منتديات شبكة شعاع الدعوية للتعليم عن بعد

منتديات شبكة شعاع الدعوية للتعليم عن بعد (https://hwazen.com/vb/index.php)
-   شعاع العلوم الشرعية (https://hwazen.com/vb/f38.html)
-   -   تيسير رب العباد إلى شرح لمعة الاعتقاد (https://hwazen.com/vb/t5914.html)

هوازن الشريف 09-04-2014 10:53 PM

رد: تيسير رب العباد إلى شرح لمعة الاعتقاد
 
تيسير رب العباد إلى شرح لمعة الاعتقاد (9)
الشيخ عبدالله بن حمود الفريح



رؤية المؤمنين لربِّهم في الآخرة


39- قال المصنِّف - رحمه الله -:

"والمؤمنون يَرَوْنَ رَبَّهُمْ فِي الآخرةِ بأبْصارِهِم، ويَزُورُونَهُ، ويُكَلِّمُهُم ويُكَلِّمُونَهُ؛ قال اللهُ - تعالى -: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}[1].
40- وقالَ - تعالى -: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ}
[2]، فلمَّا حَجَبَ أولئك في حالِ السُّخْطِ، دَلَّ على أنَّ المؤمنين يَرَوْنَهُ في حالِ الرِّضَا، وإِلَّا لم يَكُنْ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ.



الشرح

وتحت هذا الفصل عِدَّةُ مباحث:
المبحث الأول: تقسيم مسألة رؤية الله - تعالى - إلى ثلاثة أقسام:
أولًا: رؤية الله - تعالى - في الدنيا:
رؤية الله - تعالى - في الدنيا مستحيلةٌ، دلَّ على ذلك الكتاب والسنة والإجماع:
فمن الكتاب: قولُ الله - تعالى - لموسى: {لَنْ تَرَانِي}[3]، وكان قد طلَب رؤية الله - تعالى.
ومن السُّنَّة:حديث النَّوَّاس بن سمعان في ذكر الدَّجَّال، وفيه قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((اعلموا أن أحدًا منكم لن يرى ربَّه حتى يموت))؛ رواه مسلم.

وأجمع العلماء على أن الله - عز وجل - لا يراه أحد في الدنيا بعينيه:
نقل الإجماع غير واحد من أهل العلم، ولو كان الله - جلَّ وعلا - يُرى في الدنيا؛ أي: لو كان ذلك حاصلاً لأحد من العباد، لَحَصَل لكليم الله - تعالى - موسى - عليه السلام - حين سأل ربَّه ذلك، وإن تعجَب فعَجَبٌ من أولئك السفهاء من المبتدعة، الذين يعتقدون أنه قد تحصل رؤية الله - تعالى - في الدنيا لبعض أوليائهم، كما هو موجودٌ في كُتُب الزنادقة والصوفيَّة، وأفتى بعضُ علماء الإسلام - ومنهم شيخ الإسلام ابن تيميَّة - أن مَن قال: إنَّ أحدًا من الأولياء يرى الله - سبحانه وتعالى - بعينه في الدنيا، فإنه يبيَّن له الدليلُ؛ فإن تاب وإلا قُتل، وإن اعتقد بهذا الاعتقاد مع اعتقاده التفضيل؛ أي: يعتقد بأن أولياءه الذين يزعم أنهم يرون الله في الدنيا أفضل من الأنبياء الذين لَم تَحصُل لهم الرؤيا في الدنيا؛ كموسى - عليه السلام - وغيره من الأنبياء، فإنه يكفر بهذا الاعتقاد، ويقتل مُرْتَدًّا إن كان مُصِرًّا على هذا القول، فالحاصل أن رؤية الله في الدنيا ممتنعة بإجماع العلماء.

قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة[4]: "وكذلك كل مَن ادَّعى أنه رأى ربه بعينيه قبل الموت، فدعواه باطلة باتفاق أهل السنة والجماعة؛ لأنهم اتفقوا جميعهم على أن أحدًا من المؤمنين لا يرى ربه بعيني رأسه حتى يموت، وثبت ذلك في "صحيح مسلم" عن النوَّاس بن سمعان، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه لما ذكر الدجال قال: ((واعلموا أن أحدًا منكم لن يرى ربه حتى يموت)).

مسألة: وهل رأى محمد - صلى الله عليه وسلم - ربَّه؟
هذه المسألة على قسمين:
الأول: هل رأى محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - ربَّه في الأرض؟
الجواب: لم يَرَه أبدًا باتفاق العلماء، وتقدم أنه لَم يره، ولن يراه أحد بعينيه في الأرض حتى يموت.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى"[5]: "وكل حديث فيه أنَّ محمدًا - صلى الله عليه وسلم - رأى ربَّه بعينه في الأرض، فهو كَذِبٌ باتفاق المسلمين وعلمائهم، هذا شيء لم يَقُلْه أحدٌ من علماء المسلمين، ولا رواه أحد منهم".

الثاني: هل رأى محمد - صلى الله عليه وسلم - ربَّه ليلة المعراج؟
فهذا فيه خلاف، قال شيخ الإسلام بعد كلامه السابق: "وإنما كان النِّزاع بين الصحابة في أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - هل رأى ربه ليلةَ المعراج؟ فكان ابن عباس - رضي الله عنه - وأكثر علماء السنة يقولون: إن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - رأى ربه ليلة المعراج، وكانت عائشة - رضي الله عنها - وطائفةٌ معها تُنْكِر ذلك".

وبِنَاءً عليه يُقال:
القول الأول: إن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - رأى ربه؛ وهذا هو قولُ ابن عباس - رضي الله عنهما - من الصحابة، واختاره ابن خُزيمة في كتاب "التوحيد"[6]، والنووي في "شرح مسلم"[7].
واستدلُّوا بما رواه التِّرمذي، وقال: "حسن غريب"، ورواه النسائي في "الكبرى"، أن ابن عباس ذكر أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - رأى ربه، ولكن جاء في "صحيح مسلم" من حديث ابن عباس- رضي الله عنه - أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - رأى ربه بفؤاده مرتين.

وتعددت الروايات عن الإمام أحمد؛ ففي رواية: أنه رأى ربه بعيني رأسه، وفي رواية: أنه رأى ربه بعيني قلبه - أي: رآه بفؤاده - وفي رواية: أنه توقَّف فلا يقال: رآه بعيني رأسه، ولا بعيني قلبه.

والقول الثاني: إن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - لم يَرَ ربه؛ وهذا قول عائشة - رضي الله عنها - وابن مسعود من الصحابة، وهو قول جمهور العلماء.
واستدلوا:
1- بحديث عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: "مَنْ حدَّثكم أن محمدًا رأى ربه فقد أعظم الفرية على الله"؛ متفق عليه.
2 - حديث أبي ذرٍّ - رضي الله عنه - قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هل رأيتَ ربك؟ قال: ((نورٌ أنَّى أراه))؛ رواه مسلم؛ ((أنَّى أراه؟!))؛ أي: كيف أراه؟! وهذا نصٌّ في المسألة.
3- حديث أبي موسى الأشعري: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يُرْفَع إليه عملُ الليل قبل عمل النهار، وعملُ النَّهار قبل عمل الليل، حجابُه النُّور، لو كشفه لأحرقت سُبُحَات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه))؛ رواه مسلم.

ووجه الدلالة: أن الله - عز وجل - لو كشف حجابه لأحرقت سُبُحَاتُ وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه، ومن ذلك مَنْ رآه - لو كان أحدٌ رآه - وهذا دليل على أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - لم يره.

وهذا القول هو الراجح - والله أعلم - على أنه يقال: إنه لا تَعَارُضَ بين القولين، ولا اختلاف بين الصحابة أصلاً - كما قال جمع من أهل العلم؛ منهم: الإمام أحمد، وشيخ الإسلام ابن تيمية - وأن الخلاف خلاف لفظي[8].

والجمع بين القولين: بأن يُحْمَل قول ابن عباس: إن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - رأى ربه ليلة المعراج، أنه رآه بعيني قلبه لا بعيني رأسه - أي: رآه بفؤاده - لأن الذي رُوِيَ عن ابن عباس حديثٌ مطلقٌ بأن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - رأى ربه، وحديث آخر مقيَّد بأنه رآه بفؤاده، فيحمل المطلق على المقيَّد؛ لأنه لَم يُرْوَ عن ابن عباس أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - رأى ربه بعينَي رأسه، ويحمل قول عائشة - رضي الله عنها - أنه لَم يرَهُ بعيني رأسه، فلا خلاف حينئذٍ، فيكون مَنْ نَفَى الرؤية حملها على رؤية البصر، ومَنْ أثبتها حملها على رؤية الفؤاد.

قال شيخ الإسلام: "وليس في الأدلة ما يقتضي بأنه رآه بعينه، ولا ثبت ذلك عن أحد من الصحابة صريحًا، ولا في الكتاب والسنة ما يدل على ذلك، بل النُّصوص الصحيحة على نفيه أدلُّ؛ كما في "صحيح مسلم"، عن أبي ذرٍّ - رضي الله عنه - قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هل رأيتَ ربك؟ فقال: ((نور أنَّى أراه؟!))، وليس في شيء من أحاديث المعراج الثابتة ذكر ذلك، ولو كان قد وقع ذلك لذكره كما ذكر ما دونه"[9].

مسألة أخرى: هل يُمكن لأحد أن يرى الله في المنام؟
الصحيح: أنه قد يرى المؤمن ربه في المنام.

ويدل على ذلك: ما رواه أحمد والترمذي من أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((رأيت ربي في المنام في أحسن صورة))، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وقد يرى المؤمن ربه في المنام في صورٍ متنوِّعة على قدْر إيمانه ويقينه، فإذا كان إيمانه صحيحًا لَم يره إلا في صورة حسنة، وإذا كان في إيمانه نقص رأى ما يشبه إيمانه، ورؤيا المنام لها حكم غير رؤيا الحقيقة في اليقظة، ولها تعبيرٌ وتأويل؛ لما فيها من الأمثال المضروبة للحقائق".

وبناء على كلام شيخ الإسلام ابن تيمية: فمَنْ أنعم الله عليه بأن رأى ربه في المنام، فليتذكر أن رؤيا المنام غير رؤية الحقيقة، فلا يذهب لذهنه ما يراه من الأوصاف في منامه بأنها كأوصاف الحقيقة أبدًا؛ لأنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((واعلموا أن أحدًا منكم لن يرى ربه حتى يموت))[10]، فهذه هي الرؤية الحقيقية العيانية.

ثانيًا: رؤية الله في الآخرة قبل دخول الجنة:
اختلف أهلُ العلم في رؤية الله - تعالى - في المحشر وقبل الحساب: هل هي خاصة للمؤمنين؟ أو أنها عامة لأهل المحشر كلهم؛ مؤمنهم ومنافقهم وكافرهم؟

وقبل ذكر الخلاف لا بد من معرفة عدة أمور:

الأول: أهل السنة والجماعة متَّفقون على أن المؤمنين يرَوْن ربهم في المحشر، فلم يخالفْ في ذلك أحد.
الثاني: أهل السنة والجماعة مُتَّفِقون على أن رؤية الله في عَرَصَات يوم القيامة لا تكون رؤية نعيمٍ وتكريمٍ وتلذُّذٍ إلا للمؤمنين، بخلاف غيرهم من الكفار والمنافقين، فعلى قول أنهم يرونه، فإنها ليست رؤية نعيم وتكريم.
الثالث: أن الخلاف في هذه المسألة نشأ بعد المائة الثالثة؛ أي: في بداية القرن الرابع، وأما قبل ذلك فلَم يكُن الخلاف مَوْجُودًا عند السلف - رحمهم الله - وإنما كانت المسألة السائغة عندهم: هل يُرى الله - جل وعلا - أو لا يُرى؟
الرابع: أن الخلاف في هذه المسألة ليس من الخلاف الذي يؤثِّر في الاعتقاد، فسواء قيل بأن الكفار والمنافقين يرونه أو لا يرونه؛ فالقضية قضيةُ نظرٍ واجتهادٍ، ولا تؤثِّر في الاعتقاد، ولشيخ الإسلام ابن تيمية قصة في هذه المسألة، حينما حصل النزاع والفرقة والعداوة بين أهل البحرين بسبب هذه المسألة، فكتبوا لشيخ الإسلام يسألونه، وبيَّن لهم أن هذه المسألة من المسائل التي لا يحصل بها هجران وتبديع وافتراق، فليستْ من مسائل الأصول التي يكون فيها موالاة أو معاداة، وإنما هي من المسائل الاجتهادية.

وخلاف أهل العلم في هذه المسألة على أقوال ثلاثة:
القول الأول: إن رؤية الله في المحشر تكون لأهل الموقف جميعًا للمؤمنين والكافرين، ومنهم المنافقون.
وقالوا بأن الكفار يرَوْنه ابتداءً، ثم يحجبون عن رؤيته؛ لقوله - تعالى -: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ}[11]، ولكنهم قالوا: إنَّ رؤية الكفَّار لله - تعالى - رؤية عذاب، واستدلُّوا بالأحاديث التي فيها تكليم الله - تعالى - لأهل المحشر وقت الحساب؛ كحديث أبي سعيد وحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - وكلاهما في الصحيحين، وفيه: أنَّ الله - عز وجل - يقول لأهل المحشر: ((من كان يعبد شيئًا فليتبعه، فيذهب الذين يعبدون الطواغيت، ويأتي اليهود والنصارى فيمثل لهم شيطان عزير، وشيطان المسيح))، والحديث فيه دلالة على تكليم الله لهم؛ حيث قال: "مَنْ كان يعبُد شيئًا فليتبعه"، فقالوا: ما دام أنه يكلمهم فهم يَرَوْنه، فجعلوا من التكليم دليلاً على الرؤية، والصواب أنه لا يلزم من التكليم الرؤية؛ فهذا قول مرجوح - والله أعلم.

والقول الثاني: إنه يراه المؤمنون والمنافقون دون الكافرين الأصليين، واختار هذا القول ابن خُزيمة في "التوحيد".
واستدلوا بحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في الصحيحين بعدما ذكر ذهاب كل طائفة من الكفار مع معبودهم فيلقون في النار - كما تقدم - قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها، فيأتيهم الله - تبارك وتعالى - في صورة غير صورته التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه، فيأتيهم الله - تبارك وتعالى - في صورته التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا فيتبعونه))؛ الحديث.

القول الثالث: إن الرؤية في المحشر خاصة بالمؤمنين فقط، واختار هذا القولَ النوويُّ، وشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمهما الله[12].
واستدلوا بحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في الصحيحين الذي تقدم؛ ففي أوله: أن ناسًا قالوا: يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((هل تُضَارُّون في رؤية القمر ليلة البدر؟))، قالوا: لا يا رسول الله، قال: ((هل تُضَارُّون في رؤية الشمس ليس دونها سحاب؟)) قالوا: لا، قال: ((فإنكم تَرَوْنَه كذلك))، وأما غير المؤمنين فلا يَرَوْنَ ربهم؛ لقوله - تعالى -: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ}[13].
وردَّ أصحابُ هذا القول على أصحاب القول الثاني بأن استدلالهم ليس فيه دلالة على أن المنافقين يرَوْن ربهم.

قال النووي: "ثم اعلم أنَّ هذا الحديث قد يُتَوَهَّمُ منه أنَّ المنافقين يرَوْن الله - تعالى - مع المؤمنين، وقد ذهب إلى ذلك طائفةٌ، حكاه ابن فورك؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((وتبقى هذه الأمةُ فيها منافقوها فيأتيهم الله - تعالى)) وهذا الذي قالوه باطل، بل لا يراه المنافقون؛ بإجماع من يُعْتَدُّ به من علماء المسلمين، وليس في هذا الحديث تصريحٌ برؤيتهم الله - تعالى - وإنما فيه أن الجمع الذي فيه المؤمنون والمنافقون يرون الصورة، ثم بعد ذلك يرون الله - تعالى - وهذا لا يقتضي أن يراه جميعهم، وقد قامتْ دلائلُ الكتاب والسنة على أنَّ المنافق لا يراه - سبحانه وتعالى - والله أعلم".

ثالثًا: رؤية الله - تعالى - في الجنة:
باتفاق أهل السنة والجماعة: أن المؤمنين يرَوْن ربهم في الجنة، والجنة لا يدخلها إلا نفسٌ مؤمنةٌ، ورؤية الله في الجنة أعظم نعيم، ورؤية المؤمنين لربهم في الجنة دلَّ عليها الكتاب والسنة والإجماع:
فمن الكتاب:
1- قوله - تعالى -: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}[14]؛ {نَاضِرَة}؛ أي: حسنة من النضارة، و{نَاظِرَة} من النظر.
قال الإمام البيهقي في كتابه "الرؤية": "هذا تفسيرٌ قد استفاض واشتهر فيما بين الصحابة والتابعين، ومثله لا يقال إلا بتوقيف، وفسَّروا قوله - تعالى -: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}، قال ابن عباس: {نَاضِرَةٌ}: حسنة، {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}: ناظرة إلى الخالق، وقال عكرمة: ناضرة من النعيم، إلى ربها ناظرة تنظر إلى الله نظرًا".
2- وقوله - تعالى -: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}[15]، فالحسنى: الجنة، والزيادة: النظر إلى وجه الله الكريم، كما سيأتي.
من السنة:
فالأحاديث متواترة عن الصحابة في إثبات هذا المعتقد، ومن ذلك:
1- حديث صهيب قال: قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}، قال: ((إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، نادى منادٍ: يا أهل الجنة، إن لكم عند الله موعدًا، يريد أن يُنْجِزكموه، فيقولون: ما هو؟ ألم يُثَقِّل موازيننا، ويبيِّض وجوهنا، ويدخلنا الجنة، ويُجرنا من النار؟! فيكشف الحجاب؛ فينظرون إليه، فما أعطاهم شيئًا أحب إليهم من النظر إليه، وهي الزيادة))؛ رواه مسلمٌ، وهكذا فسرها الصحابة - رضوان الله عليهم - كأبي بكر الصديق، وحذيفة، وأبي موسى، وابن عباس.
2- حديث جرير بن عبدالله، قال: كُنَّا جُلُوسًا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ نظر إلى القمر ليلة البدر فقال: ((إنكم ستَرَون ربكم عيانًا، كما ترون هذا القمر لا تُضَامُّون في رؤيته، فإن استطعتم ألا تُغلبوا على صلاةٍ قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا))؛ يعني بذلك: صلاة الفجر والعصر؛ والحديث متفق عليه.
3- حديث أبي موسى - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن يروا ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن))؛ متفق عليه.

وأجمع المسلمون على إثبات رؤية الله - تعالى - في الجنة ولم يخالف ذلك إلا مبتدع.


قال الإمام أحمد: "ومَن لَم يقل بالرؤية فهو جهميٌّ، وقال مرَّة: هو زنديق، وقال أيضًا: وقد بلغه عن رجل قال: إن الله لا يُرى في الآخرة، فغضب غضبًا شديدًا وقال: مَنْ قال: إن الله لا يُرى في الآخرة، فهو كافر - أو فقد كفر - عليه لعنة الله وغضبه، كائنًا من كان من الناس، أليس يقول الله - عز وجل -: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}، وقال: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ}؟! وقال أيضًا: "يُسْتَتَاب، فإن تاب وإلا قُتل"، وقال أيضًا: "نؤمن بها - أي: الرؤية - وأحاديثها، ونعلم أنها حق".

الشيخ/ عبدالله بن حمود الفريح
ـــــــــــــــــــــ
[1] [القيامة: 22- 23].
[2] [المطففين: 15].
[3] [الأعراف: 143].
[4] "مجموع الفتاوى" 3/ 389.
[5] "مجموع الفتاوى" 3/ 386.
[6] "التوحيد" (ص 226).
[7] "شرح مسلم" (3/ 12).
[8] انظر: "منهاج السنة النبوية" (2/ 636، 637).
[9] انظر: "مجموع الفتاوى" 6/ 580.
[10] رواه مسلم.
[11] [المطففين: 15].
[12] انظر: "شرح مسلم"؛ للنووي (1/ 35)، وانظر: "مجموع الفتاوى" (6/ 465).
[13] [المطففين: 15].
[14] [القيامة: 22، 23].
[15] [يونس: 26].











هوازن الشريف 09-04-2014 10:53 PM

رد: تيسير رب العباد إلى شرح لمعة الاعتقاد
 
تيسير رب العباد إلى شرح لمعة الاعتقاد (10)
الشيخ عبدالله بن حمود الفريح




41- قال المصنِّف - رحمه الله -:
وقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((إِنَّكُمْ ستَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا القَمَرَ، لاَ تُضَامُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ))
[1].
42- وهذا تشبيه للرؤيةِ بالرؤيةِ، لا للمرئيِّ بالمرئيِّ؛ فإنَّ الله - تعالى - لا شبيهَ له ولا نظير.


