها "استولى" ألبتة، ولا نقله أحدٌ من أئمة اللغة الذين يعتمد قولهم، وإنما قاله متأخِّرُو النحاة، ممن سلك طريق المعتزلة والجهمية. والذين قالوه لَم يقولوه نقلاً، فإن ذلك مجاهرةٌ بالكذب، ولكن قالوه استنباطًا وحملاً منهم للفظة "استوى" على "استولى"؛ ولذلك لما سمع أهل اللغة ذلك أنْكَرُوه غاية الإنكار. قال ابن الأعرابي وقد سُئل: هل يصح أن يكون "استوى" بمعنى "استولى"؟ فقال: لا تعرف العرب ذلك، وهو من أكابر أئمة اللغة"[43]، وردَّ ابنُ القيم على مَن يفسر الاستواء بالاستيلاء باثنين وأربعين وجهًا[44]. Ÿ وخلاصة الكلام: أن هؤلاء المبتدعة حرَّفوا في هذه الصفة، وزادوا لامًا فقالوا: (استوى) بمعنى: (استولى)، وهذا تحريفٌ لفظيٌّ ومعنويٌّ، وشابهوا اليهود بذلك حينما زادوا نونًا، لَمَّا قيل لهم: قولوا: (حطَّة)، فقالوا: (حنطة)، وفي هذا يقول ابن القيم: نُونُ الْيَهُودِ وَلامُ جَهْمِيٍّ هُمَا فِي وَحْيِ رَبِّ الْعَرْشِ زَائِدَتَانِ Ÿ Ÿ Ÿ 20- قال المصنف - رحمه الله -: "سُئِلَ الإمامُ مالك بن أنس - رحمه الله - فقيل: يا أبَا عبدالله، {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}[45]، كيْف استوى؟ فقال: الاسْتِواءُ غيْرُ مجهولٍ، والكيْفُ غيْرُ معْقولٍ، والإيمانُ به واجبٌ، والسُّؤالُ عنْه بدعةٌ، ثُمَّ أَمَرَ بالرَّجُلِ فأُخْرِجَ". الشرح المبحث السادس: وقفةٌ مع كلام الإمام مالك في الاستواء: قال الإمام مالك - رحمه الله - عندما جاءه رجل فقال: يا أبا عبدالله، {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}[46]، كيف استوى؟ قال الراوي: فما رأينا مالكًا وَجَدَ من شيءٍ كوَجده من مقالته، وعلاه الرُّحَضَاء، وأَطْرَقَ، وجعلنا ننظر ما يأمر به فيه، قال: ثم سُرِّي عن مالك، فقال: "الكيفُ غير معقول، والاستواء منه غير مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وإني لأخاف أن تكون ضالاًّ، ثم أمر به فأخرج"[47]. قوله: "الكيف غير معقول"؛ أي: إن كيفية استواء الله - تعالى - غير مُدْرَكَة بالعقل؛ لأن الله - تعالى - أعظمُ من أن تدركَ العقول كيفية صفاته، فهذا مما استأثر الله - تعالى - به. وقوله: "والاستواء منه غير مجهول"؛ أي: إنه معلوم معنى الاستواء، فهو العُلُو والاستقرار. وقوله: "والإيمان به واجب"؛ أي: إن الإيمان بالاستواء واجبٌ؛ لدلالة الكتاب والسنة والإجماع عليه. وقوله: "والسؤال عنه بدعة"؛ أي: إن السؤال عن كيفية الاستواء بدعةٌ؛ لأن السؤال لَم يكن في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه. ثم أمر بالسائل فأخرج؛ لئلا يَفْتِنَ الناس في عقيدتهم، وتأديبًا له بمنعه من مجالس العلم، وعبارة الإمام مالك عبارة عظيمة، يتَوَجَّه قولها في كلِّ صفة لله - تعالى - بأن نقول: كيفية الصفات لا تدركها عقولنا، فهي مما استأثر الله بعلمه، وأما معناها فغير مجهول بل نعلم معناها، ويجب أن نؤمن بما دلَّ عليه الكتابُ والسنة من صفات الله، والسؤال عن كيفيتها بدعةٌ؛ لأنه لَم يسأل عن ذلك من هم خيرٌ منَّا، وهم السلف من الصحابة