الشرح

قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تُضَامُّون في رؤيته))؛ أي: لا يلحقكم ضَيْمٌ ولا مَشَقَّةٌ في رؤيته، وفي حديث آخر: ((لا تُضَارُّون))؛ أي: لا يلحقكم ضررٌ، ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - المتقدِّم: ((هل تُضَارُّون في رؤية القمر؟))؛ أي: هل يلحقكم ضررٌ في رؤيته؟

والمعنى: أنَّ المؤمنين حين يَرَوْن ربهم فإنَّهم لا يَتَزاحَمُون، كما أنهم لا يتزاحمون في رؤية القمر والشمس ليس دونها سحاب، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((فإنكم ترونه كذلك كما تَرَوْنَ هذا القمر))، ليس معناه: أنه يُشبه القمر؛ فالله - جل وعلا - ليس كَمِثْله شيء، فلا شبيه له ولا نظير - كما قال المصنِّف - وإنما التَّشْبيه في الرؤية، فكما أن الناس اليوم لا يَتَزاحَمون، ولا يلحقهم ضررٌ ولا ضَيْمٌ ولا مشقةٌٌ في رؤية القمر ليلة البدْر، وفي رؤية الشمس ليس دونها سحاب، فكذلك سَيَرَوْن ربَّهم دون أن يلحقَهم ضررٌ أو ضَيْمٌ أو مشقَّةٌ في ذلك.

المبحث الثاني: المخالِفون لأهْل السنَّة:
المخالِفون لأهل السنَّة في مسألة الرُّؤية على قسمَيْن:
1- قسم أنكروا الرؤية صَرَاحة، وهم:
الجهمية، والمعتزلة، والرافضة، والإباضية - وهي إحدى طوائف الخوارج - وغيرهم، فهؤلاء يُنْكِرُون الرؤية، ويُؤَوِّلون الأدلة المُثْبِتَة للرؤية، فيقولون في قوله - تعالى -: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}[2]؛ أي: إلى ثوابِ ربِّها ناظرة.

والرد عليهم:
1- أن هذا مخالِف لطريقة السلَف وإجماعهم على إثبات الرؤية - كما تقدَّم بيانُه.
2- أن هذا مخالِف لظاهر النَّصِّ، فظاهِرُ النصوص دالَّةٌ على إثبات الرُّؤية.
3- أن تأويلَكُم ضعيفٌ جدًّا، ومخالفٌ لقواعد اللغة، ووجه ذلك: أن لفظ: (نظر) إذا عُدِّي بحرف الجر (إلى) كما في قوله - تعالى -: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}[3] - لا يُمكن أن يكونَ المقصود منه إلا النظَر البصري مُعاينة؛ بخلاف ما لو عُدِّي بحرف الجر (في)، فإنه يكون بمعنى التَّفَكُّر؛ كقوله - تعالى -: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ}[4]، وقوله - تعالى -: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ}[5]، وأما إذا عُدِّي بنفسه فإنه يكون بمعنى التوقُّف والانتظار؛ كقوله - تعالى -: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ}[6]، والمُهِمُّ أنه إذا عُدِّي بنفسه أو بـ(إلى)، فإنه يكون بمعنى النظَر بالعين؛ كقوله - تعالى -: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}[7]، وقوله - تعالى -: {وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي}[8]، وقوله: {انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ} [الأنعام: 99].

المبحث الثالث: هناك فَرْقٌ بين الرؤية والإدراك:
وهذا المبحثُ هو تنبيهٌ إلى أنه لا يعْنِي من إثبات الرؤية، وأن المؤمنين يَرَوْنَ ربهم: أنهم يحيطون به؛ بل الله - جلَّ في علاه - يراه المؤمنون بأبصارهم، لكن لا تُحيط به الأبصار؛ ويدلُّ على ذلك قوله - تعالى -: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}[9]؛ ولذا فإنَّ المعتزلة ومَن نَهَج نهجهم يستدلون بهذه الآية على إنكارِ رُؤية الله - تعالى.

والرد عليهم:
أن يقال: إن هناك فرقًا بين الرُّؤية والإدراك، ونحن نُثبت الرُّؤية؛ لدلالة الأدلة على هذا المعتقد، ولا نثبت الإدراك؛ لأنَّ الله - جلَّ وعلا - لا تُدركه الأبصار ولا تحيط به.

ومما يدل على هذا الفرق بين الرؤية والإدراك:
1- قول أصحاب موسى - عليه السلام - حينما لحقهم فرعون وقومه، وكانوا يرون فرعون وقومه ويراهم، لكن حينما خشوا أن يمسك بهم، ويتمكن منهم، قالوا: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ}[10].
ووجه الدلالة: أنه لو كان الإدراك بمعنى الرؤية، لوقع هذا الإدراك من أول الأمر، لا حينما خافوا أن يَتَمَكَّن منهم فرعون وقومه؛ لأنه رآهم من حين اللحاق بهم.
2- وأيضًا يُقال: مما يدل على الفرْق بين الرؤية والإدراك: أنَّ كثيرًا من الأشياء في الواقع نراها لكن لا ندركها؛ فنحن نرى الشمس والقمَر، والنجوم والجبال، والبحار الواسعة، لكننا لا ندركها في عظمها، وكبر حجمها، وما فيها من أسرار؛ فلا نُدرك حقيقتها.
فائدة:
مما استدل به المعتزلة على إنكار الرؤية أيضًا: قوله - تعالى - لِمُوسى - عليه السلام - حينما طلب رؤيته، قال - تعالى -: {لَنْ تَرَانِي}[11]، فقالوا: هذا دليل على نفْي الرُّؤية في الدُّنيا والآخرة.

والرَّد عليهم من عشرة أوجه، ذَكَرَها شيخُ الإسلام ابن تيميَّة، وكذا ذَكَرَها ابن أبي العز شارح الطحاوية؛ منها:
1- أن الله - عز وجل - تجلَّى للجبل؛ فقال - تعالى -: {وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا}[12].


ووجه الدلالة:
أن الله - عز وجل - تَجَلَّى للجبل فاندكَّ، وفي هذا دلالة على أنَّ الله - عزَّ وجل - قد يَتَجَلَّى لبعض عبادِه فيَرونه، لا كما يعتَقِد المعتزلة بأنَّه - سبحانه - لا يُرى.
2- أنَّ الله - عز وجل - لم يقلْ لموسى - عليه السلام - بأن رؤيتي غير مُمكنة، أو أنك لن تراني في الدنيا والآخرة، أو أنني لا أُرَى - كما يعتقد المعتزلة - بلْ أخْبَرَهُ - جلَّ وعلا - بأنه لا يَقْوى على رؤيته - جلَّ وعلا - في الدنيا.
3- أن قولكم في قوله - تعالى -: {لَنْ تَرَانِي}: فيه النفْي بـ(لن)، وهو نفْيٌ مؤبَّدٌ للرُّؤية في الدنيا والآخرة - يردُّه لغةُ العرب؛ حيث إن (لن) لا تفيد النفي المؤبَّد - كما تقوله المعتزلة - بل هذا لا يُعْرَف في باب النحو، وغلط على العربية؛ ولذا يقول ابن مالك في "الكافية الشافية"، ردًّا على هذا المعتَقد، ومبينًا أن (لن) لا تُفيد النفْي المؤبد:

وَمَنْ يَرَى النَّفْيَ بِ(لَنْ) مُؤَبَّدَا فَقَوْلَهُ ارْدُدْ وَسِوَاهُ فَاعْضُدَا



2- والقسم الثاني:
أنكروا الرؤية ليس صراحة، وإنما في مفهوم معتقدهم، وهم: الأشاعرة، والماتريدية، فهؤلاء باعتقادهم أنهم يثبتون الرؤية، ويقولون: نُثْبِت رؤية المؤمنين لربِّهم، ولكن حينما ننْظُر كيف يثبتون الرؤية؛ فإننا نجدهم كمَن ينكرها.


ووَجْه ذلك أنهم يقولون:
إنَّ الله - عز وجل - يُرى يوم القيامة، ولكنه لا يُرى عن مواجهة ومعاينة، بأن ينظروا إليه بأبصارهم، وإنما الرؤية عندهم رؤية علميَّة؛ بمعنى: العلم واليقين والكَشْف، وهذا نفيٌ للرؤية في حقيقة معناه؛ لأنهم يقولون: نحن نُثبت الرؤية، وأنَّ المؤمنين يَرَوْنَ ربهم، لكنَّهم يَرَوْنَه بقُلُوبهم لا بأبْصارهم، وهم اعتقدوا الرُّؤية بهذا المفهوم؛ لأنهم - كما سبق - يُنكرون العلوَّ الذاتيَّ لله - تعالى - فوَقَعُوا في تناقُضٍ؛ لأنهم إذا أثبتوا الرؤية البَصَرِيَّة لا بدَّ أن يُثْبِتُوا العلُو الذاتي لله - تعالى - فوقعوا في هذا الحَرَج، وهم عند أنفسهم أنهم يثبتون رؤية الله، بل إنَّ هؤلاء الأشاعرة ألَّفوا المؤلَّفات في إثبات الرؤية، وردُّوا على المعتزلة، والمعتزلة ردُّوا عليهم بأن اعتقادكم متناقِض؛ لأنَّ مَن أثبت الرؤية لا بد أن يُثبت العلُوَّ، هذا هو ملخَّص اعتقادِ الأشاعرة ومَن تبِعَهم.

والرَّد عليهم كما سبق:
1- أن هذا مخالف لطريقة السلَف وإجماعهم.
2- أن هذا مخالفٌ لظاهرِ النصوص الدالة على إثبات حقيقة الرؤية؛ فالآياتُ تدل على النظر بالبصر لا بغيره مِن تأويلاتكم الباطلة.
3- أن مفهومكم في إثباتكم للرُّؤية مفهوم خاطئٌ؛ فهو في حقيقتِه إنكار للرُّؤية، مع ما فيه من التناقُض والفساد.
4- أن مما يدلُّ على أن الرؤية تكون بالبصَر قولَه - تعالى -: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}[13].

ووجه الدلالة: أنَّ الله - عزَّ وجل - جعل الوجوه هي الناظرة لربها، والوجوه عُبِّر بها؛ لأنها محلٌّ للأبصار.

المبحث الرابع: من أسباب رؤية الله تعالى:
1- أن يسأل العبدُ ربَّه النظرَ إلى وجْهه الكريم؛ لحديث عمار بن ياسر، وفيه دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - ومنه: ((وأسألك لذَّةَ النظر إلى وجهك الكريم، والشوْق إلى لقائك في غَيْر ضرَّاء مُضِرَّة، ولا فتنة مُضلة))[14].
2- المحافَظة على صلاة الفجْر والعصر؛ لحديث جرير بن عبدالله - الذي تقدَّم - قال: كُنَّا جلوسًا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ نظر إلى القمر ليلة البدر، فقال: ((إنكم سَتَرَوْن ربَّكم عيَانًا كما ترون هذا القمر، لا تُضَامُّون في رؤيته، فإنِ اسْتَطَعْتُم ألا تُغْلَبُوا على صلاةٍ قبل طُلُوع الشمس وقبل غروبها، فافعلوا))[15]، والمقصود بهما: صلاة الفجر والعصر.




ـــــــــــــــــــــ
[1] حديث صحيح، متفق عليه.
[2] [القيامة: 23].
[3] [القيامة: 23].
[4] [يونس: 101].
[5] [الأعراف: 185].
[6] [الحديد: 13].
[7] [القيامة: 23].
[8] [الأعراف: 143].
[9] [الأنعام: 103].
[10] [الشعراء: 61].
[11] [الأعراف: 143].
[12] [الأعراف: 143].
[13] [القيامة: 22، 23].
[14] الحديث رواه أحمد، والنسائي، والحاكم.
[15] متفق عليه.











هوازن الشريف 09-04-2014 10:54 PM

رد: تيسير رب العباد إلى شرح لمعة الاعتقاد
 
تيسير رب العباد إلى شرح لمعة الاعتقاد (11)
الشيخ عبدالله بن حمود الفريح


فصل
في القضاء والقدر



43- قال المصنِّف - رحمه الله -:


"ومِنْ صِفاتِ اللهِ - تعالى - أنَّهُ الفَعَّالُ لِمَا يُريدُ، لا يَكُونُ شَيءٌ إلَّا بِإرادَتِه، وَلا يَخْرُجُ شَيءٌ عَنْ مَشِيئَتِه، وَلَيْسَ في العالَمِ شيْءٌ يَخْرُجُ عَنْ تَقْدِيرِه، ولا يَصْدُرُ إِلا عَنْ تدبِيرِه، ولا مَحِيدَ عَن القدَر المقدور، ولا يتجاوَزُ ما خُطَّ في اللَّوح المسْطور، أرَاد ما العالم فاعِلوه، وَلَوْ عَصَمَهُم لما خالَفوه، وَلَوْ شاءَ أنْ يُطِيعُوه جَمِيعًا لأَطاعُوه، خَلَقَ الخَلْقَ وأفعالَهم، وقَدَّرَ أرْزَاقَهُم وآجَالَهُم، يَهْدِي مَنْ يَشاءُ بِحِكْمَتِه؛ قال اللهُ - تعالى -: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ}[1]، وقال اللهُ - تعالى -: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}[2]، وقال - تعالى -: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا}[3]، وقال - تعالى -: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا}[4]، وقال - تعالى -: {فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا}[5].
44- ورَوَى ابنُ عُمَرَ أنَّ جِبْرِيلَ - عليه السلامُ - قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما الإيمان؟ قال: ((أنْ تُؤْمِنَ بِالله، وَمَلائِكَتِه، وَكُتُبِهِ، وَرُسُِله، وَاليَوْمِ الآخِر، وَتُؤْمِن بِالْقَدَرِ خَيْرِه وَشَرِّه))، فقال جبريل: "صَدَقْتَ"[6].
46- ومِنْ دُعَاءِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - الَّذي علَّمَهُ الحسَنَ بن عَلِيٍّ، يَدْعُو به في قُنُوتِ الوِتْر: ((وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ)).
47- ولا نجعلُ قضاءَ اللهِ وقدَرَه حُجَّةً لنا في تَرْكِ أوامِرِه، واجْتِناب نَوَاهِيه؛ بلْ يجبُ أنْ نُؤمِنَ ونَعْلَمَ أنَّ لله علينا الحُجَّةَ بإنزال الكتُب، وبَعْثَة الرُّسُل؛ قال اللهُ - تعالى -: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}[7].
48- ونعلَمُ أنَّ اللهَ - سبحانه وتعالى - ما أَمَرَ ونَهى إلَّا المستطيعَ للفِعْلِ والتَّرْكِ، وأنَّه لمْ يُجْبِرْ أَحَدًا على معصيةٍ، ولا اضْطَرَّهُ إلى تَرْكِ طَاعَة، وقال اللهُ - تعالى -: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}[8]، وقال - تعالى -: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}[9]، وقال - تعالى -: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ}[10].
49- فَدَلَّ على أنَّ للعبْدِ فِعْلاً وكَسْبًا، يُجْزَى على حَسَنِه بالثَّواب، وعلى سَيِّئِه بالعِقاب، وهو واقِعٌ بقضاء الله وقَدَرِه".




الشرح


وتحت هذا الفصل عدة مباحث:
المبحث الأول: إثبات صفة الإرادة لله - تعالى -:
ابتدأ المصنِّف - رحمه الله - هذا الفصل بإثبات صفة الإرادة لله - تعالى - وأنَّ الله فعَّال لِما يريد، وهو ابتداء مناسِب من المصنف؛ حيث ربط هذا الفصل بما ذكره قبل ذلك من الصفات، فذكر صفة الإرادة في مَعْرِضِ بيانه: أن الله على كلِّ شيء قدير، وأن كل شيء بقُدْرته وإرادته، لا يخرج شيء عن ذلك، ثم ذكَر الآيات التي تدلُّ على قدرة الله - تعالى - وأهلُ السنة والجماعة يُثبتون صفةَ الإرادة لله - تعالى - كما يَليق بجلاله، وعظيم سلطانه، مِن غير تحريف، ولا تكييف، ومن غير تعطيل ولا تمثيل، وهي صفةٌ ثابتة بالكتاب، والسنة، والإجماع:
فمن الكتاب: قوله - تعالى -: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا}[11].
ومن السنة: حديث ابن عمر- رضي الله عنهما - مرفوعًا: ((إذا أراد اللهُ بقوم عذابًا، أصاب العذاب من كان فيهم، ثم بعثوا على أعمالهم))[12].
وأجمع السلَف على إثبات هذه الصِّفة.

ويجب إثباتُ الإرادة بقسمَيْها: الكوني والشرعي - كما سيأتي.

المبحث الثاني: للإرادة قسمان: إرادة كونية، وإرادة شرعية:
القسم الأول: الإرادة الكونية:
والإرادة الكونية: هي ما يلزم وُقُوعه مما أراده الله - تعالى - ولو لَم يكنْ محبوبًا إليه - سبحانه - فكلّ ما في هذا الكون؛ من خيرٍ أو شر، فإنه كان بإرادة الله - تعالى - وقدره، ومن أمثلة هذه الإرادة والدليل عليها:
1- قوله - تعالى -: {وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ}[13].
2- وقوله - تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا}[14].
فكلُّ شيء خلقَه الله - عزَّ وجل - وقدَّره؛ من خير أو شر، فهو داخل تحت الإرادة الكونية؛ ولذلك تسمى: (إرادة كونية خلقية قدرية)، ولا شك أنَّ الله - عز وجل - لا يُقدِّر ولا يخلق إلا ما يشاء - سبحانه - فهذه الإرادة الكونية تُرادف المشيئة، وهي إرادة تَعُمُّ المؤمن والكافر.

القسم الثاني: الإرادة الشرعية:
والإرادة الشرعية: هي ما يلزم أن يكونَ محبوبًا لله - جلَّ وعلا - ولا يلزم وُقُوعه، فهي كلُّ ما أحبه الله - عزَّ وجَلَّ - ورَضِيَه من أحكام الشرْع في الكتاب والسنة؛ سواءٌ كان أمرًا أم نَهْيًا من أحكام الشرْع، ولكن هذه الإرادة لا يلزم وقوعها، فمِنَ الناس مَن أطاع الله - عز وجل - وامْتَثَلَ إرادته الشرعية، ومنهم من لَم يُطِع الله - جل وعلا - ولم يستجبْ، ومن أمثلة هذه الإرادة والدليل عليها:
1- قوله - تعالى -: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[15].
2- وقوله - تعالى -: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا}[16].

فكلُّ شيء شرَعَهُ الله - عز وجل - وأمَرَ به، فهو داخلٌ تحت الإرادة الشرعية؛ ولذلك تسمَّى: (إرادة شرعية أَمْرية)، ولا شك أنَّ الله - عز وجل - لا يأمُر إلا بما يُحبه - سبحانه – ويرْضاه، وعليه فإن الإرادة الشرعية تُرادف المحبة والرضا، وهي خاصَّةٌ بالمؤمن؛ لأنَّ الكافر لا يَمْتَثِل لأوامر الله - تعالى.

ومن خلال ما تقدَّم، فالفرْق بين الإرادة الكونيَّة والشرعيَّة:
1- أن الإرادة الكونية لا بُدَّ مِن وقوعها، فهي كلُّ ما خلقَه الله وقدَّره، بِخِلاف الإرادة الشرعية، فلا يلزم وقوعها.
2- أن الإرادة الكونية لا يَلْزم أن تكون محبوبة لله - تعالى - بخلاف الإرادة الشرعية، فهي ما أحبَّهُ - سبحانه - ورضيه.
3- أن الإرادة الكونية عامَّة للمؤمن والكافر، بخلاف الإرادة الشرعية فلا ينالها إلا المؤمن؛ لأنه هو الذي يَمْتَثِل لما شرَعه الله - تعالى - فتجتمع الإرادتان في حقِّ المؤمن كونًا وشرعًا، وتختلف في حق الكافر، فلا يدخُل إلا في الإرادة الكونية؛ لأنه لا يَمْتثل لما شرَعه الله - تعالى.

فائدة:
تبيَّن مما تقدَّم أن الإرادة الكونية تُرَادِفُ المشيئة، وبهذا يَتَبيَّن الفرقُ بين الإرادة والمشيئة، وأنَّ المشيئة لا تكون إلا كونية قدرية، بخلاف الإرادة فإنها تكون إرادة كونية، وتكون إرادة شرعية، وهذا الفرقُ هو الذي دلَّت عليه نُصُوص الكتاب والسُّنَّة، فالمتأملُ للنصوص الواردة في المشيئة يجدها كلها كونيَّة قدرية؛ ومن ذلك قوله - تعالى -: {مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[17]، وأمَّا الإرادة فقد جاءتْ في النصوص على قسمَيْن، تقدَّمَ إيرادُها مع أدلتها.

قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ - رحمه الله -: "الإرادة إرادتان: كونية قدرية، وشرعية دينية، وأما المشيئةُ فلم ترد في النصوص إلا كونية قدرية، فلا تنقسم"[18].

المبحث الثالث: المخالفون لأهل السنة في هذه الصفة:
خالَف أهلَ السنة من المبْتَدِعة في هذه الصفة طائفتان مشهورتان:
1- الجبرية: فلم يثبتوا إلا الإرادة الكونية فضلُّوا.
2- المعتزلة: فلم يثبتوا إلا الإرادة الشرعية فضلُّوا.

ولا شك أن هاتين الطائفتين خالفتا النصوص الدالة على إثبات الإرادتين الكونية والشرعية؛ ولذا جاء مذهبُ أهل السنة وَسَطًا بين هاتَيْن الطائفتَيْن الضالَّتَيْن في هذه الصفة، وتقدَّم بيانُ الأدلة على إثبات الإرادتَيْن - والله أعلم.