والتابعين. الشيخ/ عبدالله بن حمود الفريح ــــــــــــــــــــــ [1] متفق عليه. [2] متفق عليه. [3] [الشورى: 11]. [4] [الزمر: 67]. [5] [الشورى: 11]. [6] [الصافات: 12]. [7] [الرعد: 5]. [8] [الرعد: 5]. [9] متفق عليه. [10] وهو حديث أخرجه أحمد في "مسنده"، وهو حديثٌ ضعيفٌ، في سَنَده ابنُ لَهِيعَة، والحديثُ ضعَّفه الألباني في "السلسلة الضعيفة" برقم (2426). [11] متفق عليه. [12] كتاب "التوحيد" (2/ 563). [13] [الشورى: 11]. [14] [القيامة: 1]. [15] [طه: 5]. [16] [الملك: 16]. [17] رواه مالكُ بنُ أنَسٍ، ومسلمٌ، وغيرُهما مِنَ الأئمة. [18] [طه: 5]. [19] رواه الخلال في كتاب "السنة"، بإسناد صحيح على شرط البخاري، كما قال ابن القيم؛ انظر: "اجتماع الجيوش الإسلامية" ص 107. [20] انظر "السلسة الضعيفة" رقم (1247). [21] انظر: "مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيميَّة" (5/ 39). [22] انظر: "مجموع الفتاوى" (2/ 188). [23] انظر: "الصحاح" (6/ 2385). [24] [فصلت: 11]. [25] انظر: "الصحاح" (3/ 1009). [26] [يوسف: 100]. [27] [النمل: 23]. [28] [البقرة: 255]. [29] [التوبة: 129]. [30] [المؤمنون: 116]. [31] [غافر: 15]. [32] [الحاقة: 17]. [33] [هود: 7]. [34] الحديث رواه البخاري، ورواه مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه. [35] الحديث رواه البخاري. [36] الحديث رواه البخاري، ومسلم. [37] انظر: "مجموع الفتاوى" 5/ 146. [38] [القصص: 14]. [39] [فصلت: 11]. [40] [الزخرف: 13]. [41] [هود: 44]. [42] [الفتح: 29]. [43] انظر: "مختصر الصواعق المرسلة"؛ لابن القيم، ص 320. [44] وانظر: "مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية"، فقد ردَّ على هذا التأويل الباطل باثني عشر وجهًا، انظره (5/ 144 - 149). [45] [طه: 5]. [46] [طه: 5]. [47] رواه البيهقي في "الاعتقاد"، ونقلَه الذهبي في "العلُو" عن البيهقي، وقال: "إسناده صحيح"، وقال ابن حجر - في "الفتح" (13/ 417) -: "سنده جيد"، وقال نحو هذه العبارة شيخ الإمام مالك، وهو ربيعةُ بن أبي عبدالرحمن. |
رد: تيسير رب العباد إلى شرح لمعة الاعتقاد تيسير رب العباد إلى شرح لمعة الاعتقاد (6) الشيخ عبدالله بن حمود الفريح - قال المصنف - رحمه الله -: "ومِنْ ذَلكَ قولُه - تعالى -: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}[1]. وقولُه - تعالى -: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ}[2]، وقولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: ((رَبُّنَا الله الذي في السماء، تَقَدَّسَ اسْمُكَ))، وقال للجارية: ((أيْنَ الله؟))، قالتْ: في السَّماءِ، قال: ((أَعْتِقْهَا؛ فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ))؛ رواه مالكُ بنُ أنَسٍ، ومسلمٌ، وغيرُهما مِنَ الأئمة. 16- وقالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لِحُصَيْنٍ: ((كَمْ إلهًا تَعْبُدُ؟))، قال:سبْعة؛ سِتَّة في الأرضِ، وواحِدًا في السَّماءِ، قالَ: ((مَنْ لِرَغْبَتِكَ وَرَهْبَتِكَ؟))، قالَ: الذي في السَّماء، قالَ: ((فَاتْرُكِ السِّتَّة، وَاعْبُدِ الذِي في السَّماءِ، وَأَنَا أُعَلِّمُكَ دَعْوَتَيْن))، فَأَسْلَمَ وَعَلَّمَهُ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَقُولَ: ((اللَّهُمَّ ألْهِمْني رُشْدِي، وَقِني شَرَّ نَفْسِي))". الشرح الصفة الخامسة عشرة: صفة العُلُو: وهي من الصفات التي أطال فيها المصنف استدلالاً، وتحت هذه الصفة عدة مباحث: المبحث الأول: معتقد أهل السنة والجماعة في صفة العُلُو: أهل السنة والجماعة يثبتون صفة العُلُوِّ لله - تعالى - كما يليق به - سبحانه - من غير تحريف ولا تكييف، ومن غير تمثيل ولا تعطيل، وهي من الصفات الذاتية. فائدة: العُلُوُّ لله - تعالى - على ثلاثة أقسام: الأول: عُلُوُّ شأن؛ أي: عُلُو شرف وقدْر وعظمة. الثاني: عُلُوُّ قهر. وهذان القسمان لَم يخالفْ فيهما أحدٌ ممن ينتسب للإسلام؛ سواء كان من أهل السنة أم أهل البدعة. الثالث: عُلُوُّ الذات. وهذا هو الذي جرى فيه الخلاف بين أهل السنة فأثبتوه، وبين أهل البدعة فأنكروه، وهو المقصود في المباحث القادمة، يقول الحافظ حكمي: عُلُوُّ قَهْرٍ وَعُلُوُّ شَانِ جَلَّ عَنِ الْأَضْدَادِ وَالْأَعْوَانِ كَذَا لَهُ العُلُوُّ وَالْفَوْقِيَّهْ عَلَى عِبَادِهِ بِلا كَيْفِيَّهْ ومن أهل العلم من يقسم العُلُوَّ إلى قسمين: عُلُو صفة، وعُلُو ذات، وعُلُوُّ الصفة يدخل فيه عُلُوُّ الشأن وعُلُو القهر، ومنهم من يُقسمه إلى قسمين: عُلُو معنوي، وعُلُو ذاتي، والعلو المعنوي يدخل فيه علو الشأن وعلو القهر، والفرق فقط في طريقة التقسيم لا في المضمون. المبحث الثاني: صفة العُلُو دلَّ عليها الكتابُ والسنة والإجماع: Ÿ فمنَ الكتاب: ما استدل به المصنِّف، وهو قوله - تعالى -: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ}[3]، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "قد وصف الله - تعالى - نفسه في كتابه، وعلى لسان رسوله بالعلُو، والاستواء على العرش والفوقية، وفي كتابه في آيات كثيرة، حتى قال بعض أكابر أصحاب الشافعي: في القرآن ألفُ دليلٍ أو أَزْيد تدل على أنَّ الله - تعالى - عالٍ على الخلْق، وأنه فوق عباده، وقال غيره: فيه ثلاثمائة دليل يدل على ذلك"[4]. Ÿ ومن السنَّة أيضًا أدلة كثيرة؛ منها ما استدل به المصنِّف، وهو حديث معاوية بن الحكم السلَمي، وفيه قصة الجارية وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لها: ((أين الله؟))، قالت: في السماء، قال: ((أَعْتِقْها فإنها مؤمنة))[5]. Ÿ وأجمع السلَف على إثبات عُلُو الله - تعالى - بذاته: فهو فوق جميع خلقه، بائنٌ عنهم، ونقل الإجماعَ على ذلك غيرُ واحد من أهل العلم؛ منهم المصنف في هذه العقيدة؛ حيث قال بعد ذكره لأدلة الاستواء على العرش والعلو: "فهذا وما أشبهه مما أجْمَعَ السلَف - رحمهم الله - على نقله وقبوله". بل نقل عن بعض السلَف أنه يُكفَّر مَن يُنكر أنَّ الله في السماء، ففي "شرح كتاب التوحيد"؛ للغنيمان: "قال شيخ الإسلام: وفي "الفقه الأكبر" المروي عن الإمام أبي حنيفة - رحمه الله - قال: "من قال: لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض، فقد كفر؛ لأنَّ الله - تعالى - يقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}[6]، وعرشه فوق سبع سماواته"، قلت: فإن قال: إنه على العرش استوى، ولكنه يقول: لا أدري، العرش في السماء أم في الأرض؟ قال: هو كافر؛ لأنه أنكر أن يكونَ في السماء؛ لأنه - تعالى - في أعلى عليين"، قال الشيخ الغنيمان: وهذا تصريح من أبي حنيفة - رحمه الله - بتكفير مَن أنكر أن يكونَ الله في السماء"[7]. Ÿ يتلخص مما سبق: أن عُلُوَّ الله - تعالى - ثابتٌ بالكتاب والسنة والإجماع، وأيضًا دلَّ على ذلك: العقل: لأنَّ نفي عُلُو ذات الله - تعالى - نفي لصفة كمال، وكونه - سبحانه - في السفل صفة نقص تجعل بعض المخلوقات فوقه. والفطرة: لأنَّ الخلق مفطورون على أنَّ الله - تعالى - في السماء، حتى البهائم والعجماوات، كما سيأتي في خبر النملة التي تستقي رافعة قوائمها إلى السماء، وكذلك ابن آدم إذا أراد أن يدعو الله - تعالى - ينصرف قلبُه إلى السماء، ويُذكر أنَّ أحد أئمة السلف - وهو أبو العلاء الهمذاني - دخل على الإمام الجويني - أحد الأشاعرة - وهو يلقي درسًا على المنبر، يُقَرِّر فيه عقيدة الأشاعرة، وكان مما قرَّر إنكار أن الله في العلو، وقال: إن الله كان ولا مكان، وهو الآن على ما كان عليه، ويقرر نَفْيَ العُلُوِّ عن الله - تعالى - فقال له أبو العلاء الهمذاني أمام الناس: يا إمام، دعنا من أقوالك وحججك، ما هذه الحاجة التي يجدها كل واحد منا، ما أراد أحدٌ ربَّه قطُّ إلا رفع بصره إلى السماء، فنزل الإمام الجويني من منبره يقول: حيَّرني الهمذاني، حيرني الهمذاني، وجلس بين أصحابه يبكي، وتاب في آخر أمره عن هذا التأويل. فائدة: تقدَّم أنَّ الأدلة على إثبات عُلُوِّ الله - تعالى - كثيرةٌ مستفيضةٌ، وتقدم كلامُ شيخ الإسلام ابن تيميَّة، وأيضًا ورد عن غيره من السلف، وهذه الأدلة تنوَّعت في دلالتها على عُلُو الله - تعالى -: Ÿ فتارة تأتي بالتصريح بالفوقية؛ كقوله - تعالى -: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ}[8]. Ÿ وتارة بالتصريح بالصعود إليه؛ كقوله - تعالى -: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ}[9]. Ÿ وتارة بالعروج إليه؛ كقوله - تعالى -: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ}[10]. Ÿ وتارة برفْع بعض المخلوقات إليه؛ كقوله - تعالى -: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ}[11]. Ÿ وتارة بأنه - سبحانه - في السماء؛ كقوله - تعالى -: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ}[12]. Ÿ وتارة بالعُلُو المطلَق؛ كقوله - تعالى -: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ}[13]، وقوله: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}[14]. Ÿ وتارة بالتصريح باستوائه على العرش؛ كقوله - تعالى -: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}[15]. Ÿ وتارة