المبحث الرابع: الإيمان بالقدَر:
الإيمان بالقدر واجبٌ، وهو أحد أركان الإيمان الستَّة، وقد استدل المصنِّف بما يدل على أنَّ الله - عز وجل - قدَّر كل شيء تقْديرًا؛ كقوله - تعالى -: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}[19]، وقوله: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان: 2]، وقوله: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا}[20]، واستدلَّ المصنِّف بما يدلُّ على أنَّ الإيمان بالقدَر - خيره وشرِّه - واجبٌ، وأنه أحد أركان الإيمان الستة، فاستدل بما رواه مسلم، من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -: أن جبريل - عليه السلام - قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ما الإيمان؟ قال: ((أن تؤمنَ بالله، وملائكته، وكُتُبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره))، فقال جبريل - عليه السلام -: صدقت، وبدعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي علَّمه الحسن بن علي؛ ليدعو به، وفيه: ((وقِني شر ما قضَيْت))[21].


Ÿ Ÿ




يتبع


هوازن الشريف 09-04-2014 10:54 PM

رد: تيسير رب العباد إلى شرح لمعة الاعتقاد
 
تيسير رب العباد إلى شرح لمعة الاعتقاد (11)
الشيخ عبدالله بن حمود الفريح


45- قال المصنِّف - رحمه الله -:
"وقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((آمنْتُ بالقدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، وَحُلْوِه وَمُرِّه))".

فائدة:
وأما الحديث الذي أوْرَدَهُ المصنف، وفيه قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((آمنتُ بالقدر؛ خيرِه وشرِّه، وحُلوِه ومرِّه))، فهو حديث ضعيفُ الإسناد، في سنده يزيد الرقاشي ضعيفٌ، قال النسائي عنه: متْروك، وقال أحمد: منكر الحديث[22].

كيف يكون المسلمُ مؤمنًا بالقدَر؟

الإيمان بالقدر لا يكون تامًّا إلا بالإيمان بأربعة أمور، هي مراتب القدر الأربع:
أولًا: الإيمانُ بعلم الله الشامل لكلِّ شيء، جُملةً وتفصيلاً:
فيؤمن العبدُ بأن الله - عز وجل - أحاط بكلِّ شيء علمًا، فعَلِمَ ما كان، وما لَم يكن لو كان كيف يكون، فعلم ما سبق، وما سيأتي؛ أي: إنَّ علْمه - جل وعلا - أَزَلِيٌّ وأَبَدِيٌّ.

ومن أدلة هذه المرتبة:
1- قوله - تعالى -: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ}[23].
2- وقوله - تعالى -: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا}[24].

ثانيًا: الإيمان بأنَّ الله - تعالى - كَتَب في اللوح المحفوظ مقادير كلِّ شيء:
فيُؤمِنُ العبدُ بأنه ما من شيء كان في السابق، أو يكون في المستقبل، إلا وهو مكتوبٌ في اللوح المحفوظ قبل أن يكون؛ فيؤمن بأنَّ الله كَتَب في اللَّوح المحفوظ مقاديرَ كل شيء إلى قيام الساعة.

ومِن أدلة هذه المرتبة:
1- قوله - تعالى -: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا}[25].
2- حديث عبدالله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال: سمعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((كَتَب الله مقاديرَ الخلائق قبل أن يخلقَ السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشُه على الماء))[26].
3- وأيضًا قوله - تعالى -: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}[27]، وهذه الآيةُ فيها دلالة على المرتَبَتَيْن الأولى والثانية.

ثالثًا: الإيمان بأنه لا يكونُ شيء إلا بمشيئة الله - تعالى - وإرادته:
فيؤمن العبدُ بأنه لا يكونُ شيءٌ في السموات والأرض إلا بمشيئة الله - تعالى - وإرادته، يهْدِي مَن يشاء برحمته، ويُضل مَن يشاء بحكمته.

ومن أدلة هذه المرتبة:
1- قوله - تعالى -: {وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ}[28].
2- وقوله - تعالى -: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا}.

رابعًا: الإيمانُ بأن الله خالِق كلِّ شيء لا خالق غيره:
فيؤمن العبد بأن الله - جل وعلا - خلَق كلَّ ما في السموات وما في الأرض وما في سواهما، لا خالق سواه - جلَّ في علاه.

ومن أدلة هذه المرتبة:
1- قوله - تعالى -: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا}[29].
2- وقوله - تعالى -: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}[30].

هذه هي مراتِبُ القدَر الأربع:
1- العلم.
2- الكتابة.
3- المشيئة.
4- الخلق.

مجموعة في قول الشاعر:

عِلْمٌ كَتَابَةُ مَوْلانَا مَشِيئَتُهُ وَخَلْقُهُ وَهْوَ إِيْجَادٌ وَتَكْوِينُ
ومن أهلِ العلم مَن يُقَسِّم هذه المراتب الأربع على مرتَبَتَيْن:
الأولى: ما يسبق حصول المقدَّر، وهما: العلم، والكتابة.
الثانية: ما يكون حال وقوع المقدَّر، وهما: المشيئة، والخلق.

والمراتب الأربع: العلم، والكتابة، والمشيئة، والخلق، ذَكَرَها المصنِّف في أول الفصل ضمن كلامه؛ ليُبَيِّن عقيدة أهل السُّنَّة والجماعة، فمَن آمن بهذه المراتب الأربع، فقد آمن بالقضاء والقدر الذي هو ركنٌ من أركان الإيمان الستَّة؛ كما قال عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما - حيث قال: "والذي يحلف به عبدالله بن عمر، لا يؤمن أحدهم حتى يعلمَ أن ما أصابه لَم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لَم يكن ليصيبه"[31].

ومن خلال مراتب القدر الأربع، نُعَرِّف القَدَر فنقول: هو علْمُ الله - جل وعلا - الأزليُّ بالأشياء قبل وُقُوعها، وكتابته لها في اللوح، قبل خلْق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، ثم مشيئته - جل وعلا - لها، وخلقه - جل وعلا - لجميع الأشياء.

المبحث الخامس: المخالفون لأهل السنة في القدر:
خالَف أهلَ السنة منَ المبتدِعة طائفتان في مسألة الإيمان بالقدَر:
الأولى: القدرية: وهم المعتزلة، الذين يقولون بنَفْي القدَر؛ أي: إن الله - عز وجل - لم يُقدِّر شيئًا، وهؤلاء القدرية على قسمَيْن:
1- غلاة القدرية: وهم نفاة العلْم، فنفوا المرتبة الأولى مِن مراتب القدر، وهي العلم، فقالوا: إنَّ الله - عز وجل - لا يعلَم بما يحدث وما حدث قبل أن يحدث، ولا شك أن نفْيَهم للعلم يقتَضي نفي ما بعده من المراتب؛ كالكتابة، والمشيئة، والخلْق، وهذه الطائفة انقرضَتْ، ومَن أنكر علْم الله فقد كفر، وهؤلاء هم الذين كفَّرهم ابن عمر - رضي الله عنهما - كما في "صحيح مسلم"، حين قيل له عن قوم: "يزعمون أن لا قدر، وأن الأمر أُنُف - أي: مستأنف - فقال: إذا لقيت أولئك؛ فأخبرهم أنِّي برِيءٌ منهم، وأنهم بَرَاء مني، والذي نفسي بيده، لو أنْفَقَ أحدهم مثل أُحُدٍ ذهبًا ما قَبِلَه الله منه حتى يؤمِنَ بالقدَر".

2- القدرية غير الغلاة: وهم معتزلة اليوم، الذين يُثْبِتون المرتبة الأولى والثانية؛ فيثبتون العلم والكتابة، وينفون الخلْق والمشيئة، فيقولون: كل شيء خَلَقَهُ الله - تعالى - وشاءه إلا أفعال العباد؛ فإن الله - تعالى - عَلِمها وكتَبَها، ولكنه لَم يشأها، ولم يخلقها، فالعبد هو الذي خلَق أفعال نفسه وليس لله - تعالى - مشيئةٌ فيها ولا قدرة ولا خلق - تعالى عما يقولون عُلُوًّا كبيرًا.

والرد عليهم من طريق النقل والعقل:
أولًا: من طريق النقل: دلَّت النصوصُ الكثيرةُ على إثبات قدْرة الله - تعالى - ومشيئته وخلقه لأفعال عباده؛ ومن ذلك قوله - تعالى - في المشيئة: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ}[32]، وقوله: {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا}[33]، وقوله: {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}[34].

وقوله - تعالى - في الخلق: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}[35]، وقوله: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}[36]، فهذه النُّصوص وغيرها دلَّتْ على أنَّ العبد لا يفْعل إلا ما شاء الله - تعالى - وأنَّ أفعالَه خَلَقَها الله - تعالى.

ثانيًا: من طريق العقل: حيث لا يُعقَل أن مَنْ يملك السموات والأرض ومَن فيهن أن يكون في ملكِه ما لا تتعَلَّق فيه مشيئته وإرادته، ومن ذلك الإنسان، فهو وأفعاله تحت مشيئة الله - تعالى.

الطائفة الثانية: الجبرية: وهم الجهمية، وكذلك الأشاعرة، وإن كان الأشاعرةُ يُفَصِّلون في اعتقادهم بين الباطن والظاهر في الجبْر، وفصَّلوا تفصيلاً هم لَم يتَّفقوا عليه، ولَم يجدوا له تفسيرًا؛ فهم في النهاية جبريَّة.

والجبرية يقولون: إن العبد مَجْبور، وليس له اختيار في ذلك أبدًا، فالله - عزَّ وجل - أجْبَرَهُم على أفعالهم فجَعَلُوا الإنسان كالريشة في مَهَبِّ الرِّيح.

والرد عليهم مِن طريقين أيضًا؛ النقل والعقل:
أولًا: من طريق النقل:
فيُقال: دلَّت النُّصُوص على إثبات أنَّ للعبد مشيئة، ومِن ذلك:
- ما استدل به المصنِّف: قوله - تعالى -: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ}[37]، وقوله: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}[38]، وقوله:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}[39].

ووجه الدلالة: أنَّ الله - عزَّ وجل - في الآيات السابقة جعَل له عملاً يجازى به عقابًا أو ثوابًا، ولو كان مَجْبورًا، لكان عقابه منَ الظلْم، وكذلك كلَّفه وأَمَرَهُ بما يستطيع مما يدلُّ على أن له مشيئة، ولو كان مجبورًا لما جعل له عملاً يجازى به حسبما يختار من عمل، ولما جعله مستطيعًا على فِعْل ما أمر به.

ثانيًا: من طريق العقل:
أنَّ كل إنسان يُدرك الفرق بين الأفعال الاختيارية، والأفعال الاضطرارية، وفي واقع العبدِ منَ الأمثلة ما لو احتجَّ فيه بالقدر، وأنه مجبور، لعُدَّ ذلك من السَّفَه وقلَّة العقل، فلو قَتَل رجلٌ رجلاً آخر، واحتجَّ بأنه مجبور، لَم يُقبَل منه؛ لأنها حجَّة واهية، وكذا لو قيل لإنسانٍ: أغلق تجارتك، واجلسْ في بيتك، وإذا سُئِلْتَ: لماذا لا تتكسب؟ فقل: أنا مجبور - لعُدَّ ذلك منَ السفه، وقلة العقل، وكذا في سائر الأُمُور الدنيوية التي للإنسان فيها مصلحة دنيوية ظاهرة، فإنه لا يحتج فيها بالقدَر بتاتًا، ويرى أنَّ ذلك من السفه، وقلة العقل، وعند أهوائه فإنه يحتج بالقدَر؛ فيقال له: لماذا تحتج في القدر في هذا دون هذا؟!

ولهذا يقول ابن القيم في الميميَّة:

وَعِنْدَ مُرَادِ اللهِ تَفْنَى كَمَيِّتٍ وَعِنْدَ مُرَادِ النَّفْسِ تُسْدَى وَتُلْحَمُ
وَعِنْدَ خِلافِ الْأَمْرِ تَحْتَجُّ بِالْقَضَا ظَهِيرًا عَلَى الرَّحْمَنِ لِلْجَبْرِ تَزْعُمُ

وأهل السنة والجماعة وَسَطٌ بين القدرية والجبرية، فهم يقولون: للعبد قدرةٌ وإرادةٌ وبحسبها يُثَابُ ويُعَاقَبُ، وقدرته ومشيئته تحت قدرة الله ومشيئته.

فلا يقولون: ليس لله قدرة أصلاً، فهذا قول القدرية المعتزلة.
ولا يقولون: ليس للعبد قدرة أصلاً، فهذا قول الجبرية.
بل يقولون: إن لله قدرةً عامَّةً، وللعبد قدرة خاصة تحت قدرة الرب - سبحانه - فقدرةُ الرب غالبة على قُدْرة العبد.

ودليل هذا المعتقد الحق:
1 - قوله - تعالى -: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاؤونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}[40]؛ ففي الآية الأُولى: إِثْبات أنَّ للعبد مشيئة، وفي الثانية: إثبات أنَّ مشيئة العبد تحت مشيئة الله - تعالى.
2- قوله - تعالى -: {وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}[41].
3- قوله - تعالى -: {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً * وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا}[42].

فيُقال أيضًا في الاستدلالَيْن: في الآية الأولى منهما: إثبات أنَّ للعبد مشيئة، وفي الثانية: إثبات أن مشيئة العبد تَحْت مشِيئة الله - تعالى - ولهذا المعتقد آيات أُخَر تَقَدَّم بَعْضُها.

هذا هو مبْحث مسألة الإيمان بالقدَر بين أهْلِ السنَّة والمبتدعة، وتحت هذا المبْحَث عدة فوائد:
الفائدة الأولى:
يُقال في القدرية: إنهم مَجُوسُ هذه الأمة، وَوَرَدَتْ في ذلك أحاديث مرفوعة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذلك ما رواه أبو داود في "سننه"، عن ابن عمر - رضي الله عنه - مرفوعًا: ((القدَرية مجوس هذه الأمة))، وعند أبي داود أيضًا، عن حُذَيفة مرفوعًا: ((لكلِّ أمة مجوسٌ، ومجوسُ هذه الأمة الذين يقولون: لا قدَر))؛ والحديث وكل الأحاديث المرفوعة في هذا الباب ضعيفة، والصحيح هو المَوْقُوف على ابن عباس.

ووَجْه الشَّبَه بين القدَرية والمَجُوس هو: أنَّ المجوس يُثْبِتُون خالقَيْنِ: آلهة للخير، وآلهة للشَّرِّ، وكذلك القدَرية، فإنهم يثبتون خالقَيْنِ، فيثبتون أنَّ الله - تعالى - خلقهم، ويثبتون أنهم خلقوا أفعالهم، فلم يخلقْها اللهُ - تعالى.

واختلفَ أهلُ العلم في تكْفير هؤلاء، وأما غُلاة القدَرية الذين أنْكَرُوا علْم الله - تعالى - بالأشياء حتى تَحْدُث، فنَصَّ الشافعيُّ وأحمدُ وغيرهما منَ الأئمة على تكفيرهم، وتقدَّمَتِ الإشارة إلى أن ابن عمر - رضي الله عنهما - كَفَّرَهُم.




يتبع

هوازن الشريف 09-04-2014 10:55 PM

رد: تيسير رب العباد إلى شرح لمعة الاعتقاد
 
تيسير رب العباد إلى شرح لمعة الاعتقاد (11)
الشيخ عبدالله بن حمود الفريح


الفائدة الثانية:
يُقال في الجبْرية: إنهم شابَهوا بقولهم قول المشركين، وإنهم مَجْبُورون على عبادة الأوثان؛ فقالوا: {لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ}[43]، وكذا هي حُجَّةُ إبليس؛ حيث قال: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ}[44]، ووَجْه الشاهد قوله: {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي}، فكأنه مَجْبورٌ على الغَواية، وهو بهذه الحجة يُخاصم الله - تعالى - ولن تنفعه لبُطْلانها.

قال ابن القَيِّم: "سمعْتُ الشيخ تقيَّ الدين يقول: القدَرية المذمومون في السُّنَّة وعلى لسان السلَف: هم هؤلاء الفِرَق الثلاثة نُفَاتُه وهم: القدَرية المجوسيَّة، والمعارضون به للشريعة، الذين قالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا}[45]، وهم القدَرية المشركيَّة، والمخاصمون به للرب، وهم أعداءُ الله وخصومه، وهم القدَرية الإبليسية، وشيخهم إبليس، وهو أول مَن احتج بالقدَر؛ فقال: {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي}، ولَم يعترفْ بالذنب ويبوء به كما اعترف به آدم، فمَن أَقَرَّ بالذنب، وبَاءَ به، ونَزَّهَ ربه، فقد أشبه أباه، ومَن أشبه أباه فما ظَلَم، ومَن برَّأ نفسه، واحتج على ربِّه بالقدَر، فقد أشبه إبليس"[46].

الفائدة الثالثة:
ظهر وَفْقَ الخلاف في القدر وقول المبتدعة فيه مسألة، كثيرًا يُخاض فيها، وهي:
هل الإنسان مخيَّر أو مُسيَّر؟

والجواب: أنَّ مَن تأمَّل مذهب الجبرية والرد عليهم، عرف أن يجيب على هذا السؤال، والجبرية هم الذين يقولون: إنَّ العبدَ مسيَّر فليس له اختيارٌ، والقدَرية والمعتزلة هم الذين يقولون: إن العبد هو الذي يختار أفعالَ نفسه، وليس لله - تعالى - قدرة ولا خلق في أفعال العبد، وبهذا يتبيَّن لك القول الصحيح، وهو أن العبد مُسيَّر ومخيَّر، ويمكن إيجاز الجواب عن هذا السؤال بهذه النقاط التالية:
أولاً: هذا السؤال لَم يَرِد عن الصحابة - رضي الله عنهم - ولا عن السلَف الصالح - رحمهم الله - لأنَّ عُقُولَهم وقلوبهم اطمأنَّتْ بالمعتقد الصحيح، وإنما يرد هذا السؤال في كُتُب مَن تعمَّق في قضايا عميقة دقيقة، ليست من الشرع؛ كَكُتُب الفلسفة.

ثانيًا: أنَّ على المسلم مَعْرفة مُجْمَل اعتقاد أهلِ السنة والجماعة في مسألة القدَر بالأدلَّة، ويجتنب الخَوْض في دقائقه؛ لأنه إذا سار على غَيْر بصيرة وقَع في الضلال، واشتبه عليه الأمر؛ لأنَّ مَن ضلَّ في مسألة القدَر كان ضلالُه بسبب خوضه في أفعال الله - تعالى - وتعليلها، فعلى المسلم أن يسيرَ على ما دلَّتْ عليه النصوص؛ ولذا قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة في تائيته القدَرية، التي ردَّ بها على اليهودي الذي شكَّك في قدَر الله وأفعالِه:

وَأَصْلُ ضَلالِ الْخَلْقِ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ هُوَ الْخَوْضُ فِي فِعْلِ الْإِلَهِ بِعِلَّةِ
فَإِنَّهُمُ لَمْ يَفْهَمُوا حِكْمَةً لَهُ فَصَارُوا عَلَى نَوْعٍ مِنَ الجَاهِلِيَّةِ



وبالمناسبة، فقصةُ هذه التائية عجيبة؛ فقد نظمها شيخ الإسلام ردًّا على نظم اليهودي، الذي قال أبياتًا يُشكِّك في قدَر الله - تعالى - وجعل شيخ الإسلام يكتب، وهم يظنُّون أنه يكْتُب نثرًا؛ فإذا هو يكتب تائية منظومة، مرتجلاً بها، ردًّا عليه، زادتْ على مائة وثلاثين بيتًا ابتدأها بقوله:
سُؤَالُكَ يَا هَذَا سُؤَالُ مُعَانِدٍ مُخَاصِمِ رَبِّ الْعَرْشِ بَارِي الْبَرِيَّةِ[47]
ثالثًا: أن القول بأنَّ العبد مسيَّر - أي: مَجْبُور - على الإطلاق - خطأ، والقَوْل بأنه مُخيَّرٌ على الإطلاق خطأٌ، وتبيَّن لك مَنْ ضلَّ في هذا من المبتدعة مع الرد عليهم، وبيان المعتقد الصحيح الذي عليه نصوص الكتاب والسنة، وهو: أن للإنسان إرادة ومشيئة، وأنه فاعل حقيقة؛ لكن ذلك كله لا يخرج عن علم الله وإرادته ومشيئته؛ ويدل على ذلك قوله - تعالى -: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}[48]، وغير ذلك من النُّصوص التي تقَدَّم بيانُها.

قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة: "وكذلك لفظ الجبر، إذا قال: هل العبد مَجْبور، أو غير مجبور؟ قيل: إن أراد بالجبر أنه ليس له مشيئة، أو ليس له قدرة، أو ليس له فعل - فهذا باطلٌ؛ فإنَّ العبدَ فاعل لأفعاله الاختيارية، وهو يفعلها بقدرته ومشيئته، وإن أراد بالجبْر أنه خالق مشيئته وقدرته وفعله، فإنَّ الله - تعالى - خالق ذلك كله"[49].

وسُئِلَ شيخُنا ابن عثيمين: هل الإنسان مخيَّرٌ أو مسيَّرٌ؟

فأجاب بقوله: "على السائل أن يسأل نفسه: هل أجبره أحد على أن يسأل هذا السؤال؟ وهل هو يختار نوع السيارة التي يقتنيها؟ إلى أمثال ذلك من الأسئلة؛ وسيَتَبيَّن له الجواب هل هو مسيَّر أو مخيَّر.

ثم يسأل نفسه: هل يصيبه الحادث باختياره؟ هل يصيبه المرض باختياره؟ هل يموت باختياره؟ إلى أمثال ذلك من الأسئلة؛ وسيتبيَّن له الجواب هل هو مسيَّر أو مخيَّر.

والجواب: أنَّ الأمور التي يفعلها الإنسان العاقل يفعلها باختياره بلا ريب، واسمع إلى قول الله - تعالى -: {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً}[50]، وإلى قوله: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآَخِرَة}[51]، وإلى قوله: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا}[52]، وإلى قوله: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ}[53]؛ حيثُ خيَّر الفادي فيما يفدي به.

ولكن العبدَ إذا أراد شيئًا وفعله، علِمْنا أن الله - تعالى - قد أراده؛ لقوله - تعالى -: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}[54]، فلِكَمال ربُوبيته؛ لا يقع شيءٌ في السموات والأرض إلا بمشيئته، وأمَّا الأمور التي تقع على العبد أو منه بغير اختياره؛ كالمرض، والموت، والحوادث، فهي بمَحْض القدَر، وليس للعبد فيها اختيارٌ ولا إرادة، والله الموفِّق". اهـ[55].

الفائدة الرابعة:
من خلال ما تقدَّم من بيان اعتقاد الجبْرية في القدَر والرد عليهم، نعرف كيف نرد على مَن يحتجُّ بالقدَر على فِعْل المعاصي، وبيَّن المصنِّف - رحمه الله - أنه لا يحتج بقضاء الله وقَدَرِه في فعل المعاصي؛ من ترْك أوامر، أو فِعْل نواهٍ؛ كمَن يُقال له: لماذا تركتَ الصلاة؟ أو لماذا سرقت؟ فيقول: قضاء وقدَرٌ، هذا شيء مكتوبٌ عليَّ، ولا شك أنَّ هذه حُجَّة باطلة، والرد عليه من عدة وجوه:
1- أن الله - عز وجل - بعث الرُّسُل إلى أقوامهم؛ لئلا يكون للناس حجةٌ؛ فقطع بهم أي حُجَّة، ولو كان الاحتجاجُ بالقدَر صحيحًا، لكان مخالفًا لهذه الآية، في قوله: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}[56].
2- أن الله - عز وجل - جعل للعبد عملاً يجازى به يوم القيامة ثوابًا وعقابًا؛ فقال - تعالى -: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ}[57]، فأضاف الكسْبَ من العمل إلى العبد، وهذا يدل على أن له اختيارًا يُجازى به، فلا حُجَّة بالقدر حينئذٍ؛ لأنَّ هذا اختياره.
3- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما منكم من أحد إلا وقد كُتِبَ مقعده من النار أو من الجنة))، فقال رجل: ألا نتَّكل يا رسول الله؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: ((لا، اعملوا؛ فكلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ له))[58].
ووجه الدلالة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بالعمل، ونهى عن الاتِّكال على القدَر، وهذا يدل على أنه لا حجة فيه على عمل المعصية.
4- أن نقول لهذا الذي يحتجُّ بالقدَر على فِعْل المعاصي: ما رأيك لو أنَّ إنسانًا سرَق من بيتك أو سيارتك شيئًا، واحتج بالقدَر، فهل ستعذره بحجته؟ وكذلك لو أنه ضربك أو قتل آخر، واحتج بالقدَر، فهل حجته قوية، أو أنها باطلة؟

لا شك أنه سيقول: إنَّ هذه الحجة باطلة؛ بل منَ السَّفَه الاحتجاج بها، وكذلك في سائر أمور الدنيا لا يحتج بالقدر، فلو قيل له: لا تذهب لوظيفتك، واجْلِس في بيتك، وإذا سألك مُديرُك عن غيابك، فقل: قضاء وقدَرٌ، لا شك أنه لن يقول ذلك، وسَيَرَى أنه من السفَه الاحتجاج بذلك؛ فيقال له: لماذا تحتَجُّ بالقدر في أمور دينك، ولا تحتج به في أمور دنياك، ففرَّقتَ بين هذا وهذا؟! فكما أن لك مشيئة في أمور دنياك في فعلك وتركك، تُجَازَى عليها، فكذلك الحال في أمور دينك - والله أعلم.

وتقدَّم قول ابن القيم في ميميته:

وَعِنْدَ مُرَادِ اللهِ تَفْنَى كَمَيِّتٍ وَعِنْدَ مُرَادِ النَّفْسِ تُسْدَى وَتُلْحَمُ
وَعِنْدَ خِلافِ الْأَمْرِ تَحْتَجُّ بِالْقَضَا ظَهِيرًا عَلَى الرَّحْمَنِ لِلْجَبْرِ تَزْعُمُ

الفائدة الخامسة: شبهة في حديثَيْن، والرد عليها:
الحديث الأول:
حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((احتجَّ آدمُ وموسى، فقال له موسى: يا آدم، أنت أبونا، خيَّبتنا وأخرَجْتنا من الجنة، قال له آدم: يا موسى، اصطفاك الله بكلامه، وخطَّ لك بيده، أتلومني على أمرٍ قدَّره الله عليَّ قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟! فحجَّ آدمُ موسى، فحجَّ آدمُ موسى))[59].

وموطن الشبْهة: أنَّ آدم - عليه السلام - احتج بالقدَر على فِعْله، فأثبَتَ له النبي - صلى الله عليه وسلم - صحَّة الاحتجاج، وقال: ((فحَجَّ آدمُ موسى))، وهذا يدلُّ على جواز الاحتجاج بالقدَر على فِعْل المعاصي.

والجواب عن هذه الشبهة أن يُقال: آدم - عليه السلام - لَم يحتج بالقدَر على المعصية؛ لأن الله قد غفر له أَكْلَه من الشجرة، وإنما احتجَّ بالقدَر على المصيبة، وهي الإنزال من الأرض، فموسى - عليه السلام - لم يَقُل لآدم - عليه السلام -: لِمَ تَعْصي ربك؟ ولا يُتَصَوَّر أن موسى يَسْأل ذلك، فضلاً على أن آدم - عليه السلام - قد غفر الله - تعالى - له ذنبه، والإنزال إلى الأرض مصيبةٌ كَتَبَها الله على آدم - عليه السلام - ولذا جاء في رواية الشعبي: "أَلَم تقرأ في التوراة: أنَّ الله - تعالى - كتب أنه سوف ينزلني إلى الأرض، وأنه سيجعلني خليفة في الأرض؟!"؛ وأصل الحديث في البخاري؛ ولذا استدل آدم بالمكتوب المقدَّر على هذه المصيبة، ومن هذا الحديث أَخَذ مذهبُ أهل السنة والجماعة قاعدةً عقدية، وهي: "أنه يحتج بالقدَر على المصائب، ولا يحتج بالقدر على المعايب"، التي هي المعاصي والذنوب؛ ويدل على الاحتجاج بالقدَر على المصائب قوله - تعالى -: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ}[60]، وأَمَر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بأن نقول: "قل: قدَّر الله، وما شاء فعل"[61].

الحديث الثاني:
حديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما من نفس منفوسة إلا وكتب الله مقعدها منَ الجنة أو النار))، قالوا: يا رسول الله، أفلا نتَّكل على الكتاب، وندع العمل؟ قال: ((لا، بل اعملوا؛ فكلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِق له))[62]، وفي روايةٍ لمسلم ثم قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}[63].

وموطن الشُّبهة: أنَّ منَ الناس مَن يحتج بالقدَر على ترْك العمل، فيقول: ما دام أنه كُتِب في اللوح المحفوظ أهل الجنة من أهل النار، فلماذا نعمل؟

والجواب عن هذه الشبهة أن يقال:

أولاً: لا غرابة في هذا السؤال؛ حيث ورد عن الصحابة - كما في الحديث السابق - فقالوا: "يا رسول الله، أفلا نتَّكل على الكتاب وندع العمل؟ وكذلك في حديث جابر عند مسلم؛ حيث قالوا: ففيم العمل؟

ثانيًا: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أجاب عن هذه الشبهة، فقال لهم: ((اعملوا))، ولَم يجعل ما قالوه حجة تستوقف الإنسان عن العمل، بل أرْشَدَهُم إلى العمل، وهكذا نقول للمسلم، وتَقَدَّم أن العبد لا يُوغل في مسائل القدر؛ حتى لا يدعَ للشيطان مجالاً فيشكِّكه في عقيدته؛ ليدع العمل، فهو إما أن يفسدَ عمل العبد بالشهوات، أو يجعله لا يعمل بإلقاء الشبهات، فعلى العبد أن يؤمن ويعمل وَفْقَ ما جاء من نصوص الكتاب والسنة، فالعبدُ لا يدري ما الذي كُتِب له في اللوح المحفوظ؛ قال الله - تعالى -: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ}[64]، ولكن جاءت النصوص الكثيرة التي تحثُّ على العمل، وأن الإنسان سيُجَازَى بعمله؛ فعليه الاجتهاد.

ثالثًا: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر أن الإنسان يُيَسَّر لِمَا خُلِق له بعمله، فيوفِّقه الله لعمل أهل الجنة إن كان من أهلها، ويوفقه لعمل أهل النار إن كان من أهلها، إلا أنه - سبحانه وتعالى - لا يظلم أحدًا، فمَن سعى لعمل أهل الجنة وفَّقَه الله لعملها، ومَن أعرض واستكبر سهَّل الله له طريقًا إلى النار - والعياذ بالله - ولذا في رواية مسلم قرأ قوله - تعالى -: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}[65].

المبحث السادس: التقدير الكتابي على أقسام:
والمقصود: أنَّ تقدير الله - تعالى - للأشياء وكتابة ذلك في اللوح المحفوظ هو الأصل في هذه الأقسام، وما يأتي بعده من أقسام إنما هو كالتفصيل له:
أولاً: التقدير العام الشامل لكل شيء (التقدير الأصلي):
وهو المكتوب في اللوح المحفوظ من مقادير كل شيء إلى قيام الساعة.

ويدل عليه: حديث عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: سمعتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلقَ السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشُه على الماء))[66].

فما كتب في اللوح المحفوظ هو الأصل، وما سيأتي من تقسيمٍ إنما هو بمثابة التفصيل لما كُتِب في اللوح المحفوظ.




يتبع


هوازن الشريف 09-04-2014 10:56 PM

رد: تيسير رب العباد إلى شرح لمعة الاعتقاد
 
تيسير رب العباد إلى شرح لمعة الاعتقاد (11)
الشيخ عبدالله بن حمود الفريح



ثانيًا: التقدير العمري:
وهذا النوع من التقدير أو الكتابة إنما هو خاصٌّ بكلِّ إنسانٍ على حِدَة، فيُكتب ما يكون في عمره من حيث الرِّزق، والأجَل والعمل، والسعادة أو الشقاء.

ويدل عليه: حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: حدَّثنا الصادق المصدوق: ((إنَّ أحدَكم يجمع خلْقه في بطن أمه أربعين يومًا، ثم يكون علقةً مثل ذلك، ثم يكون مضغةً مثل ذلك، ثم يرسل الملك فينفخ فيه الرُّوح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد))[67].

ثالثًا: التقدير السنَوي (الحولي):
وهو ما يكون في ليلة القدر، ففيها تُكتب مقادير السنة من مَوْت وحياة، ورِزْق ومطر ونحوه، إلى السنة التي تليها؛ ويدل عليه:
قوله - تعالى -: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ}[68]، فسُمِّيَت ليلة القدر؛ لأن بها يكون تقدير ما يحصل في تلك السنة، وقوله - تعالى -: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}[69]، و{يُفْرَق}؛ أي: يفصل منَ اللَّوْح المحفوظ إلى الصُّحُف التي هي في أيدي الملائكة - كما في أحد أَوْجُه التفسير - وذلك كل سنة في ليلة القدْر.

رابعًا: التقدير اليَوْمي:
وهو التقدير الذي يحصل في كلِّ يَوْم؛ ويدل عليه قوله - تعالى -: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ}[70].
ووجه الدلالة: أنَّ جمعًا من المفسِّرين قالوا في تفسير هذه الآية: "إنَّ الله - عز وجل - من شأنه في كلِّ يوم أن يُحيي ويُميت، ويخلق ويَرْزُق، ويُعِزَّ قومًا، ويُذِلَّ آخرين، ويَشْفي مريضًا، ويفك عانيًا، ويفرج مكروبًا، ويُجيب داعيًا، ويعطي سائلاً، ويغفر ذنبًا، إلى ما لا يُحصى من أفعاله وأحداثه في خلقه"[71].

قال ابن القَيِّم: "وكلُّ واحد من هذه التقادير كالتفصيل من القدَر السابق، وفي ذلك دليل على كمال علْمه - سبحانه - وقدرته وحكمته، وزيادة تعريفه الملائكة وعباده المؤمنين بنفسه وأسمائه"، قال: "فاتَّفَقَتْ هذه الأحاديث ونظائرها على أنَّ القدَر السابق لا يمنع العمل، ولا يوجب الاتِّكال عليه؛ بل يوجب الجد والاجتهاد"[72].

وتحت هذا المبْحَث مسألتان:
المسألة الأولى: هل يَتَغَيَّر المكتوبُ في التقديرات السابقة؟

فالجوابُ: أنَّ المكتوب الذي بأيدي الملائكة؛ كالتقدير العمري ونحوه، فإنه يَتَغَيَّر، فيزيد وينقص بحسب الأسباب؛ لقول الله - تعالى -: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}[73]، وأما المكتوب في أُمِّ الكتاب الذي هو عند الله - جلَّ وعلا - في اللوح المحفوظ فلا يَتَغَيَّر؛ قال - تعالى -: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}، فالذي يقبل التغيير من مَحْوٍ وإثبات وتغيير، هو ما كان مكتوبًا في صُحُف الملائكة، كالذي تكتبه الملائكة حين ينفخ في الجنين الروح من أَجَلٍ، ورزقٍ، وعملٍ، وشقي أم سعيد، فإن شاء الله تغييره فَعَلَ - سبحانه وتعالى - بخلاف ما في اللوح المحفوظ فلا يَتَغَيَّر، بل كل ما يحدث من تغيُّر في صُحُف الملائكة، فإنَّه مكتوب في اللوح المحفوظ، لا يُمكن تغييره - والله أعلم.

قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة: "الرزق نوعان:
أحدهما: ما علمه الله أنه يرزقه، فهذا لا يَتَغَيَّر.
والثاني: ما كتبه وأعلم به الملائكة، فهذا يزيد وينقص بحسب الأسباب؛ فإن العبد يأمر الله الملائكة أن تكتبَ له رزقًا، وإن وصل رَحِمَه زاده الله على ذلك؛ كما ثبت في "الصحيح"، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((مَنْ سرَّه أن يُبْسَطَ له في رزقه، وينسأ له في أَثَرِه، فلْيَصِل رحِمه))، وكذلك عُمر داود زاد ستين سنةً، فجعله الله مائة بعد أن كان أربعين، ومن هذا الباب قولُ عمر- رضي الله عنه -: "اللهم إن كنتَ كتبتني شقيًّا، فامحني واكتبني سعيدًا؛ فإنك تمحو ما تشاء وتثبت"، ومن هذا الباب قولُه - تعالى - عن نوح: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ * يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى}[74]، وشواهِده كثيرةٌ.

والأسباب التي يحصُل بها الرزق هي من جُملة ما قدَّره اللهُ وكتَبَه، فإن كان قد تقدَّم بأنه يَرْزق العبد بسَعْيه واكتسابه، ألْهَمَهُ السعي والاكتساب، وذلك الذي قدَّره له بالاكتساب، وما قدَّره له بغَيْر اكتساب؛ كموت موروثه يأتيه به بغَيْر اكتساب.

والسعي سَعْيان:
1- سعيٌ فيما نُصِبَ للرِّزْق؛ كالصِّناعة، والتجارة.
2- وسعي بالدُّعاء والتوَكُّل، والإحسان إلى الخلْق، ونحو ذلك، فإنَّ الله في عَوْن العبد ما كان العبدُ في عون أخيه". اهـ[75].

وقال شيخُنا ابن عثيمين: "هذا المكتوب الذي بأيدي الملائكة عُرْضَةٌ للمَحْو والإثبات؛ لقول الله - تعالى -: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}[76]؛ أي: أصل أمِّ الكتاب هو اللوح المحفوظ، مكتوبٌ فيه ما يَسْتَقِرُّ عليه العبدُ، لكن ما كان قابلاً للمَحْو والإثبات، فهذا الذي في أيدي الملائكة؛ قال الله - عزَّ وجل -: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}[77]، انظر: حسنة تُذهب سيئة، تمحوها بعد أن كتبتْ، وهذا باعتبار ما في أيدي الملائكة، أما أمُّ الكتاب الأصل، فمكتوب فيه ما يستقِرُّ عليه العبدُ.

المسألة الثانية: كيف يكون الدُّعاء رادًّا للقضاء والقدَر؟
قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة: "قول بعضِهم: إنَّ الدعاء ليس هو إلا عبادة مَحْضة؛ لأنَّ المقدور كائنٌ، دعا أو لَم يدعُ، فيُقال له: إذا كان اللهُ قد جعل الدعاء سببًا لنَيْل المطلوب المقدَّر، فكيف يقعُ بدون الدعاء؟!"[78].

وقال ابن القيم: "الدُّعاء من أنفع الأدوية، وهو عَدُوُّ البلاء؛ يُدافعه ويُعالجه، ويمنع نُزوله، ويرفعه أو يخفضه إذا نزل، وهو سلاح، وله مع البلاء ثلاثُ مقامات:
أحدها: أن يكون أقوى من البلاء فيدفعه.
الثاني: أن يكونَ أضعف من البلاء؛ فيقوى عليه البلاء، فيصاب به العبد، لكن قد يخففه وإن كان ضعيفًا.
الثالث: أن يتقاوَما، ويمنع كل واحد منهما صاحبه"[79].

وقال شيخُنا ابن عثيمين: "الدُّعاء منَ الأسباب التي يحصل بها المدعو، وهو في الواقع يردُّ القضاء، ولا يرد القضاءَ إلا الدعاءُ؛ يعني: له جهتان، فمثلاً: هذا المريض قد يدعو الله - تعالى – بالشِّفاء، فيشفى، فهنا لولا هذا الدعاء لبقي مريضًا، لكن بالدُّعاء شُفِيَ، إلا أنا نقول: إن الله - سبحانه وتعالى - قد قضى بأن هذا المرض يشفى منه المريض بواسطة الدعاء، فهذا المكتوب"[80].

فائدة:
لا يجوز الدعاء بـ: "اللهم إنِّي لا أسألك رد القضاء، ولكنِّي أسألك اللطف به"؛ لسببَيْن:
الأول: لما فيه منَ التعَدِّي؛ حيث إنَّ هذا اللفظ يُوحي بأن بعض القضاء لا لُطف فيه، وهذا خلاف الصواب؛ فالله - تعالى - لطيفٌ بعباده في كل قضاء قضاه.
الثاني: لأنَّ الدُّعاء يرد القضاء - كما تقَدَّم - والداعي لا يسأل الله ردَّ القضاء، وهذا فيه عدمُ عزيمة على الدعاء، فالواجبُ أن يسأل الله ردَّ القضاء مع ما في دعائه ذلك من مواجهة لقضاء الله - تعالى - ورجح عدمَ الجواز شيخُنا ابنُ عثيمين في فتوى له.

المبحث السابع: الفرْق بين القدَر والقضاء:
اختلف العلماءُ في الفرْق بين القضاء والقدَر:
فقيل: هما بمعنى واحد، ولا فرْق بينهما، واختار هذا القول ابن القيِّم - رحمه الله - وكثيرٌ من أهل العلم.

وقيل: إنهما إذا اجتمعا فكلُّ واحد له معنى، وإذا افترقا بأن ذكر القدر، فإن القضاء يدخل في معناه، وإذا ذكر القضاء، فإن القدَر يدخل في معناه، وإذا اجتمعا بأن ذكر القضاء والقدر، فكلُّ واحد منهما له معنى، فإذا افترقا اجتمعا - أي: في المعنى - وإذا اجتمعا افترقا، فيكون كلُّ واحد له معنى، فيكون معنى القدَر: هو علمُ الله السابق الذي يسبق وُقُوع المقدَّر، فإذا وقع المقدَّر سُمِّي قضاءً؛ ولذا يقول الله - عز وجل -: {وَقُضِيَ الْأَمْرُ}[81]، وقال: {وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ}[82]، فالقدَر هو تقدير الله - تعالى - للشيء في الأزَل، والقضاء قضاؤه به عند وقوعه، واختار هذا القول الشيخ ابن عثيمين[83].

وأيضًا مما ينبغي ذكرُه تحت هذا المبحث: أن الإيمان بالقدَر يستلزم أن يؤمن العبد بأن الله لا يخلق شرًّا مَحْضًا - أي: لا خير فيه - فهذا لا يُمكن؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((والخير كلُّه إليك، والشر ليس إليك))[84].