برفْع الأيدي إليه - سبحانه - كقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن ربكم - تبارك وتعالى - حَيِيٌّ كريم، يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يَرُدهما صِفْرًا))[16]. Ÿ وتارة بالتصريح بنزوله - جل وعلا - والنزول لا يكون إلا من عُلُو؛ كقوله النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ينزل ربنا - تبارك وتعالى - كل ليلة، حين يبقى ثلث الليل الآخر))[17]. وكل الأدلة السابقة فيها دلالةٌ على عُلُو الله - تعالى - ولو تنوعت الطرُق، وهناك أنواع أخرى غير ما تقدم تزيد بمجموعها على العشرين نوعًا. المبحث الثالث: المخالفون لأهل السنة: المخالفون لأهل السنة من المبتدعة؛ كالجهمية، والمعتزلة، ومتأخري الأشاعرة - ينكرون عُلُو الذات، ويفسرون نصوصَ العُلُوِّ بعُلُوِّ الشأن وعُلُوِّ القهر والملك، وانقسموا في صفة عُلُو الذات بعد إنكارها إلى قسمين: 1- فالجهمية والمعتزلة يقولون: إن الله - عز وجل - في كل مكان - والعياذ بالله - وهذا معناه أن الله يَحِلُّ في كل شيء، وهذا مذهب الحلوليَّة، الذي أصله من المجوس، والبوذيين في الهند. 2- وأما الأشاعِرة فينفون عن الله جميع الجهات، ويقولون: لا نقول: إن الله داخل العالَم، ولا خارجه، يريدون بذلك نفْي جميع الجهات، فيقولون: إن الله لا داخل العالَم ولا خارجه، ولا تحته ولا أمامه ولا وراءه، ولا عن يمينه ولا عن شماله، وهذا مذهب الفلاسفة. والرد عليهم: 1- أن هذا مخالف لطريقة السلف - رحمهم الله. 2- أنه مخالف لظاهر النصوص التي فيها إثبات عُلُو الله - تعالى. 3- أن الله - تعالى - أثبت لنفسه العُلُو المطلق، وهذا يشمل عُلُوَّ الذات، والقهرَ، والشأن، فمَن أثبت البعض ونفى البعض، فقد جحد بعض ما أثبته الله لنفسه. 4- أن تأويلكم للنصوص الدالة على عُلُوِّ ذات الله - تعالى - بعلو القهر والملك؛ كما في قوله: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاء}[18]، يَرُدُّه أن ملك الله وسلطانه ليس في السماء فقط، بل في الأرض، وعلى كل شيء هو قادر - سبحانه. 5- أن تأويلكم هذا يردُّه العقل؛ لأن نفي عُلُوِّ الذات نفيٌ لصفةِ كمال. 6- أن تأويلكم هذا تردُّه الفطرة؛ لأن الخلق مفطورون على أن الله في السماء، حتى البهائم فطرت على ذلك؛ فقد جاء في "مسند الإمام أحمد"، وصححه الحاكم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول - صلى الله عليه وسلم - قال: ((خرج سليمان - عليه السلام - يستسقي، فرأى نملةً مستلقيةً على ظهرها، رافعة قوائمها إلى السماء، تقول: اللهم إنا خلْقٌ من خلقك، ليس بنا غنى عن سقياك، فقال لهم سليمان: ارجعوا فقد سُقِيْتُم بدعوة غيركم)). 7- أن قول الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم بأن الله في كل مكان، مع إثباتهم أن لله - تعالى - ذاتًا، وافَقُوا بذلك قول الحلولية الذين يقولون بأن الله حالٌّ في كل مكان، وهم بهذا أشنع من النصارى الذين قالوا بالحلول في المسيح فقط، وأشنع من بعض الصوفية الذين قالوا بالحلول في بعض الأشخاص، ويلزم من قولهم هذا أن الله حالٌّ في كل مكان في السماء والأرض، والجبال والبحار، بل في ما ينزه الله عنه من أماكن الأقذار والأنجاس، ونحو ذلك - تعالى الله عن ذلك عُلُوًّا كبيرًا، وجلَّ الله عن هذا اللزوم، ولكنه قِيلَ لإزهاق الباطل، فهذا لا يقوله عاقلٌ! 