وأما القضاءُ: فقد يكون فيه شرٌّ بالنسبة للإنسان، لا لقضاء الله - عز وجل - ذلك؛ ولذا جاء في دعاء القنوت، الذي رواه الإمام أحمد وغيره: ((وقني شر ما قَضَيْت؛ فإنك تقضي ولا يُقضى عليك))، فقضاءُ الله - تعالى - ليس فيه شرٌّ أبدًا؛ لأنه صادرٌ عن رحمةٍ وحكمةٍ، ولكنه بالنسبة للمخلوقين قد يكون شرًّا، ولو انكشفَ الغيب للعبد؛ لتمَنَّى كثيرًا مما كرهه، وظن أنه شرٌّ، والواقع يشهد لكثيرٍ من ذلك؛ ولذلك قال الله - عز وجل -: {إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}[85]؛ ولذا ينبغي التَّأدُّب مع الله - جل وعلا - فلا يُنسَبُ الشر إليه - جل وعلا - كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((والشر ليس إليك))، وقال الله - عز وجل - عن نبيِّه إبراهيم - عليه السلام -: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ}[86]، فنَسَبَ المرضَ لغير الله، مع أنَّ كل شيء من عند الله - عز وجل - بخلاف عديم الأدب إبليس؛ فإنه قال: {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي}[87]، فنسب الغَواية لله في خطابِه؛ ولذا لَم يأت في النصوص نسبة الشر لله - تعالى - مفردًا، فإما ينسب للسبب وهو الخلْق؛ كقوله - تعالى -: {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ}[88]، ويحذف فاعل الشَّر؛ كقوله - تعالى -: {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا}[89].

ويتلخص مما سبق:
أولاً: ينبغي التَّأدُّب مع الله - تعالى - فلا يُنسَب الشَّر إليه - جل وعلا - ويشهد لذلك أمران:
1- أنَّ المتأمِّل لنُصُوص الكتاب والسنة يجد أنَّ الشَّرَّ لا يُنسب لله - تعالى - مفردًا.
2- تأدب الأنبياء مع ربِّهم - جل وعلا - ومن ذلك قول إبراهيم - عليه السلام - كما في قوله - تعالى -: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ}[90].

ثانيًا: أنه ليس في قَدَرِ الله - تعالى - شرٌّ محضٌ، بل قد يكون شرًّا للمخلوقين، وأما بالنسبة للخالق فليس في قدره شرٌّ محضٌ؛ لأنه صادر عن رحمةٍ وحكمةٍ، فإن كان شرًّا من وجه فيما يراه المخلوق، فهو خيرٌ من وجهٍ آخر قد يخفى على المخلوق، وقد أطال في هذه المسألة وأجاد طبيبُ القلوبِ ابنُ القيِّم - رحمه الله - في كتابه: "شفاء العليل في مسائل القضاء والحكمة والتعليل"، فكان مما قال ابن القيم: "أما الشرُّ المحض الذي لا خير فيه، فذاك ليس له حقيقةٌ؛ بل هو العدمُ المحض، فإن قيل: فإبليس شرٌّ محضٌ، والكفر والشرك كذلك، وقد دخلوا في الوجود، فأيُّ خير في وجود إبليس ووجود الكفر؟! قيل: في خلق إبليس من الحِكَمِ والمصالح والخيرات التي ترتَّبَتْ على وجوده ما لا يعلمه إلا الله، كما سننبِّه على بعضه..."، ثم بيَّن ما في ذلك مِنْ خَيْر، فرَاجِعْه في كتابه - رحمه الله[91].

فائدة:
قول بعض الناس في دعائه: "الحمد لله الذي لا يُحمد على مكروهٍ سواه" - خلافُ السنة، فالأفضل اجتنابه؛ لسببَيْن:
الأول: لأنه خلاف السُّنَّة؛ فالسنَّة أن يقولَ فيما يكره: "الحمدُ لله على كلِّ حال".
الثاني: لأنَّ هذا يوحي بعدم الرِّضا بالقدَر[92].


الشيخ/ عبدالله بن حمود الفريح
ـــــــــــــــــــــــــ
[1] [الأنبياء: 23].
[2] [القمر: 49].
[3] [الفرقان: 2].
[4] [الحديد: 22].
[5] [الأنعام: 125].
[6] رواه مسلم.
[7] [النساء: 165].
[8] [البقرة: 286].
[9] [التغابن: 16].
[10] [غافر: 17].
[11] [الأنعام: 125].
[12] رواه مسلم.
[13] [هود: 34].
[14] [الأنعام: 125].
[15] [الأنفال: 67].
[16] [النساء: 27].
[17] [الأنعام: 39].
[18] انظر: "شرح العقيدة الواسطية" ص 49.
[19] [القمر: 49].
[20] [الحديد: 22].
[21] الحديث رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة، وصحَّح إسناده الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على الترمذي.
[22] انظر: "التقريب" (7683)، وانظر: "الميزان" (4/ 418).
[23] [الحشر: 22].
[24] [الطلاق: 12].
[25] [الحديد: 22].
[26] رواه مسلم.
[27] [الحج: 70].
[28] [إبراهيم: 27].
[29] [الفرقان: 2].
[30] [الصافات: 96].
[31] رواه مسلم.
[32] [البقرة: 253].
[33] [السجدة: 13].
[34] [الإنسان: 30].
[35] [الزمر: 62].
[36] [الصافات: 96].
[37] [غافر: 17].
[38] [البقرة: 286].
[39] [التغابن: 16].
[40] [التكوير: 28، 29].
[41] [المدثر: 56].
[42] [الإنسان: 29، 30].
[43] [الزخرف: 20].
[44] [الأعراف: 16].
[45] [الأنعام: 148].
[46] انظر: "التنيهات السنيَّة"؛ للشيخ عبدالعزيز الرشيد، ص (261).
[47] ومن أراد هذه التائية فلينظرها في "مجموع الفتاوى" (8/ 245).
[48] [التكوير: 28، 29].
[49] انظر: "مجموع الفتاوى" (7: 644).
[50] [المزمل: 19].
[51] [آل عمران: 152].
[52] [الإسراء: 19].
[53] [البقرة: 196].
[54] [التكوير: 28، 29].
[55] انظر: "مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين" (2/ 91 - 90)، وللجنة الدائمة برئاسة الشيخ عبدالعزيز بن باز - رحمه الله - مزيدٌ من التفصيل والبيان؛ انظر في فتوى برقم (4657) في فتاوى اللجنة الدائمة (3/ 517).
[56] [النساء: 165].
[57] [غافر: 17].
[58] رواه البخاري.
[59] متفق عليه.
[60] [الحديد: 22].
[61] رواه مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه.
[62] رواه البخاري ومسلم.
[63] [الليل: 5 - 10].
[64] [آل عمران: 179].
[65] [الليل: 5 - 10].
[66] رواه مسلم.
[67] متفق عليه.
[68] [القدر: 1 - 2].
[69] [الدخان: 3، 4].
[70] [الرحمن: 29].
[71] انظر: "معارج القبول" (1/ 346)، وانظر: "تفسير البغوي".
[72] انظر: "التنبيهات السنية"؛ للشيخ: الرشيد، ص (253).
[73] [الرعد: 39].
[74] [نوح: 3 - 4].
[75] انظر: "مجموع الفتاوى" 8/ 540 - 541.
[76] [الرعد: 39].
[77] [هود: 114].
[78] انظر: "مجموع الفتاوى" 8/ 287.
[79] انظر: "الجواب الكافي" صـ4.
[80] انظر: "المجموع الثمين من فتاوى ابن عثيمين" (1/ 157)، وانظر نحو هذا الكلام: وهو أن المرض مكتوب، وأن الشفاء بواسطة الدعاء أيضًا مكتوب - كلامًا لشيخ الإسلام ابن تيميَّة في "مجموع فتاواه" (8/ 96)، وانظر "فتاوى اللجنة" (1/ 195)، و(24/ 243).
[81] [هود: 44].
[82] [غافر: 20].
[83] انظر: "مجموع فتاواه" (2/ 79)، وانظر مزيدًا في هذا كتابَ ابن القيم: "شفاء العليل في مسائل القضاء والحكمة والتعليل".
[84] رواه مسلم.
[85] [النور: 11].
[86] [الشعراء: 78 - 80].
[87] [الأعراف: 16].
[88] [الفلق: 2].
[89] [الجن: 10].
[90] [الشعراء: 80].
[91] وانظر أيضًا: "فتاوى شيخنا ابن عثيمين" (3: 258).
[92] انظر: "تفسير جزء عم"؛ لشيخنا ابن عثيمين، صـ127.







هوازن الشريف 09-04-2014 10:56 PM

رد: تيسير رب العباد إلى شرح لمعة الاعتقاد
 
تيسير رب العباد إلى شرح لمعة الاعتقاد (12)
الشيخ عبدالله بن حمود الفريح


فصل
في الإيمان


50 - قال المصنِّف - رحمه الله -:


"والإيمانُ قوْلٌ باللسان، وعمَلٌ بالأرْكان، وعَقْدٌ بالجَنَان، يزيدُ بالطاعة، وينْقُصُ بالعصيان.
51- قال الله - تعالى -: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ}[1]، فجعَلَ عبادَةَ الله - تعالى - وإخلاص القلب، وإقامَ الصَّلاة، وإيتاءَ الزَّكاة، كُله مِن الدِّين.
52- وقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَة، أَعْلاَهَا شَهَادَةُ أَن لاَ إِلَهَ إِلا الله، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَن الطرِيق))، فجعَلَ القَوْلَ والعَمَلَ مِن الإيمان.
53- وقال - تعالى -: {فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا}[2]، وقال: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا}[3].
54- وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ: لاَ إِلهَ إِلاَّ الله وَفِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ بُرَّةٍ أَوْ خَرْدَلَةٍ أَوْ ذَرَّةٍ مِنَ الإيمانِ))، فجعَلَهُ متفاضلاً.





الشرح

الإيمان ومعتقد أهل السنة والجماعة فيه هو من أوائل المسائل التي وقع فيها الخلافُ بعد عصر الصحابةِ والتابعين لهم بإحسان، فاختلَفُوا: هل يدخل العملُ في مسمَّى الإيمان؟ وما الذي يدخل في مسمى الإيمان؟ وهل يزيد وينقص؟ إلى غير ذلك مما سيأتي في المباحث القادمة، ففي هذا الفصل عدة مباحث:
المبحث الأول: معتَقَد أهل السنة والجماعة في الإيمان:
— الإيمان في اللغة: هو التصديق والإقرار، وأما في الشرع فكما سيأتي في معتقد أهل السنة والجماعة.
— معتقد أهل السنة والجماعة في الإيمان: أنه - كما قال المصنِّف -: "الإيمان قولٌ باللسان، وعملٌ بالأركان، وعَقْدٌ بالجَنَان"، والمقصود بالأركان: الجوارح، والجَنان هو: القلب، فيكون الإيمان: اعتقاد وقول وعمل؛ اعتقاد بالقلْب، وقوْل باللِّسان، وعمَل بالجوارح، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وهذا التعريف مما أجْمَعَ علَيْه السلَف - رحمهم الله - ونقل الإجماع غيرُ واحد من أهل العلم؛ كالشافعي، وأحمد، والبخاري، وابن عبدالبر، والبغَوي، وغيرهم، نقلُوا الإجماع بدُخُول العمل والقول في مفهوم الإيمان.


قال البخاري في كتابه "خلق أفعال العباد": "أدركتُ ألفًا من العلماء، كلُّهم يقولون: الإيمان قول وعمل"[4].

ومثال ذلك ودليله كما يلي:
— مثال الاعتقاد بالقلْب ودليله: حديث عمر بن الخطاب عند مسلمٍ الطويلُ، وسؤال جبريل - عليه السلام - للنبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإيمان والإسلام والإحسان؛ فقال - صلى الله عليه وسلم - عن الإيمان: ((أن تؤمنَ بالله، وملائكته، وكُتُبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدَر خيره وشره))[5].


— مثال العمَل بالجوارح ودليله: حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - المتَّفق عليه، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لوفد عبدالقيس: ((أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟)) قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ((شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وتعطوا الخمس منَ المغنم)).
ووجه الدلالة:
أنَّه - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث فسَّر الإيمان بالأعمال الظاهرة؛ كإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وإعطاء الخمس، بينما في الحديث الذي قبله فسَّر الإيمان بالأعمال الباطنة التي يعقد عليها القلْب من المغيبات، وأيضًا ما استدل به المصنِّف وهو قول الله - عز وجل -: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ}[6]، حيث جعل الدين - وهو الإيمان - عمل القلب؛ كالإخلاص، وعمل الجوارح؛ كالصلاة والزكاة.

— مثال القول باللِّسان ودليله: حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عند مسلم؛ قال - صلى الله عليه وسلم -: ((الإيمان بضْع وسبْعون شُعبة؛ فأعلاها: قول لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق، والحياءُ شُعبة من الإيمان)).
ووجه الدلالة:

أنه - صلى الله عليه وسلم - جعل منَ الإيمان ما هو قول باللسان؛ كقول: لا إله إلا الله، وأيضًا هو دليل على أنَّ الإيمان عمل بالجوارح؛ كإماطة الأذى عن الطريق، وهو دليلٌ أيضًا على أنَّ الإيمان عمل القلب كالحياء.

— (يزيد بالطاعة) دليله: ما استدل به المصنِّف، وهو قول الله - تعالى -: {فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا} في قول الله - تعالى -: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ}[7]، وأيضًا استدل بقوله - تعالى -: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا} في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ}[8].
— (ينقص بالمعصية)، دليله: حديث أنَس - رضي الله عنه - المتَّفق عليه في خروج الموحِّدين من النار، يقول الله - عز وجل - لِمُحَمَّد - صلى الله عليه وسلم -: "انطلق فأَخْرِجْ منها من كان في قلبه مثقال ذرةٍ أو خردلة من إيمان فأَخْرِجْه" الحديث.
ووجه الدلالة:

أنَّ من الناس مَن ينقُص إيمانُه، حتى يصيرَ إلى هذا القدر اليسير، وهو الذرة أو الخردلة من الإيمان، وأيضًا ما جاء في الصحيحَيْن: أنَّ النَّبيَّ - صلَّى الله عليه وسلم - وَعَظَ النِّساء فقال: ((ما رأيتُ مِن ناقصات عقْل ودِين أذهبَ لِلُبِّ الرجل الحازم من إحداكن))، فأثبت نُقصان الإيمان وهو الدِّين، والأدلَّة على كلِّ جزئيَّة في هذا التعريف كثيرةٌ وما تقَدَّم بعضُها.

تنْبيه:
في تعريف الإيمان لا يظنُّ ظانٌّ أنَّ القلب لا يتعَلَّق به إلا الاعتقاد، وأنَّ القول والعمل يكون فقط باللِّسان والجوارح، فهذا ليس هو مُراد السلف، بل هذا فَهم المرجئة وغيرهم، حينما نقلوا معتقد أهل السنة والجماعة في الإيمان، وهذا فَهم خاطئ، فقول القلب وعمله يدخل في مفهوم الإيمان؛ ولذا أثر عن السلف أنهم قالوا: "الإيمان قول وعمل"، ويجعلونه شاملاً للظاهر والباطن؛ فالباطنُ: قول القلب وعمله، والظاهر: قول اللسان وعمله وعمل الجوارح؛ ولذا شيخ الإسلام ابن تيمية في "العقيدة الواسطية" جاءَ بتعريف السلَف مُجمَلاً، ثم فصَّله فقال: "ومِن أُصُول أهل السنة والجماعة أنَّ الدين والإيمان قولٌ وعملٌ، قول القَلْب واللسان، وعمل القلب واللسان والجوارح".


فيقال على التَّفصيل مع التمثيل والاستدلال: إن الإيمان:
— قول القلب: وهو الاعتقاد والتصديق.
ويدل عليه: حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - السابق وفيه: ((أن تؤمنَ بالله، وملائكته، وكُتُبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره)).


— وعمل القلب: وهي الأعمال القلبية؛ كالإخلاص، والخوف، والرجاء، والحياة، وغيرها من الأعمال القلبية.
ويدل عليه: ما استدلَّ به المصَنِّف قول الله - تعالى -: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ}[9]، فالإخلاص عمَلٌ قلبي، وكذلك حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - السابق، وفيه: ((والحياء شُعْبَةٌ منَ الإيمان))، فالحياء عمل قلبي.


— وقول اللسان وعمله: فقول اللسان هو نطقه، وعمله حركاته التي ينشأ عنها النُّطق، ومن أهل العلم من يجعلهما أمرًا واحدًا.
ويدل عليه: حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - السابق وفيه: ((الإيمان بضْع وسبعون شُعبة؛ فأعلاها: قول: لا إله إلا الله...)) الحديث، فقول: لا إله إلا الله من شُعَبِ الإيمان، وكذا ذكر الله بالتهليل والتسبيح، والتحميد والتكبير، وسائر أنواع الذِّكر تدخُل في قول اللسان وعمله.


— وعمل الجوارح: ما يقع مِن عمل في أعضاء البدَن؛ كاليدَيْن، والقدمَيْن، وبقية أجزاء البدَن؛ كالقيام، والرُّكوع، والسجود، والصلاة عامة، والحج، وغيرها من الأعمال البدنية.
ويدل عليه: ما استدل به المصنِّف، وهو قولُ الله - عز وجل -: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5]، وكذلك حديث ابن عباس وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لوفد عبدالقيس في الإيمان: ((شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصَوْم رمضان، وأن تعطوا الخمس من المغنم))، فذكر له أعمالاً بدنية.


وأردتُ بهذا التنبيه أنْ أُبيِّن أنَّ عمَل القلب يدْخُل في مفْهوم الإيمان - كما دلَّ علَيْه التفصيلُ السابق - لأنَّ التعريف السابق والذي جاء به المصَنِّف جعل لبعض الفِرَق مدخلاً في إخراج عمَل القلب من مفهوم الإيمان، ولا يعني هذا أنَّ التعريف الذي جاء به المصنف تعريف ناقص، لا، ولكنه قد يسوِّغ لمن عنده فَهْم ناقص في معرفه اعتقاد السلف في الإيمان أن يدخل فيه ما يدخل، والتعريف الذي جاء به المصنف تعريفٌ مشهورٌ متداوَلٌ عند أهْلِ العلم، ولا يُخْرِجُ أحدٌ منهم عملَ القلب من هذا التعريف، بل قول المصنف: "وعمل بالأركان" - أي: الجوارح - فيه دلالة على عمَل القلب؛ لأنَّ القلب أحد جوارح البدَن - والله أعلم.

المبحث الثاني: المخالفون لأهل السنة في الإيمان:
المخالفون لأهل السنة والجماعة في مفهوم الإيمان عدةُ طوائف ندخلها تحت طائفتَيْن:
الطائفة الأولى المرجئة: وهم على أقسام يتفاوتون في إرجائهم:
أولاً: غُلاة المرجئة:
وهؤلاء يقولون: إن الإيمان هو المعرفة فقط؛ أي: معرفة القلب لا غير.
ويلزم من كلامهم أن إبليس مؤمن؛ لأنه يعرف الله، وكذلك فرعون، وقريش، وأبو طالب، وغيرهم من رؤوس الضلال؛ لأنهم يعرفون الله، وهذه طائفة منغَمِسة في الإرجاء؛ ولذلك سُمُّوا غلاةَ المرجئة، وهذا المفهوم للإيمان مَوْجُود اليوم عند غلاة الصُّوفية والجهمية ومَن وافَقهم.


ثانيًا: الكَرَّامية:
وهم يأتون بعد غلاة المرجئة في مفهوم الإيمان؛ فالإيمان عندهم المعرفة وقول اللسان فقط؛ فلا يُدْخِلُون فيه التصديق فضلاً عن العمل، فعندهم أنَّ مَن عرَف الله ونطَق بلسانه كلمة التوحيد فهو مؤمن، فهم يُدْخِلُون المنافق مع المؤمنين؛ فالمنافقون عندهم مؤمنون في الدُّنيا؛ لأنهم ينْطِقون بكلمة التوحيد، ولو أنَّ تصديقهم بقلُوبهم يخالف قولهم، وأما في الآخرة فكفَّار مُخَلَّدُون، هذا اعتقادهم في المنافقين بناءً على مفهومهم للإيمان.


ثالثًا: الأشاعرة:
فهم يُعْتَبَرُون مرجئة في باب الإيمان، فالإيمان عندهم التصديق - أي: الاعتقاد - ووافقهم في ذلك الماتريدية، فمَن اعتقد وصدَّق بقلبه فهو مؤمن، ولو ترك أقوالاً وأعمالاً عِظَامًا فلا تخرجه من الإيمان، ويقال لهم: بناء على قولكم يكون فِرْعون مؤمنًا؛ لأنه كان مُصَدِّقًا، بل تصديقه كان تصديقًا جازمًا؛ لأنَّ الله - عزَّ وجل - سمَّاه يقينًا، واليقين هو التصديق الجازم؛ فقال - تعالى -: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ}[10]، وكذا اليهود كانوا مصدِّقين بقلوبهم أنَّ محمدًا رسول الله، ومع ذلك لا شَكَّ في كُفْر هؤلاء.



رابعًا: مرجئة الفقهاء:
ومذهبهم أنَّ الإيمان تصديق وقول، فيخرجون العمل، فالإيمانُ عندهم هو اعتقادٌ بالقلْب وقول باللسان فقط، فلم يُدخلوا العمَل في مُسمَّى الإيمان، وهؤلاء يسمَّون مرجئة الفقهاء؛ لأنه مذهب كثير منَ الحنفية، فقد قال به أبو حنيفة - رحمه الله تعالى.

ويُرَدُّ على طوائف المرجئة بأن النصوص الصريحة دلَّت على دخول الاعتقاد والقول والعمل في مسمى الإيمان، وتقدم بعض النصوص في المبحث الأول.
وهناك مَن يعتقد اعتقاد أهل السنة في الإيمان، إلا أن عنده إرجاء، فالإيمان عنده اعتقادٌ وقولٌ وعملٌ، إلا أنَّ العمل عنده ليس شرطَ صحةٍ، وإنما هو شرط كمال، فلا يكفِّر بالأعمال حتى يستحل.

الطائفة الثانية: الخوارج والمعتزلة:
وهؤلاء الإيمان عندهم كأهل السنة والجماعة اعتقاد وقول وعمل، إلا أن الأعمال عندهم شرطٌ في بقاء الإيمان، فمَن فعل معصيةً من كبائر الذنوب خرَج من الإيمان، لكن الخوارج يقولون: إنه كافر، والمعتزلة يقولون: هو في منْزلة بين منْزلتَيْن، لا نقول مؤمن ولا كافر، بل نقول: خرج من الإيمان ولم يدخل في الكفر؛ فهو في منْزلة بين هاتين المنزلتَيْن.


أما أهل السنة والجماعة فإنَّ الأعمال عندهم منها ما هو شرطٌ يكفر بتَرْكه، ومنها ما هو واجبٌ يفسق بتَرْكه، ومنها ما هو مستحبٌّ يجوز له تركه حسب ما تقْتضيه الأدلة.

ويُرَدُّ على الخوارج والمعتزلة بأنه جاءت النصوص الدالة على أن مَنْ فَعَل بَعَضَ الكبائر يبقى مؤمنًا؛ كالقاتل مثلاً، والزاني، والسارق، وشارب الخمر، فهم مؤمنون وإن أُقِيمَتْ عليهم الحدود التي جاء بها الشرع في حقِّهم، ولو كانوا كفَّارًا لوَجَب قتلهم ارتدادًا عن الدين، وهذا يدل على عدم خروجهم عن الإيمان بما فعلوا.

وأهل السنة والجماعة في مفهوم الإيمان وَسَطٌ بين هاتَيْن الطائفتَيْن، بين المرجئة والخوارج معهم المعتزلة.

المبحث الثالث: المخالفون لأهل السنة في زيادة الإيمان ونقصانه:
أيضًا خالف الخوارج والمرجئة مذهب أهل السنة والجماعة في زيادة الإيمان ونقصانه:
— فالمرجئةُ بجميع أقسامها الإيمان عندهم لا يزيد ولا ينقص؛ فالناس فيه سواءٌ؛ لأنَّ الإيمان عندهم التصديق بالقلب فقط؛ فلا يزيد ولا ينقص، فعندهم العبد التقي الذي يعبد الله آناء الليل وأطراف النهار، هو في إيمانه كمن يعصي الله آناء الليل وأطراف النهار بأعماله، فيزني ويسرق ويشرب الخمر وغيرها من المعاصي؛ لأن الأعمال عندهم غير داخله في الإيمان.
— والخوارج والمعتزلة: أيضًا الإيمان عندهم لا يزيد ولا ينقص، وإنما إما أن يذهب جميعه وذلك بفعل الكبيرة، وإما أن يبقى جميعُه، فهو ليس متفاضلاً يزيد وينقص، هذا هو أصْل اعتقادِهم في زيادة ونُقصان الإيمان، على أنَّ المعتزلة يرَوْن أن الإيمان قد يزيد حسب التكليف؛ فالغني الذي عنده مالٌ، التكليفُ عليه أكثر، فهو إن أدى زكاته فهو أكثر إيمانًا من الفقير الذي لا تَجِب عليه الزكاة.


وتقدَّم مذهبُ أهلِ السنة والجماعة، وأن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وتقدَّم الاستدلال على هذا؛ ولذا فإنَّ أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - أعلى الصحابة إيمانًا، بل لن يصلَ أحدٌ لدرجة إيمانِه - رضي الله عنه - قال بكر المُزَني: "ما فاق أبو بكر أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - بصومٍ ولا صلاة، ولكن بشيءٍ وقَرَ في قلبِه"[11].



يتبع

هوازن الشريف 09-04-2014 10:57 PM

رد: تيسير رب العباد إلى شرح لمعة الاعتقاد
 
تيسير رب العباد إلى شرح لمعة الاعتقاد (12)
الشيخ عبدالله بن حمود الفريح





المبحث الرابع: من أسباب زيادة الإيمان ونقصانه:
الإيمان يزيد بأمور وبضدها ينقص الإيمان، فمما يزيد الإيمان عشرة أسباب، أسوقها لك مع أدلَّتِها:
أولًا: معرفة الله - جلَّ وعلا - بأسمائه الحُسْنى وصفاته العلى:
ومما يدلُّ على ذلك: قول الله - عز وجل -: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}[12]، وَوَجْه ذلك أنَّ العلماء أعرفُ الناس بأسماء الله - تعالى - وصفاته، فاستحضروها في دعائهم وفي جميع شؤون حياتهم، حتى كانوا أخْشى الناس، والخشية أثر لقوة الإيمان في قلوبهم، وإلا فالعلْمُ الذي لا يورث هذه الخشية علم مدخولٌ - نسأل الله السلامة والعافية.


قال ابن رجب: "العلم النافعُ يدل على أمرَيْن:
أحدهما: على معرفة الله، وما يستحقه من الأسماء الحسنى والصفات العُلَى والأفعال الباهرة، وذلك يستلزم إجلاله وإعظامه، وخشْيته ومهابته، ومحبته ورجاءه، والتوَكُّل عليه، والرضا بقضائِه، والصبْر على بلائه.

والأمر الثاني: المعرفة بما يُحبه ويرضاه، وما يكرهه وما يسخطه منَ الاعتقادات والأعمال الظاهرة والباطنة والأقوال، فيوجب ذلك لِمن علمه المسارَعة إلى ما فيه محبة الله ورضاه، والتباعُد عما يكرهه ويسخطه، فإذا أثْمر العلْم لصاحبه هذا فهو علمٌ نافعٌ، فمتى كان العلم نافعًا ووَقَر في القلْب؛ فقد خشع القلب لله وانْكَسر له، وذلَّ هيبةً، وإجلالاً، وخشيةً، ومحبةً، وتعظيمًا"[13].

وقال أيضًا: "فالعلم النافع ما عرَّف العبدَ بربِّه، ودلَّه عليه حتى عرفه ووحَّده، وأَنِسَ به واستحى من قربه، وعَبَده كأنه يراه"[14]. اهـ.

وإذا وصل العبد إلى عبادة ربه كأنه يراه، لا شك أنَّه وصل إلى مرتبةٍ عظيمةٍ من الإيمان؛ لأنه وصل إلى أعظم المراتب، وهي الإحسان.

ثانيًا: طلب العلْم الشَّرْعي:
ويدل عليه ما تقَدَّم: قول الله - عز وجل -: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}[15]، فالعلمُ طريق للخشْية التي هي علامةٌ لِمَا وقَرَ في القلْب من إيمان، وذلك يأتي بالعلم النافع - كما تقدَّم - ولذا يقول الإمام أحمد: "أصل العلم الخشية".

وأيضًا لما تكَلَّم أحد الناس عن الإمام الزاهد العابد معروف الكرخي - رحمه الله - في مجلس الإمام أحمد وقال عنه: إنه قصير العلم، نهره الإمام أحمد، وقال: "أمْسِك - عافاك الله - وهل يراد من العلم إلا ما وصل إليه معروف"؛ ولذا جعله النبي - صلى الله عليه وسلم - طريقًا إلى الجنة فقال: ((مَن سَلَكَ طريقًا يلتمس فيه علمًا، سهَّل الله له به طريقًا إلى الجنة))[16].

ثالثًا: التأمُّل في آيات الله الكونية ومخلوقاته - جل وعلا -:
ويدل على ذلك: قول الله - تعالى -: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ}[17]، وقوله - تعالى -: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ}[18]، وقوله: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ}[19]، فإن العبدَ إذا تفكَّر في آيات الله - تعالى - في هذا الكون، عرف عظمة الله - تعالى - فازْداد إيمانُه، قال عامر بن عبدقيس: "سمعتُ غير واحد ولا اثنين ولا ثلاثة من أصحاب محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - يقولون: إنَّ ضياء الإيمان - أو نور الإيمان - التفَكُّر"[20].


رابعًا: قراءة القرآن وتدبُّره:
ففي قراءته وتلاوته يزْداد الإيمان، ويدل على ذلك: قول الله - عز وجل - في وصف المؤمنين الصادقين: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا}[21]، وكذلك تدبُّره؛ ففيه أعظم النفع لزيادة الإيمان.
وأما القلوب الغافلة فلا تتدبَّره؛ ويدل على ذلك قول الله - تعالى -: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}[22]، قال ابن القيِّم - رحمه الله -: "قراءة آية بتَفَكُّرٍ وتفهُّمٍ خيرٌ من قراءة ختْمة بغير تدبُّر وتفَهُّم، وأنفع للقلب، وأدعى في حصول الإيمان، وذوق حلاوة القرآن"، وقال أيضًا: "فليس شيءٌ أنفع للعبد في معاشِه ومعاده، وأقرب إلى نجاته - من تدبُّر القرآن، وإطالة التأمُّل، وجمع الفكر على معاني آياته؛ فإنها تطلع العبد على معالِم الخير والشر بحذافيرها، وتُثَبِّت قواعد الإيمان في قلبه، وتُشَيِّد بُنيانه، وتُوَطِّد أركانه"[23].

فإذا تدبَّر العبدُ آيات الله - تعالى - وما فيها من وعدٍ ووعيد، وجنَّة ونار، والأعمال التي تسوق إليهما - زاد إيمانه ويقينه بوَعْد ربِّه ووعيده.

خامسًا: الإكثار من ذِكْر الله - تعالى -:
ويدل على ذلك: قول الله - تعالى -: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}[24]، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث أبي موسى: ((مَثَلُ الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت))[25]، فذِكْر الله - عزَّ وجَلَّ - فيه حياةٌ للقلْب؛ فيزداد إيمان العبْد كلما أَكْثَرَ من ذكر ربِّه، ويموت القلب وينقص إيمانُ العبد كلما كان بعيدًا عن ذِكْر ربه، وفي هذا علامة على الغفْلة؛ قال - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}[26]، وقال في وصْف المنافقين الذين مُلِئَت قلوبُهم كفرًا وبُعدًا عن الله - تعالى -: {وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً}[27]، قال أبو الدرداء - رضي الله عنه -: "لكل شيء جلاءٌ، وإن جلاء القلوب ذكْر الله - عز وجل"[28].


قال عمير بن حبيب: "الإيمان يزيد وينقص"، فقيل: فما زيادته وما نقصانه؟ قال: إذا ذكرنا ربَّنا وخشيناه فذلك زيادته، وإذا غفلنا ونسيناه وضيَّعنا فذلك نقصانه"[29].
وقال شيخُ الإسلام ابن تيميَّة: "الذكْر للقلب مثل الماء للسمك، فكيف يكون حال السمك إذا فارق الماء"[30].

سادسًا: تقديم ما يُحبه الله ورسوله على هوى النفس:
ويدل على ذلك: حديث أنس قال - صلى الله عليه وسلم -: ((ثلاثٌ مَن كنَّ فيه وجد بهنَّ حلاوة الإيمان: أن يكونَ الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرءَ لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يُقْذَفَ في النار))[31]، قال ابنُ حجَر: "قال البَيْضاوي: وإنما جعل هذه الأمور الثلاثة عنوانًا لكَمال الإيمان؛ لأنَّ المرء إذا تأمَّلَ أنَّ المنعم بالذات هو الله - تعالى - وأن لا مانح ولا مانع في الحقيقة سواه، وأن ما عداه وسائط، وأنَّ الرسول هو الذي يُبَيِّن مُراد ربه - اقتضى ذلك أن يَتَوَجَّه بكُليَّته نحوه؛ فلا يحب إلا ما يحب، ولا يحب مَن يحب إلا من أجله..."[32].
ومِن أعظم علامات محبَّة الله ورسوله: تقديمُ ما يُحبُّه الله ورسوله على هوى نفسه؛ قال - تعالى -: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[33]، وكذا مما يزيد الإيمان الحب في الله، وكراهة الوقوع في الكفر؛ فيبتعد عن كلِّ ما يهوي به إلى ذلك.


سابعًا: حضور مجالس الذكر، والحرص عليها:
ويدل على ذلك حديث حنظلة الأُسيدي قال: "قلت: نَافَقَ حنظلةُ يا رسول الله، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((وما ذاك؟)) قلت: يا رسول الله، نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة، حتى كأنَّا رأي عين، فإذا خرجنا من عندك عافَسْنَا الأزواج والأولادَ والضَّيْعَات، نَسِينا كثيرًا، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((والذي نفسي بيده، لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر، لصافَحَتْكم الملائكة على فُرُشِكم وفي طرُقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة))[34].
والضَّيعات: هي معاش الرجل؛ من مال، أو حرفة، أو صناعة.


وقال معاذ بن جبل لأحد أصحابه يتذاكر معه: ((اجلس بنا نؤمن ساعة))[35]، وقال ابنُ حجَر في "الفتح": "وهو عنِ الأسود بن هلال قال: قال لي معاذ بن جبل: "اجلِسْ بنا نؤمن ساعة"، وفي رواية: "كان معاذ بن جبل يقول للرجُل من إخوانه: "اجلِس بنا نؤمن ساعة، فيجلسان فيذكران الله - تعالى - ويحمدانه"[36].
قال أبو الدرداء: "كان ابن رواحة يأخذ بيدي ويقول: "تَعَالَ نؤمن ساعة، إن القلب أسرعُ تَقَلُّبًا من القِدْرِ إذا استجمعت غليانها"[37].
وفي "شُعَبِ الإيمان" للبيهقي: عن عطاء بن يسار: أن عبدالله بن رواحة قال لصاحب له: "تَعَالَ حتى نؤمن ساعة"، قال: أَوَلَسْنا مؤمنين؟! قال: "بلى، ولكنا نذكر الله، فنَزداد إيمانًا".
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "الفتاوى": "كان الصحابة - رضي الله عنهم - يجتمعون أحيانًا: يأمرون أحدهم يقرأ والباقون يستمعون، وكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول: يا أبا موسى ذكِّرنا ربنا، فيقرأ وهم يستمعون".


ولأنَّ العبد في مجالس الذكر يسمع ما يحُثُّه على طاعةٍ غفل عنها، وما يذكره في معصيةٍ وَقَع فيها؛ لينتهي.

— ويدخل تحت هذا السبب سببٌ آخر من مقوِّيَات الإيمان، وهو مصاحبة الأخيار، وتقدم نماذج للصحابة في ذلك.
ويدل عليه: قول الله - تعالى -: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا}[38]، وحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((المرءُ على دين خليله، فلينظر أحدكم مَن يُخالل))[39].


قال المباركفوري: "((على دين خليله))؛ أي: على عادة صاحبه، وطريقته، وسيرته، ((فلْيَنْظُر))؛ أي: فليتأمل وليتدبر، ((مَنْ يُخَالل))؛ من المخالَّة، وهي: المصادقة والإخاء، فمَن رضي دينه وخُلُقه، خالِلْه، ومَن لا، تَجنَّبْه، فإن الطباع سرَّاقةٌ، والصحبة مؤثرةٌ في إصلاح الحال وإفساده، قال الغزالي: مجالسة الحريص ومخالطته تحرك الحرص، ومجالسة الزاهد ومخاللته تزهد في الدنيا؛ لأنَّ الطباع مجبولة على التشبُّه والاقتداء"[40].

قال الشاعر:
عَنِ الْمَرْءِ لا تَسْأَلْ وَسَلْ عَنْ قَرِينِهِ فَكُلُّ قَرِينٍ بِالْمُقَارَنِ يَقْتَدِي

وقال آخر:
فَصَاحِبْ تَقِيًّا عَالمًا تَنْتَفِعْ بِهِ فَصُحْبَةُ أَهْلِ الْخَيْرِ تُرْجَى وَتُطْلَبُ
وَإِيَّاكَ وَالْفُسَّاقَ لا تَصْحَبَنَّهُمْ فَقُرْبُهُمُ يُعْدِي وَهَذَا مُجَرَّبُ
فَإِنَّا رَأَيْنَا الْمَرْءَ يَسْرِقُ طَبْعَهُ مِنَ الْإِلْفِ ثُمَّ الشَّرُّ لِلنَّاسِ أَغْلَبُ



وفي المثَل: (الصاحب ساحب)، فصاحب الإيمان يسحبه إلى ما فيه زيادة الإيمان، والعكس بالعكس.


وفي الصحيحَيْن، مِن حديث أبي موسى - رضي الله عنه - عنِ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مثَل الجليس الصالح والسوء، كحامل المسْك ونافخ الكير؛ فحامل المسك: إما أن يحذيك، وإما أنْ تَبْتاع منه، وإما أن تجدَ منه ريحًا طيبة، ونافخ الكير: إما أن يَحْرِقَ ثيابَك، وإما تَجِد ريحًا خبيثة))، و((يحذيك))؛ أي: يعطيك.


والأدلة وأقوال السلف كثيرةٌ في أثر الصُّحْبة الصالحة في زيادة الإيمان.


ثامنًا: البُعد عن المعاصي:
لا شك أنَّ اقتراف المعاصي سببٌ في نقصان الإيمان، والبُعد عنها ومدافعتها سبب زيادته، فمِنْ عقيدة أهْل السنَّة والجماعة: أنَّ الإيمان يَزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، وأنَّ من طاعة الله - تعالى - أن يبتعدَ الإنسان عن المعاصي والفتن، فأيُّ عبدٍ أراد أن يعيشَ قلبُه سليمًا من الأمراض لا تضرُّه الفتن ما دامت السموات والأرض؛ فليبتعدْ عنها ولينكرها.

ويدل عليه: حديثُ حذيفة - رضي الله عنه - قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((تُعْرَض الفتَن على القلوب كالحصير عُودًا عُودًا، فأيُّ قلبٍ أشربها، نُكِتَ فيه نكتةٌ سوداء، وأيُّ قلبٍ أنكرها نُكِتَ فيه نكتةٌ بيضاء؛ حتى تصير القلوب على قلبين؛ على أبيض مثل الصفا، فلا تَضُرُّه فتنةٌ ما دامت السموات والأرض، والآخر أسودُ مرْبَادًّا، كالكوز مُجَخِّيًا، لا يعرف معروفًا ولا يُنكر منكرًا، إلا ما أُشْرِبَ من هواه))[41]، و(مُرْبَادًّا)؛ أي: مخلوطًا حمرة بسواد، (كالكوز مُجَخِّيًا)؛ أي: كالكأس المنكوس المقلوب الذي إذا انصبَّ فيه شيءٌ لا يدخل فيه.

قال القاضي عياض: "ليس تشبيهه بالصفا بيانًا لبياضه، لكن صفة أخرى لشدَّته على عقد الإيمان وسلامته من الخلَل، وأن الفتن لم تلصق به، ولم تؤثِّر فيه، كالصفا: وهو الحجر الأملس"[42].


وهكذا المؤمن كُلَّما كان من الفتن والمعاصي أبعد، كان حفاظه على سلامة قلبه وازدياد إيمانه أكثر، وكلَّما تهاوَن بالذنوب وتَعَرَّض للفتن، كلما نقص إيمانه.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "غَضُّ البصر يُورِث ثلاثَ فوائد: حلاوة الإيمان ولذته، ونور القلب، والفراسة، وقوة القلب وثباته وشجاعته"[43].

قال ابن المبارك:
رَأَيْتُ الذُّنُوبَ تُمِيتُ الْقُلُوبَ وَقَدْ يُورِثُ الذُّلَّ إِدْمَانُهَا
وَتَرْكُ الذُّنُوبِ حَيَاةُ الْقُلُوبِ وَخَيْرٌ لِنَفْسِكَ عِصْيَانُهَا



تاسعًا: الإكثار من النوافل والطاعات:
فكُلَّما أكثر العبدُ مِنَ النوافل، نال ثمراتٍ كثيرةً؛ منها: محبة الله له ومَعِيته؛ فلا يصدر مِن جوارحه إلا ما يرضي الله - جل وعلا - وأيضًا يكون مُجَابَ الدَّعوة، وإذا نال العبدُ هذه الثمرات، زاد إيمانُه؛ لأنه نال محبَّة الله ورضاه عنه، مع ما في النوافل مِن ثمرات.
ويدل عليه: حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عند البخاري، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قال الله - عز وجل -: ((وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبَّه، فإذا أحببتُه، كنتُ سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينَّه، ولئن استعاذَني لأُعيذنه))، فلْيَجْتَهد العبد ويُكثر من النوافل في الصيام، والصلاة، والذكر، وسائر أعمال البر.

عاشرًا: سؤال الله - تعالى - زيادة الإيمان وتجديده:
ويدل عليه: حديث عبدالله بن عمرٍو - رضي الله عنه - وعبدالله بن عُمر - رضي الله عنه - قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الإيمان لَيَخْلَقُ في جَوْف أحدكم كما يَخْلَقُ الثَّوب، فاسألوا الله - تعالى - أن يُجَدِّد الإيمان في قلوبكم))[44]، وقوله: ((إن الإيمان ليخلق))؛ أي: إنه ليبْلى، فالمؤمن إذا أَحَسَّ بقسْوة في قلْبِه وفتور ونقص في الإيمان، سأل الله - تعالى - أن يُجَدِّدَ الإيمان ويزيده في قلبه، فقد كان السلفُ يحرصون على هذا الجانب، فيسألون الله - عز وجل - زيادة الإيمان، فهذا عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - يقول: "اللهم زِدْنا إيمانًا، ويقينًا، وفقهًا"[45]، وتقدَّم قولُ معاذ لبعض أصحابه: "اجلس بنا نؤمن ساعة"، وكذلك قول ابن رواحة لأبي الدرداء: "تَعالَ نؤمن ساعة"، وكان أبو الدرداء يقول: "مِنْ فِقْهِ العبد أن يعلم أمُزْدَادٌ هو أو مُنتَقص - أي: من الإيمان - وإن من فقه العبد أن يعلم نزغات الشيطان أنَّى تأتيه".