8 - أن قول الأشاعرة بأنَّ الله لا داخل العالَم ولا خارجه قول مُتناقضٌ؛ فلا يتصور أبدًا أن يكون الله لا داخل العالَم ولا خارجه، فهذا الوصْف ينطبق على من ليس موجودًا، فالذي ليس خارج العالم ولا داخله معدوم. قال شيخُ الإسلام ابن تيميَّة: "فالجهميةُ وأشباههم لا يصفونه - سبحانه - بالعُلُو، بل إما أن يصفوه بالعلو والسُّفُول، وإما أن ينفوا عنه العُلُوَّ والسُّفُول؛ فهم نوعان: قسمٌ يقولون: إنه في كلِّ مكان بذاته، والقسم الآخر يقولون: إنَّه لا داخل العالم ولا خارجه، فالقسم الأول: وصَفوه بالحلول في الأمكنة، ولم يُنَزِّهوه عن المحال المستقذرة، والقسم الثاني: وصفوه بالعدم"[19]. المبحث الرابع: سبب نفي المبتدعة عُلُو ذات الله - تعالى -: المبتدعة من الجهمية والمعتزلة، والأشاعرة ومن شابههم، نَفَوا عُلُوَّ ذات الله - تعالى - ونفوا استواءَه على عرشه، حُجَّتُهم في ذلك: أنَّ إثبات ذلك يستلزم التجسيمَ والتحديدَ، بأن يكونَ الله - تعالى - جسمًا محدودًا يحمله العرش ويحتويه؛ ويستلزم أن يكونَ الله محصورًا في جهة السماء؛ وأن الجهة تحويه إلى غير ذلك من اللوازم الباطلة. والرد عليهم: 1- أنه لا يجوز ردُّ الأدلة المثبتة لصفات الله - تعالى - كعلو ذاته، واستوائِه على عرْشِه من أجْل تعليلات لا دليل عليها. 2- أنَّه لو كانت نصوص إثبات عُلُوِّ ذات الله - تعالى - واستوائه على عرشه تستلزم معنى فاسدًا - كما تزعمون - لبيَّنه اللهُ - جلَّ وعلا - لأنَّه - سبحانه - هو الذي بيَّن صفاته في كتابه، فدلَّ هذا على أنَّ إثباتها لا يستلزم المعنى الفاسد الذي ذَكَرْتموه، فالله - جل وعلا - فوق عباده كلهم، ولا تحويه الجهة التي يُشار إليها، متَّصفٌ بما وصف به نفسه؛ ومن ذلك علوه - جل وعلا - واستواؤُه على عرْشِه. المبحث الخامس: الفرق بين العُلُوِّ والاستواء على العرش: الفرق بين العُلُوِّ والاستواء على العرش يتلخَّص فيما يلي: أولاً: أنَّ صفة الاستواء على العرش وصفة العُلُو كلاهما تَدُلاَّن على إثبات العُلُوِّ لله - تعالى - لكن صفة الاستواء تدل على عُلُوٍّ خاص، وهو العُلُوُّ على العرْش. ثانيًا: الاستواء على العرش منَ الصِّفات التي دلَّ عليها النقْل فقط - أي: النص - فلو لَم يأتِ دليل يدل على هذه الصفة لَم نعلم بها، فلما جاء نصٌّ أثبتناها، وأما صفة العُلُوِّ فقد دلَّ عليها النقل والعقل والفطرة، حتى البهائم مفطورة على معرفة هذه الصفة. ثالثًا: أن صفة العُلُوِّ ذاتيةٌ؛ فهي مُلازمة لله - جل وعلا - لا تنفكُّ عنه بحالٍ من الأحوال، بخلاف صفة الاستواء فهي صفة فعلية؛ لأنها تَتَعَلَّق بمشيئته - سبحانه - وكانتْ بعد خلق السموات والأرض؛ لقوله - تعالى -: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}[20]، ومِن