ما تقدَّم من الأسباب العشرة هي من أهم أسباب زيادة الإيمان، وهناك أسباب أخرى؛ كالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وزيارة القبور.

وتأمَّل سيرة النبي - صلَّى الله عليه وسلم - والقراءة في سِيَر السلَف، والاهتمام بأعمال القلوب؛ كالخوف والرجاء، والمحبة والتوكُّل، وغيرها، والدعوة إلى الله - تعالى - والتَّقَلُّل من الدنيا ومن المباحات، والفضول في الطعام والكلام والنظر، وتنويع العبادة، وتَذَكُّر منازل الآخرة، ومناجاة الله - تعالى - والانكسار بين يديه، وتعظيم حُرُماته، والولاء والبَراء.

وبِضِدِّ أسباب زيادة الإيمان نعرف أسباب نقصانه، أسأل الله أن يزيدنا إيمانًا، ويُجَدده في قُلُوبنا.


الشيخ/ عبدالله بن حمود الفريح
ـــــــــــــــــــــــــــ
[1] [البينة: 5].
[2] [التوبة: 124].
[3] [الفتح: 4].
[4] وانظر: "فتح الباري 1/ 61.
[5] الحديث رواه البخاري أيضًا عن أبي هريرة - رضي الله عنه.
[6] [البينة: 5].
[7] [التوبة: 124].
[8] [الفتح: 4].
[9] [البينة: 5].
[10] [النمل: 14].
[11] وللازدياد في هذا الباب انظر: "كتاب الإيمان"؛ لابن تيميَّة، وهو مطبوع في كتاب مستقلٍّ، وأيضًا موجود في "الفتاوى" المجلد السابع.
[12] [فاطر: 28].
[13] انظر: "فضْل عِلْم السلَف على علم الخلَف" ص (64 - 65).
[14] انظر: "فضْل عِلْم السلَف على علْم الخلَف" ص (67).
[15] [فاطر: 28].
[16] رواه مسلم.
[17] [آل عمران: 190].
[18] [الذاريات: 21].
[19] [يونس: 101].
[20] انظر: "الدُّرُّ المنثور" (2/ 409).
[21] [الأنفال: 2].
[22] [محمد: 24].
[23] انظر: "مدارج السالكين" 1/ 485.
[24] [الرعد: 28].
[25] رواه البخاري.
[26] [الجمعة: 9].
[27] [النساء: 142].
[28] انظر: "شُعَب الإيمان" (1/ 396)، و"الوابل الصَّيِّب" (60).
[29] انظر: "الإيمان"؛ لابن أبي شيبة (7).
[30] انظر: "الوابل الصيب" (63).
[31] متفق عليه.
[32] انظر: "الفتح" المجلد الأول، كتاب الإيمان، باب حلاوة الإيمان.
[33] [آل عمران: 31].
[34] رواه مسلم.
[35] رواه البخاري في "صحيحه" معلَّقًا.
[36] انظر: "الفتح" المجلد الأول، كتاب الإيمان، باب: "بني الإسلام على الخمس".
[37] انظر: "الزهد و الرقائق"؛ لابن المبارك، وانظر: "الإبانة الكبرى"؛ لابن بطة.
[38] [الكهف: 28].
[39] رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، والحديث صحَّحه الحاكم، وصحَّحَ إسناده النووي.
[40] انظر: "تحفه الأحوذي"، كتاب الزهد.
[41] رواه مسلم.
[42] انظر: "شرح مسلم"؛ للنووي، المجلد الأول، كتاب الإيمان.
[43] انظر: "الفتاوى" (10/ 252).
[44] رواه الطبَراني عن ابن عمر، وقال الهيثمي: "إسنادُه حسَن"، ورواه الحاكم عن ابن عمرو، وقال: "رواتُه ثقات"، وأقرَّهُ الذهَبي، وحسَّنه الألباني في "الصحيحة" (1585).
[45] قال الحافظ في "الفتح" (1/ 48): "رواه أحمد في "الإيمان" وإسناده صحيح".





هوازن الشريف 09-04-2014 10:59 PM

رد: تيسير رب العباد إلى شرح لمعة الاعتقاد
 
تيسير رب العباد إلى شرح لمعة الاعتقاد (13)
الشيخ عبدالله بن حمود الفريح

فصلٌ
في الإخبار بكلِّ ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم


- قال المصنِّف - رحمه الله -:

"ويجبُ الإيمانُ بكلِّ مَا أَخبَرَ به النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وصَحَّ به النَّقلُ عَنْه فيما شَاهَدْناه، أو غابَ عَنَّا نَعْلَمُ أنَّه حَقٌّ وصِدقٌ، وسواءٌ في ذلك ما عقلناه وجَهِلناهُ، ولم نَطَّلِعْ على حقيقةِ معناه، مِثْل: حديث الإسْراء والمعراج، وكان يَقَظَةً لا مَنامًا، فإنَّ قُريْشًا أنْكَرَته وأَكْبَرَته، ولم تُنْكِر المنامات".


الشرْح


هذا الفصْل ذكرَهُ المصنف؛ لأنه يتعلق بمسألة عظيمة من مسائل الإيمان، وهي التَّسليم والإيمان بكل ما أخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سواءٌ شاهدها العبد، أو كانت من الأمور الغيبية، وسواء أدركتْها عقولُنا، أو قصرت عقولنا عنها، فعلى العبد الإيمانُ والتسليم دون الدخول في تأويل أو تحريف؛ لأن الدخول في التأويل والتحريف مما خاض فيه المبتدِعة؛ كالفلاسفة، والعقلانيين، والقرآنيين، والحديث على هذا الفصل تحت المباحث الآتية:
المبحث الأول: عقيدة أهل السنة والجماعة في أخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - وشرط ذلك:
أهل السنة والجماعة يؤمنون بكلِّ ما أخبر به النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - سواء كان ذلك مما يشاهده العبد، أو كان من الأمور الغيبية، وسواء أدركتْها عقولُنا وحواسنا، أو قصرت عن ذلك، إنما هو التصديق والتسليم دون الدخول في تأويل أو تحْريف.

وذكر المصنِّف في هذه الأخبار شرطَيْن؛ فقال: "ويجب الإيمان بكلِّ ما أخْبَرَ به النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحَّ به النقل"؛ إذًا لا بد من شرطَيْن في هذه الأخبار:
الأول: أن تأتي هذه الأخبار بالغيبيات من جهة الشرع، وهذا يؤخَذ من قوله: "بكل ما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم"، وهذا عامٌّ، سواء ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - من جهة القرآن، أو جهة السنة، أو ما جاء به الصحابة منَ الأخبار الغيبية التي لا مجال للرأي فيها، وأما غيرها من الأشياء غير المدركة، ولَم تأتِ مِن جهة الشرع - كأن تأتي عن طريق الظن - فلا يجب الإيمان بها.

الثاني: أن يكونَ هذا الخبرُ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - صحيحًا، فيشترط أن يكونَ الحديث أو الأثر صحيحًا، وهذا يؤخَذ من قول المصنف: "وصَحَّ النَّقلُ به"، أما الضعيف فلا يكون مقبولاً، أما الحديث الصحيح - ولو كان مِن قبيل الآحاد - فإنه مقبولٌ عند السلَف - رحمهم الله - بخلاف المبتدعة فلا يقبلون إلا الأحاديث المتواترة، ويردُّون الآحاد، وهناك من المتبدعة مَن لا يقبل الاحتجاج بالسنة مطلقًا، ويرد كل ما جاء بها، ويكتفون بالقرآن فقط، وهؤلاء يسمون بالقرآنيين، حجتهم في ذلك: أنَّ السنة فيها الصحيح والضعيف؛ فنتركها لأجْل ذلك، وهم بذلك تركوا القرآن والسنة؛ إذ إنَّ كثيرًا من نُصُوص القرآن تفسرها السُّنَّة.

وهناك طائفة أعظم ضلالاً وإلحادًا، وهم الفلاسفة والعقلانيون، الذين يُنكرون الخلْق والخالق، ويَرُدُّون كلَّ شيء للطبيعة، وأنها هكذا وجدتْ، ورد عليهم حافظ حكمي في منظومته قائلاً:

وَلا نُصِيخُ لِعَصْرِيٍّ يَفُوهُ بِمَا يُنَاقِضُ الشَّرْعَ أَوْ إِيَّاهُ يَعْتَقِدُ
يَرَى الطَبِيعَةَ فِي الْأَشْيَاءِ مُؤْثِرَةً أَيْنَ الطَبِيعَةُ يَا مَخْذُولُ إِذْ وُجِدُوا؟!

وهؤلاء يُسَمَّونَ الفلاسفة الطبيعيون، وهناك قسم آخر من الفلاسفة ويُسَمَّون: الفلاسفة الإلهيين، أو فلاسفة إسلاميين؛ أي: ينتسبون للإسلام، وهؤلاء يُقِرُّون بأن هناك إلهًا، ولكنهم لا يؤمنون بالغيب، ولا شك أنَّ مَن كذَّب بآية من كتاب الله، فقد كفَر باتِّفاق العلماء، هذا باختصارٍ مَنْ خالف أهل السنة والجماعة في هذه العقيدة.

المبحث الثاني: الأمور الغيبية التي ذكرها المصنِّف:
المصنِّف ذَكَر جُملةً منَ الأُمُور الغيبية التي لا بدَّ للعبد أن يؤمنَ بها؛ لأنه صَحَّ نقلُ الشرع بها، وهي:
أولاً: الإسراء والمعراج:
والكلام على الإسراء والمعراج من عِدَّة وجوه:
معنى الإسراء والمعراج:
الإسراء لغة: السير بالشخص ليلاً.
وشرعًا: سير جبريل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - من مكة إلى بيت المقدس ليلاً.
ويدل على ذلك: قوله - تعالى -: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}[1].

والمعراج لغة: الآلة التي يُعرج بها، وهي المصعد.
وشرعًا: عُرُوج النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأرض إلى السماء، والله أعلم بكيفية الآلة التي عرجت به.
ويدل على ذلك: قوله - تعالى - من أول سورة النجم: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى}[2]، إلى قوله: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى}[3].

الإسراء والمعراج ثابتٌ بالكتاب والسنة والإجماع:
فمن الكتاب: قوله - تعالى -: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}[4]، والأقصى يعني: الأبعد، سمي بذلك؛ قيل: لبُعْده عنْ مكَّة.
ومن السُّنَّة: الأحاديث كثيرة؛ منها: حديث مالك بن صعصعة في الصحيحَيْن، وأيضًا حديث أنس، وحديث أبي ذر، وحديث ابن عباس - رضي الله عنهم - وكلها في الصحيحَيْن، وورد في أحاديث أخرى في غير الصحيحَيْن، حتى ذَكَرَ القاسمي أن حادثة الإسراء والمعراج رواها عشرون صحابيًّا.
وأجمع السلَف - رحمهم الله - على أنه - صلى الله عليه وسلم - أُسْرِيَ وعُرِجَ به.

والإسراء والمعراج باختصار:
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أُتِيَ بدابة يُقال لها: البُراق، وصفها النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنها دون البغل وفوق الحمار، فأسري به من مكة إلى بيت المقدس، ثم ربط دابته هناك بالحلقة التي يربط بها الأنبياء، ثم دخل المسجد فصلى فيه ركعتين ثم خرج، فجاءه جبريل - عليه السلام - ثم بدأت رحلةُ المعراج، فعرج به إلى السماء، فوجد في السماء الأولى آدم - عليه السلام - وفي السماء الثانية عيسى ويحيى - عليهما السلام - وفي السماء الثالثة يوسف - عليه السلام - وفي السماء الرابعة إدريس - عليه السلام - وفي السماء الخامسة هارون - عليه السلام - وفي السماء السادسة موسى - عليه السلام - وفي السماء السابعة إبراهيم - عليه السلام - مُسْنِدًا ظهره إلى البيت المعمور، كل نبي من الأنبياء يسلم عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يُرَحِّبُ بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ثم رفع للنبي البيت المعمور، وسأل جبريل عنه فأخبره جبريل: أن البيت المعمور يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك إذا خرجوا لم يعودوا مرة أخرى، ورفعت له سِدْرَةُ المنتهى، ووصفها النبي - صلى الله عليه وسلم - وما فيها من أنهار، وعُرِضَ على النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثةُ أقداح، قَدَحٌ فيه لبن، وقَدَحٌ فيه عسل، وقَدَحٌ فيه خمرٌ، فأخذ الذي فيه اللبن فشرب؛ فقيل له: أصبت الفطرة، ودنا الجبارُ - جل وعلا - ففَرَض عليه وعلى أمته خمسين صلاة، ثم نزل إلى موسى، وأمَرَه موسى أن يرجعَ ويسأل الله - جل وعلا – التخفيف، فسأل الله ذلك؛ فجعلها الله أربعين، فجعل النبي- صلى الله عليه وسلم - يتردَّد بين موسى وبين الله - جل وعلا - وفي كل مرة يأمره موسى أن يسأله التخفيف؛ فجعلها الله أربعين، ثم ثلاثين، ثم عشرين، ثم عشرًا، ثم خمسًا، فقال الله - عز وجل -: "إني أَمْضَيْتُ فريضتي، وخَفَّفْتُ عن عبادي، وأَجْزِي الحسنة عشرًا"؛ أي: إن خمس صلوات بخمسين صلاة، وهذا من فضله - جل وعلا - ثم أُهْبِطَ - صلى الله عليه وسلم - ورَجَع من ليلته إلى المسجد الحرام، وكل ما تقدَّم ذكره هو في الصحيحَيْن.

مكان الإسراء والمعراج ووقته:
مكانه: بالاتِّفاق أن الإسراء كان من مكة إلى بيت المقدس، وبالاتفاق أن المعراج كان من بيت المقدس.
ويدل على ذلك: قوله - تعالى -: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى}[5]، وحديث مالك بن صعصعة، وأيضًا أنس بن مالك في الصحيحَيْن: يدُلاّن على أن المعراج كان من بيت المقدس.

وأما وقته: لَم يثبت دليلٌ صريحٌ صحيحٌ في تحديد تاريخ الإسراء والمعراج، والذي يُعْرَف من كتب السيرة أنَّ الإسراء والمعراج كانت بعد عام الحزن، الذي تُوُفِّي فيه عَمُّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أبو طالب، وزوجة النبي - صلى الله عليه وسلم - خديجة، وفيه طُرِدَ النبي - صلى الله عليه وسلم - من الطائف، وليس في معرفة تاريخ الإسراء والمعراج كبيرُ فائدة؛ لأنه لا يَتَرَتَّب عليه حكمٌ شرعي، والأقوال في تحديدها كثيرةٌ، وليس هناك نصٌّ صحيح صريحٌ؛ فقيل: قبل البعثة، وقيل: بعد الهجرة، وقيل: قبل الهجرة بخمس، وقيل: بست، وقيل: بسنة وشهرين، حتى بلغتْ أكثر من عشرة أقوال[6].

والإسراءُ والمعراج كان برُوحه - صلَّى الله عليه وسلم - وبدنه، وكان يقظةً مَرَّة واحدةً لا منامًا.

وهذا قولُ جُمهور العلماء: أنه كان بروحه وجسده يقظةً لا منامًا مرة واحدة.

ويدل عليه: أن لفظ (عبد) يصدق على الجسد والروح، والله - عز وجل - يقول: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى}[7]، وأيضًا لو كان بروحه فقط، لم يستبعده كفارُ قريش ويُنْكِروه ويستهزئوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه يكون كالرُّؤَى المنامية، ولكنها معجزة جعلَها الله لنبيِّه.

وقيل: الإسراءُ كان منامًا، وقيل: كان بروحه دون جسده، وقيل: كان الإسراءُ مرارًا: مرة بروحه، ومرة بجسده، ومرة يقظة، ومرة منامًا، والصواب كما تقدَّم، وهو قولُ الجُمْهُور - والله أعلم.

قال ابن حجر: "وإلى هذا – يعني: الإسراء والمعراج بالروح والجسد - ذَهَب جمهورُ الأمة من العلماء؛ المحدِّثين، والفقهاء، والمتكلِّمين، وتَوَارَدت عليه الأخبار الصحيحة، ولا ينبغي العدول عن ذلك"[8].

وإلى هذا ذَهَب ابنُ القيِّم في "زاد المعاد"، ونصر القولَ بأنه عُرِج به بجسده وروحه[9].

والاحتفال بليلة الإسراء والمعراج بدعة:
وذلك فعل بعض الجُهَّال حيث يتعبَّدون بالاحتفال بليلة سبع وعشرين من شهر رجب؛ زاعمين أنها هي ليلة الإسراء، والاحتفال بتلك الليلة لَمْ يفْعَلْه النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا الصحابة ولا التابعون، فضلاً على أنه لا يُعْرَف تَحْديد هذه الليلة؛ إذ لَم يأتِ دليلٌ صريحٌ صحيحٌ في تحديدها كما تقدَّم بيانُه، وهؤلاء يحتفلون بهذه الليلة، فيجتمعون في المساجد، ويأتي القارئ فيقرأ: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى}[10]، وكذلك الإذاعات وبعض القنوات تستفتح ذلك اليوم بسورة الإسراء، والمذهب الحقُّ وسط بين هؤلاء الذين أفرطوا وغالوا فاحتفلوا في تلك الليلة، ومنهم مَن يجعلها سُنَّة أو عيدًا؛ فابتدع، وبين كفار قريش الذين فرَّطوا وكذبوا بالإسراء والمعراج، وعلى المؤمن كما ذكر المصنف أنْ يقول: آمنَّا وصدَّقْنا بما جاء به نبيُّنا - صلى الله عليه وسلم - وثبت في صحيح الأخبار، ومنها حادثة الإسراء والمعراج.

Ÿ Ÿ Ÿ


56- قال المصنِّف - رحمه الله -:
"ومِنْ ذلك أنَّ ملَكَ الموْتِ لمَّا جاءَ إلى موسى - عليه السلام - ليَقْبِضَ روحَهُ لَطَمَهُ فَفَقَأَ عَيْنَهُ، فَرَجَعَ إلى ربِّهِ فَرَدَّ عَلَيْهِ عَيْنَهُ".




الشرح


ثانيًا: مَجيء ملك الموت لِمُوسى - عليه السلام - فلَطَمَه موسى - عليه السلام - وفَقَأ عينه.
والمقصود من إيراد المصنِّف لهذا الخبر: أنه خبرٌ منَ الأخبار الغيبيَّة، التي أخبر بها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وصحَّ بها النقْل؛ فعلى العبد أن يؤمنَ بما جاء بهذا الخبر، ولا يقول: كيف يَلْطِم موسى مَلَكَ الموت، وكيف يفقأ عينه؟ وهل عرفه؟ وإلى غير ذلك من الأسئلة التي أرادوا بها الإنكار والتكذيب، بل على المؤمن التسليمُ والتصديقُ، وما دام أنه صحَّ الخبرُ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا بُدَّ من الإيمان به، ولا يشابه المبتدعة من العقلانيين والفلاسفة وغيرهم من المعتزلة الذين أنْكَرُوا هذا الحديث، وحكَّموا عُقُولَهم؛ لأنهم يُنكرون الأمور الغيبية.

ويدل على هذا الخبر: حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "أُرْسِلَ ملكُ الموت إلى موسى - عليه السلام - فلما جاءه صكَّه، ففقأ عينه، فرجع إلى ربه، فقال: أرسلتني إلى عبدٍ لا يريد الموت، قال: فردَّ الله عليه عينه، وقال: ارجع إليه، فقُلْ له: يضع يده على مَتْنِ ثَوْرٍ، فله بما غطَّت يدُه بكل شعرة سنة، قال: أي رب، ثم مَهْ؟ قال: ثم الموت، قال: فالآن، فسأل الله أن يدنيه من الأرض المقدسة رميةً بحجر"[11].

Ÿ قال ابن حجر: "قال ابن خُزيمة: أنكر بعضُ المبتدِعة هذا الحديث، وقالوا: إن كان موسى عرفه، فقد استخفَّ به، وإن كان لَم يعرفه، فكيف لَم يقتص له من فقْءِ عينه؟
والجواب: أن الله لَم يبعث ملكَ الموت لموسى، وهو يريد قبض روحه حينئذٍ، وإنما بعثه إليه اختبارًا، وإنما لطم موسى مَلَكَ الموت؛ لأنه رأى آدميًّا دخل داره بغير إذنه، ولم يعلم أنه ملك الموت، وقد أباح الشارع فقْء عين الناظر في دار المسلم بغير إذْنٍ، وقد جاءت الملائكة إلى إبراهيم وإلى لوطٍ في صورة آدميِّين، فلم يعرفاهم ابتداءً، ولو عَرَفَهم إبراهيم، لَمَا قدَّم لهم المأكول، ولو عرفهم لوط لما خاف عليهم من قومه"[12].

Ÿ Ÿ Ÿ



58- قال المصَنِّف - رحمه الله -:
"وعذابُ القبْرِ ونعيمُه حقٌّ، وقد استعاذَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْهُ، وأَمَرَ بِهِ في كلِّ صلاةٍ.
59- وفِتْنَةُ القَبْرِ حقٌّ، وسُؤالُ مُنْكَر ونَكيرٍ حقٌّ".




الشرح



رابعًا: القبْر: فتنته، عذابُه، ونعيمُه:
فتنة القبْر هي سؤالُ المَلَكَيْن للميت عن: ربِّه، ونبيه، ودينه، وهي فتنةٌ ثابتة بالكتاب والسُّنَّة والإجماع:
فمن الكتاب: قول الله - عز وجل -: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَة}[13].
ومن السُّنَّة: حديث البَراء بن عازب - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((المسلمُ إذا سُئِلَ في القبر يشهد أن لا إله لا الله وأن محمدًا رسول الله))، فذلك قوله - تعالى -: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَة}[14].
وحديث أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنهما - في حديث صلاة الكُسُوف - وفيه قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((وإنه قد أُوحِيَ إليَّ أنَّكم تُفتنون في القُبُور))[15].

وحديث عائشة: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: ((اللهم إنِّي أَعُوذُ بك منَ الكَسَل والهرَم، والمأْثَم والمَغْرم، ومِن فتنة القبْر وعذاب القبر))[16]، والأحاديث في هذا كثيرةٌ، وأجمع السلَفُ على إثبات فتنة القبْر.

Ÿ ما اسم المَلَكَيْن اللذين يَسْألان المَيِّت؟
روى التِّرمذي في "سُنَنه" حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا قُبِرَ الميت - أو قال: أحدكم - أتاه مَلَكان أسودان أزرقان، يُقال لأحدهما: المُنْكَر، والآخر: النكير، فيقولان: ما كنتَ تقول في هذا الرجل؟ فيقول ما كان يقول: هو عبدالله ورسوله، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، فيقولان: قد كُنَّا نعلم أنك تقول هذا، ثم يُفْسَح له في قبْره سبعون ذراعًا في سبعين، ثم ينوَّر له فيه، ثم يُقال له: نَمْ، فيقول: أرجع إلى أهلي فأخبرهم؟ فيقولان: نَمْ كنومة العروس الذي لا يُوقظه إلا أحب أهله إليه حتى يبعثه الله مِنْ مَضْجعه ذلك.

وإن كان منافقًا؛ قال: سمعتُ الناس يقولون فقلْتُ مثله، لا أدري، فيقولان: قد كُنَّا نعلم أنك تقول ذلك، فيُقَال للأرض: الْتَئِمِي عليه، فتختلف فيها أضلاعه، فلا يزال فيها مُعَذَّبًا حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك))[17].

Ÿ وجاء في حديثٍ: أنَّ اسم الملكين: مبشِّر، وبَشِير، وفي حديث: أنَّ عددهم أربعة، وأن اسم الثالث والرابع: ناكور، ورمان، وكلها أحاديث ضعيفة.
ومن أهل العلم مَن أنكر تسميتهما بـ(مُنكَر، ونكير)؛ لأنهما اسمان لا يليقان بالملائكة الذين وصفهم الله - عز وجل - بأوصاف الثناء؛ فضعَّفوا الحديث السابق، ورُدَّ هذا القول بأن تسميتهما بذلك ليس لأنهما منكران من حيث ذواتهما، وإنما من حيث إنَّ الميت لا يعرفهما فينكرهما، كما قال إبراهيم - عليه السلام - لأضيافه الملائكة: {قَوْمٌ مُنْكَرُونَ}[18]؛ لأنه لا يعرفهم.




يتبع

هوازن الشريف 09-04-2014 11:00 PM

رد: تيسير رب العباد إلى شرح لمعة الاعتقاد
 
تيسير رب العباد إلى شرح لمعة الاعتقاد (13)
الشيخ عبدالله بن حمود الفريح

فائدة:
كلمة (مُنْكَر) بفتح الكاف على الصحيح؛ ولذا يقول السيوطي:
وَضَبْطُ مُنْكَرٍ بِفَتْحِ الْكَافِ فَلَسْتُ أَدْرِي فِيهِ مِنْ خِلافِ
Ÿ هل فتنة القبْر خاصَّة بهذه الأمة، أو أنها عامَّة؟
القول الأول: إنَّ السؤال في القبْر خاصٌّ بهذه الأمَّة:
واستدلُّوا:
1- بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن هذه الأمة تُبتلى في قبورها))[19].
2- وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ولقد أوحي إليَّ أنكم تُفتَنُون في قبوركم))[20].

والقول الثاني: إنَّ السؤال عامٌّ لجميع الأُمَم:
واختاره ابنُ القيِّم، والقُرطبي، واختاره شيخُنا ابن عثيمين في شرحه للواسطية[21].
واستدلوا بأدلة العموم منها:
1- قول الله - جل وعلا -: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَة}[22].
2- حديث البَراء الطويل، وفيه: ((إنَّ العبد المؤمن...، وإن العبد الكافر...)) الحديث، وفيه سؤال العبد المؤمن والكافر، وكلمة العبْد تَصْدُق على جميع العباد المؤمنين والكافرين من هذه الأمة وغيرها، وكذلك حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - السابق، وفيه سؤال المؤمِن والمنافق، وغيرها من الأدلة العامة، وهذا القولُ هو الأظْهَرُ - والله أعلم.

والخلاف في الأطفال والمجانين: هل يُسْأَلُون في قبورهم؟
فلم يَرِدْ في النصوص أنَّهُم يُسألون، ولم يردْ أنَّهُم لا يُسألون؛ فمِنْ أهْلِ العلم مَن قال: إنهم يُسْأَلُون؛ لأنَّهُم يدْخُلُون في عُمُوم الأحاديث الدالَّة على السؤال، ومنهم مَن قال: إنَّهُم لا يُسْألون؛ لأنهم غير مكلَّفين، وأنهم وُلِدُوا على الفطرة.

Ÿ وهل هناك أحد لا يُفتَن؟
هناك مَن يُستَثْنَى فلا يفتن في القبر:
أولاً: شُهداء المعركة:
فعن رجلٍ من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: يا رسول الله، ما بالُ المؤمنين يُفْتَنُون في قبورهم إلا الشهيد؟ قال: ((كفى ببَارِقة السيوف على رأسه فتنة))[23].
وكذلك الأنبياء؛ لأنَّ الأنبياء يُسْأَلُ عنهم في فتنة القبر، فيقال: مَن نبيُّك؟

ثانيًا: المرابط في سيبل الله:
فعن سلْمان - رضي الله عنه - قال - صلى الله عليه وسلم -: ((رباط يوم وليلة خيرٌ من صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه عَمَلُه الذي كان يعمله، وأجري عليه رزقُه، وأُمِنَ الفتَّان))[24].
Ÿ وبعدما يُسْأَلُ العبد في قبره يكون المصير إما النعيم وإما العذاب.
Ÿ عذاب القبْر ونعيمه ثابتٌ بالكتاب والسنة والإجماع:
فمنَ الكتاب: قوله - تعالى -: {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ}[25]، قال ابن كثير في "تفسيره": "هذه الآية أصلٌ كبير في استدلال أهل السنة على عذاب البَرْزخ في القبور".

ومن السنة: حديث أنس - رضي الله عنه -: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إنَّ العبد إذا وُضِعَ في قبْرِه، وتولَّى عنه أصحابه، حتى إنه ليسمع قَرْعَ نِعَالهم - أتاه ملكان فأقعداه، فيقولان له: ما كنتَ تقول في هذا الرجل، محمد - صلى الله عليه وسلم؟ فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله، فيقال: انظر إلى مقعدك من النار، أبْدَلَكَ الله به مقعدًا من الجنة، فيراهما جميعًا، وأما الكافر - أو المنافق - فيقول: لا أدري، كنتُ أقول ما يقوله الناس، فيقال: لا دريتَ ولا تَلَيْتَ، ثم يُضْرَب بمطرقةٍ من حديد ضربة بين أذنيه، فيصيح صيحة يَسْمَعها من يليه إلا الثقلين))[26].

وحديث عائشة في الصحيحين: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لها: ((عذاب القبر حق))، وتقَدَّم حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عند التِّرمذي، وحديث عائشة المتَّفق عليه، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - استعاذ من عذاب القبر، والأحاديث في هذا الباب كثيرةٌ.

Ÿ وأجْمَعَ السلَف على إثبات عذاب القبر: بل كل المسلمين يقولون في صلاتهم: "اللهم إنا نعوذ بك من عذاب القبر، ومن عذاب جهنم..."، ولو كان غير مجمع عليه لما قالوه في صلاتهم، وإنما يُنْكِر ذلك الملاحدة والزنادقة، ونقول لهم: الحمد لله، بِمِثْل هذا يتمَيَّز المؤمن من الزنديق المُلْحِد، وسَلَكْتُم هذا المسلك؛ لأنكم حكَّمتُم عقولكم، فكان مِنْ أقوالهم: لو وضعنا الزئبق في عيني هذا الميت ودفناه، وجئنا إليه من الغد؛ لَوَجَدْنا الزئبق لم يَتَأَثَّر، وأنتم تقولون: إنَّ الملَكَيْن يُجْلِسَان الميت، ويسألانه، وبعدها معذَّبٌ أو منعَّم، وهذه التجرِبةُ تُبطل ما تعتقدون، ولكن هذا هو حال مَنْ طَمَس الله قلوبهم؛ فهم يُحاولون التشكيك في عقيدة المسلم، ويقال لهم: إنَّ الله قادرٌ على أن يعيدَ الزئبق مكانه بعد ذلك، وأيضًا هذه الأمور غيبيَّة لا تُدركها العقول، ولو كل شيء من أمور الغيب كُشِفَ للإنسان على ما يدركه عقله، لَمَا تَمَيَّز المؤمنُ منَ المُلحِد، ولكنها صفات المؤمنين: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}[27].

Ÿ عذاب القبر يسمعه كلُّ شيء إلا الجن والإنس:
ويدل على ذلك: ما تقدَّم من حديث أنس - رضي الله عنه - المتفق عليه، وفيه قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ثم يُضْرَبُ بمطرقة من حديد ضربةً بين أذنيه؛ فيصيح صيحةً يسمعها ما يليه إلا الثقلَيْن)).

لماذا أخفى الله - عز وجل - عذاب القبر؟
أخفى الله - عز وجل - عذاب القبر لعِدَّة حِكَم؛ منها:
1- رحمته - جل وعلا – بعباده؛ إذ لو كَشَف العذابَ لهم، لتنكَّد عيشهم، وتواصلتْ أحزانُهم.
2- أن في كشف العذاب فضيحة للميت.
3- أن في كشْف العذابِ عدم تدافن الناس بعضهم لبعض، فلو كُشِفَ العذاب لما دَفَن أحدٌ ميتًا؛ خوفًا من سوء العاقبة، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لولا ألا تدافنوا، لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر))[28].

عذاب القبر أو نعيمه حاصل لكلِّ إنسان أيًّا كان:
سواءٌ أُحْرِقَ أو غرق، أو أكلتْه السباعُ والطيور، أو مات على أيَّة حال كان، فإنه بموته ينتقل لحياته البرزخية؛ سواءٌٌ دُفِنَ أو لَم يُدفن؛ وذلك لأنَّ الإنسان مُرَكَّب من جسَد وروح، وهذه الروح بعد الموت تخرج من الجسد، فتبقى إمَّا مُعَذَّبة أو مُنَعَّمَة.

وهل عذاب القبر أو نعيمه على الروح أو البدَن؟
قال شيخُ الإسلام ابن تيميَّة: "مذهبُ سلَف الأمة وأئمتها: أن العذاب والنعيم يحصل لروح الميت وبدنه، وأنَّ الروح تبقى بعد مُفارقة البدَن مُعَذَّبة أو مُنَعَّمَة، وأنها تتَّصل بالبدَن أحيانًا؛ فيحصل له معها النعيم والعذاب"[29].

فائدة:
تقدَّم أنَّ مذهبَ سلَف الأمة: أن عذاب القبر يكون على البدَن والروح، فالرُّوح تتعَلَّق بالبدَن في خمسة مواطن:
1- تعلقها في بطن الأم جنينًا.
2- تعلقها به بعد ولادته.
3- تعلقها به في حال النوم.
4- تعلقها به في البرزخ.
5- تعلقها به يوم البَعْث.

وهل يستمر عذاب القبر؟
قال شيخُنا ابن عثيمين: "أمَّا إذا كان الإنسانُ كافرًا - والعياذ بالله - فإنه لا طريق إلى وُصُول النعيم أبدًا، ويكون عذابُه مُسْتَمِرًّا، وأمَّا إن كان عاصيًا وهو مؤمن، فإنه إذا عُذِّب في قبره يعُذَّب على قدْر ذُنُوبه، وربما يكون عذاب ذنوبه أقل من البرزخ الذي بين موته وقيام الساعة، وحينئذ يكون منقطعًا"[30].

وهل يستفيد المسلمُ من فتنة القبر بتخفيف سيئاته أو محوها؟
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "السبب الثامن: ما يحصل في القبر من الفتنة والضغطة والروعة، فإن هذا مما يُكَفَّر به الخطايا"[31].
وقال أيضًا: "ما يحصل للمؤمن في الدنيا والبَرْزخ والقيامة من الأَلَم التي هي عذاب، فإن ذلك يُكَفِّر الله به خطاياه؛ كما ثبت في الصحيحين، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا حزن ولا أذى، حتى الشوكة يشاكها إلاَّ كفَّر الله به من خطاياه))[32].

أسباب عذاب القبر:
1- النميمة.
2- عدم التنَزه من البول:
ويدل على ذلك: حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه مَرَّ على قبْرَيْن فقال: ((إنهما ليعذبان، وما يعذَّبان في كبير؛ أما أحدهما فكان لا يستنزه من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة...))[33].

فائدة:
الاسْتِنْزاه من البول يكون بأمرَيْن:
الأول: أن يتحَرَّزَ الإنسان من رَشَاشِ البول أن يصيبه أو يصيب ثيابه، وذلك بأن يتبوَّل في مكانٍ رخو من الأرض، ولا يتبوَّل في مكان صلب؛ فيرجع رذاذ البول على جسمه أو ثيابه.
الثاني: أنه إذا أصابَهُ البولُ يبادر إلى غسله وإزالته؛ لأن هذا من الاستنْزاه، وهذا يجب عليه فِعْله.

3- الغِيبَة:
قال ابن حجَر في "الفتح": "وأخْرَجَ أحمد والطبراني بإسناد صحيح، عن أبي بكرة - رضي الله عنه - قال: "مرَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بقَبْرَيْن، فقال: ((إنهما يُعَذَّبان، وما يُعَذَّبان في كبير، وبكى - وفيه -: وما يعذبان إلا في الغيبة والبَوْل))، ولأحمد والطبراني أيضًا من حديث يعلى بن شبابة - رضي الله عنه -: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - مرَّ على قبر يُعذَّب صاحبه فقال: ((إن هذا كان يأكل لحوم الناس، ثم دعا بجريدة رطبة))[34].

4- الغلول من الغنيمة:
والغلول: هو السَّرِقة مِنْ مال الغنيمة قبل قسمتها، والغلول من الغَنيمة من أسباب عذاب القبْر.

ويدل على ذلك: حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: خَرَجْنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى خَيْبر، فلم نغنم ذهبًا ولا ورقًا، غنمنا المتاع والطعام والشراب، ثم انطلقنا إلى الوادي ومع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبدٌ له، فلمَّا نزلنا قام عبد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحل رحله، فرُمِيَ بِسَهْمٍ فكان فيه حتفُه، فقلنا: هنيئًا له الشهادةُ يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((كلا، والذي نفس محمد بيده؛ إن الشملة لتلتهب عليه نارًا، أخذها من الغنائم يوم خيبر لَم تصبها المقاسم، ففزع الناس))[35].

وهناك أسبابٌ لعذاب القبر:
جاءتْ في حديث طويل رواه البخاري، من حديث سَمُرة بن جندب، في قصة رؤيا النبي - صلى الله عليه وسلم - مع المَلَكَيْن فرأى أنواعًا من عذاب القبْر، وذكر له الملكان سبب كل عذاب رآه ومن ذلك:
5- هجر القرآن الكريم ورفضه.
6- النوم عن الصلاة المكتوبة:
ويدل على ذلك: ما جاء في حديث سمُرة بن جندب - رضي الله عنه - قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في قول الملكين: ((أما الرجل الأول الذي أتيتُ عليه يُثلغُ رأسه بالحجر، فإنه الرجل يأخذ القرآن فيرفضه، وينام عن الصلاة المكتوبة))، قال ابن حجَر في "الفتح": "ويحتمل أن يكونَ التعذيبُ على مجموع الأمرين: ترك القراءة، وترك العمل"[36].

7- الكَذِب:
ويدلُّ على ذلك: ما جاء في حديث سَمُرة بن جندب - رضي الله عنه - قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في قول الملكين: ((وأما الرجل الذي أتيت عليه يشرشر شدقه إلى قفاه، ومنخره إلى قفاه، وعينه إلى قفاه، فإنه الرجل يغدو من بيته فيكذب الكذبة تبلغ الآفاق))، قال ابن حجر: "وإنما استحقَّ التعذيب؛ لما ينشأ عن تلك الكذبة من المفاسد، وهو فيها مختارٌ غير مكره ولا مُلجَأ، قال ابن هُبَيْرَة: لما كان الكاذبُ يساعد أنفه وعينه ولسانه على الكذب بترويج باطله؛ وقعت المشاركة بينهم في العقوبة"[37].

8- الزنا:
ويدلُّ على ذلك: ما جاء في حديث سمرة بن جندب - رضي الله عنه - قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في قول الملكين: ((وأما الرجال والنساء الذين في مثل بناء التَّنُّور، فهم الزُّنَاة والزَّواني))، وفي أول الحديث قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((فانطلقنا فأتينا على مثل التنور، فإذا فيه لَغَطٌ وأصواتٌ، قال: فاطَّلعنا فيه، فإذا فيه رجال ونساء عُراة، وإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم))، قال ابن حجر: "مُناسَبة العُرْيِ لهم؛ لاستحقاقهم أن يفضحوا؛ لأن عادتهم أن يستتروا في الخلوة فعوقبوا بالهَتْكِ، والحكمة في إتيان العذاب من تحتهم: كون جنايتهم من أعضائهم السفلى"[38].

9- أكْل الرِّبا:
ويدلُّ على ذلك: ما جاء في حديث سَمُرة بن جندب - رضي الله عنه - قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في قول الملكين: ((وأما الرجل الذي أتيتَ عليه يسبح في النهر ويُلقم الحجر، فإنه آكل الربا))، قال ابنُ حجَر: "قال ابن هُبَيْرَة: إنما عُوقِبَ آكلُ الربا بسباحته في النهر الأحمر وإلقامه الحجارة؛ لأن أصل الربا يجري في الذهب والذهب أحمر، وأما إلقام الملك له الحجرَ، فإنه إشارةٌ إلى أنه لا يُغْنِي عنه شيئًا، وكذلك الربا فإنَّ صاحبَه يتخيَّل أن ماله يزداد، والله من ورائه يمَحَقُه"[39].

وقد ذَكَر ابنُ القيِّم أسباب عذاب القبر، والأسباب المنجية منه، فانظُر للاستزادة كتابه "الرُّوح".



الشيخ/ عبدالله بن حمود الفريح
ــــــــــــــــــــــ
[1] [الإسراء: 1].
[2] [النجم: 1- 2].
[3] [النجم: 18].
[4] [الإسراء: 1].
[5] [الإسراء: 1].
[6] انظر: "فتح الباري" 7/ 203.
[7] [الإسراء: 1].
[8] انظر: "فتح الباري" المجلد السابع، كتاب مناقب الأنصار، باب حديث الإسراء.
[9] انظر: "زاد المعاد" 3/ 4، 24.
[10] [الإسراء: 1].
[11] متفق عليه.
[12] انظر: "الفتح" المجلد السادس، باب وفاة موسى وذكره بعد، حديث (3407).
[13] [إبراهيم: 27].
[14] رواه البخاري.
[15] متفق عليه.
[16] متفق عليه.
[17] صححه ابن حبان، وحسنه الألباني.
[18] [الذاريات: 25].
[19] رواه مسلم.
[20] متفق عليه.
[21] "شرح ابن عثيمين للواسطية" صـ (478).
[22] [إبراهيم: 27].
[23] رواه النسائي، وصحَّحه الألباني.
[24] رواه مسلم.
[25] [غافر: 45 - 46].
[26] متفق عليه.
[27] [البقرة: 3].
[28] رواه مسلم من حديث أنس - رضي الله عنه.
[29] انظر: "مجموع الفتاوى" 4/ 282.
[30] انظر: "الممتع" 3/ 253.
[31] انظر: "مجموع الفتاوى" 7/ 500.
[32] انظر: "مجموع الفتاوى" 24/ 375.
[33] الحديث متفق عليه.
[34] الحديث رواته ثقات؛ انظر: "فتح الباري" المجلد العاشر حديث (6052).
[35] متفق عليه.
[36] انظر: "فتح الباري" المجلد الثاني عشر، باب تعبير الرؤيا بعد صلاة الصبح.
[37] انظر: "فتح الباري" المرجع السابق.
[38] انظر: المرجع السابق.
[39] انظر: "الفتح" المرجع السابق.








الساعة الآن 02:41 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
Search Engine Friendly URLs by vBSEO 3.6.1 TranZ By Almuhajir
new notificatio by 9adq_ala7sas
HêĽм √ 3.1 BY: ! ωαнαм ! © 2010
يرحل الجميع ويبقي شعاع بيت العلم والحب(ملك الكلمة)