أهل العلم من قال: إنَّ الاستواء على العرش صفةٌ فعليةٌ من جهة، وذاتية من جهة أخرى؛ فهي فعليَّة باعتبار أنه - جل وعلا - لَم يزل مستويًا على عرشه منذ استوى عليه؛ بمعنى: أن وصف الاستواء على العرش لَم يَنْفَك عنه منذ أن استوى عليه - جل وعلا. المبحث السادس: إشكالات وأجوبتها: الإشكال الأول: قوله - تعالى -:{أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ}[21]، معلومٌ أن (في) تدل على الظرفية، فلو قلت: زيد في المسجد، فهذا يعني أن زيدًا داخل في المسجد، والمسجد محيطٌ به؛ لأن الظرفَ محيطٌ بالمَظْرُوف، وكذا لو قلت: الماء في الكأس، فهذا يعني أن الكأس محيط بالماء ويحتويه؛ لأنه أوسع منه، وفي قوله - تعالى -: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ}، قد يقول قائل معنى باطلاً، فيقول: ظاهر الآية أنَّ السماء محيطة بالله - جل وعلا - ولا شك أنه معنى باطل، والجواب عن هذا الإشكال بأحد طريقين: الأول: إما أن يُقَالَ: إنَّ السماء في الآية معناها العُلُوُّ، وهذا وارد في اللغة كقوله - تعالى -: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا}[22]، والمراد بالسماء: العلو؛ لأنَّ الماء ينزل من السحاب لا من السماء الذي هو السقف المحفوظ، فيكون معنى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاء}؛ أي: من في العُلُو؛ فلا إشكال حينئذ. الثاني: أو يقال: إن (في) بمعنى (على)، ومعروف في اللغة أنَّ الحروف تتداخل؛ أي: إن بعضها يأخذ معنى غيره؛ كقوله - تعالى - عن فرعون: {فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ}[23]؛ أي: على جُذُوع النخل، وبناءً على هذا المعنى يكون قوله: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاء}؛ أي: من على السماء، ولا إشكال حينئذ. الإشكال الثاني: قوله - تعالى -: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ}[24]، ليس معناه كما يفهم البعض من أهل الضلال: أن الله - جل وعلا - في الأرض كما أنه في السماء؛ بل المعنى: أنَّ الله - جل وعلا - أُلُوهيته ثابتة في السماء وفي الأرض، فحرفُ الجرِّ (في) يدل على الظرفية للألوهية، لا لذاته - سبحانه. الإشكال الثالث: معلومٌ أنَّ السماء محيطةٌ بالأرض، والقول بأن الله - جل وعلا - في السماء لا يقتضي أن يكونَ الله - جلَّ وعلا - بذاته كَرِيًّا - أي: كرويًا - محيطًا بمخلوقاته، فهذا صنيعُ أهل الضلال، الذين يُكَيِّفُون صفاتِ الله - جل وعلا - والجواب عن ذلك أن يقال: إن هذه الأرض التي نعيش فيها ما هي إلا ذرَّة صغيرة في هذا الكون العظيم، الذي تحيط به ملايينُ المجَرَّاتِ، وتحيط بهذه المجَرَّات السموات، وفوق السموات عرش الرحمن، والله - جل وعلا - مستوٍ على عرشه، وهو أعظم منها، لا يقدر قدره إلا هو - سبحانه - بل إنَّ هذه السموات والمجرات يَتَبَيَّن قدرها في قوله - تعالى -: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}[25]، ولا شَكَّ أن هذا الإشكال ناتجٌ عن فَهْمٍ خاطئ؛ فعقولُنا قاصرة. فائدة: مما استدل به المصنِّف على إثبات عُلُو الله - تعالى - ما يلي: - قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمران بن عبيد الخزاعي: ((كم إلهًا تعبد؟))، قال: سبعة؛ ستة في الأرض، وواحد في السماء، قال: ((مَن لرغبتك ورهبتك؟))، قال: الذي في السماء، قال: ((فاترك الستة، واعبد الذي في السماء، وأنا أعلمك دعوتين))، فأسلم وعلَّمه النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقول: ((اللهم ألهمني رشدي، وقني شر نفسي))؛ الحديث أخرجه ابن قدامة في "العلو"، وهو حديث ضعيف في سنده عمران بن خالد، قال عنه الذهبي: "ضعيف"، وفي سنده خالد بن طليق، قال عنه الدارقطني: "ليس بالقوي"[26]. Ÿ قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ربنا الذي في السماء تقدَّس اسمك))... الحديث؛ رواه أبو داود، وفي سنده زياد بن محمد الأنصاري، قال عنه البخاري: "منكر الحديث"؛ فالحديث ضعيفٌ[27]. Ÿ استدل بما نقل مِن علامات النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه في الكتب المتقَدِّمة: "أنهم يسجدون بالأرض، ويزعمون أنَّ إلههم في السماء"، قال الذهبي في "العلو"[28]: "هذا حديثٌ غريبٌ"، وقال عنه شيخُنا ابن عثيمين في شرحه لـ"لمعة الاعتقاد": "هذا النقل غير صحيح؛ لأنه لا سند له"[29]. Ÿ مسألة العُلُوِّ من المسائل المهمة التي أسهب السلَف في تقريرها قديمًا؛ لكثْرة مَن يُنكر هذه الصِّفة، ومن أشْهر ما أُلِّف فيها كتاب "العلو"؛ للذهبي، اختصره الألباني وخرَّج أحاديثه، وكذلك كتاب "إثبات صفة العلو"؛ لابن قدامة، حقَّقه الشيخ بدر البدر. الشيخ/ عبدالله بن حمود الفريح ــــــــــــــــــــــ [1] [طه: 5]. [2] [الملك: 16]. [3] [الملك: 16]. [4] انظر: "مجموع الفتاوى" 5/ 121. [5] رواه مالك، ومسلم، وغيرهما من الأئمة. [6] [طه: 5]. [7] انظر: "شرح العلامة عبدالله الغنيمان لكتاب "التوحيد" من صحيح البخاري" (1/ 272 - 273). [8] [النحل: 50]. [9] [فاطر: 10]. [10] [المعارج: 4]. [11] [النساء: 158]. [12] [الملك: 16]. [13] [البقرة: 255]. [14] [سبأ: 23]. [15] [طه: 5]. [16] رواه أبو داود، والترمذي، من حديث سلمان الفارسي. [17] والحديث متفق عليه، عن أبي هريرة - رضي الله عنه. [18] [الملك: 16]. [19] انظر: "التنبيهات السنية"؛ للشيخ عبدالعزيز الرشيد، ص (202). [20] [الأعراف: 54]. [21] [الملك: 16]. [22] [الرعد: 17]. [23] [طه: 71]. [24] [الزخرف: 84]. [25] [الزمر: 67]. [26] انظر: "العلو" صـ(23 - 24)، و"لسان الميزان"؛ لابن حجر، 2/379. [27] انظر: "الميزان"؛ للذهبي 2/ 98. [28] "العلو" صـ(25). [29] "لمعة الاعتقاد" صـ(68). |
رد: تيسير رب العباد إلى شرح لمعة الاعتقاد
|
رد: تيسير رب العباد إلى شرح لمعة الاعتقاد
|
الساعة الآن 01:46 AM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
Search Engine Friendly URLs by vBSEO 3.6.1 TranZ By
Almuhajir
new notificatio by 9adq_ala7sas
HêĽм √ 3.1 BY: ! ωαнαм ! © 2010
يرحل الجميع ويبقي شعاع بيت العلم والحب(ملك الكلمة)